أما لهذا الإرهاب من آخر؟

أحمد كمال أبو المجد

عالمنا العربي والإسلامي كله تجتاحه موجة عنف تهز الأمن وتزعزع الاستقرار, وتشغل الأمة كلها بنفسها عن غيرها, وبهذا الهم العارض عن همومها الكبرى المتأصلة. والحكام إزاء هذه الموجة في حيرة وقلق. وسياساتهم في التعامل معها غير واضحة ولا مستقرة. فهم تارة يفسحون الصدر ويحاولون الفهم, ويفتحون أبواب الحوار, وهم - تارات أخرى - يقابلون العنف بمثله أو أشد, ويدخلون في مواجهات حادة يملكون بدايتها ولكنهم لا يتحكّمون أبداً في نهايتها.

          والأمة كلها في قلق وخوف وحيرة, وهي ترى نذر الشر تطلع عليها من كل جانب دون أن تعرف لها سبباً واضحاً, ودون أن تملك الوسائل الفعّالة لاحتوائها والقضاء عليها, ثم ترى كل يوم أمنا يهتز ودمّاً يسيل, وعداوات تزرع, وطاقة تتبدد في غير قضية.

          كل ذلك والأمة على مفترق طرق, وعلى أبواب مستقبل كانت ولاتزال تطمح إلى أن تجعله أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً, وأن تتخلص فيه من مشاكلها الكبرى, لتنطلق - مع شعوب الدنيا كلها - إلى حيث الرخاء الذي طال انتظاره, والسلام الذي افتقده العرب والمسلمون عشرات طويلة من السنين, والمشاركة في بناء الحضارة العالمية على قدم المساواة مع سائر الأمم والشعوب بعد أن جرى (تهميش) دور العرب والمسلمين, ومحاولة ردهم إلى مواقع التراجع والتبعية للقوى الكبرى صاحبة الدور الأكبر في تحديد معالم النظام العالمي الجديد.

          إن العنف الذي نتحدث عنه في هذه السطور له أشكال متنوعة وأسباب متعددة, فمنه عنف تشتبك فيه فصائل وأحزاب متناحرة, على نحو ما جرى في الصومال وأفغانستان, ومنه عنف يتخذ شكل مواجهات حادة بين بعض الحكومات وبين حزب أو أحزاب تختلف معها في المنهج أو تنازعها مقاعد الحكم ومقاعد النيابة عن الشعب على نحو ما جرى ويجري في الجزائر, ومن مواجهات عدة مع الحكومات وصور غريبة من العنف العشوائي, يرفع القائمون به شعارات إسلامية, ينفتح معها الباب على مصراعيه, لانقسام الأمة على نفسها حول قضية الدين ومكانه في المجتمع, ويوشك معها الإسلام أن يتحول إلى قضية أمنية, تختلط فيها الأوراق وتمتزج فيها المخاوف بالهواجس المتوهمة, وتوزع فيها الاتهامات بغير حساب, ويسقط معها المجتمع كله في (فتنة) لا يعرف العقلاء طريق الخروج منها. وهذه الصورة الأخيرة من صور العنف هي وحدها التي تشغلنا في هذه السطور, وهي التي طالما دعونا في شأنها إلى ما سمّيناه (فض الاشتباك) بين التيار الإسلامي والحكومات, وكان في وعينا ونحن نوجه ذلك النداء أمران:

          أولهما: إن جزءاً - على الأقل - من المواجهة بين التيار الإسلامي الشعبي وبعض الحكومات العربية يرجع إلى أطراف أخرى يعنيها بقاء الأمة العربية والإسلامية مشغولة بنفسها, منقسمة على ذاتها, ولذلك قدرنا أن في فض الاشتباك إحباطاً لمسعى تلك الأطراف, وعودة إلى معالجة قضية التطرف (الفكري) والانقسام الثقافي في إطار رعاية المصالح الحقيقية للأمة بعيداً عن التأثر بمصالح الآخرين والدخول في مخططاتهم (الاستراتيجية) لتطويع العرب والمسلمين.

          ثانيهما: إن أكثر أطراف الاشتباك لا تدرك على نحو كاف طبيعة المواجهات التي يستخدم فيها العنف, وأن لتلك المواجهات قوانينها الداخلية التي تؤدي إلى تصاعد مستمر لموجاتها يجاوز اختيار أطرافها, ويخرج الحالة السياسية والأمنية من نطاق سيطرة تلك الأطراف تماماً.

          بمعنى أن الحكومات وأجهزتها الأمنية قد تعمد إلى تصعيد المواجهة بالعنف تصعيداً محسوباً تنوي ألا تجاوزه كثيراً, ولكن ردود الفعل المتبادلة تصل بالمواجهة إلى كم وكيف يتجاوزان كثيراً تلك النوايا, ويخرجان الموقف كله عن سيطرة أطرافه, فإذا بالمجتمع كله غارق في دوّامة عنف متبادل تفقد معها الجماهير ثقتها في أطراف الاشتباك جميعاً, وتتهيأ لقبول قوى جديدة وأوضاع جديدة لم تكن في الحسبان. وبذلك يكون خطر الوقوع في (المجهول) أحد الأخطار الكبيرة التي تترتب على التقصير والتراخي في فض الاشتباك وقطع الطريق على مسيرة (العنف المتبادل).

          وعلى جانب (الجماعات الإسلامية) التي قد تلجأ إلى العنف دفاعاً عن مقولاتها وأهدافها ذات الطابع الإسلامي, فإن التورّط في العنف والتراخي في الاستجابة لدعوة فض الاشتباك يحملان في طيّاتهما خطراً آخر هو انتقال (التصعيد) من أطرافه الأصليين ليشمل أطرافاً أخرى. فالمواجهة مع جماعة أو جماعات سياسية معينة قد تتحوّل - إذا استمرت - إلى مواجهة مع دوائر أوسع وجماعات أكثر, ذلك أن العنف المتبادل تنشأ له - إذا استمر - خاصية جذب يمكن أن تشد إلى دائرته أطرافاً وجماعات لم تختر أبداً أن تكون طرفاً في المواجهات القائمة, أو شريكاً مع أحد أطرافها في ممارسة العنف وأساليب المواجهة, يساعد على ذلك كثيراً في خصوص المواجهة مع الجماعات السياسية التي ترفع شعارات إسلامية أن الحدود غير قائمة ولا واضحة بين فصائل العمل الإسلامي المختلفة, وأن في المجتمع أو خارجه جماعات وقوى يعنيها أن تستهلك جميع تلك الفصائل الإسلامية في المواجهة القائمة, وأن تمتد محاولات (التصفية) من ظاهرة (العنف) إلى ظاهرة (التطرف الفكري) وأن تشمل - إذا أمكن - ظاهرة التدين ولو كان معتدلاً, وذلك تحت شعار أن (العنف) ليس إلا مرحلة حتمية لابد أن يصل إليها المتطرفون فكرياً, وأن التطرف الفكري ليس بدوره إلا مرحلة وحالة يمكــــن أن يصل إليها جميع المتدينين.

          وهكذا يبدو لنا - في وضوح كامل - أن الوقف السريع لمسلسل العنف المتبادل والاستجابة الفورية لدعوة (فض الاشتباك) هما الضمان الحقيقي لتجنب تلك الأخطار غير المحسوبة, وهي - كما قلنا - أخطار تجاوز أطراف الاشتباك ويدفع ثمنها المجتمع كله.

          فوق ما تقدم جميعه, فإننا - وقد دعونا من قبل مرتين على صفحات هذه المجلة إلى فض الاشتباك القائم بين الحكومات العربية والإسلامية وبين الجماعات السياسية التي تدعو إلى تطبيق برنامج إصلاح إسلامي - نضيف اليوم حجة جديدة نساند بها هذه الدعوة ونجددها. ومؤدى هذه الحجة الجديدة أن (الحوار) الحقيقي لم يجرّب تجربة كافية بين أطراف الاشتباك القائم, والسبب في ذلك أن جزءاً كبيراً من مواقف تلك الأطراف قد حددته الهواجس والمخاوف والظنون السيئة أكثر مما حددته الحقائق والمعلومات الثابتة والفهم الصحيح لمواقف ومطالب الأطراف الأخرى.

          إن الهاجس الأكبر الذي يحرّك الحكومات ويدفعها إلى تلك المواجهات هو الاعتقاد بأن جميع فصائل العمل الإسلامي تسعى في النهاية إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي بالقوة وباستخدام الوسائل الانقلابية, وأن قيامها بالدعوة النشطة بين أفراد المجتمع ليس إلا خطوة أولى تعقبها مباشرة محاولة انقضاض على النظم القائمة بأكثر الوسائل بعداً عن الديمقراطية, وذلك فور نجاحها في حشد عدد كاف من الأنصار, خصوصاً إذا أفلحت في الوصول بأولئك الأنصار إلى بعض المؤسسات السياسية والمنظمات الاجتماعية أو النقابية ذات التأثير.

          أما الهاجس الأكبر الذي يحرّك بعض (الجماعات السياسية) الإسلامية إلى استخدام العنف, فهو اعتقاد مقابل مؤداه أن الحكومات تسعى بإصرار إلى (التصفية الجسدية) لكل فصائل العمل الإسلامي, متذرّعة بدعاوى التطرف والإرهاب, وأن المستهدف النهائي إنما هو الإسلام ذاته كعقيدة وشريعة ونظام للحياة, وبذلك يدخل استخدام العنف وأساليب المواجهة بالقوة من جانب تلك الفصائل, في وعي أفرادها واعتقادهم, دائرة (الدفاع المشروع عن النفس) وعن العقيدة والحقيقة وعن الحق في الدعوة إليهما.

          دعوانا في هذه السطور أن الحوار لم يجرّب تجربة كافية دعوى لا تسقط من حسابها ذلك الكم الهائل من الحوارات والندوات التي تمتلئ بها الساحة الثقافية والسياسية في جميع البلدان العربية والإسلامية, والتي يبحث المشاركون فيها أسباب العنف ودوافعه, ويقدمون خلالها تصوّرات عدة لأسلوب محاصرة العنف سعياً إلى تصفيته, فأطراف (الاشتباك) لا يشاركون عادة في تلك الحوارات, ولا يتحدث أحدهما مع الآخر. وإنما يتحدث كل منهما (عن) الآخر دون أن يحاول التوصّل إلى فهم حقيقي لموقفه, ومخاوفه, ومطالبه ودون أن يقدم له عرضاً (حقيقياً) للمصالحة التي ينتهي بها الاشتباك.

          وفوق ذلك كله, وأهم منه, فإن الحديث في أكثر هذه الندوات يتجاهل الأطراف الحقيقية التي يجب أن تشارك, ونقول تحديداً إن الجانب الأكبر من البحث داخل هذه الندوات واللقاءات يدور حول (المخططين) لحوادث العنف, وحول (الأدوات) التي تقوم بتنفيذ تلك الحوادث, دون أن يشغل نفسه بالجانب الأكبر حجماً والأكثر عدداً, وهم الشباب المتدين الذي يتوجه بنية طيبة وقصد نبيل إلى إقامة حياته على مبادئ الإسلام وأحكامه, ثم يدعو مجتمعه - بعد ذلك - إلى اتخاذ تلك المبادئ أساساً للنهضة ومنهجاً للإصلاح. إن جانباً من هؤلاء الشباب يتعرّضون - عبر مسيرتهم هذه - لتوجيهات خاطئة, وتفسيرات لنصوص القرآن والسنّة لا يرتضيها العلماء, تميل بهم عن الطريق السويّ في الإصلاح, وتزيّن لهم أساليب في العمل العام تلتقي مع المبادئ الكبرى للإسلام, ولا يمكن أن تتسع لها صدور الحكومات. وبهذا الميل تبدأ الفجوة بين أولئك الشباب الدعاة وبين مجتمعاتهم وحكوماتهم في الإتساع, وتتهيأ الساحة للمواجهات التي تبدأ هادئة أول الأمر ثم تزداد حدّتها ويتسلل إليها العنف, عبر المخاوف المتبادلة, لتصل بالفريقين في النهاية إلى المواجهة والصدام.

          ولهذا كله, نجدد في هذه السطور دعوتنا إلى الحوار, منتبهين إلى أن هذه الدعوة تتردد الآن, وقد امتلأت الساحة بالمخاوف وسوء الظن, وتصور كثيرون - لذلك وبعدما وقع من أحداث - أن أوان الحوار قد مضى وفات, ولكننا نقول - عن علم بما نقول - إن الأوان لم يفت, ولا يفوت أبداً, مادام فينا راشدون مخلصون قادرون على تذكير الأطراف جميعاً وتذكير الأمة كلها بمدى الخطر الذي يتهددنا في أمننا واستقرارنا ودمائنا, وتذكيرهم كذلك بحجم الضياع الكبير الذي يسببه انشغالنا بهذه الآفة الطارئة عن التوجه بكل ما نملك من قوة وجهد نحو تحقيق المعالم الحقيقية للنهضة التي يتطلع إليها كل العرب وكل المسلمين, نهضة تشحذ من أجلها العقول, وتحشد القوى, وتتجمّع الصفوف.

          وتبقى في نهاية هذا الحديث كلمتان:

          الأولى: أن رياح التغيير والتوجه إلى المستقبل تلف الدنيا كلها, وعالمنا العربي والإسلامي لن يكون استثناء يتمرّد على تلك الحقيقة, ولنتذكر أن الظواهر, ما نحب منها وما نكره, قد صارت عابرة للحدود, متنقلة عبر القارات, وأن التوجه الخاطئ في معالجة ظاهرة العنف قد تمتد آثاره السيئة لتصيد مجتمعات عربية وإسلامية تظن - حتى الآن - أنها بمنجاة من هذه الظاهرة, ولنذكر بكل الصدق والراحة أن شكاوى بعض فصائل الاحتجاج والمعارضة السياسية تجد لها أصداء لدى الجماهير, لأنها تسلّط الأضواء على ثغرات حقيقية تشكو منها تلك الجماهير, وأن الوسيلة المثلى لقطع الطريق على هذه الأصداء إنما هو التصدّي بحزم وجديّة, لسد هذه الثغرات, ومعالجة أسباب تلك الشكوى, وليس في شيء من ذلك تنازل يضعف الحكومات, وإنما هو إصلاح يستجيب لمطالب الرعيّة, وتقوى به الحكومات.

          الثانية: أننا إذا أعرضنا عن هذه الدعوة, وتصوّرنا أننا قادرون على محاصرة الظاهرة والتخلص منها بجهود أمنية خالصة, فإننا بذلك نقطع الطريق على سائر الوسائل السلمية في الإقناع, وفي ممارسة العمل من أجل التغيير, ونفتح أبواب صراعات لا آخر لها, بما نعلمه لأجيال الشباب من أن (الكلمة الطيبة) و (الجدال بالتي هي أحسن) لم يعودا قادرين على حسم الخلاف وإصلاح ذات البين, وفي ذلك ما فيه من دعوة إلى ممارسة التغيير عن طريق الضغط والقسر وتجاوز الحدود. إنه بغير التوجه في صدق وأمانة, وعقول مفتوحة وصدور واسعة إلى الحوار المسئول حول قضايا الأمة, وبغير الرضا بنتائج هذا الحوار, فإننا لا نرى للعنف الذي نشكو منه آخر, ولا نهاية, بل نرى له أمواجاً تتلوها أمواج, تدفع الأمة كلها ثمنها الباهظ, وتضيع معها - إلى أجل غير مسمى - فرص النهضة وإصلاح الحال.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1511&ID=51

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك