متى يُنفَض الغبار عن طه حسين (المقالي)؟

أحمد السماوي

 

طبَّقت شهرة طه حسين أديبًا الآفاق. لكن طه حسين مؤلف المقال أو المقالي، إذا ما قورن إلى طه حسين المؤرخ وطه حسين المفكر وطه حسين الناقد وطه حسين السارد، لم يعره – وفق علمي - أحدٌ أهميةً بالرغم من كونه قد ذاع صيته – في وقته - مقاليًا، وبالرغم مما حظي به من نشر مقالاته مجمعةً في كتب بعد وفاته. فإذا بحديث المساء (1983) وغرابيل (1984) وتجديد (1984) تُضاف عناوين ثلاثة جديدة لرصيد طه حسين الإبداعي. على أن ضعف العناية بالمقال الحسيني لا يعني ضربًا عنه صفحًا بقدر ما يعني أنه وسيلةٌ لسواه وليس غايةً في حد ذاته. فمتى أريد التعرف على رأي طه حسين في الديمقراطية، مثلا، كان مقاله المنشور هنا أو هناك أيسرَ سبيلٍ للوقوف على هذا الرأي، نظرًا إلى كون المقال وجيزًا شكلاً واضحًا دلالةً. ولكن العناية بالمقال، في ذاته، باعتباره جنسًا أدبيًا مستحدثًا له خصائص فنيةٌ تميزه عن سواه من الأجناس الأدبية الأخرى، لم تعرف طريقها إلى أقلام الدارسين.

هل المقال في الدرجة الصفر من الأدب؟

قد يذهب بعضُهم في تفسيره عدمَ اهتمام الباحثين بالمقال فنًا قوليًا وجنسًا أدبيًا مخصوصًا إلى إقرار محمود المسعدي، المؤلِف التونسي المشهور، على رأيه بشأنه. فهو يراه في أدنى درجات الأدب لأنه معرضٌ لأكثر من آفة، ولأنه كثيرًا ما يكون ظرفيًا مؤقتًا مكيفًا تكييفًا ما بطابع الظرف العارض والزمن العابر. وفي طبيعة هذا المقال ما يحول دون الكلية في النظر والشمول في البحث والإحاطة في التحليل. لكن المسعدي الذي يذهب هذا المذهبَ من أفلح من كتب المقال، وممن مقالُه الذي مضت عليه الآن ستون سنةً أو أكثر لايزال حيًا يلذ القارئين. وكذا شأن طه حسين وإبراهيم عبدالقادر المازني وحافظ إبراهيم. فقد انقضت الآن سنون طوالٌ على كتابتهم مقالاتهم، ولكنها لاتزال حيةً على الدوام. فما يُقدم حجةً، إذًا، على الإهمال لا يستقيم.

المقال عصي على الحد

ولعل السبب الحقيقي في ذلك أن يرجع إلى طبيعة المقال ذاته. فهو جنسٌ هجينٌ يقوم بين أدب القصة يمتع وأدب الفكرة يقنع. وهو، داخل أدب الفكرة، يقوم بين خطاب الرأي الذي مقدماته وخواتمه ظنيةٌ وبين خطاب المعرفة ذي المقدمات والنتائج اليقينية. وهو، داخل خطاب الرأي، يقوم بين خطاب مقالي بحصر المعنى، فيه جدلٌ أو تشخيص وبين خطاب هجائي فيه الأهجية والسجال والنقد اللاذع. لذلك، اعتبره الدارسون، في العالم - وما أقلهم! - عصيًا على الحد، وضعُه اليوم كوضع الرواية في آخر القرن التاسع عشر.

في المقال فوضى جميلةٌ

ولعل طه حسين الذي يقر له الخاص والعام في البلاد العربية بكونه رجلَ الثقافة الأبرزَ في القرن العشرين أن يكون، في مقاله، جاريًا على طريقة من سبقوه إفرنجًا وعربًا. لكن أبرز ما يلفت الانتباه في مقال طه حسين التزامُ صاحبه، من حيث يشعر أو لا يشعر، بسمة المقال الرئيسة وهي «فوضاه الجميلة». فقد اتفق دارسون غربيون كثرٌ تعرضوا للمقال بالتحليل على أنه - منهجيا - غير ممنهَج. قال بذلك كل من بارت وأدورنو وألدوس هوكسلي وسواهم. وتتضح هذه الفوضى الجميلة في الجمع بصلب المقال الواحد بين التأمل أو الجدل وبين التشخيص. فطه حسين المقاليُ، إذ يتكلم، يتأمل فيعرض مقدماتٍ وينتظر نتائجَ. وهو، في الآن نفسِه، إذ يشخص وضعًا، يبسط معلوماتٍ على المتلقي استيعابُها وربما حفظُها. وقد لا يكتفي، في المقال الواحد، بهذا التأمل وهذا التشخيص، بل يردفهما بما هما ليسا منه وهو الخطابُ الهجائي. فإذا بالسجال يحضر، وإذا بالأهجية تبرز، وإذا بالنقد اللاذع يحل محل التروي والرصانة.

قد يجد المرء نفسَه في حيرة إذ يعجز عن تحديد الجنس الأدبي للنص الذي هو بصدد التعامل معه. أقِوامُه خطابٌ مقاليٌ أم خطابٌ هجائيٌ؟ فقد يبدأ النص مقاليًا، لكنه سرعان ما ينقلب نقدًا لاذعًا فأهجيةً، ليعود أخيرًا إلى طابعه المقالي. أوَليس تعدد خطابات الرأي هذه دليلا على فوضى جميلةٍ، ومن ثم، على مقالية المقال أي ما به يكون النص مقالا؟ وعندما تجتمع في النص الواحد الوجيز مثلُ هذه السمة إلى جانب نصوص سابقة تحضر علنًا أو ضمنًا فيه يتأكد الناظر من طبيعة النص المقالية.

وإن ما يفعله طه حسين من جمع بين هذه الأجناس المختلفة والتي يسعى الدارسون إلى إقامة حواجز بينها يحقق هدفيْن في آن معًا، أولهُما الالتزام بطبيعة المقال العصي على الخضوع لنمط في الكتابة واحد، وإن بشكل لاواع، وثانيهما تلبية حاجة طه حسين إلى تعاليه على القواعد الفنية في الكتابة وإلى إقراره على عدم الرضا بها. ومثلُ هذا التعالي عبر عنه طه حسين سواءٌ في «المعذبون في الأرض» أو في «الحب الضائع». وإذا كان هذا دأبَه في الفن القصصي روائيًا وأقصوصيًا، فمن باب أولى وأحرى أن يكون في جنس هجين لما تستقر ملامحُه.

بين سلب اللب والسخط

لعل اللذة التي يحققها طه حسين لقارئ رواياته وأقاصيصه ونقوده أن تكون مساويةً لتلك التي يحققها لقارئ مقاله. وتتأتى هذه اللذة من شيئيْن رئيسيْن، أولهما سلبُ لب هذا القارئ أسلوبيًا، وثانيهما حملُه على أن يسخط على ما يسخط عليه طه حسين ذاتُه. فالمقالي، إذ ينزع إلى كسب ود قارئه، يأتيه بما يمتعه. وإذا هو، عندما يسخر من خصمه، لا يكتفي باستعمال سخرية المقال، وهو أن يورد على لسانه ما يضحك، صنيعَه مع الوزراء الذين أفشوا أسرار الحكومة، فإذا هم غرابيل يرشح منها كل ما يوضع فيها، بل يَستعمل سخرية المقام كأن يصور هذا الخصم في مظهر المهرج، وهو رئيس الحكومة المفروض فيه الرصانة والهدوء. وفي ما فعله طه حسين برئيس الحكومة هذا في أحد مقالاته المنشورة في غرابيل بعنوان «سيارة» دليلٌ على هذا الإزراء. فقد جعله يمتطي، في إحدى زياراته إلى باريس، سيارتين في الآن نفسِه، إحداهما موجودةٌ بعدُ في باريس والأخرى حمَلها معه من القاهرة. وبذلك أوفى رئيس الوزراء حق السيارتيْن كلتيهما، عليه.

 أما حمل القارئ على السخط فمأتاه من ضيق المقالي بنفسِه. فهو، إذ يتصدى إلى مسائل فكريةٍ أو ثقافيةٍ شائكةٍ يحللها في غير العمق والتجريد والنسقية التي يتميز بها الفيلسوف والعالِمُ، يرى نفسَه في مرتبة أدنى منهما. لكن تردده في أخذ المواقف وتناقضه أحيانًا هما أقرب إلى طبيعته البشرية مما يأتيه الفيلسوف ذو النسق الصارم والمنهج المجرد من التزام باستقامة النسق، حتى ولو أدى الأمر إلى لي عنق الحقيقة. ولعل التجويد الأسلوبي أن يغطي هذا الشعور بالسخط ويزيدَ، من ثم، في اتهام المتفنن في العبارة بإخفائه ضعفًا في الفكرة. لكن التعبير الراقي فنيًا لا يتناقض البتة وعمقَ الفكرة.

ثلاثةٌ في المقال حاضرة:
الإيطوس والباطوس واللوغوس

وها هنا تفرض صورةٌ ماَ للذات لدى المقالي نفسَها. فأي متكلم يسعى إلى أن يعطي إلى مخاطَبِه صورة عن ذاته مثلى. وتتأتى صورة الذات هذه من وضع المتكلِم الاعتباري كأن يُعرَف صادقًا ليِّنَ العريكة تأتّيَه من خطابه لحظة التلفظ. وطه حسين الذي عرف مبكرًا بكونه أولا عميد الأدب العربي وبإثارته ثانيًا مشكل الشك في الشعر الجاهلي، وبكتابته أخيرًا «الأيام» ردَ فعل ضد المشككين فيه قد حقق لنفسه صورة للذات معتبرة، هي ما يسميها الفرنجة إيطوسًا. وليس غريبًا أن يغتنم طه حسين هذه الشهرة التي حققها صغيرًا ليجد رؤساءَ تحرير الصحف يفسحون له مجال الكتابة في صحفهم فيخصصون له ركنًا يخاطب من خلاله جمهوره القارئ الواسع. ولهذه الشهرة وهذا التفوق في الأدب ما يسمح بالتأثير في المتلقي. وهو ما يطرح مسألة الانفعالات أو العواطف تثار. ويسمي الفرنجة هذه الانفعالات أو العواطف الباطوس. وعندئذ يتفاعل جمهور القراء إيجابًا مع ما يطرحه عليهم المقالي ذو الوضع الاعتباري الجيد من عواطف وانفعالات. وأجلى ما تتضح عليه عاطفة الكراهية والمقت أو الرضا والحب عندما تكون الدعوة إليها أو النهي عنها صادرًا عمن صورةُ الذات لديه مقدرة وعمن عبارتُه متأنقةٌ ميسرةٌ. وهنا تأتي ثالثة ثلاثة العناصر الواجب توافرها للتأثير في المتلقي، وهي العبارة أو اللغة (اللوغوس).

وهكذا يعيد المقال الحسيني إلى الأذهان ثلاثة العناصر المتوافرة في الخطبة قديمًا مما نبه عليه أرسطو في وقته، وهي الإيطوسُ والباطوسُ واللوغوسُ. وتتحول بذلك شروط الخطاب الشفوي، زمن الخطابة القديمة، إلى المقال، زمن الخطابة الجديدة. وإذا طه حسين «خطيبٌ» كتابيٌ يتوخى ما يتوخاه سلفُه الشفويُ فيؤثر بصورة ذاته وبما يثيره من انفعالات وعواطف وبما يستخدمه من أسلوب جميلٍ يسلب اللب.

في المقال نثرٌ مقصده الحِجَاج

إن غاية المقالي الرئيسةَ من وراء فوضى البناء الجميلة وتعددِ الأنماط الخِطابية بين مقالي بحصر المعنى وهجائي وتقديمِ صورةٍ للذات مُثلى وإثارةِ العواطف عبر استخدام لغة فنية هي الإقناعُ. فالخطاب المقالي النثري، إذ يتوافر فيه ما يُسمى الغليانُ الشعريُ الذي يزري بالنظم ويقرب من توهج القصيدة، مقصدُه حجاجيٌ بالأساس. فهو يتوخى السبل المتعددة لحمل القارئ على الاقتناع إن لم يقتنع طوعًا. ولذلك تحضر بكثرة طرائق الاستدلال استقراءً أو استنتاجًا. وميزة خطاب حسين المقالي عدمُ اقتصاره على الاستدلال قياسًا خَطابيًا شأنه مثلا عندما استعار للوزراء يفشون أسرار اجتماعاتهم الخاصة عبارة «الغرابيل». فإذا بالفكرة ترسخ في الذهن يسيرًا. ويُعتبَر هذا القياس خَطابيًا لمناقضته القياس الجدليَ ذا المقدمات والنتائج اليقينية. ويسميه المناطقة «ضميرًا» لإخفاء المحاجّ إحدى مقدمتيْ القياس أو نتيجته. وما عده طه حسين من سلوك الوزراء مزريًا بهم لأنه كشفٌ لأسرار الدولة قد يراه الوزراءُ أنفسُهم حقًا للشعب في المعلومة، ومن ثم، فإخفاؤهم إياها عن أبناء الشعب تسلطٌ عليهم واحتقارٌ لهم، لأن الوزراء قد نصبوا أنفسهم، آنذاك، أوصياء على الشعب.

لكن هذا الخطاب يقوم على الاستقراء وعلى المثال أساسًا. وضربُ المثال من شأنه تقريبُ المفاهيم من الذهن. فما يُراد من المتلقي التفطن إليه يُصاغ له في شكل مثال كذاك الذي أقامه طه حسين متحدثًا عن ضرب الله مثلا ما بعوضة فما فوقها. ومن باب النسج على المنوال ضرب طه حسين المقاليُ مثلا سيارة ما فما فوقها. وهذه المماهاةُ بين البعوضة يتحدث عنها القرآن الكريم والسيارة يتحدث عنها طه حسين لا تعني وجوبًا تحقق النتائج عينِها في الحاليْن، بل قد ينتج عن البعوضة ما لا ينتج عن السيارة. وهو ما نبه عليه المناطقة من أن المثال استقراءٌ خَطابيٌ نتائجه كمقدماته غيرُ يقينية.

القصة وسيلةَ إقناع

بذا يأتي هذا القياسُ وهذا الاستقراء الخطابيان ضميرًا ومثالًا ليكونا عونًا لطه حسين المقاليِ على الإقناع, إلا أن طه حسين لا يكتفي بتوخي أسلوب الحجاج المباشر، بل يعمِد إلى القصة يوردها. فإذا هي تنهض بدور الاستدلال. وفي ما عرضه طه حسين من قصة رئيس الحكومة مع سياراته الثلاث في القاهرة وسيارتيه في باريس ما يطرب المتلقي ويلذ له أن يعرف إلام آلت أمور رئيس الحكومة مع هذه السيارات. فللقصة دورٌ تأثيريٌ وانفعاليٌ لا يُمارى. وإذا كان هذا دورها اتخذها المقالي مطيةً لتبليغ وجهة نظره. فليس همه، في حقيقة الأمر، أن يشهِّر برئيس وزرائه، إذ يستغل منصبه ليفسد بقدر ما يهمه حمل القارئ على الوقوف إلى صفه في رفضه الفسادَ واستغلالَ النفوذ.

الحاجة إلى العناية بالمقال - درسًا - أكيدةٌ

إن العناية بالمقال فنًا قوليًا وجنسًا أدبيًا مستحدَثًا تبدو ضعيفةً جدا برغم الكثرة الكثيرة من المقالات تنشَر يوميًا في الصحف وفي المجلات وفي المواقع الإلكترونية وفي الكتب الجماعية. وربما كان هذا سببًا في عدم العناية به. لكنها تبدو، رغم ذلك أمرًا حتميًا، سواء تعلق الأمر بالمقال مطلقًا أو بمقال طه حسين تخصيصًا. فقد اتفق كثيرٌ من الدارسين على ما وصفوه بالفوضى في المقال لطفوها فنعتوها بالجميلة. واعتبر كثيرون منهم أيضًا الأدب الذي به يُكتب المقال نثرًا عمليًا وسطًا بين نثر فني هو السائد في أدب القصة ونثر يومي هو المستخدَم في لغة التعامل اليومي. ونبه كثيرون منهم أخيرًا على إقبال كل من هب ودب على كتابته فأساءوا إلى طابعه الفني الذي يختلف بعض الاختلاف عن الطابع العملي المميز للمقال الصحفي تحديدًا. فأين موقع مقال طه حسين من هذا الإنتاج المقالي المفرط الغزارة؟

 إن ما نستشفه من غليان شعري في مقال طه حسين شبيهٍ بذاك الذي عبر عنه ميشال دي مونتانييه (واضعُ أسس المقال في التاريخ) يزري بكثير مما يوجد في المقالات السيارة. فنثره يتميز بعبارة تشنف السمع وتهذب الذوق وتعزز الملكة اللغوية. وهو، إلى جانب ذلك، يقوم على بناء متحرر من الصرامة المنهجية لعله سبيل طه حسين إلى التخلص أحيانًا من الجد المفرط الذي يجد فيه نفسه باستمرار. ويقوم هذا النثر أيضًا على تنبيه القارئ على الدوام وحفز همته إلى مشاطرته المقاليَ الرأيَ. كل هذا يجعل العناية بهذا الفن القولي ضرورةً لكونه يرتبط بالفكرة يُدعى إليها وبالقصة ترفد الفكرة وتوضحها وبالعبارة يُتفنَن فيها. هذا فضلا عما يغذي به هذا المقال الحسيني روح المناظرة والجدل، تلك التي يُحتاج إليها في إرساء قواعد الحوار وقوة الحجة.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك