غَربٌ مُعَوْلَمٌ وشَرقان
مسعود ضاهر
أثارت مقولة «الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا» الكثير من الجدل بسبب ضبابية المفهوم والمصطلح الجغرافي. فأين تبدأ حدود كل من الغرب والشرق وأين تنتهي؟ فالمسألة إيديولوجية بامتياز، وهي بعيدة كل البعد عن التحديد الجغرافي والعلمي للواقع الملموس. فالغرب ليس واحدا، كذلك الشرق. لذلك كثرت التعميمات حول الغرب الأوربي، والغرب الأمريكي، والغرب الحضاري، والغرب الديمقراطي. كذلك مصطلحات «الشرق الأدنى»، و«الشرق الأوسط»، و«الشرق الأقصى»، و«جنوب شرق آسيا»، و«الشرق الأوسط الكبير»، و«الشرق الأوسط الجديد» وغيرها. تمحورت المفاهيم الإيديولوجية التي قدم بها الغرب المهيمن نفسه إلى العالم حول النقاط التالية: عصر الأنوار، الثورات التحررية، ثورات العلم والتكنولوجيا، ثورة الطباعة، الثورة الصناعية، الإصلاح الديني، فصل الدين عن الدولة، الديمقراطية، العلمانية، حقوق الإنسان، الحرية، العدالة، المساواة، الإخاء، دولة القانون والمؤسسات، فصل السلطات وكثير غيرها. بالمقابل، وحتى تحرر الشرق الأقصى من التبعية قدم الغرب الغالب الشرق المهزوم إلى العالم بصورة دونية سماتها الأساسية، مجتمع الحريم، والاستبداد الشرقي، ومجتمع الرقيق، والأسياد والعبيد، والهمجية الشرقية، والبرابرة، والمجتمع الخامل، والعصبيات المتناحرة، والهويات القاتلة، والمجتمع القبلي، والتجمعات الطائفية، والنزاعات المذهبية، ومجتمعات جرائم الثأر، وجرائم الشرف، وكثير غيرها. بعبارة موجزة، كانت الحرية بمنزلة امتياز حصري يعود للغرب وحده. وأطلق أسطورة التفوق الثقافي الغربي التي تقوم على المساواة الاجتماعية وعمادها الفرد الحر. وهي سمات معدومة في الشرق ومازالت تعتبر شرطا أساسيا لتحرره، كما فعل الغرب منذ قرون عدة. فالشرقيون محرومون من الحرية والمساواة، وأقصى ما كانوا يطمحون إليه حاكم مستبد عادل، لكنه بقي حلما صعب المنال. مع كثرة الثورات التحررية والعلمية والصناعية والثقافية والطلابية في الغرب، بات مناخ الحرية هو السائد عبر مواطنين أحرار، ونظم ديمقراطية تحصن الحرية التي منعت الغرب طوال تاريخه الحديث والمعاصر من الانزلاق نحو نظم دكتاتورية وفاشية ونازية إلا لفترات محدودة بين الحربين العالميتين، سرعان ما تخلص منها الغربيون بسرعة قياسية. أما الاستبداد الشرقي فمازال مخيما فوق رءوس غالبية الشرقيين منذ فجر التاريخ. ورغم دخول العرب في عصر العولمة والتغييرات الجذرية التي شهدها العالم في مطلع الألفية الثالثة فإن انتفاضات ما سمي بالربيع العربي جاءت مخيبة لآمال الشعوب العربية التي تواجه اليوم أنظمة تسلطية لا تقل ظلامية عن أنظمة القرون الوسطى ومحاكم التفتيش. وهي تصادر الحريات العامة والفردية، وتقمع الرأي الآخر وتكفر صاحبه وتدعو إلى قتله. تمارس الاغتيال السياسي ضد قادة المعارضة، وتصدر فتاوى بقتلهم في مصر وتونس، وتمنع قيام الدولة في ليبيا واليمن. امتد الغرب في عصر العولمة من أوربا إلى أمريكا وصولا إلى اليابان ودول كثيرة منتشرة في القارات الخمس. كما أن الشرق المعاصر شرقان: شرق أوسط مهزوم ومستكين إلى الغرب المنتصر منذ قرون عدة، وشرق أقصى كان مهزوما لعقود طويلة ثم استنهض قواه الذاتية، وكسر قيد التبعية، وبات ينافس الغرب بأسلحته الأساسية في مجال العلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة، والإنتاج الصناعي الكثيف، والتوظيفات المالية الوافرة. تشبه المغلوب بالغالب مازال الغرب الاستعماري يحتقر الشرق المهزوم الذي يلهث وراءه ماديا وثقافيا، ويقلده في كل شيء وفق مقولة ابن خلدون الشهيرة «تشبه المغلوب بالغالب». وما انفك يفرض عليه نظمه، وثقافته، ولغاته، وفنونه، وسلعه. والشرق المهزوم منصاع بالكامل للغرب الكولونيالي، يقدم إليه النفط، والمعادن الثمينة، وكل ما يجنيه من أموال، ويرسل نخبه الثقافية إلى بلاد الغرب لتتربى على تقاليده، فيعود قسم منها ليمارس تغريبه داخل المجتمعات الشرقية المهمشة، والتي أسلست قيادها أخيرًا لقوى دكتاتورية وتيارات تكفيرية. وأعربت القوى المتغربة عن قناعة واضحة بأن دورها تحديثي في مجتمعاتها لأنها تقوم بمهمة الغرب التمدينية في الشرق. وقد بدأت تلك المهمة مع هلينة الثقافة في زمن الإسكندر المقدوني. وروّج مؤرخون غربيون لمقولة «بلاد اليونان المغلوبة غزت روما الغالبة». ودعت إلى القبول بمهمة أوربا التمدينية لشعوب الشرق في زمن صعود البورجوازيات الأوربية الاستعمارية التي رفعت شعار تمدين الشعوب الأخرى بالقوة العسكرية. ووفق هذه النظرة يدرس العرب الحملة الفرنسية على أنها فتحت باب التحديث أمام مصر وبلاد الشام. وأن تقاسم العالم بين الدول الاستعمارية كان مدخلا لتقدمها الحضاري عبر السير على طريق الغرب وتقليد جميع أدواته، في الفكر والممارسة. أما الثقافات المحلية فإلى زوال أكيد لأن الشعوب المتخلفة عاجزة عن حماية ثقافاتها المحلية، وعليها الاقتباس الكامل عن ثقافة الغرب، وتعلم لغاته. ورافق هذا الموقف ازدراء للغة العربية، وتشجيع للهجات المحلية التي تباعد بين الشعوب العربية. تم تنصيب زعامات سياسية شرقية شديدة الارتباط التبعي بالغرب، وتنشيط مثقفين متغربين رفض بعضهم استخدام اللغة العربية التي اعتمدها الأونيسكو واعتمدتها الأمم المتحدة وجميع مؤسساتها كلغة رسمية في المؤتمرات الدولية. بعد سقوط السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى تحت وطأة ضغوط غربية استعمارية، استمر خلفاؤها من الأتراك والعرب على ولائهم التبعي للغرب الكولونيالي. وبالرغم من تبني كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة للدولة العلمانية، فإن خلفاءه ارتدوا عليها بعد أكثر من سبعين عاما، وتبنوا شعار الدولة الإسلامية المستمرة في تبعيتها للغرب. وبعد انقضاء عقود عدة على الاستقلال السياسي للدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط مازالت مقولات التقدم السياسي والثقافي والفلسفي في عصر العولمة حكرا على الغرب. فالديمقراطية، والعلمانية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، وغيرها تصنف لدى العرب كمفاهيم غربية لا يتقبلها المشرقيون. وهي مفاهيم عصرية لا تستطيع المجتمعات الشرقية المتخلفة تقبلها أو الاستفادة منها بل الالتفاف عليها عبر مفاهيم ضبابية. فالدولة العلمانية على سبيل المثال لا الحصر، ممنوعة من التداول في المجتمعات العربية والإسلامية. لذلك تستبدل بمصطلح الدول المدنية التي هي نقيض الدول العسكرية وليس الدينية، ودولة الشوراقراطية التي تجمع بين تقاليد البداوة والحداثة بصورة تلفيقية. نتيجة لذلك، مازال الحوار الثقافي والسياسي بين الغرب الأوربي – الأمريكي، والشرق العربي – الإسلامي – التركي أسير حوار الغالب مع المغلوب الذي لا يمتلك مشروعا نهضويا حقيقيا هدفه الانفكاك عن الغرب كما فعلت الصين ودول آسيوية أخرى. تجدر الإشارة هنا إلى أن هيمنة رأس المال الغربي تأسست تاريخيا على قاعدة استخدام القوة للسيطرة على مصادر الثروة في الشرقين الأدنى والأقصى وباقي شعوب العالم عن طريق القوة العسكرية. واستمر القمع المادي والرمزي فاعلا في عصر العولمة التي تحولت إلى معضلة عالمية بسبب العلاقة الدونية بين غرب أوربي – أمريكي– إسرائيلي مسيطر، وشرق عربي- إسلامي خاضع لتبعية مزمنة للغرب الكولونيالي. أما الشرق الأقصى فقد تمرد على الغرب، وبات ينافسه بأسلحته الحديثة وتقنياته المتطورة، ويعمل على تحويل القرن الحادي والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز. لقد توهم الغرب أن بداية التاريخ كانت في الشرق، لكنه ارتحل من الشرق إلى الغرب. فكانت آسيا بداية التاريخ والغرب الأوربي – الأمريكي نهايته. وتوهم فوكوياما أن نهاية التاريخ باتت حقيقة راسخة مع هيمنة القطب الأمريكي الأوحد بصورة دائمة على العالم. وأعقبه هانتجتون بمقولة صراع الحضارات بين غرب أطلق ثورات الحرية، والتقدم، والعلم، والتكنولوجيا مع حضارات شرق مرتاح لتخلفه ويعيد إنتاج رقصة الدم عبر أسر حاكمة، ودكتاتوريات عسكرية، وأنظمة استبدادية، وتقسيمات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية متنوعة. عندما خرج الشرق الأقصى، اليابان أولا ثم الصين والهند ودول النمور الآسيوية، من دائرة التخلف والتبعية، ارتبكت مسيرة الغرب بعد أن حاول - دون نجاح - طمس التمايز بين حداثته وحداثة الدول الآسيوية. وفشل في تسويق مقولته بأن حداثة الشرق الأقصى مجرد تقليد لحضارته. كما فشل في الحفاظ على نوع من التوازن الدقيق بين الأصالة والمعاصرة بعد أن اندفع بقوة نحو حضارة مادية تبرر جميع أدوات القمع والسيطرة والاستغلال الهمجي. بالمقابل، اعتمدت الدول الآسيوية في الشرق الأقصى القوة الناعمة للحفاظ على التوازن بين الأصالة والمعاصرة. فصعدت الصين إلى المرتبة الاقتصادية الثانية منذ العام 2011، وتراجعت اليابان إلى المرتبة الثالثة في الاقتصاد العالمي. وبقيت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الاقتصادية الأولى في العام 2012، عن طريق الهيمنة العسكرية، حيث باعت أسلحة بقيمة 66 مليار دولار وبنسبة تزيد على 75 في المائة من سوق الأسلحة في العالم، في حين تحتل الصين واليابان والهند مواقعها الاقتصادية استنادا إلى القوة الناعمة. أسطورة الديمقراطية الغربية مع انكشاف أسطورة الديمقراطية الغربية في مواجهة الدول الآسيوية، بات الاستبداد الشرقي أمام منعطف خطر بعد انفجار الانتفاضات العربية في العام 2011. فهي ليست ربيعًا عربيًا كما وصفها الرئيس أوباما باعتبارها صنيعة «الفوضى الخلاقة الأمريكية»، بل انتفاضات الشباب العربي بحثا عن الحرية، والمواطنة، وحقوق الإنسان العربي التي تمت مصادرتها منذ عقود طويلة من قبل أنظمة قمعية أنشأها الغرب الاستعماري ومازال يحميها بشراسة. وهي أنظمة تقمع الأفراد والجماعات معا، كما تقمع قوى الإنتاج الاقتصادي، والإبداع الثقافي والفني، وتبدد ثروات الدول العربية، وتذعن للاستيطان الصهيوني، وتعلق آمالا زائفة على مفاوضات سلام لم تنتج سوى المزيد من خيبات الأمل. والمشروع الغربي للعرب هو مشروع الشرق الأوسط الجديد بقيادة أمريكية – إسرائيلية وبمباركة أوربية. وهو مشروع السيد الغربي لشعوب عربية مازالت تنتظر المستبد العادل الذي لم يكن سوى مستبد شرس يمده الغرب بأدوات القمع للسيطرة على شعبه وإخضاعه للغرب. فانتفض شباب العرب عام 2011 في محاولة لفك قيود التبعية للغرب، وإعادة صياغة تاريخ العرب على أسسس ديمقراطية تجعل الشعب مصدرا لجميع السلطات. نخلص إلى القول إن المسار التاريخي لعلاقة الغرب بالشرق قد اتخذت مسارين مختلفين تماما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. ولم يعد الحديث ممكنا عن غرب واحد أو شرق واحد. فهناك غرب معولم ومتعدد وشرقان متمايزان في مختلف المجالات. فالغرب الأوربي امتد بعيدا خارج القارة الأوربية كلها، وأعطى سماته لدول عدة في القارة الأمريكية، وإلى دول أخرى في العالم تصنف اليوم في خانة الغرب رغم وقوعها خارج القارة الأوربية. ولم يعد مصطلح الغرب يعبر فقط عن مساحة جغرافية في غربي القارة الأوربية التي انطلقت منها مصادر قوته، بل أعطى سماته لمناطق جغرافية أخرى تنسب حاليا إلى الغرب. فباتت القارة الأمريكية بكاملها توصف بأنها إحدى قلاع الغرب. كما تحسب اليابان التي تقع في أقصى الشرق في خانة الغرب بعد أن ساهم في نهضتها الأولى. ولا يتورع بعض الباحثين عن وصف نهضة الصين في زمن الانفتاح والإصلاح بأنها شجعت الرأسمالية الليبرالية الغربية وتخلت عن الاقتصاد الموجه لبناء اشتراكية بخصائص صينية. فقد قررت القيادة الصينية إقامة حداثة بنظامين: ليبرالية رأسمالية على المستوى الاقتصادي، واشتراكية مركزية وليس ديمقراطية غربية على المستوى السياسي. لم تتجاهل الصين الديمقراطية ودورها في بناء مجتمع متناغم ومنسجم مع طبيعة عصر العولمة التي تبنت الديمقراطية كنظام وحيد قابل على تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. لكن القيادة الصينية ترفض توصيف الديمقراطية بأنها غربية المنشأ، وأن شعوب العالم الأخرى ملزمة بتقليد نسختها الغربية. فالديمقراطية إنسانية الطابع وعالمية الانتشار لأنها تقول بحكم الشعب للشعب وبالشعب نفسه. وهي ليست سلعة ثقافية قابلة للتصدير بل نتاج نضج في البنى المحلية، وتعبر عن نضالات كل شعب عبر تاريخه الطويل في بناء ديمقراطية سليمة وليس الاقتباس السهل لمقولات نظرية عن ديمقراطيات شعوب أخرى تزرع في تربة غير صالحة لنموها. هكذ أصبح الشرق شرقين في عصر العولمة. واختط الشرق الأقصى، في اليابان ثم الصين والهند ودول النمور الآسيوية، مسارا تاريخيا مغايرا لمسار الغرب وبعيدا عن استعباد الشعوب الأخرى واستغلال ثرواتها وقمع قواها التحررية. وتقبلت تلك الدول الديمقراطية بصفتها الشكل الأرقى للأنظمة السياسية الملائمة لعصر العولمة. لكنها رفضت مبدأ استيراد الديمقراطية الغربية أو القبول بمقولة أن الديمقراطية من صنع الغرب. وبعد أن تخلصت من هيمنة الغرب التي دامت عقودا طويلة على دول الشرق الأقصى، نبهت إلى أن الغرب المتمادي في سيطرته على كثير من دول العالم ليس داعية سلام بل صاحب مشروع للهيمنة، ويعمل على تدمير القوى المعارضة له على المستوى الكوني. ولم يعد يعتمد فقط على السيطرة العسكرية وحدها ولا حتى على السيطرة الاقتصادية فقط، بل أيضا على التكنولوجيا المتطورة والمحرك المعرفي. فلغة الغرب هي لغة التجارة والمعرفة معا، ومصادر قوته متنوعة جدا على المستوى الكوني. ومازال قرار الغرب هو الفاعل الأساسي في عصر العولمة. ولديه استراتيجية عالمية جديدة للحفاظ على مصالحه الواسعة تقوم على مديح الحرية الفردية، والتفوق العلمي والتقني، والحضور الثقافي، والإعلام القوي والفاعل، والمؤسسات الدبلوماسية، والحرص على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. الشرق الأقصى يواجه الغرب بالحداثة واستوعبت دول الشرق الأقصى وشعوبها استراتيجية الغرب المعولم فقررت مواجهته بأسلحته الحداثية بالذات، وعلى مختلف الصعد. وتحررت من عقدة التبعية للغرب، وأقامت تجارب تحديث ناجحة في مجال اكتساب العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة وتوطينها والإبداع فيها. وتجاوزت الغرب في مجال الحداثة ذات البعد الإنساني التي تقوم على التوازن بين الأصالة والمعاصرة. في حين بقيت دول الشرق الأدنى أو الأوسط حتى الآن أسيرة التبعية للغرب، وعاجزة عن فك التبعية عنه وبناء حداثة ناجحة لمواجهة تحديات العولمة. لذلك احتل الشرق الأقصى في مرايا الغرب الثقافية والعلمية المتقابلة المكانة الأبرز. بالمقابل، احتفظ الغرب لنفسه بصورة ممسوخة ومشوهة عمدا لشعوب الشرق الأوسط، لكثرة ما تضمنت تلك الصورة من أوهام المركزية الأوربية الاستعلائية التي مازالت تروج لمقولة أن العقل والعلوم والتكنولوجيا والإبداع هي لشعوب الغرب، وأن الخمول والكسل والاسترخاء والقدرية والاستبداد هي لشعوب الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أن الغرب الأوربي حين بدأ نهضته في عصر الأنوار، بادر إلى توصيف الشرق الأوسط بنعوت جميلة. فتغزل مثقفوه وشعراؤه بسحر الشرق، ومجتمع الحريم، وقصص ألف ليلة وليلة. ولفرط ما استهلك الشرق الأوسط نفسه في الخمول والكسل بات خارج المعاصرة. عندئذ، بدأ الغرب هجوما كاسحا على الشرق الأدنى القريب منه لمنعه من تجديد نفسه والخروج من ظلمة العصور الوسطى. وفرض عليه اقتباس نظم سياسية مستوحاة من تجارب الغرب. وساعده على بناء مؤسسات تربوية وإدارية وعسكرية واقتصادية تخضع لحاكم مستبد يعتبر نفسه حاميا للدين والدنيا من منظور ثقافي وسياسي مخالف تماما لقيم الدين ومتطلبات السياسة. وتجاهل الغرب جميع القوى المتنورة في مختلف دول الشرق. ووقف يتفرج على مأساة أجيال متعاقبة من النخب العربية التي نالت قسطا كبيرا من ثقافة الغرب، لكنها ضربت بعنف في دولها من قبل نظم استبدادية مدعومة من الغرب. ويطرح صعود الشرق الأقصى بسرعة إلى مصاف الدول الفاعلة في عصر العولمة تساؤلات منهجية تعيد ترتيب الحقائق التاريخية إلى مكانها الطبيعي.فما هي حدود كل من الغرب والشرق الجغرافية والثقافية في عصر العولمة؟ وكيف قدر للشرق الأقصى الذي كان متخلفا طوال عقود عدة أن يقفز إلى مصاف الدول الكبرى خلال حقبة قصيرة أعقبت مرحلة الحرب الباردة؟ ولماذا بقي الشرق أسير أديانه وطوائفه ومذاهبه وعصبياته القبلية؟ ومن ساهم في إبقائه على تخلفه ومنعه من التقدم رغم وجود رغبة ملحة لدى أجيال متعاقبة من المتنورين العرب الذين تلقوا علومهم في مدارس الغرب وجامعاته؟ ولماذا أصدر الغرب على الشرق الأوسط الحكم بالتخلف الدائم الذي لا خلاص منه؟ لابد إذن من تعرية المقولات السائدة حول ثنائية الغرب والشرق اللذين يتقابلان ولا يلتقيان. وذلك يتطلب كشف زيف المقولات الاستشراقية التي تبالغ في توصيف سلبيات شعوب الشرق الأوسط المتخلف لتحيلها إلى نقص في المناعية البيولوجية لدى شعوب باتت تتقبل الاستعمار كأمر واقع كما لو كانت لديها قابلية فطرية للاستعمار وفق مقولة المفكر الجزائري مالك بن نبي.. فقد أثبتت دول الشرق الأقصى، بأنظمتها السياسية وقدرات شعوبها، أن تغيير البنى الاقتصادية والثقافية والسياسية في الشرق الأوسط على قاعدة مشروع نهضوي يعيد للشعوب العربية موقعها المتقدم في التاريخ العالمي. فالشرق الأوسط المهزوم من الداخل مطالب أولا بفك التبعية مع الغرب، وأن تتولد قناعة تامة لدى قياداته ومثقفيه وشعوبه بأن التقدم الحضاري في عصر العولمة لم يعد حكرا على الغرب دون سواه من شعوب العالم، بل تشاركه فيه دول من الشرق الأقصى باتت فاعلة جدا في التاريخ العالمي. وأن الثورات التحررية، والعقلانية، والديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، والإخاء وغيرها هي مفاهيم عالمية وليست غربية. كما أن انتفاضات الشباب العربي مستمرة رغم أنها تواجه اليوم ردة رجعية لا تقل ظلامية عن أنظمة القرون الوسطى ومحاكم التفتيش. وهي ترفض الخضوع القسري لقوى دينية أصولية تحلم بالعودة إلى الماضي الذهبي، وتدير ظهرها إلى التبدلات المتسارعة على المستوى الكوني وآفاقها المستقبلية. ختاما، الشرق في عصر العولمة شرقان: شرق أقصى متحفز لقيادة النظام العالمي الجديد في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، وشرق أوسط عربي مستمر في تبعيته للغرب. وبات الاستبداد في دول الشرق الأوسط أمام منعطف خطر بعد انفجار الانتفاضات العربية التي هي بالتأكيد انتفاضات البحث عن الحرية، والمواطنة، وحقوق الإنسان العربي. فغالبية الأنظمة العربية متقدمة في الاهتراء السياسي، والفساد المالي. ويتحمل الغرب مسئولية إنسانية وأخلاقية مباشرة لأنه مازال يستغل تفوقه لتأبيد سيطرته على شعوب العالم وليس لإنقاذها. وفي ظل هيمنته أصبحت الحروب المتنقلة من ثوابت العلاقات الدولية في عصر العولمة. علما بأن النزعة التسلطية الغربية أفضت إلى الأزمة المالية العالمية المستمرة منذ العام 2008، والتي تهدد بإفلاسات واسعة في الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي لم يعد قادرا على منافسة الدول الصاعدة اقتصاديا وماليا في الشرق الأقصى. فهل تنتهز الدول العربية الفرصة التاريخية المتاحة للتحرر من التبعية للغرب وإقامة تحالف استراتيجي جديد بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى لإطلاق عولمة أكثر إنسانية؟. |
المصدر: http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=12341&ID=297