المجتمع وسلطة المفهوم
عبدالله الحميدي
إذا كان الفرد يولد خاليا من أية معتقدات ومفاهيم معينة. إلا أنه بحكم وجوده الاجتماعي محكوم عليه بالتالي أن يتخذ من المنظومة الثقافية والقيمية التي يتبناها مجتمعه، معيارا للنظر إلى الأشياء والحكم عليها. إذ إن تلك المنظومات الثقافية والمعرفية لمجتمع ما، يعتبر قبولها من قبل الفرد، والخضوع لها، شرطا أساسيا لانتمائه الاجتماعي.
إن زخم الأسئلة التي يبديها الطفل لا بد من أن تجد حدا لها في مرحلة ما. إذ إن هذه البذرة الفلسفية سرعان ما يتم استئصالها. لمصلحة تحقيق وجوده الاجتماعي كفرد. وستصبح المفاهيم أو التصورات التي يفكر من خلالها المجتمع سقفا أعلى أو معيارا أساسيا للحكم على الأشياء. فمفاهيم الحرية، الإنسان، الحب، الرجل، المرأة، الجنس وغيره، يقوم المجتمع وفقا لسياقات تاريخية واجتماعية ودينية معينة بالعمل على «أقنمتها» إن صح القول، والنظر إليها ككليات ثابتة. متعالية عن أي واقع موضوعي. فالإنسان كمفهوم كلي. سابق على أفراده. حسب هذا المنظور الفلسفي، بمعنى أن المفهوم أو الكلي ينظر بالأساس إلى الصفات الأساسية أو المشتركة بين أفراد معينين. فهذا المشترك بين الأشياء هو حقيقة الإنسان. فتعريف الإنسان بكونه «حيوانًا ناطقًا، أو مفكرًا. يستبعد أية صفات أخرى. فكونه أسود الشعر أو معقوف الأنف أو أبيض البشرة لا يعني شيئا بالنسبة إلى إنسانيته. إلا أن الجماعة في الحقيقة ليست تُعنَى كثيرا بتلك المقاربة الفلسفية إزاء تصور المفاهيم، فالفلسفة رغم مشروطيتها التاريخية فإنها في الوقت ذاته تعي تلك المشروطية، وبالتالي فهي تسعى جاهدة لتجاوز الحدود الثقافية والسياسية للنظر إلى الحقيقة مجردة قدر الإمكان، بل تعمد الجماعة إلى خلق مفاهيم من الممكن اعتبارها شديدة الخصوصية بالنسبة لها، وتنظر إليها كسقف أعلى للتصور البشري في ما يخص هذه المفاهيم.
المجتمع نائب عن الفرد من الممكن اعتبار المجتمع ينوب عن الفرد في هذه الحالة في تشكيل المفهوم، دون أن تتاح للفرد فرصة للتحقق من المفهوم وبالتالي خلق مفاهيم خاصة به. إذ إن فرص الفرد لإعادة خلق المفاهيم سرعان ما يتم التخلي عنها حين يجد نفسه في مفترق طرق ما بين الاستمرار في محاولة اكتشاف الوجود عبر لعبة التساؤلات الفلسفية من جهة، وبين الانخراط في المجتمع الذي لا غنى عنه في تحقيق وجوده الاجتماعي من جهة أخرى.
بالنظر إلى إمكانات الإنسان الفكرية واستعداداته النفسية فإنه في الواقع محكوم عليه أن يوقف عجلة التساؤلات الطفولية والاندماج في المجتمع، وما يترتب عليه من قبول منظومته الثقافية ومعاييره الأخلاقية. إن المجتمع بدوره يعي أنه بالرغم من كونه قد استطاع إيقاف العجلة الفلسفية، إلا أنه يدرك أن ذلك لا يعني أنه سيستمر في الوقوف للأبد، إذ إنها تمتلك في ذاتها قوة التحرك والسير من جديد. وإذا لم يكن ثمة ضامن في ألا يكون الطريق الذي ستسلكه تلك العجلة هو المسار الذي يسير عليه المجتمع، فإنه – المجتمع – يعمد كما سبق وأن ذكرت إلى «أقنمة» مفاهيمه وتصوراته أو الأساسي منها على الأقل. مستعينا بما يراه ملائما في هذه الحالة، والتي غالبا ما تتم المماهاة بينها وبين الدين كمرجعية ثقافية تضرب بعيدا في أغوار الضمير الإنساني.
بناء على ذلك من الممكن القول إن أي مجتمع مؤسس على مفاهيم ورؤى معينة للأشياء. هي التي تفسر وتبرر وجوده كمجتمع. وبالتالي فمن الممكن لأي تغير في هذه الرؤى أو المفاهيم أن يؤثر بطريقة أو بأخرى في مفهوم الجماعة ككل. وذلك على حسب مركزية هذا المفهوم أو المعنى الذي تعطيه هذه الجماعة للأشياء أو الظواهر الاجتماعية أو الثقافية. إن التاريخ بدوره يبرر هذه الحقيقة من حيث وجود العديد من الأحداث الدرامية إن صح القول لشخصيات رفضت بشكل أو بآخر سلطة المجتمع أو الجماعة في فرض المفهوم لمصلحة تصوراتهم الخاصة لتلك المفاهيم. وكانت حدة ذلك الصراع مرتبطة بمدى مركزية تلك المفاهيم والتصورات في تأسيس الوعي الجمعي العام.
قمع السلطة للتفسيرات الطارئة إن السلطة الحقيقية تكمن في فرض مفاهيم معينة للأشياء على أفراد معينين . وبالتالي فإن تبني وجهات نظر أخرى بدلا من المعنى الذي تضفيه أو بالأحرى تفرضه السلطة على الأشياء، من شأنه أن يدفع السلطة إلى قمع هذه التفسيرات والمفاهيم الطارئة. بل من الممكن النظر إلى تاريخ الصراعات من هذه الزاوية. ولتقريب الصورة أكثر، من الممكن أن نأخذ المفاهيم الدينية في القرون الوسطى كمثال لفرض المفهوم على الواقع. فقد كان معنى القول أن ثمة سلطة دينية قاهرة، وأن التصورات التي تتبناها تلك السلطة الدينية ممثلة بالكنيسة أو رجال الدين؛ بمعنى أدق، تفرض فهمها ونظرتها للأشياء على الشعب، إذ كانت هذه النظرة أداة وجدت فيها الملكيات الحاكمة آنذاك وسيلة لفرض الاستواء القانوني والثقافي، الأمر الذي يفتح الطريق إلى مزيد من تكريس السلطة الملكية آنذاك. ومما ساعد على تكريس هذه السلطة هو أن وجهة النظر الدينية لم تكن قاصرة على الجانب الأخلاقي والتشريعي فحسب، بل كانت ممتدة حتى لتلك الجوانب المتعلقة بالطبيعة وقوانينها. وكانت هذه الشمولية لها ما يبررها في ذلك الوقت. خاصة في ما يتعلق بجانب العلوم الطبيعية. إذا إن المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والاختبار كان في الحقيقة يشق طريقة وسط طريق وعرة. فالمعرفة سواء الإنسانية أو الطبيعية كانت قائمة على منهج عقلي بحت «المنهج الاستنباطي»، حيث يسلم الفيلسوف أو رجل الدين ببعض المقدمات التي يعتبرها ضرورية، ليستنبط منها حقائق، ومن هذه الحقائق حقائق أخرى ليفسر بذلك جميع المظاهر الإنسانية والطبيعية وهو جالس على كرسيه.
إعادة تقييم عندما تبلور المنهج التجريبي على يد رواد أمثال بيكون وجاليليو كبلر، فإنه لم يكن يعبر عن مجرد آراء ونظريات حول الطبيعة. مخالفة للوجهة السائدة التي كانت تتبناها السلطة الدينية آنذاك. بل كانت في الأساس إعادة تقييم جديدة للأساس الذي يجب أن تبنى عليه السلطة، ليس هذا فحسب بل وكونها قادره في الوقت نفسه على تبرير نفسها على ضوء هذا المنهج. إن الفرق المهم الذي أحدثه ظهور المنهج التجريبي هو انتقال أو تحول في مركز السلطة. انتقال من سلطة متأسسة على الكتاب المقدس أو من الوضع السياسي أو الاقتصادي أو التاريخي، إلى سلطة متأسسة على العقل والتجربة. ولكي نعرف مدى الاختلاف في المعرفة المتأسسة على السلطة وتلك المتأسسه على العقل، لنحاول فقط ولو لمرة واحدة قراءة عدة مقالات في صحيفة ما دون أن نعرف كتاب تلك المقالات ثم نعيد قراءتها مرة أخرى مرفقة بأسماء كتابها الحقيقيين. ثم نحاول تقييم مدى الاختلاف في فهم ومناقشة كل مقال قبل وبعد معرفة أسماء من كتبها. إن معرفة أن نجيب محفوظ مثلا هو كاتب العمل الفلاني يشكل نوعا من السلطة على القارئ حتى قبل أن يشرع في قراءة العمل. أما إذا انتقلنا إلى مجالات أخرى كالدين والتاريخ فإن أثر السلطة سيتضخم إلى حد أن تتجسد في شخصيات بعينها. لذلك فإن الفرد في حاجة لملكة نقدية كافية للتخلص من عبء السلطة هذا، الذي تفرضه في كثير من الأحيان أسماء شخصيات بعينها. |