الدولة التسلطية والتخلف الثقافي

جابر عصفور

 

 

ظني أن واحداً من المفاهيم التي أشاعتها دراسات خلدون النقيب، هو مفهوم الدولة التسلطية الذي قام بتأسيسه في بحثه الرائد والمؤثر: «الأصول الاجتماعية للدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر» (1991). ويقوم تعريف خلدون لهذه الدولة على أنها الشكل الحديث والمعاصر للدولة المستبدة القديمة. فهي الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعلي لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة. لكن الدولة التسلطية تختلف عن شبيهتها القديمة بثلاث خصائص جديدة.

  • من خصائص الدولة التسلطية أن شرعية نظام الحكم فيها تقوم على استعمال العنف والإرهاب
  • قد نقول إن ميزانيات القوات المسلحة لابد أن يصبح أغلبها سرياً حفاظاً على الأمن القومي, لكن ماذا عن أجهزة الأمن أو الشرطة التي تتحول إليها نسبة عالية من الدخل القومي
  • تشبه البنية البطركية بنية السلطة الدينية وبنية السلطة العسكرية في عدد من المجتمعات شبه الحديثة التي تأخذ التسلطية فيها أشكالاً مراوغة مخايلة
  • إذا تعارض العقل مع ظاهر الشرع، يتم تأويل النص الشرعي ليتسق مع العقل، ولكن غرور السلطة هو الذي أوقع المعتزلة في أحابيلها فأنساهم لوازم العقلانية والحرية التي دعوا إليها، فكانت «المحنة»
  • ما ذكره خلدون النقيب من أن نموذج الدولة التسلطية يختلف عن نظيره في العالم العربي باختلاف المكان أولاً، واختلاف الاقتصاد ثانياً

          أولاها، أن الدولة التسلطية تحقق احتكار السلطة عن طريق اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل بوصفها امتداداً لأجهزة الدولة. وأوضح مثال على ذلك ما حدث في النقابات بكل أنواعها في فترة ازدهار الشكل التسلطي للدولة الوطنية أو القومية في مصر وسورية والعراق وغيرها، حيث اخترقت الدولة النظام النقابي المستقل بواسطة رجالها أو قيادات النقابيين الذين استمالتهم إليها، فأصبحوا رجالها أو أنصارها داخل النقابة التي فقدت استقلالها تدريجيا، وفقدت القدرة على حماية مصالح أعضائها، في استقلال كامل عن الدولة، وبما يفرض هذه المصالح على الدولة، في حالة إذا ما حدث تعارض أو تناقض بين الفئة الاجتماعية التي تحمي النقابة مصالحها وتمثلها في مواجهة الدولة، على نحو ما يحدث في نقابات العمال بفئاتهم المختلفة في الدول الديمقراطية المتقدمة. وهو أمر يختفي في حالة الدولة التسلطية التي ظلت النموذج الأكثر شيوعاً في الكثير من دول العالم الثالث التي لايزال نموذج الدولة التسلطية فيها هو الأكثر انتشاراً وهيمنة.

          وتبدأ هذه الهيمنة أول ما تبدأ باختراق المؤسسات التضامنية كالنقابات والاتحادات والجمعيات، فتتحول المؤسسات التضامنية عن دورها الأصلي المستقل إلى دور إذعاني يجعل منها امتداداً لأجهزة الدولة في كل شيء. وعندئذ، تبدو هذه المؤسسات مجرد أجهزة تابعة للدولة. تعمل قياداتها في خدمة الدولة بما يحقق مصالح الطبقة أو النخبة الحاكمة وليس مصالح الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي يفترض أن تمثلها نقاباتها واتحاداتها وجمعياتها تمثيلاً أميناً مستقلاً ونزيهاً. وأتصور أن الأمر لا يكون على هذا النحو، إذا تطاول العهد بالدولة التسلطية وترهلت، وفقدت هيمنتها لأسباب متعددة. وعندئذ يمكن أن تلجأ الدولة التسلطية الحديثة، في حال ترهلها، إلى التحالف مع بعض قوى التعصب الديني، على أساس من المبدأ القديم «الدين بالملك يقوى، والملك بالدين يبقى». ومن الممكن أن يترتب على هذا التحالف اتساع نزعات «التديين» التي تحشر الدين حتى في ما ليس منه، وفي ما هو دنيوي بحت. وعندئذ، يمكن أن تتغافل الدولة التسلطية، عامدة أو غافلة أو حتى متغافلة، عن محاولات جماعات «التديين» المعاصر اختراق المؤسسات التضامنية، الأمر الذي يؤدي بها إلى السيطرة على المؤسسات التضامنية، واختراق باقي مؤسسات الدولة في الوقت نفسه، وذلك بما يؤكد وجود أشكال متعددة من المشاركة في صنع القرار، أو على الأقل التأثير فيه بشكل أو بآخر، تمهيداً لما هو أكبر وأخطر. وهذا هو ما حدث في مصر، بعد تحالف جماعات الإخوان مع السادات، ومن ثم بدأ دورهم الفاعل في كسب أغلب المقاعد في نقابات المحامين والأطباء والصحفيين والمهندسيين...إلخ، ولم ينتبه الكثيرون في ذلك الوقت إلى خطورة هذا التحالف، إلا بعد أن تحول إلى عنصر فاعل في وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم في كل انتخابات حدثت بعد ثورة 25 يناير. لكن ذلك الأمر في تقديري يكون على سبيل الاستثناء، وفي حال ترهل الدولة التسلطية في مجتمع ينقلب فيه «التديين» إلى فعل سياسي حاسم، أو يكون نتيجة لصعود جماعات سياسية تتخذ الدين شعاراً أو قناعاً أو سبيلاً إلى الوصول للحكم والهيمنة.

اختراق النظام الاقتصادي

          وثانية هذه الخصائص أن الدولة التسلطية تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء عن طريق التأميم أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية على الحياة الاقتصادية. ولم يفض ذلك إلى العدل الاجتماعي الكامل الذي رفعت شعاره النخبة الحاكمة في أقطار عدة، مثل مصر وسورية والجزائر، وإنما أدى إلى رأسمالية دولة تابعة، يحركها الفساد الذي استشرى، ونهب الفائض الاجتماعي لمصلحة النخبة الحاكمة في تغيراتها التي أنتجت تحالف الثروة والسلطة ما بين زمني السادات ومبارك، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في أقطار عربية أخرى كالعراق واليمن ضاعت فيها أحلام العدل الاجتماعي، وانقلبت إلى كوابيس لاتزال آثارها قائمة.

          وثالثة خصائص الدولة التسلطية أن شرعية نظام الحكم فيها تقوم على استعمال العنف والإرهاب أكثر من اعتمادها على الشرعية التقليدية. ولذلك اقترن النظام السياسي لنموذج الدولة التسلطية في أغلب أقطار العالم العربي منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالانقلابات العسكرية التي اقترنت ببداية التحرر الوطني، وذلك في الأقطار التي ما كان يمكن التغيير فيها إلا بما قامت به الجيوش الوطنية من انقلابات تحررية، لم تستطع أن تنجز بحكم طبيعتها العسكرية سوى إقامة دول تسلطية، تميز النظام السياسي فيها بعدم وجود انتخابات لها معنى، وعدم وجود تنظيمات مستقلة عن الدولة. والنتيجة عدم وجود دساتير فاعلة، أو إلغاء الدساتير، أو تعليقها، أو تعطيل العمل بها، أو التخلي عنها فور الانتهاء من صياغتها كما حدث مع دستور 1954 الذي قامت بصياغته لجنة مكونة من أفضل العقول المصرية. أذكر منها عبدالرزاق السنهوري والدكتور حامد سلطان (أستاذ القانون الدولي وفي ما بعد عضو لجنة التحكيم الدولي عن الجانب المصري في قضية طابا)، ومحمود عزمي الفقيه الدستوري الدولي الذي شارك في وضع ميثاق الأمم المتحدة. وأستاذ الأجيال أحمد لطفي السيد والدكتور طه حسين عميد الأدب العربي. ومكرم عبيد السياسي الوفدي وعبدالرحمن الرافعي المؤرخ الكبير والدكتور عبد الرحمن بدوي. ولقد تشكلت لجنة الدستور بقرار من مجلس قيادة ضباط الثورة سنة 1953، مكونة من خمسين عضواً من أفضل رموز مصر في ذلك الوقت. وفرغت اللجنة من صياغة الدستور بعد عام، وقدمته إلى مجلس قيادة الثورة، بعد أن تولى عبدالرزاق السنهوري صياغتها النهائية. ولكن مجلس قيادة الثورة تجاهل الدستور الذي لم يرق لأهم قيادات المجلس توجهاته الديمقراطية، واختفى الدستور في إحدى سلال القمامة إلى أن اكتشف حديثا. وظلت مصر تعيش في ظل إعلانات دستورية إلى أن صدر دستور 1956. وكان مجلس قيادة الثورة قد تحول إلى دولة تسلطية، استبدلت النخبة الحاكمة فيها بالملابس العسكرية الملابس المدنية.

الاعتداء على الدستور علامة التسلط

          ولا تنحصر الخاصية الثالثة للدولة التسلطية في قضية الدستور (إلغاءً، أو تعطيلاً، أو تعديلاً بواسطة ترزية القانون..إلخ)، فالأمر يتجاوز العبث بالدستور والانتخابات إلى تجميد الحقوق المدنية التي يمكن أن تتصاعد فينتهي الأمر بها إلى تجميد حقوق الإنسان بوجه عام وانتهاكها.

          ويضيف خلدون النقيب إلى هذه الخاصية تحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية للدولة التسلطية. وأعني بها القوات المسلحة وأجهزة الشرطة وما يتبعها من أجهزة مباحث أمن الدولة وأجهزة السجون وآلات تعذيب وما أشبه. وليس من المستغرب ألا يعرف أي مجلس للشعب في أغلب الأقطار العربية الميزانيات الحقيقية للقوات المسلحة أو الشرطة. قد نقول إن ميزانيات القوات المسلحة لابد أن يصبح أغلبها سريا حفاظا على الأمن القومي. لكن ماذا عن أجهزة الأمن أو الشرطة التي تتحول إليها نسبة عالية من الدخل القومي. ومع الأسف على نحو أدى إلى تثبيت مفهوم أن الجيش والشرطة أجهزة لا تعمل لحماية الوطن بقدر ما تعمل لحماية النخبة الحاكمة في الدولة التسلطية التي لا تأبه بمعارضة أو تحترمها، مادامت تملك الأدوات القمعية القادرة على إخراس أي صوت يحاول الاعتراض على سياساتها أو التشكيك في شرعيتها.

          ومن المؤكد أن تحويل نسبة كبيرة من الدخل القومي لا يتم توجيهها إلى أجهزة الدولة التسلطية فحسب. فهناك الإنفاق الموازي الذي يذهب إلى أجهزة الإعلام لكي تتحول إلى أجهزة أيديولوجية، تعمل على تحقيق الأهداف الموكلة إليها، خصوصاً في ما تريد هذه الدولة أن تجذّره في وعي من تتوجه إليهم هذه الأجهزة برسائل أيديولوجية محددة، وتخييلات سياسية واجتماعية تشيع نوعا من الوعي الزائف لدى الجماهير، كي ترى في الدولة التسلطية القائمة أمرا طبيعيا، تعتاد على قبوله والحياة تحت مظلته، بل الدفاع عنه ضد من يتشكك في شرعيته، أو غياب العدالة في الممارسات التسلطية للدولة. ومن الطبيعي أن تعمل أجهزة التعليم متضافرة مع أجهزة الإعلام بكل أشكالها ووسائلها المباشرة وغير المباشرة لكي تسهم في ترسيخ وعي من تتوجه إليهم، أو على الأقل تبقي هذا الوعي على ما هو عليه، وذلك بالحفاظ على فلسفة تربوية تقوم على التقليد لا الابتكار، الاتّباع لا الابتداع. والنتيجة هي ضمان تنشئة وعي جمعي إذعاني، نقلي، تقليدي، لا يفارق مبدأ الإجماع على القيادة التي تحيل المواطنين إلى رعايا، وأرض الوطن إلى إقطاعية خاصة بالنخبة الحاكمة ورأسها على السواء. ولا يوازي مبدأ الإجماع إلا مبدأ الطاعة الذي يقوم على التأويل الديني السلبي لما ورد في سورة النساء (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59). وهو تأويل يكمله الرأي السائد في طوائف سلفية، ترى أنه لا تجوز الثورة على الإمام أو الحاكم حتى وإن ظلم أو جار، لكي لا تكون فتنة. ولذلك تواتر القول «حاكم غشوم، ولا فتنة قد تدوم».

          والواقع أن خلدون النقيب لم يكن منشغلا بالدرجة الأولى بتحليل الوعي الاجتماعي السياسي لرعايا الدولة التسلطية، وما يغلب على هذا الوعي من رؤية للعالم هي نتاج الأوضاع المتضافرة التي يؤسس لها حضور الدولة التسلطية. ولكن يمكن أن نكمل هذا الجانب الذي تركه خلدون النقيب بأن بنية وعي الدولة التسلطية، إذا جاز استخدام هذا المصطلح، هي بنية وعي بطريركية بالمعنى الذي قصد إليه هشام شرابي في كتابه «البنية البطركية» الذي صدرت ترجمته العربية في يناير 1987. والبنية البطركية للمجتمع العربي هي بنية سابقة على الحداثة ومعادية لها. وسواء كنا نتكلم عن بنية الوعي أو بنية المجتمع فإن العلاقة الضدية بالحداثة قائمة، حتى لو كانت بعض المجتمعات العربية قد تجملت بهذا العنصر أو ذاك من مظاهر الحداثة أو التحديث. وإذا كان فعل التحديث ينصرف إلى الجانب المادي فإنه لا يتحول إلى الحداثة، من حيث هي فكر بالدرجة الأولى، إلا بعد وقت غير قصير من ناحية، وبعد تغييرات فكرية جذرية، تتصل بتحولات حاسمة في علاقات إنتاج المعرفة وشروط توزيعها في المجتمع. ولما كان هشام شرابي يعي وجود مظاهر تحديث في المجتمع، ولكن ليس إلى الدرجة التي تؤدي إلى الحداثة، فقد ظل مؤمنا أن الوعي الجمعي العربي السائد، خصوصاً في ظل الدولة التسلطية هو وعي ما قبل حداثي، أو ضد حداثي إذا شئنا الدقة في فهم الوعي الجمعي المصاحب للدولة التسلطية أو المؤدي إليها.

          ويعني ذلك، من منظور خلدون النقيب، أن الصفة المناقضة للحداثة تظل قائمة مادامت العناصر المهيمنة والمكونة للمجتمع أو الوعي البطركي باقية كما هي، ومحافظة على طبيعة العلاقات التي تتكون منها البنية البطركية التي هي بنية تسلط بالضرورة. وقد حاول هشام شرابي أن يبرز العناصر التأسيسية للبنية البطركية في علاقة تضادها مع الحداثة على النحو التالى:

          المقولة الحداثة النظام البطركي
          المعرفة الفكر، العقل الأسطورة، الإيمان
          الحقيقة علمية، نقدية دينية، تعليمية
          اللغة تحليلية بيانية

          النظام ديمقراطية/ اشتراكية سلطة، بيروقراطية التركيب الاجتماعي الطبقة العائلة، القبيلة، الطائفة

          والحق أن النظام البطركي نظام تسلطي بحكم طبيعته التراتبية، فهو يعتمد على الفرد الذي تبايعه الجماعة سيداً مطاعاً، أو ينصب نفسه سيداً مهيمناً بقوة القبيلة أو الطائفة أو بقوة العشيرة أو سراتها الذين يختارون من بينهم من يرعى مصالحهم ويصونها، ويحكم الجميع بما يجعله أعلى النخبة التي تظل في المقام الأعلى بالقياس إلى بقية المجتمع الذي يتدرج هابطاً إلى أسفل الهرم الاجتماعي، وذلك على نحو تكون معه السلطة هي القدوة والإطار المرجعي لكل شيء، فارضة على أبناء المجتمع ما ترضاه لهم، فهم رعاياها الذين يدينون لها بالولاء والطاعة، ولا يمكن أن يخطر ببالهم الخروج عليها، أو عدم طاعة النخبة التي تتحلق حولها، فهم يعلمون بالتجربة وبما يظل عبرة لهم مآل السؤال عن سلامة هذا التصرف أو غيره من تصرف البطرك الذي يأخذ شكل رأس الدولة، التي تتسلسل الأوامر والنواهي فيها من أعلى قمة الهرم إلى سفحه، دون أن تجد سوى الطاعة العمياء.

          وتشبه البنية البطركية على هذا النحو بنية السلطة الدينية وبنية السلطة العسكرية في عدد من المجتمعات شبه الحديثة التي تأخذ التسلطية فيها أشكالاً مراوغة مخايلة، لكن جوهرها يظل واحداً. ووجه الشبه الأول بين هذه البنيات أن الأعلى له السمع والطاعة على الأدنى في كل شيء، وثانياً: أن مبدأ السمع والطاعة متكرر في كل البنيات ودرجات التراتب. ولا غرابة - والأمر كذلك أن أي جماعة من الجماعات الأصولية، ذات الطابع الديني، لا يصبح المتعاطف معها عضوا فيها إلا بعد أن يُقسم على السمع والطاعة المطلقة. وتشترك البنيات الثلاث في سمات أخرى، أولاها التمييز، سواء التمييز بين المنتسب للبنية والآخر الذي ليس منها، أو التمييز بين الكبير والصغير، والثانية أن الأكبر سناً هو الأحكم والأعقل دوماً على نقيض الأصغر الذي هو أقرب إلى التهور والتسرع. والثالثة تمييز الذكر على الأنثى، سواء بالمعنى الديني أو الاجتماعي أو حتى العسكري. ولا يلحق بذلك سوى التمييز بين المنتسب إلى السادة الأحرار أو العبيد الأشرار.

          هذه البنيات الثلاث التي هي تسلطية في جوهرها في أذهان المتأولين لها من المنظور البطركي- تظل في حاجة إلى تأويلات دينية، تبقي على تراتبها القمعي، ولذلك لا نعجب، إذا استعدنا قرون التاريخ الإسلامي في تعاقبها، أن نجد العلاقة بين النخب الدينية والحكام قوية، تطبيقا لمبدأ: «الملك بالدين يقوى، والدين بالملك يبقى». وإذا استبعدنا المرة الوحيدة التي تحالف فيها خليفتان (المأمون، والمعتصم) مع فرقة عقلانية الميل والاتجاه، وساهما في فرض ناتج تفكيرها العقلاني على المسلمين. أقول إذا استبعدنا هذا الاستثناء، فإن رأس سلطة الدولة المستبدة القديمة كان يتحالف غالباً مع أصحاب التيارات النقلية المعادية للتيارات العقلانية. ولذلك كان تحالف المأمون والمعتصم مع المعتزلة العقلانيين قصير الأجل. وسرعان ما أنهاه الخليفة المتوكل الذي نصر من أطلقوا على أنفسهم أهل السنة والجماعة أحيانا، والسلفية أحيانا أخرى. المهم أنه لم يحدث بعد أن نهى المتوكل المسلمين عن «الكلام والجدل»، ونصر ابن حنبل بعد أن أخرجه من السجن الذي كان إدخاله إياه وصمة عار في جبين المعتزلة الذين ينتسبون إلى العقل الذي أسكرتهم السلطة عن لوازم وضعه موضع الأولية التي تمثلها المبدأ: إذا تعارض العقل مع ظاهر الشرع، يتم تأويل النص الشرعي ليتسق مع العقل، ولكن غرور السلطة هو الذي أوقع المعتزلة في أحابيلها فأنساهم لوازم العقلانية والحرية التي دعوا إليها، فكانت «المحنة». ومن يومها لم نعد نسمع في الأغلب- عن حاكم أو خليفة تبنى فيلسوفا، أو تولى تشجيع اتجاه عقلاني أو تجريبي بالمعنى العلمي. وطوردت الفلسفات العقلانية، وشاع مبدأ «من تمنطق تزندق». وأحرقت كتب الفلاسفة في عدد من ميادين عواصم الأقطار الإسلامية، ووصل الشك في إعمال العقول إلى درجة حرق كتاب الغزالي «إحياء علوم الدين». وتبنى أغلب الحكام -إن لم يكن كلهم- آراء الطوائف السلفية التي لا تجيز الثورة على الحاكم الجائر (كما فعل المعتزلة) أو تؤكد هوية إرادة الفرد، وحقه في أن يصنع حياته على عينيه، فهذا يخالف الأفكار التي اقترنت بالطاعة العمياء للحاكم، فلا حرية لمسلم في الثورة على حاكم مهما بلغ جوره.

          وقد وازى هذا الجانب الديني الذي أسهم به فقهاء السلطان الأدوار الأخرى التي قاموا بها في ترسيخ الجانب الأيديولوجي من الدولة التسلطية التي اهتم بها خلدون النقيب من منظور علم الاجتماع السياسي، بينما اهتم هشام شرابي ببنية الوعي البطركي الذي يمكن القول إنه وصف آخر للدولة التسلطية، لكن من منظور علم الاجتماع المعرفي. ولذلك يلتقي كلاهما حول أكثر من نقطة، في ما يمكن تسميته بالوعي الأيديولوجي للدولة التسلطية، خصوصاً عندما نتحدث من منظور وعي الرعية الذي هو في فعل أدلجة مستمرة، فالحقائق في هذا الوعي ليست علمية أو تجريبية أو نقدية، وإنما هي حقائق نقلية متواترة عن السابقين. ولذلك فهي تكتسب بالتلقين الذي ينبغي التصديق به والعمل بمقتضاه دون إعمال فكر. واللغة بيانية إنشائية وليست لغة تحليلية أو نقدية، والنظام السياسي يتمحور حول الحاكم الفرد الذي يجمع في يديه كل السلطات تقريبا، حتى في الدول التسلطية التي تتجمل بزينات حداثية (دستور) برلمان، مع معارضة مدجنة أو لها حدود لا تفارقها. والبناء الاجتماعي لا يعتمد على الطبقة أو الفئة، فالمعول على العائلة أو القبيلة، أو الطائفة. أضف إلى ذلك ما يمكن أن نرتبه على أفكارهما من أن العلاقة المتبادلة بين بنية ثقافة التخلف التي هي تجسيد للوعي الجمعي المقموع في الدولة التسلطية وآلية الدولة نفسها، أو حتى حضورها في الوجود، فثقافة التخلف تؤدي إلى دولة التخلف التي هي تسلطية بأكثر من معنى. وتمكن وجود الدولة التسلطية بآلياتها المعروفة لا يُمكن إلا أن يؤدي إلى شيوع ثقافة التخلف بوصفها النتيجة اللازمة عن تحقق وجوده. وفي الوقت نفسه، فإن سطوة ثقافة التخلف المتوارثة تقوم بدور فاعل في إنشاء دول الاستبداد قديماً، وتكوين الدولة التسلطية حديثاً. هذه العلاقة المتبادلة بين ثقافة التخلف والدولة التسلطية أشبه بالعلاقة التبادلية بين العلة والمعلول، وهي علاقة تستحق المزيد من الدرس والتأمل. وظني أن العمر لو امتد بالصديقين العزيزين، خلدون النقيب وهشام شرابي، لكانت تفاصيل هذه العلاقة التبادلية قد شغلت انتباه كل منهما. ويكفي على سبيل ترجيح الرأي الإشارة إلى كتاب خلدون النقيب «فقه التخلف» الذي توحي دراساته بهذه العلاقة المتبادلة وتومئ إلى حضورها، وإن لم تدرسها تفصيلاً.

          وما ينبغي أن نضيفه، في هذا السياق، على ما ذكره خلدون النقيب من أن نموذج الدولة التسلطية يختلف عن نظيره في العالم العربي باختلاف المكان أولاً، واختلاف الاقتصاد ثانياً، وما كتبه هو عن الدولة التسلطية في المشرق العربي يختلف عن ما كتبه عن الدولة التسلطية في الخليج والجزيرة العربية، فالمؤكد أن العوامل الجيوبولوتيكية التي أسهمت في تأسيس ملامح الدولة التسلطية في مصر وسورية والأردن والعراق غير العوامل نفسها التي أسهمت في تراكب بناء الدولة السعودية والقطرية والبحرينية. ومن المؤكد أن الموقع الجغرافي وخصوصياته تفرض نفسها؛ فالمجتمعات النهرية في مصر أو العراق مثلا غير الموجودة في دول الخليج والجزيرة بالقطع. أعني أشياء منها أن المجتمع النهري يفرض وجود سلطة مركزية منذ العصور القديمة، وتسهم هذه السلطة في قيادة شعبها إلى بناء حضارات قديمة كما حدث في مصر وسورية والعراق. والوضع ينطبق على لبنان التي تولدت حضارتها الفينيقية منه أو بفضله. وطبيعي أن نضع التاريخ في الاعتبار، ونحن نتحدث عن نماذج الدولة التسلطية في الوطن العربي كله، حيث التنوع والتباين لا يتعارضان إطلاقاً مع وجود عناصر جوهرية ثابتة، تدفعنا إلى الحديث عن خصائص متأصلة في نموذج متحد في جوهره، متعدد في مظاهره إلى درجة يصعب معها، أحيانا، عدم تصديق انتماء هذه الدول شديدة التباعد والتباين إلى نموذج واحد، قادر على اتخاذ أوجه متباعدة.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=12085&ID=292

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك