نموذج للديمقراطية في العالم الإسلامي التجربة الإندونيسية

 

 

لطفي أسياوكاني

هو أستاذ محاضر في الفلسفة السياسية في جامعة بارامادينا وزميل باحث في معهد الحرية وكلا المؤسستين في جاكرتا. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ملبورن استراليا. وهو ناشط في حركة المجتمع المدني والدعوة إلى الحرية وقضايا حقوق الإنسان. كتابه الأخير هو الإسلام والدولة العلمانية في إندونيسيا (Iseas 2009).



ترجمة: هيثم عبد العظيم

 

 

 

في ظل موجة الإحياء الإسلامية وتنامي الحركات الديمقراطية في شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، لعل من المناسب إلقاء الضوء على التجربة الإندونيسية كنموذج للديمقراطية الإسلامية. فإندونيسيا قد نجحت في الحفاظ على حكومة ديمقراطية راسخة، وعلى الحريات المدنية، إضافة إلى تحقيق نمو اقتصادي هائل.


حتى عام 1998 كانت تركيا تُعد نموذجا للديمقراطية في العالم الإسلامي، فأنقرة ذات الأغلبية المسلمة لم تطبق المبادئ العلمانية بصرامة فحسب، ولكنها حاولت أيضا الحفاظ على حكومة ديمقراطية. وبالرغم من وجود بعض الانتقادات حيال تأثير الجيش الواسع في تحديد السياسات التركية، فإن الكثيرين ظلوا يرون في تركيا حتى ذلك الوقت النموذج الوحيد للديمقراطية الإسلامية في العالم. ففي ظل غياب حكومات ديمقراطية في العالم الإسلامي، كان ظهور الديمقراطية التركية، رغم محدوديتها، مدعاة للارتياح.

هذه النظرة تغيرت بعد انتقال إندونيسيا من حكم نظام استبدادي إلى الديمقراطية في عام 1998. وبعد ذلك بثماني سنوات صنف معهد «فريدوم هاوس» للأبحاث البلاد على أنها „بلاد حرة”، لتكون بذلك الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي تحصل على هذه التصنيف. فمن بين دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط لا توجد دولة واحدة ينظر إليها باعتبارها دولة حرة سوى إسرائيل.

ومنذ ذلك الحين والعديد من زعماء العالم يشيدون بالديمقراطية الفتية في إندونيسيا. وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وصفت إندونيسيا بأنها نموذج يحتذى للديمقراطية في العالم الإسلامي. وأعربت كلينتون عن اعتقادها أن: „التاريخ الحديث لإندونيسيا يقدم مثالا للتحول إلى الحكم المدني وبناء مؤسسات ديمقراطية قوية”. وعلى المنوال نفسه أشار الرئيس أوباما إلى أن الديمقراطية الإندونيسية يمكن أن تكون نموذجا لمصر. كما قام أوباما بالفعل بالإشادة بالديمقراطية الإندونيسية في كثير من الأحيان كنموذج جيد للعالم. وفي ظل انتشار الحركات الديمقراطية في أرجاء واسعة من العالم العربي، من الضروري استقراء النماذج الديمقراطية في العالم الإسلامي. هناك على الأقل أربعة أسباب لاعتبار إندونيسيا نموذجا جيدا.

أربعة أسباب

أولا: إندونيسيا هي أكبر دولة مسلمة من ناحية تعداد السكان، ومرت بتحول سياسي من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي.

ثانيا: استطاعت البلاد تحقيق استقرار سياسي رغم النزاعات العرقية والصراعات الطائفية التي ظهرت في سنوات التحول السياسي الأولى.

ثالثا: أظهرت إندونيسيا أداءً اقتصاديا مستقرا. فقد وصل معدل النمو الاقتصادي خلال الخمس سنوات الماضية إلى ٦ بالمائة. وفي عام 2009 استطاعت إندونيسيا، بجانب الصين والهند، أن تكون من الدول الوحيدة في العالم التي استطاعت الحفاظ على معدل نمو يناهز ٤ بالمائة رغم الأزمة الاقتصادية في ذلك العام.

رابعا: إندونيسيا هي الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي فشلت فيها الأحزاب الإسلامية في الفوز بالانتخابات العامة. في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حسمت الأحزاب الإسلامية السياسية الانتخابات لصالحها في ظل الديمقراطية.

إندونيسيا هي حالة مثيرة للاهتمام لمن يدرس التفاعل بين الإسلام والديموقراطية. وفي ظل موجة الإحياء الإسلامي والحركات الديمقراطية المتنامية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فإن السؤال حول ما إذا كانت البلدان المسلمة ستكون أكثر أسلمة أو أكثر علمانية أصبح مهما على نحو متزايد.

دعوني أشرح أولا الخلفية التاريخية لرحلة إندونيسيا إلى الديمقراطية.

بدأت عملية التحول الديمقراطي الراهنة في إندونيسيا في عام 1998، وتحديدا في 12 أيار/ مايو، عندما أعلن الرئيس سوهارتو على الملأ استقالته، منهيا بذلك حكمه للبلاد الذي استمر 23 عاما. وكان الإعلان مفاجئا تماما لأن سوهارتو كان قد انتخب لتوه للمرة السابعة والتزم بحكم البلاد لخمس سنوات أخرى. ويبدو أن الضغط العام الذي تسببت فيه الحركات الطلابية هو السبب الرئيسي لاستقالة سوهارتو. فقد احتل الطلاب البرلمان لمدة ثلاثة أيام، وكانت أعمال الشغب قبل ذلك بأسبوع )14-15 أيار/ مايو( قد أوصلت العاصمة إلى طريق مسدود. إذن كانت إندونيسيا على شفا الانهيار المالي والسياسي. وكانت استقالة سوهارتو الاستجابة الصحيحة في وضع متأزم.

النضال من أجل الديمقراطية

كغيرها من البلدان الأخرى، لم يكن التحول السياسي في إندونيسيا سهلا أبدا، لاسيما في بلد يحكمه نظام استبدادي عسكري. سلم سوهارتو رئاسة حكومته إلى نائبه برهان الدين يوسف حبيبي، لكن الأخير اُعتبر جزءا من النظام نفسه. وأصبح التوتر والصراع والمظاهرات سمات الوضع السياسي الإندونيسي خلال السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الانتقالية، خصوصا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية.

وشعر الناس أن بإمكانهم التعبير بحرية عن آرائهم. وسمحت لهم الديمقراطية بتشكيل مؤسسات تمكنهم من تجنيد وتعبئة الجماهير. فتشكلت المئات من المنظمات والأحزاب السياسية. وشغلت المجال العام جماعات تحمل توجهات إيديولوجية مختلفة خالقين بأنفسهم مفارقاتهم. وشابت الديمقراطية الإندونيسية في سنواتها الأولى الفوضى، وبدأ الكثيرون في الحديث عن شبح التفكك واحتمال البلقنة.

لكن معظم المواطنين بقي غير راضٍ عن أداء الحكومة الجديدة التي نُظر إليها على أنها امتداد لسابقتها. فقد أوصلت الأزمة الاقتصادية البلاد إلى أوضاع هي الأكثر صعوبة منذ ثلاثة عقود. وبلغت نسبة التضخم 77 بالمائة، وقفز سعر الفائدة إلى 68 بالمائة، أما الناتج المحلي الإجمالي فقد انخفض إلى 31 بالمائة تحت الصفر، وارتفع معدل البطالة إلى 24 بالمائة. قوة حكومة حبيبي كانت تُعد منذ البداية قصيرة المدى.

أراد الناس انتخابات نزيهة تمكنهم من اختيار زعمائهم. وسُنّت عدة قوانين تنظم التحول السياسي. وتم تحديد يونيو/حزيران موعدا لإجراء الانتخابات العامة، لكي يختار الناخبون أعضاء المجلس التشريعي، ثم يقوم الأخير باختيار الرئيس وفقا للدستور الإندونيسي.

انتخابات 1999 العامة كانت أكبر من مجرد اختيار زعيم جديد وبعث الأمل في مستقبل اقتصادي أفضل، إذ أنها وضعت الديمقراطية الإندونيسية ومسار البلاد العام أيضا على المحـك. وما أن حُـدد موعد إجراء الانتخابات العامة تم تشكيل مئات الأحزاب السياسية وتسجيلها في لجنة الانتخابات العامة، التي يشار اختصارا بـ «UPK»، ومن بينها أحزاب إسلامية.

ومن أصل 160 حزبا تقدموا إلى لجنة الانتخابات العامة للتسجيل، استطاع 84 حزبا فقط استيفاء الشروط الأساسية، وأصبح يحق لهم الترشح للانتخابات. من بين هذه الأحزاب كان هناك 11 حزبا إسلاميا، جعلت مهمتها النضال من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد. وكانت جميع الأحزاب متفائلة جدا بالفوز حتى أن قادتها تنبؤوا بثقة بأنهم سيكسبون الانتخابات.

قبل إعلان نتائج الانتخابات كان الغموض لا يزال يكتنف مستقبل الإندونيسية الديمقراطية. وكان البعض قلقا من صعود الإسلام السياسي وإمكانية فوز الإسلاميين في الانتخابات. فجدول أعمال الأحزاب السياسية الإسلامية كان واضحا تماما، وهو إعادة الـ «الكلمات السبع» إلى الدستور. المقصود بالكلمات السبع تلك هو الصياغة التي كانت تتضمن تطبيق الشريعة على المسلمين في الدستور الإندونيسي.

كانت الكلمات موجودة أصلا في الدستور، ولكن بعد احتجاجات قام بها وفد مسيحي في 81 آب/ عام 1945، قامت اللجنة التحضيرية للاستقلال بشطبها. وعلى مر التاريخ الإندونيسية الحديث كافح المسلمون من أجل عودة الكلمات المتضمنة للشريعة إلى الدستور. حاولوا خلال فترة حكم سوكارنو، لكنهم فشلوا. وحاولوا أيضا تحت حكم سوهارتو، ولكن النظام لم يكن يسمح بأي حديث عن الإسلام السياسي. والآن أُتيحت الفرصة مع تحول إندونيسيا إلى دولة ديمقراطية، لذلك علق الإسلاميون آمالهم في انتخابات عام 1999.

في نهاية المطاف، خيبت نتيجة الانتخابات العامة الكثير من التوقعات. فقد كان الفائز هو الحزب الديمقراطي الإندونيسي من أجل الكفاح (PIDP)، وهو حزب علماني تتزعمه إبنة سوكارنو، أول رئيس للجمهورية. وجاء في المركز الثاني حزب جولكار، حزب علماني آخر، وكان هو الحزب الحاكم طوال عهد سوهارتو. ومن أصل 11 حزبا إسلاميا نجح حزب واحد منها في الحصول على نسبة معتبرة، وهو حزب التنمية والوحدة (PPP) الذي حصل على 7.01 بالمائة من الأصوات. أما بقية الأحزاب الإسلامية فحصل كل منها على نسبة أقل من 3 بالمائة. ولم تزد النسبة الكلية للأحزاب الإسلامية مجتمعة عن 20 بالمائة، وبالتالي لا تكفي لكي تشكل الأغلبية في البرلمان.

وأصابت هذه النتيجة الكثير من القادة الإسلاميين الذين حلموا بالفوز بخيبة الأمل. إذن فما حدث مؤخرا في منطقة الشرق الأوسط لم يحدث في إندونيسيا. فالديمقراطية لم تدعم الأحزاب الإسلامية ولم تقدها إلى الفوز في السباق على السلطة السياسية.

والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا هو: لماذا لم تصوت غالبية المسلمين الإندونيسيين للأحزاب الإسلامية، وإنما صوتت لأحزاب علمانية أو غير دينية؟ ألم تكن هناك عملية أسلمة في البلاد؟ لماذا لم تؤدِ موجات الإحياء الديني في إندونيسيا إلى النجاح في كسب السلطة السياسية؟

هناك العديد من الإجابات على هذه الأسئلة، ولكن أكثرها إثارة للدهشة هو أن هناك تغيرا جذريا في العقلية السياسية لدى المسلمين الإندونيسيين. ويُعزى ذلك إلى عوامل خارجية ترجع إلى حكم العلمانية العسكرية تحت نظام سوهارتو، وأخرى داخلية ترجع إلى تأثير المسلمين الإندونيسيين الليبراليين. لعب هذان العاملان دورا حاسما في تغيير عقلية وطريقة نظر المسلمين إلى الديمقراطية. واسمحوا لي أن أُكمل توضيح هذا الجانب.

الإسلام والديمقراطية

بجانب القومية والشيوعية تُعد الديمقراطية واحدة من بين المفاهيم الأكثر إثارة للجدل بين المسلمين الإندونيسيين. وخلال ثلاثينيات القرن المنصرم ثار سجال حول القومية بين اثنين من الشباب المثقفين اللذين أصبحا فيما بعد قادة مهمين في البلاد، وهما: سوكارنو (1901-1970) ومحمد ناتصير (1908- 1993). ورأى خلاله سوكارنو، ممثل العلمانيين، أن القومية هي لُحمة الوحدة الإندونيسية وسداها. أما ناتصير، الذي كان يتحدث باسم الإسلاميين، فرأى أن القومية كأيديولوجية قد تؤدي إلى إضعاف إيمان المسلمين. السجال بين سوكارنو ناتصير هو مثال كلاسيكي للخلاف بين العلمانيين والإسلاميين حول قضايا عديدة متعلقة بالدين والسياسة.

وكان الإسلاميون معارضين في المجمل لتبني مفاهيم حديثة مثل الاشتراكية والقومية والديمقراطية. وبينما روج نظـرائهم العلمانيـون بدون تـردد لتلك المفاهيم الحديثة، انتقد الإسلاميون تلك الأفكار وأدانوها في كثير من الأحيان اسـتنادا إلى الحجج الإسـلامية. ونبـع معظـم اعتـراضـهم على هذه المفاهيم من فهمهم الخاص للتعاليم الإسلامية التي يعتقدون أنها سابقة على الأفكار العلمانية.

ناتصير على سبيل المثال يفضل تبني نسخة إسلامية من الديمقراطية، هي مزيج بين الـديمقراطـية الغـربـية والنـمـوذج الإسـلامـي المعروف باسم «الشورى». تردد ناتصير في قبول الديمقراطية يرجع إلى اعتقاده أن الديمقراطية يمكن أن تضر مبادئ الشريعة الإسلامية. وأعرب عن اعتقاده أن هناك بعض الأمور في الإسلام التي تعتبر نهائية وقاطعة، وبالتالي فلا مجال لمناقشتها. وأعطى أمثلة على ذلك تحريم القمار والمواد الإباحية، فكلاهما لا يخضع للنقاش، وليـس للبرلمان الحق في مناقشـة مثل هذه الأمور.

خلال وقت مبكر من الاستقلال في منتصف أربعينات القرن المنصرم، وجد القادة المسلمون أنفسهم في إندونيسيا أقرب لتبني مفهوم «الديمقراطية الإسلامية» أكثر من مجرد «الديمقراطية». وتم الترويج نظريا للمفهوم على نطاق واسع من قبل المثقفين والعلماء المسلمين. على سبيل المثال جادل زين العابدين أحمد (1911-1983)، أحد مؤيدي الديمقراطية الإسلامية، بأن النظام السياسي الإسلامي ليس نظاما ثيوقراطيا، كما قد يظن البعض، وإنما ديمقراطيا.

جذور الديمقراطية الإسلامية، وفقا لأحمد، تكمن في القرآن الكريم والحياة السياسية للأجيال المبكرة من المسلمين الذين عاشوا تحت حكم الخلفاء الراشدين. في الآيات رقم 951 من سورة آل عمران، والآية رقم 95 من سورة النساء، ينصح القرآن بشكل واضح المسلمين بأن يحافظوا على المداولة في عملية صنع القرار. وبالنسبة لأحمد فإن هذا يعد حجة قوية للمسلمين لتبني الديمقراطية. وبالمثل يعتقد أحمد أن: „نظام الخلافة في وقت مبكر كان ديمقراطيا، لحفاظه بشكل كاف على متطلبات الديمقراطية. الوسائل الديمقراطية مثل مجلس الشعب، والخلافة، والمداولة، والمؤسسات الاجتماعية، وُجدت كلها خلال ذلك الوقت “. زعماء المسلمين في إندونيسيا مثل ناتصير وأحمد كانوا يؤمنون بالديموقراطية ليس فقط لأنها مبررة دينيا، ولكن أيضا لإنهم اعتقدوا أن الديمقراطية ستمكنهم من الفوز في السباق على السلطة السياسية. فبما أن المسلمين هم الكتلة السكانية الأكبر عددا في البلاد، فهناك إمكانية للفوز في منافسة ديمقراطية. لذلك شكلوا حزبا إسلاميا شارك في انتخابات عام 1955.

الجيل الأول من الإسلاميين الإندونيسيين فهم الديمقراطية عموما باعتبارها حكم الأغلبية وتجاهل غالبا مضمونها. لقد اعتقدوا أن المسلمين بما أنهم هم الأغلبية فبإمكانهم أن يحكموا البلاد كما يريدون، متجاهلين حقوق الأقليات. وقبلوا الديمقراطية بحماس لأنها يمكن أن تساعدهم في الوصول إلى السلطة السياسية عن طريق الانتخابات العامة. وإذا فازوا في الانتخابات، فبإمكانهم أن يسيطروا على البرلمان وبالتالي أن يغيروا الدستور. هذا هو السبب الرئيسي في أن الأحزاب السياسية الإسلامية كانت على أتم الاستعداد للمشاركة في الانتخابات.

كان يمكن لتاريخ إندونيسيا أن يكون مختلفا إذا ما كُتب للأحزاب الإسلامية الفوز في الانتخابات العامة عام 1955. ففي تلك الانتخابات بلغت حصيلة الأحزاب الإسلامية مجتمعة 34 بالمائة من الأصوات، ما يكفي للسيطرة على الحكومة، ولكن ليس للسيطرة على البرلمان. ووفقا للقانون فلابد من الحصول على ثلثي الأعضاء على الأقل من أجل تغيير الدستور. بالتأكيد أصيب القادة المسلمون بخيبة أمل نتيجة لذلك، لكنهم أدركوا تماما في الوقت نفسه تبعات الديمقراطية.

هذا الفشل كان إيذانا بقبول قواعد اللعبة، فسلطات مواقعهم مرتبطة بما حصلوا عليه في الانتخابات. ومن هذا المنطلق شارك ممثلو التيار الإسلامي في البرلمان، وبعض قادتهم شاركوا في تشكيل الحكومة. من بينهم برهان الدين هارهاب (1917-1987)، وهو زعيم إسلامي عُين رئيسا للوزراء من آب/ أغسطس1955 إلى آذار/ مارس 1956. وبصفته رئيس كان عليه أن يتعامل مع الآخرين وفقا للقانون. وأدرك تماما أنه لا يستطيع فرض رؤية حزبه للديمقراطية الإسلامية.

دور المسلمين الليبراليين

الأمر الجيد في الديمقراطية هو أنها تُعلم الناس الصبر والتسامح. فإذا خسر المرء الانتخابات عليه أن ينتظر لمدة أربع أو خمس سنوات أخرى لدخول المضمار من جديد. وإذا فاز المرء فوزا طفيفا كان عليه أن يتعاون مع الفائزين الآخرين. عندها يكون على المرء أن يتقاسم مع الآخرين «الكعكة الانتخابية» لتشكيل الحكومة. المسلمون الإندونيسيون تعلموا الكثير عن السياسة وكيفية التعامل معها.

لقد حدثت أشياء كثيرة أثناء ما كان يدعى آنذاك «نظام سوهارتو الجديد». فقد مُنع المسلمون من تشكيل الأحزاب الإسلامية. وأجبروا على الانضمام إلى أحد من الأحزاب الثلاثة المقبولة من النظام، وهي حزب جولكار، والحزب الديموقراطي الإندونيسي (IDP)، وحزب التنمية والوحدة.(PPP)بعض العلماء يرون أن تغيير العقلية السياسية لدى المسلمين حدث بدرجة كبيرة بسبب نظام سوهارتو. فقد تم علمنة المسلمين الإندونيسيين سياسيا، ولم يعد موقفهم من السياسة هو نفسه فيما سبق.

صحيح أن «نظام سوهارتو الجديد» لعب دورا حاسما في تغيير توجهات المسلمين السياسية. ومع ذلك فإن هذا التحول لا يرجع فقط إلى سوهارتو الذي حكم البلاد بطريقة قمعية، ولكن يرجع أيضا إلى الدور الطويل والمخلص الذي لعبه المثقفون المسلمون من قبل. ما حدث في إندونيسيا لم يحدث في مصر وغيرها من دول الشرق الأوسط. هناك في إندونيسيا لعب المثقفون دورا هاما في تغيير العقلية السياسية للمسلمين.

قاموا بفعل ذلك من خلال المحاضرات والكتابات واتخاذ الإجراءات التي دعت إلى الديمقراطية ونزع الشرعية عن الأحزاب الإسلامية. وخلافا لما حدث في مصر وغيرها من دول الشرق الأوسط، فإن حركة الإصلاح الإندونيسية استندت دائما إلى منظمات. مثقفون مثل عبد الرحمن وحيد (1940-2009)، وأحمد سيافى معاريف (مواليد 1935) ونورشوليش مجيد (1939-2005) هم قادة مسلمون ترأسوا منظمات كبيرة. ونشروا أفكارهم الليبرالية في المجتمع الإسلامي من خلال هذه المنظمات. فعل وحيد هذا من خلال منظمة نهضة العلماء (40 مليون عضو)، وفعل معاريف هذا من خلال منظمة المحمدية (30 مليون عضو)، وفعل مجيد هذا من خلال رابطة الطلاب الإسلامية وخريجيها (أكثر من 10 مليون عضوا).

في مصر تطورت حركة الإصلاح الإسلامي بطريقة أكثر فردية. فكبار المثقفين أمثال جمال الدين الدين الأفغاني (1837-1897) ومحمد عبده (1849-1905) لم يكن لديهم أي منظمات يمكنهم أن ينشروا أفكارهم عبرها. استمر هذا الاتجاه حتى جيل اليوم من الإصلاحيين. فمثقفون مثل حسن حنفي (من مواليد 1935) ونصر حامد أبو زيد (1943-2010) هم مفكرون أفراد وليس لديهم أتباع كُثر. إنهم ينشرون أفكارهم في الفصول الدراسية، وفي الندوات والمجلات العلمية. ومهما كانت درجة تعقيد أفكارهم فإنها تبقى محدودة ولا تصل أبدا إلى مستوى القاعدة الشعبية.

الترويج من خلال المنظمات

في إندونيسيا قام المثقفون المسلمون بدور نشط للغاية في تعزيز نشر الديمقراطية والتعددية في المجتمع. عبد الرحمن وحيد كان واحدا من أكثر الزعماء المسلمين نفوذا في منظمة نهضة العلماء. وُلد وحيد لأسرة عريقة وتلقى تعليمه في بغداد والقاهرة، وحظي باحترام كبير من قبل المسلمين وغير المسلمين في البلاد. قرأ وحيد الآداب الغربية وحاول مزاوجتها مع التقليد الفكري الإسلامي.

واحدة من أهم إنجازات وحيد لإندونيسيا كانت حملته التي لا تعرف الكلل من أجل الديمقراطية والبانشاسيلا (Pancasila)، أي المبادىء الخمسة، بوصفها الأساس الوحيد للدولة. منذ الاستقلال وحتى ثمانينات القرن الماضي والكثير من المسلمين يعتقدون أن تبني البانشاسيلا يمكن أن يضعف عقيدتهم الإسلامية. لكن وحيد كان يجادل بأن هذه المبادئ الخمسة لا تتعارض مع الإسلام. وطوال حياته المهنية انتقد وحيد علنا الأحزاب السياسية الإسلامية وطعن في شرعيتها. كما شجب فكرة الدولة الإسلامية ورفض تطبيق الشريعة الإسلامية.

نورشوليش مجيد هو مفكر آخر تذكر له إندونيسيا أفكاره الجريئة التي شغلت عقول المسلمين. منذ أوائل سبعينات القرن الماضي ومجيد يشن حملة دائمة من أجل العلمانية، مناشدا المسلمين فصل مصالحهم الدينية عن السياسة. ومثل وحيد رفض مجيد فكرة الدولة الإسلامية والأحزاب الإسلامية، داعيا المسلمين إلى توجيه طموحاتهم السياسية من خلال أحزاب غير دينية (العلمانية). وأعرب عن اعتقاده أن ما هو أكثر أهمية بالنسبة للمسلمين ليس النضال من أجل جدول أعمال شكلي مثل تطبيق الشريعة، ولكن النضال من أجل جدول أعمال جوهري يضم الرعاية الصحية، والأمن، والتعليم.

خلال ثمانينات القرن الماضي كان هناك عدد لا بأس به من المثقفين المسلمين القادمين من خلفية دينية قاموا بالدعوة إلى إسلام ليبرالي، هذا هو الإسلام الذي يدعو إلى القيم الليبرالية مثل الحرية والديمقراطية والتعددية والتسامح. معظم هؤلاء المثقفين ينتمون إلى تنظيمات إسلامية كبيرة مثل نهضة العلماء والمحمدية، ولعبوا دورا حاسما في تنوير المسلمين الإندونيسيين. من خلال وسائل الإعلام ومنتديات النقاش، والمحاضرات العامة، والإجراءات الاجتماعية، نشروا تفسيراتهم المرنة للإسلام وناشدوا المسلمين أن ينخرطوا بشكل كامل في شروط الحياة العصرية.

خاتمة

الديمقراطية الإندونيسية لا تزال فتية لكنها تنمو بشكل حيوي. وعلى الرغم من العديد من المشاكل التي تواجه الحكومة الإندونيسية، أمكن الدولة الحفاظ على نجاح نموها الاقتصادي، والحد من معدل البطالة، وإصلاح النظام القانوني، وبناء البنى التحتية. منذ عام 1998، وإندونيسيا شهدت ثلاث انتخابات عامة، فازت فيها كلها أحزاب علمانية (غير دينية) وهي على التوالي: الحزب الديمقراطي الإندونيسي (1999)، حزب جولكار (2004)، والحزب الديمقراطي (2009).

هذه الأحزاب الثلاثة لديها التزام كبير بالديمقراطية والتعددية الإندونيسية. من جهة أخرى فإن الأحزاب السياسية الإسلامية آخذة في التناقص. ووفقا لدراسة حديثة نشرتها معهد استطلاع الرأي الإندونيسي (ISL)، فإن المسلمين الإندونيسيين سيبقون على تفضيلهم للأحزاب العلمانية في الانتخابات العامة المقبلة (2014).

وعلى الرغم من هذه الصورة المتفائلة فإن هناك تحديان جديان يواجهان الديمقراطية الإندونيسية، وهما الفساد والتعصب. على مدى السنوات العشر الماضية شنت الحكومة الإندونيسية حربا على الفساد. وأُسست في هذا السياق لجنة مستقلة تدعى لجنة القضاء على الفساد، تعمل جاهدة لتقديم المفسدين للعدالة. وتم اعتقال المئات من المفسدين، ولا يزال هناك الكثيرون في الانتظار.

في غضون ذلك، يهدد التعصب وحدة البلاد. فالجماعات الإسلامية الراديكالية تشكل أكبر تهديد للتعددية والوئام في البلاد. وعملت الحكومة الإندونيسية جاهدة لكبح جماح الجماعات الإرهابية، وناشدت المسلمين المعتدلين محاربة التطرف الإسلامي. وإذا نجح الشعب الإندونيسي وحكومته في التغلب على هذين التحديين، فإن هناك احتمالا كبيرا جدا لأن يصبح هذا البلد نموذجا للديمقراطية يحتذى به في العالم الإسلامي.

االمصدر: معهد جوته فكر وفن حزيران/يونيو 2012
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك