هل تعد تركيا قدوة للعالم العربي؟ ما هو الشيء المختلف الذي تفعله تركيا

 

ظافر شينوجاك

كاتب ألماني من أصل تركي يعيش في برلين. صدر له مؤخرا كتاب: «أن تكون ألمانيا. مؤلف تنويري»



‬ترجمة: أحمد فاروق

 

 

منذ اندلاع الثورات العربية عام 2011 على أقصى تقدير تعد تركيا عموما نموذجا إيجابيا محتملا للدول العربية. وينطبق ذلك سواء على الجانب الاقتصادي أو فيما يتعلق بتطور الأحزاب الإسلامية الديمقراطية. لكن إلى أي مدى تمثل تركيا فعليا نموذجا يحتذى؟


في الآونة الأخيرة قيل وكُتب الكثير حول ما إذا كانت تركيا تصلح كنموذج يحتذى لدمقراطة دول الشرق الأوسط. ثمة تغييران جذريان وقعا في تركيا وأعطيا لهذا التساؤل مبرره. الأول هو أنه منذ عام 2002 يقود الحكومة حزب يصف نفسه بأنه إسلامي محافظ وجذوره تعود إلى حركات الإسلام السياسي في القرن الماضي مع تشابه لا يمكن إغفاله مع تاريخ نشأة جماعة الإخوان المسلمين. والشيء الثاني هوأن حزب العدالة والتنمية حقق نجاحات لا نظير لها في العالم الإسلامي. فخلال عشر سنوات تمكن الحزب من تحويل اقتصاد منهار إلى اقتصاد مزدهر، مع انعكاس ذلك على مستوى معيشة المواطنين. كما عمت البلاد موجة تحديث امتدت لتصل إلى كل مجالات الحياة. أما فيما يتعلق بالقضايا الثقافية فقد كان تأثير الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية محسوسا، فهم يرعون القيم المحافظة بإجراءات معتدلة عبر آليات ديمقراطية لاتخاذ القرار. فمثلا لم يمنعوا تناول الكحول، لكنهم قلصوا انتشاره عبر رفع الضرائب وعبر قواعد للترخيص ببيع الخمور.

الاشتباه في أسلمة المجتمع

منذ وصوله للحكم يواجه حزب العدالة والتنمية اتهامات بالعمل على فرض الطابع الديني المجتمع التركي. لكنه استطاع في الوقت ذاته أن يحشد وراءه القوى الليبرالية، التي تسعى بالدرجة الأولى لدمقراطة البلاد ونزع سلطة العسكر وإلى دخول الاتحاد الأوروبي. كان التحالف بين الليبراليين الديمقراطيين والإسلاميين الديمقراطيين هو سر نجاح حزب العدالة والتنمية. هل يمكن تصور حدوث ذلك في العالم العربي؟

كثيرا ما يتم اعتبار نظام ما ديمقراطيا، إذا ما أُجريت الانتخابات بشكل حر وتم الحفاظ على سرية الاقتراع. لكن الديمقراطية لا تعبر عن نفسها في صندوق الاقتراع وحده. إنها تحتاج إلى إطار يتأسس بالقوانين وضمان سيادة القانون والشرعية الدستورية. ولهذا الإطار أساس فلسفي يعود إلى قيم التنوير، فبدون الوعي الذي يضمن حقوق الإنسان وحرية الرأي والمعتقد لا توجد ديمقراطية حسب النموذج الغربي وبالتالي حسب النموذج التركي أيضا.

بعد فترة طويلة من البحث عن تراث ديمقراطي إسلامي، تخلى الإسلاميون الأتراك الذين نظموا أنفسهم سياسيا منذ أواخر الستينات، عن ذلك لصالح النموذج الديمقراطي الغربي. ولم يفعلوا ذلك لأنهم تخلوا عن معتقدهم ولا لأنهم لم يعودوا يطمحون لمجتمع إسلامي. لقد فعلوا ذلك لأنهم مروا بعملية دراسة للأفكار والخبرات اتضح خلالها أنه بدون الأساس المدني، أي الفصل بين شؤون العقيدة وشؤون السياسة والحياة العامة، لا يمكن تأسيس مجتمع ديمقراطي.

لم يكن ذلك بالقرار السهل، فكل المسلمين يؤمنون أن القرآن هو منهاجهم في الحياة. لكنه لم يعد منهاجا عند سن أو إلغاء القوانين في تركيا. وهذا شيء يبدو للوهلة الأولى متناقضا. ماذا يحدث إذا عندما يتصرف المسلمون في حياتهم الخاصة وفقا لنهج القرآن، لكنهم لا يستطيعون الإعلان عن ذلك في المجال العام ولا يتمكنون من التطبيق السياسي لهذا النهج، بل يحولونه إلى مجموعة قيم تحدد سياستهم؟ هذا بالضبط ما يفعله سياسيو حزب العدالة والتنمية، وأولهم رئيس الحزب ورئيس الوزراء رجب طيب إردوغان. مع ذلك لا يستلهم كل أعضاء حزب العدالة والتنمية المبادئ القرآنية في سياستهم، فهذه المبادئ توافق عليها المجتمع التركي منذ زمن بعيد، وتكون سارية طالما أنها لا تتعارض مع المبادئ العامة لحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية والمساواة بين الرجل والمرأة، باختصار عندما لا تخالف مجموعة القيم التي كانت ثمرة للتنوير وترعرعت في حضنها الديمقراطية الغربية.

السأم من الإيديولوجيا

 

إن الطريق التركي الذي يجمع بين التراث الفكري والعقائدي الإسلامي وقيم المجتمع المدني هو نتاج عملية توعية مستمرة منذ أكثر من قرن تلقاها ويتلقاها المواطنون بالدرجة الأولى عبر سياسة تعليمية مبنية إيديولوجيا على أسس التنوير. فغالبية مسلمي تركيا يؤمنون بمدنية الدولة ولكنهم يرون في علمانية الدولة الكمالية المفروضة من أعلى شكلا شديد المغالاة. لقد أصبحت تركيا بلدا يسأم الإيديولوجيا. ولذلك لا توجد أيضا أغلبية تؤيد إحلال الإيديولوجية الدينية محل العلمانية. إن تصحيح العلمانية الصارمة التي تريد حظر كل المظاهر الدينية من الحياة العامة، عبر مجتمع ديمقراطي يؤمن بالاعتقاد الفردي ولا يمكن أن يوجد فيه تعارضات كبيرة بين القرآن ودستور الدولة، لأن المبادئ العامة لحقوق الإنسان تعد شرطا ملزما ــ يقضي على هذا الصراع الثقافي بين التراث والحداثة، بين العالم الإسلامي والغرب.

 

هذا هو الطريق التركي الذي لم يكن سهلا بأي حال من الأحوال، فرغم أن البلاد تعتمد رسميا منذ ستين عاما نظام تعدد الأحزاب والانتخابات تجرى بحرية، إلا أن تركيا كانت وحتى قبل سنوات قلائل شبه بلدا شبه ديمقراطي. والسبب في ذلك هو النظام القانوني الصارم الذي وهب نفسه للعلمانية وضمن موقع تركيا كقاعدة خارجية لحلف الناتو. وهكذا لم تنشأ دولة قانون بل دولة لتطويع القوانين كان همها الأساسي هو قمع الآراء غير المرغوبة. ولم يكن الإسلام هو السبب في القضاء على مثل هذه الدولة بل التقارب مع الاتحاد الأوروبي، أي مع نظام قانوني يوحد كل المجتمعات الديمقراطية. لكن الإسلاميين هم الذين مهدوا لهذا الطريق التركي الذي لا يقودنا إلى عصر الرسول الذهبي بل إلى ميثاق الأمم المتحدة للحقوق الأساسية، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإلى صالونات التنوير والبرلمانات المنتخبة ديمقراطيا.

لا شك أنه من خلال قصة النجاح التركية قد أصبحت ثمة ضغوط على الأنظمة العربية المجاورة، إضافة إلى التحول الجذري في السياسة الخارجية التركية التي لم تعد تتطلع فقط نحو الغرب. ليست الأنظمة الفاسدة التي لا تستطيع حتى تأمين معاش رعيتها سوى تجار للعبيد، ولا يوجد شعب يقبل الاستعباد لفترة طويلة.

قبل نصف قرن كان مستوى التنمية في مصر وتركيا متساويا تقريبا. وكان دخل الفرد متطابقا تقريبا وكذلك عدد السكان. لكن المقارنة في يومنا هذا ستعني خسارة فادحة لمصر، فوفقا لبيانات صندوق النقد الدولي بلغ دخل الفرد عام 2010 في تركيا 9890 دولارا أمريكيا وفي مصر 2771 دولارا. بون شاسع بين البلدين، ولا يوجد تشابه بينهما حاليا سوى في عدد السكان. لكن هذا التباين بين البلدين لم يظهر بوضوح إلا خلال السنوات العشر الأخيرة. وهذا لا يمكن بدوره أن يؤدي في مصر إلا إلى السخط ومواجهة الحاكمين بأسئلة كثيرة. لكن هل يكفي السخط الذي قاد إلى التمرد العربي لإنطلاق خطاب فلسفي يزعزع تصور المجتمعات الإسلامية عن نفسها من الجذور؟ هل يمكن ببساطة أخذ عملية الإصلاح التركية وتطبيقها كما هي؟ وهل هذا مرغوب من الأساس؟ وأي من القوى والأشخاص المشاركة في الحركات الديمقراطية يرون في تركيا مرجعا؟

الكلمة السحرية: الحكم الرشيد

عندما امتدح رئيس الوزراء التركي في القاهرة منذ فترة وجيزة فصل الدين عن الدولة والطريق إلى المجتمع المدني باعتبارهما نعمة، لم يحصد في المقام الأول سوى التعجب والرفض. لكن لا يمكن التعامل مع إردوغان فقط باعتباره نموذجا شجاعا للنضال من أجل العدالة السياسية وأحد كبار معارضي السياسة الإسرائيلية، وجارنا الذي يتحدى الغرب. فهذا السياسي ذو الشعبية الكبيرة كل لا يتجزأ. وهذا يعني وداع الشعارات الإسلاموية والإجابات السهلة من قبيل: «في القرآن توجد حلول لكل المشاكل». وهذا يعني بالأحرى تحولا كبيرا إلى عالم معقد به تحديات كثيرة تنتظر حلولا عقلانية وعملية. ويتطلب ذلك أن يخلع المرء المعطف الإيديولوجي للدين. في الوقت ذاته فإن السياسيين الأتراك لا يتجولون في العالم باعتبارهم أصحاب رسالة تنوير وتوعية، فجل اهتمامهم ينصب على فتح طرق تجارة جديدة وكسب شركاء تجاريين جدد. وهذا أيضا نتاج للتحول الديمقراطي المدني للمجتمع، إذ لا يقاس السياسي بمدى مواظبته على الصلاة بل بكيفية إدارته لشؤون البلاد. «الحكم الرشيد» هي الكلمة السحرية التي تستوعب مبادئ إسلامية من قبيل عدالة وشفافية الحكم وتستوعب بالقدر نفسه قواعد اقتصاد السوق الحرة وأيضا قواعد اقتصاد السوق الاجتماعي.

يعد المجتمع المدني الإسلامي الطابع أكثر محافظة بكثير من المجتمعات الغربية. لذلك فإن النظام العائلي في تركيا لا يزال مختلفا عن معظم البلدان الأوروبية. فحوالي 93٪ من الناس في تركيا يعيشون في محيط عائلي. وفي معظم الحالات يكون الاتصال وثيقا بين ثلاثة أجيال. لكن هذا الموقف المحافظ هو مجرد أحد أساليب الحياة المطروحة للفرد ولا أحد يفرضها على المجتمع كله، ومن المستبعد تماما أن يتم سن قوانين أو قواعد ملزمة بهذا الخصوص.

يمكن للتقاليد باعتبارها شيئا يخضع للتوافق الطوعي أن تصبح إحدى مكونات الحياة اليومية الحديثة. أما إذا ما اعتبرت إرثا مقدسا أسمى من اليومي العادي، فستتحطم غالبا على أرض واقع العالم الحداثي المعولم. وتخلف شخصيات منفصمة تخوض صراعا ثقافيا لا طائل منه.

يصعب التوصل لتحرير ودمقرطة البلدان الإسلامية بدون مواكبة فكرية مكثفة. ومن خلال الوضع الحالي يبدو أن الدول العربية ــ باستثناء تونس ربما ــ لا تزال بعيدة عن هذا الطريق الوسطي الذي سلكته تركيا. في تونس أعلن حزب النهضة الإسلامي بوضوح انتهاجه لطريق حزب العدالة والتنمية التركي. وقد فاز حزب النهضة بالانتخابات وبحث عن شركاء له في المعسكر العلماني. لكن في أماكن أخرى لا يزال شبح الشريعة يجوب في رؤوس الكثيرين، والمقصود تطبيق الشريعة بحذافيرها في عالمنا المعاصر. وهو ما يعد تحريفا غريبا للتاريخ يصعب أن يُكتب له النجاح. ففي الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر أُجريت إصلاحات عديدة وتم إقرار قوانين وضعية ولهذا لُقب السلطان سليمان (1494-1566) ليس فقط بالعظيم بل وأيضا القانوني. كما شهدت مصر أيضا في تاريخها الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تجارب إصلاحية عديدة وخرج منها مفكرون إصلاحيون كمحمد عبده (1849-1905). وحتى في ذلك الوقت كان ثمة سعي لفهم جديد للمصادر الإسلامية وتفسيرها تفسيرا عصريا، ولتجاوز التقليد الأعمى الممنهج للمواقف الدينية المتقادمة، التي أدت إلى جمود الفكر في العالم الإسلامي. لكن كل هذه التجارب والخبرات التي أُنجزت في الماضي لا تزال تحت أنقاض سنوات طوال من الاستبداد والحكم الفاسد الذي لم يبذل أي جهد فلسفي لتفسير العالم تفسيرا جديدا. لقد أُجهضت هذه المساعي في مهدها. فالأنظمة الاستبدادية تعيش على الجمود الفكري.

تحديات معقدة

يتوقف اعتبار تركيا نموذجا يحتذى لدى تكوين الديمقراطيات العربية في المقام الأول على كيفية فهم أسباب طريق النجاح التركي بتنوعها وتعقيداتها. فالمظهر الخارجي للنجاح التركي، أي النجاح الاقتصادي يمكن أن يكون خادعا لو اُعتبر أن الهوية الإسلامية للحاكمين هي وحدها سر النجاح. مع ذلك فإن الاستعداد الداخلي وفقا لشعار: «نحن جميعنا مسلمون وهذا ما يوحدنا» يصرف الأنظار أكثر عن التحديات الحقيقية، كتلك التي يتوجب على مجتمع إسلامي ذي نظام ديمقراطي أن يتغلب عليها في عالم معولم.

وهنا يكون للشباب في البلدان العربية وظيفة محورية. خلال زيارتي إلى مصر عام 2006 كضيف على معرض الكتاب كان يمكن استشعار قلق خلاق لدى الشباب. فأثناء الفعاليات كان الجوع إلى النقاش ملموسا في كل مكان. وأيضا كانت ثمة رغبة في تغيير الأوضاع السياسية. تجمع كم هائل من الأسئلة وتركزت بفضول على الأوضاع في تركيا خصوصا على التغييرات التي حدثت خلال فترة قصيرة جدا. ربما تكون لإرادة التغيير لدى هؤلاء الشباب القدرة على نفض الوصفات القديمة وتمهيد الطريق لمجتمعات حرة ومنفتحة، يستطيع الناس فيها أن يحصلوا على غذاء وتعليم أفضل وأن يطوروا أنفسهم. الشباب هم الغالبية سواء في البلدان العربية أو تركيا ولهم اليد العليا في استخدام وسائل الاتصال الحديثة التي تصعب السيطرة عليها. ويمكنهم أن يصنعوا حراكا حيويا لا يمكن لأوروبا العجوز أن تتخيله.

 المصدر: معهد جوته فكر وفن حزيران/يونيو 2012
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك