الأستشراق إنكماش أم تغییر فی الأستراتیجیة؟
الأستشراق إنكماش أم تغییر فی الأستراتیجیة؟
أياد الحسيني
بعد كل الأبداعات الفكریة والعمل الثقافی على مدى تأریخ طویل جدا من الجهد والبحث والتنقیب فی ثنایا التاریخ وما افرزه الشرق بالذات من كنوز للمعرفة أفضت علیه سحرا ورونقا بات یعرف جلیا للقاصی والدانی بما یعرف بسحر الشرق، حیث أسهمت كل تلك الابداعات فی صیاغة الشرق وإخراجه فی صورة تأریخیة وحضاریة ساعدت كثیرا فی ایجاد مخیلة خصبة للأنسان الغربی عن الأسلام والمسلمین، ولكن وبنظرة نلقیها ملیا على الواقع من حولنا وعلى ما یدور فیه الآن من تطورات وأحداث بات من الضروری طرح السؤال التالی: أین یتموقع الأستشراق الآن؟
فی الواقع وبسبب تطور نمط الحیاة ووسائل العلم والمعرفة خاصة على صعید الأتصالات والمعلوماتیة وبقیة جوانب العصر وما شهدته الحقبة الأخیرة من القرن الماضی من قفزات طویلة فی مجال العلم والتكنولوجیا، لم یعد هناك عالم واحد أو علم واحد أسمه الأستشراق، بل هناك عوالم متباینة یحمل كل منها عنوان المجال الذی یهتم فیه(1)، بل وجدنا من المستشرقین فی الوقت الحاضر من یذهبون الى إصدار الكتب والمقالات التی تعنی بقضایا الساعة.
یبین الدكتور (علی حسین الخربوطلی) سبب زیغ الأستشراق عن مجاله وموضوعاته التقلیدیة فیقول (بدأ استقلال الدول العربیة سیاسیا، كما بدأ تحررها الفكری والحضاری أیضا، ولم یعدالمستشرقون یجدون تلك الحریة القدیمة التی مارسوها طویلاً، كما أصبح العرب على وعی قومی وفكری، فباتوا ینظرون نظرة شك أو حذر الى كتابات وأبحاث المستشرقین، ولذا بدأ إنكماش الأستشراق، ورأى المستشرقون أن یبحثوا لهم عن مجال نشاط ومیدان غیرالمیدان العربى(2)). وبدأوا بالفعل فی السنوات القلیة الماضیة بتغییر وجهتهم فی البحث وساروا نحو میادین المعرفة الجدیدة لتزریق دراساتهم عن الشرق والأسلام بدم جدید ونفس آخر، فأتجهوا صوب العلوم الأنسانیة والدراسات الأجتماعیة وأحیانا السیاسیة وخلقوا أشكالاً جدیدة تتمحور حول دراسة المناطق والحضارات والثقافات، فتغیر بذلك مسار الأستشراق رغم انه احتفظ بكل مقوماته وأغلب سماته، إلا أنه أصبح یتبنى العلمیة للوصول الى أهدافه (شأنهم بذلك شأن كل مرافق الحیاة عندهم) إنطلاقا من مقولة الفیلسوف الأنجلیزی (برتراند راسل) كان العلم وسیلة لمعرفة العالم، أما الیود فقد أصبح وسیلة لتغیر العالم. و ما نشاهده الیوم من تأثیر واضح جدا للعلم والمعرفة والأكتشافات والتقنیات الغربیة على نمط حیاتنا وأسلوب عیشنا وسلوكیاتنا خیر دلیل على ذلك.
ونتیجة لهذا ظهرت بعد الحرب العالمیة الثانیة دراسات عدیدة وجرت جهود كثیرة كان هدفها هو إعادة هیكلیة البحوث الأستشراقیة والتخصصات وذلك على نطاق نظم التعلیم فی الجامعات والمعاهد العلیا ذات العلاقة، فبدا تغییر منهاج التعلیم لدراسة المناطق ومن ضمنها دراسات الشرق الأوسط ولكن بأسالیب وعناوین جدیدة مثل (السوسیولوجیاو علم الأحصاء، و الأنثر وبولوجیا والتاریخ وعلم النفس والأدراة والسیاسة والأقتصاد) وما الى نلك.
إن هذه السلوكیة الجدیدة للأستشراق تتفق تماما والمصالح الغربیة وأطماعها من جهة كما تتفق مع الثقافة والرؤى الفكریة والعلمانیة التی تسیطر على توجهات الكثیر من المفكرین الغربیین، فقد كانوا فی القرن الثامن عشر الماضی یهتمون بالتبشیر متسترین بلباس بناء المدارس والقنصلیات والمستشفیات وكان الأنجلیز هم رواد تلك الحقیقة وذلك الواقع الأكثر ظهورا على الساحة ولكن بعد ولوج الأمریكیین میدان الدراسات الأستشراقیة أصبحوا یرفعون شعارات (الرسالة الأنسانیة تارة والدیموقراطیة تارة أخرى) التی تنادی بحقوق القومیات فی منطقة الشرق الأوسط وحق تقریر المصیر وحق التطور ومواكبة العصر وما شابه ذلك عن طریق إستغلال كافة الموارد المادیة والثروات الطبیعة (وما أشبه الیوم بالأمس) ومن أجل ذلك أسسوا المنظمات والمعاهد وأقیمت المؤتمرات وتعددت الأبحاث عن الشرق الاوسط حتى بلغت الیوم ما یریدون تسمیته بالشرق الأوسط الجدید أو الشرق الأوسط الكبیر. وهذا لایعنی إطلاقا أن الساسة الغربیین أو مفكریهم قد غیروا وجهتهم عن الشرق والأسلام لا بل العكس تماما فهم باتوا أكثر عزما لترسیخ جذور ما بدأه أسلافهم ولكن بلباس جدید یحاكی العصر وتطوراته من جهة، و یبرر مواقفهم ویزكیها لهم من جهة أخرى وإن حاول الغربیون نفی توجهاتهم الجدیدة للاستشراق وبأستخدام شتى الوسائل وعلى سبیل المثال لا الحصر لتأكید مانقوله كتب المستشرق الفرنسی(مكسیم رودنسون) نافیا التوجه الجدید للأستشراق ومبرى ذلك بقوله هل تستطیع أن تقول لی ما قیمة كل تلك الدراسات التی كتبت بهدف الأساءة الى شخصیة محمد؟ وأین هی الآن؟ ومن هو الذی یذكرها أو یعتمد علیها؟ أن مثل هذه الابحاث والكتب التی هدفت الى تشویه شخصیة الرسول (ص) والتی كتبت بدوافع من التعصب الدینی ضدالاسلام باتت دراسات، ونقول لمثل هؤلاء المستشرقین والكتاب إذا ما جدوى الأصرار على مثل تلك الكتابات والاستمرار بها وماكتاب الآیات الشیطانیة للكاتب المرتد سلمان رشدی وغیره من الكتاب الغربیین إلا تناقض واضح لأدعاءات مكسیم رودنسون وغیره من المستشرقین، فضلاً عن أن مثل تلك الدراسات سرعان ما تموت ولانجد من یقرؤها بسبب الأهمال التی تلقاها حیث لانجد من یعتمدها لأن الأغراض التی كتبت من أجلها أصبحت معروفة (3).
ورغم تغییر الأستشراق لمنهجه ومساره فلا یزال یمثل اسلوبا غربیا للسیطرة على الشرق وإعادة هیكلیته وأمتلاكه ونهب ثرواته، لأن التغییر كان مجردا فی الاطار والتكتیك من دون أن یلامس المضمون والهدف، الا ان مایعیشه المستشرقون الآن من أزمات وإنزواء یدفعنا لطرح السؤال التالی: هل أن تغییر الأستشراق لمناهجه فی التعامل مع الشرق سیغیر فعلاً أهدافه الحقیقیة مستقبلاً؟وللجواب على هذا السؤال نقول: إن مالدینا من مؤشرات وتحلیلات وأبحاث فی مجال العلوم الانسانیة یجعلنا أن نستنتج أن نمط العداء ونبرة العنصریة مازالت هی الغالبة، حیث تتركز مثل هذه الروحیة فی نفسیة الباحث الغربی وتنعكس فی نتاجاته الفكریة خاصة تلك التی تتمحور بدراسات الحضارات التی تختلف عن حضارته دینا ولغة وعرقا.
وفی السیاق نفسه فسر المستشرق البولندی (یوناش دانیتسكی) سبب أزمة الاستشراق فی نقطتین أساسیتین:
الأولى: متصلة بالهیكل الداخلی لهذا الحقل من المعرفة.
الثانیة: تنبع من التطورات العامة التی نشأت إثر فصل علوم الأستشراق عن بقیة العلوم والذی أدى الى تقسیم مفتعل لامبرر له.(4)
والاستنتاج الذی یمكن أن نطرحه هو: إما أن الأستشراق یعیش الیوم فی ازمة، والمستشرقون یعیشیون فی تمزق وتناقض (5)،وإما أن الأستشراق یتهیأ (إن لم یكن قد تهیا فعلا) لدور جدید یتناسب والاوضاع الجدیدة للعالم الاسلامی بشكل عام وللعالم العربی بشكل خاص وأن مایدعم الأحتمال الثانی هو قول أحد الساسة الألمان والذی قال: لقد آن الأوان لكی یبتعد المستشرقون بأهتماماتهم عن اللهجات العربیة و یعدوا أنفسهم لتقبل الدور الجدید كطاقة فاعلة فی خدمة العلوم الاجتماعیة وكأحتیاطی للقیام بمهمة الترجمة فی میادین العمل المختلفة (6).
وحول موضوع أن الأستشراق یعید ترتیب إستراتجیته وأوراقه وتحدید مهامه بشكل أدق ومن جدید یرى الدكتور عبدالأمیر الأعسم أنه أصبح من اللازم على الأستشراق أن یعید النظر فی أدائِهِ وأن یجدد هویته، وهنا ظهر المستعربون (Arabists) فهؤلاء هم المعنیون بالدراسات العربیة ولیس من مهمات عملهم معرفة كل ما یتصل بالشرق لذلك نرى أن مؤتمر (الثانی والثلاثین) الذی انعقد فی هامبورغ من العشرین ـ الثلاثین أغسطس 6198 قد أكد على اتجاه التخصص فی الدراسات الاسیویة والأفریقیة الشمالیة(7).
ونستنتج من ذلك اَنه لیس بالضرورة أن یكون الاستشراق قد انتهى أو أن نقول أن علماء الغرب قدأسقطوا الشرق من أذهانهم وأن هذا الملف قدطوی الى الأبد (8)، بل العكس فالأستشراق لن یختفی ببساطة وما مقولة المستشرق (بیترغران) الا دلیل واضح على هذه الفرضیة حیث قال: ان بمقدور الاستشراق أن یتخذ أشكالا مختلفة بدء بالمادیة الماركسیة وإنتهاء بالمثالیة الأوربیة ونظریة التجدید الأمیركیة (9) هذا فضلاً عن أن الأستشراق لایزال یحیا فی العشرات من المعاهد والأكادیمیات ویحتل المئات من المقاعد الدراسیة فی أوروبا وامیركا الى یومنا هذا و لازلنا نشاهد سفر وزیارات طلاب هذا النوع من العلوم الانسنانیة الى بلدان الشرق جریا وراء ما یهدفون الیه وعلى أرض الواقع ومهده(10).
والأدهش من ذلك كله، أننا وجدنا ونجد الآن من بین المسلمین من یمارس الأستشراق فعلا وبأشكال مختلفة وهذا بدوره عامل مساعد وأساسی لأستمرار الأستشراق ودیمومته وفی هذا المجال یرى كل من الدكتور محمد جریشه والدكتور محمد شریف الزیبق أن (طه حسین) یعتبر من أوائل رواد الذین أعلنوا الاعجاب والتقدیر لمناهج المستشرقین وهو حامل لواء الدفاع عنهم وعن أهوائهم، حتى قال بعضهم:أن طه حسین هو لیس إلا مستشرقا من أصل عربی(11). إذ سلك فی أبحاثه منهج الفلاسفة والعلماء متخذا من (دیكارت) قدوة له فی البحث عن حقائق الاشیاء(12)، وهذا المنهج یحث الباحث فی أثناء البدء بأیة دراسة أن ینسى أنه علم شیئا وأن یستقبل موضوع دراسته بذهن خالی أی رافض لكل ما قیل حوله من قبل. هذا المنهج انتهجه طه حسین فی كل ابحاثه وكتاباته دون أن یعیر اهتماما لما حوله و لم یعبأ بجسامة خطورته أوثقل عواقبه هو یقول لنجتهد فی أن ندرس الأدب العربی غیر حافلین بتمجید العرب أو الغض منهم، ولا مكترثین بنصر الاسلام أو النعی علیه و لا معنیین بالملائكة بینه و بین نتایج البحث العلمی والأدبی، ولا وجلین حین ینتهی بنا هذا البحث الى ما تأباه القومیة أو تنفرمنه الأهواء السیاسیة، أو تكرهمه العاطفة الدینیة (13).
یتبین لنا من هذا النص جرأة قویة وهجمة صارخة بوجه الدین وتأثرا كبیرا بنهج المستشرقین، حیث ذهب الأمر بالرجل (طه حسین) الى أبعد من ذلك حین اعتبر قصة سیدنا ابراهیم واسماعیل علیهما السلام أنها أسطورة أخترعت قبل الأسلام، وأستغلها الاسلام لسبب دینی محض وقبلها العرب لسبب قومی وسیاسی. وقد تسببت أفكاره هذه الى إثارة ضجة كبیرة صاخبة كان لها أثر بالغ على الكثیر من المفكرین الذین ساروا فی النهج التحدیثی والاصلاحی المثأثر بالفكر الغربی،ولم یقف طه حسین عند هذا الحد لابل راح الى أكثر من ذلك بأصداره عام 1938 كتابه الشهیر المعروف (مستقبل الثقافة فی مصر) ضمنه كل أفكاره وأحلامه الداعیة الى (التأورب) وطالب مصر قطع صلتها بالقدیم والاخذ بالحضارة الأوروبیة والغربیة لأن سبل النهضة فی نظره هی أن نسیر سیرة الاوروبیین ونسلك طریقهم لنكون لهم أندادا ولنكون شركاؤهم بالحضارة بكل ما فیها من خیر أو شر بحلوها أو مرها وما هو حسن فیها أو ماهو مكروه ومایحمد منها وما یعاب ومن (14)وجهة نظر طه حسین أن الانسان المصری لم تؤثر فیه مبادى الأسلام بشكل تجعله ینسلخ من ثقافته القدیمة التی یتمیز بها كل سكان منطقة البحر الأبیض المتوسط شأنه بذلك شأن الانسان الأوربی الذی لم تفلح المسیحیة أن تجعله منسلخا عن خصوصیاته الاوروبیة التی ورثها عن الآباء والأجداد، وعلیه فأن دعوة المصریین للعودة الى حیاتهم القدیمة التی ورثوها عن أسلافهم فی عهد الفراعنة أو تلك التی ورثوها فی عهد الیونان والرومان أو ما ورثوه فی العهد الاسلامی لن تجد فی نظره من یسمعها أو من هو متلهف للسیر على نهجها، بل العكس من ذلك فسوف یسخر منهاالناس ومن أصحابها الذین ینادون بإحیاء النظم العتیقة والتمسك بالتراث القدیم، لأن البدیل أصبح ضرورة وحتمیة من ضروریات العصر والسیر على خطى الغرب لیس إختیاراً بل هو التزاما تعهدت به مصر خلال معاهدة الاستقلال. وفی هذا السیاق یقول طه حسین: ألتزمنا أمام اوروبا أن نذهب مذهبها فی الحكم و نسیر سیرتها فی الادارة ونسلك طریقها فی التشریع، لقد التزمنا هذا كله أمام اوروبا(15).
فبموجب ذلك الالتزام تصبح مصر تابعة للغرب فی الحكم و الادارة و التشریع، وبالتالی فأن العودة للتراث الاسلامی یكون صعبا لا بل مستحیلاً، لأنه من وجهة نظره أن العودة الى الوراء مشكلة تستوجب حلّا حیث قال: إذا تركنا الصبیة والأحداث للتعلیم الازهری الخالص ولم نشملهم بعنایة الدولة ورعایتها وإشرافها الدقیق المتواصل، وتركناهم لأن یصاغوا صیغة قدیمة ویكونوا بشكل قدیم وباعدنا بینهم وبین الحیاة الحدیثة التی لابد لهم من الاتصال بها والتواصل معها والعیش فیها... فالمصلحة الوطنیة العامة من جهة ومصلحة التلامیذ والطلاب الازهریین من جهة أخرى تتطلبان إشراف وزارة المعارف على التعلیم الابتدائی والثانوی فی الازهر(16) وهذا¨ أنه لایعنى أنه یرفض تعلیم الاسلام قطعا، ولكنه دعا الى تحدیث وعصرنة نمط الدراسة وذلك عن طریق فتح فروع للدراسات الاسلامیة تكون ملحقة بكلیة الاداب لكی تنافس الازهر، ویصبح للطالب الخیار فی التوجه بین هذه المؤسسة أو تلك فتدریس العلوم الجامعیة فی الجامعات أفضل لأنها متصلة بالحیاة العلمیة الاوروبیة مما یساعد الطلبة على اكتساب علومهم بطرق علمیة أكثر حداثة تستطیع أن تحاكیالتطور والتقدم الجاریین فی الغرب.
كما تطرق طه حسین الى اللغة العربیة واعتبرها معظلة لانها عسیرة من جهة وقواعدها ونحوها قدیمان وصعبان حتى على الناطقین بها من جهة أخرى هذا فضلاً عن أن علماء الدین یضیفون علیها نوع من التقدیس بأعتبارها لغة الدین، ولحل مشكلة اللغة العربیة (كما سماها) ینبغی إصلاح الكتابة والقراءة بصورة تجعل الناس لایخطئون حین یقرأون أو یكتبون لكنه لم یَدْعُ الى تغییر اللغة العربیة الى العامیة أو استخدامها الحروف اللاتینیة كما فعل كمال أتاتورك مثلاً فی تركیة هنایقول طه حسین انی من أشد الناس إزورارا على الذین یفكرون فی اللغة العامیة على أنها البدیل المناسب وتصلح كأداة للفهم والتفاهم... أحب أن یعلم المحافظون أنی قاومت وسأقاوم أشد المقاومة دعوة الداعین الى اصطناع الحروف اللاتینیة(17). مهما تكن عبقریة طه حسین خارقة فأنها لاتختلف فی شیىء عمّا نكره المستشرقون وخصوصا ماخطط له الغرب المستعمر لأصلاح التعلیم وتطویره وما أشبه الیوم بالأمس حیث جاءت هذه الدعوات الجدیدة خاصة بعد أحداث الحادی عشرمن أیلول التی وقعت فی أمیركا ومطالبة أمیركا بالذات ومن ورائها أوروبا بضرورة تغییر مناهج التعلیم فی دول عربیة وأسلامیة مثل السعودیة وباكستان وغیرها وبالأمس القریب كان المندوب السامی فی مصر (اللوردلوید) عام 1933 یقول: أن التعلیم الوطنی عندما قدم الأنجلیز الى مصر كان محتكرا من قبل الجامعة الازهریة وفی قبضتها الشدیدة المبنیة على أساس التمسك بالدین والتی كانت أسالیبها الجافة القدیمة تقف حاجزا أمام الاصلاح التعلیمی وكان الطلاب الذین یتخرجون من هذه الجامعة یحملون معهم قدرا عظیما من غرور التعصب الدینی، ولا یتحلون الا بقدر ضئیل جدا من المرونة فی التفكیر، فلو أمكن تطویر الأزهر عن طریق حركة تنبعث من داخله هو لكانت هذه خطوة جلیلة و قلیلة الخطر(18).
وبسبب ذلك دعا طه حسین مصر الى اعتبار نفسها جزء من الغرب قائلاً: إن من السخف الذی لیس من بعده سخفا، اعتبار مصر جزء من الشرق، واعتبار العقلیة المصریة عقلیة شرقیة كعقلیة الهند والصین(19).
إن هذا الكم من الدعوة التی دعا الیها طه حسین تبین مستوى التأثر والتقلید و التشبه بالغرب وبمفاهیمه، مما كان له أكبر الأثر على الساحة الفكریة والأدبیة والسیاسیة، وفی هذا الاطار یقول (محمد العربی الشاوش): ولعل الدكتور طه حسین لم یأتی بجدید فی بعض الآراء التی طرحها وأثبتها فی كتابیه، وتعرض بسببها للنقد والتجریح، فقد كانت تلك الآراء رائجة بین المبشرین و المستشرقین المتغلغلین فی الاسلام ولعل المیزة التی امتاز بها الكاتب الراحل هی قدرته على الأقتباس وحذاقته فی التصرف فیه ثم جرأته فی عرض أنطباعاته وصموده فی الدفاع عنها(20).
وبشكل عام لقد كان (طه حسین) وكثیر من الجامعیین متشبعین بروح الغرب ویتنفسون برئة الغرب ویفكرون بعقلة ویرددون ـ فی بلدانهم ـ صدى أستاذتهم المستشرقین وینشدون أفكارهم ونظریاتهم فی إیمان عمیق وحماسة زائدة، فلایقرأ إنسان لعالم مستشرق فی الغرب بحثا ولایعرف له نظریة إلا ویجد أدیبا أو مؤلفا فی مصر یتبنى تلك النظریة بكل إخلاص، ویفسرها ویدعوا إلیها بكل لباقة وبلاغة، مثل: بشریة القرآن، وفصل السیاسة عن الدین، وإن الاسلام دین لادولة، والدعوة الى العلمانیة، والشك فی مصادر العربیة الاولى، والشك فی قیمة الحدیث العلمیة، وإنكار مكانته وحجیته ومكانة السنةفی الاسلام، والدعوة الى تحریر المرأة ومساوتها بالرجل وإلى خلع الحجاب والسفور، وكون الفقه الاسلامی مقتبسا من القانون الرومانی ومتأثرا به فی روحه وسبكه، والدعوة الى إحیاء الحضارات السابقة على الاسلام، وتمجید العصر الفرعونی، والتغنی بحضارته وأدبه وأمجاده، والدعوة الى العامیة والتألیف فیها، واقتباس الحروف اللاتینیة والتقنین العربی على أساس القانون الغربی المدنی، والدعوة الى القومیة العربیة والاشتراكیة المادیة ـ والشیوعیة الماركسیة أحیانا ـ فی العصر الأخیر.
وأخیرا نود أن نقول: أن التمویل المستمر لحركة الاستشراق، و إن قل عدد المشتغلین فی هذا الحقل، هو الباعث على استمرار هذه الحركة منذماضیها وحتى حاضرها، وعلى أی حال یبدو لن یكون ممكنا دحرالفكر الاستشراقی عن الامة الاسلامیة، مادامت أسسه لیست فی الكتب أساسا، بل هی فی ثنایا الثقافة، وهی مؤسسات الاستشراق، وإذا كان هناك من یتوخى إنهاءالفكر الاستشراقى، فهو ولو لم یكن قادرا على إسكات نبضات ثقافیة برمتها، إنما قدیكون قادرا على التأثیر فی المؤسسة الاستشراقیة(21)
المراجع
1- الاتجاهات الوطنیة فی الأدب العربی، (محمدمحمد حسین)، الطبعة الثانیة، 1972، دون بیانات.
2- الاستشراق والخلفیة الفكریة للصراع الحضاری،(محمود حمد زقزوق)، الطبعة الثانیة، كتاب الأمة، العدد 5 صفر 4041 هـ، قطر.
3- أسالیب الغزو الفكری للعالم الإسلامی، (علی محمد جریشة، ومحمدشریف الزیبق) بدون تاریخ، دارالاعتصام.
4- الصراع بین الفكرة الإسلامیة والفكرة الغربیة، لأبی الحسن علی الحسینی الندوی، 0041 ه 1980 م، طبعة دارالقلم ـ الكویت.
5- الفكر العربی فی معركة النهضة، (أنور عبدالمالك) ترجمة وإعداد: بدرالدین عردوكی،الطبعة الثانیة، فبرایر 1978 م، دار الاداب ـ بیروت ـ لبنان.
6- فی الأدب الجاهلی، طه حسین الطبعة الحادیة عشرة، 1975م، دارالمعارف ـ مصر.
7- المستشرقون والتاریخ الإسلامی، (علی حسنی الخربوطلی 1988) م، طبعة الهیئة المصریة العامة للكتاب.
8- مجلة الاستشراق، المجلد الأول، العدد1، سنة 1987 م، تصدر عن دار الشؤون الثقافیة العامة ـ بغداد ـ العراق.
9- مجلة دعوة الحق، العدد 6، السنة السادسة عشرة، 4197 م، تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة ـ المملكةالمغربیة.
10- مجلة رسالة الجهاد، العدد 70 - 71، السنة السابعة، 1988 م، لیبیا.
11- مجلة الفكر العربی، العدد 13، السنة الخامسة، ینایر ومارس 1991 م، دار الإنماء العربی للعلوم الإنسانیة، بیروت، لبنان.
12- مجلة الوحدة العدد 50، سنة 1988 م، المجلس القومی للثقافة العربیة ـ الرباط ـ المغرب.
الهوامش
1. انظر ثقافة الاستشراق ومصادره وعلاقات الشرق بالغرب ـ رضوان السید، ص 41، مجلةالفكر العربی، عدد 31، السنة الخامسة، 1983 م.
2. المستشرقون والتاریخ الإسلامی، ص 94 . 50.
3. نقلاً عن: الهجمة الثقافیة الجدیدة على القومیة العربیة: خصائصها واتجاهاتها، للدكتور سمیر
بطرس، ص 56، مجلة6 الوحدة، العدد 50، 1988 م.
4. الاستشراق فی المیزان: الإشكالات الاستشراقیة، ص 31، مجلة رسالة الجهاد، العدد 70،1988 م.
5. الاستشراق بین الشرق والغرب، لیانوش دانیتسكی، ص 51، مجلة الاستشراق، م 1، العدد 1،1987 م.
6. انظر: رضوان السید، المرجع السابق، ص 18. 19.
7. انظر: الاستشراق والخلفیة الفكریة للصراع الحضاری، محمودحمد زقزوق، ص 51.
8. الاستشراق من منظور فلسفی عربی معاصر، لعبد الأمیرالأعسم، ص 237 مجلة الاستشراق،م1، 1987 م.
9. انظر: الفكرالعربی فی معركة النهضة، لأنور عبدالمالك، ص 12، ترجمة وإعداد:بدرالدین عروكی.
10. انظر: لَمَ الاهتمام بالاستشراق؟ لشكری النجار، ص 56 - 76، مجلة الفكر العربی، ع 31.
11. الاستشراق المعاصر فی الولایات المتحدة الأمیركیة، ص 86، مجلة الاستشراق، م 1 ع 1،1987 م.
12. انظر: رضوان السید، المرجع السابق، ص 19.
13. فی الأدب الجاهلی، طه حسین، ص 76.
14. نفسه، ص 96.
15. انظر: الاتجهات الوطنیة فی الأدب العربی، محمد محمدحسین، ج 2، ص 299.
16. المرجع نفسه، ج 2، ص 229.
17. المرجع نفسه، ج 2، ص 423.
18. المرجع نفسه، ج 2، ص 237.
19. المرجع نفسه، ج 2، ص 142.
20. المرجع نفسه، ج2، ص 309.
21. نقلاً من (الصراع بین الفكرة الإسلامیة والفكرة الغربیة لأبی الحسن علی الحسینی الندوی) ص 115.
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=691&lang=ar