أثر التنشئة الحديثة على الهويّة الإسلامية

 

 

موسى حجيرات

إنّ للتنشئة الاجتماعيّة في كل مجتمع كبير الأثر في صقل شخصيّة الفرد، وبلورة هويّته الاجتماعيّة، والدينيّة. ومن الأهداف البارزة الظاهرة لهذه الظاهرة خلق الإنسان الاجتماعي وأقلمته، وإعداده للعيش في مجتمعه، حاملا هويّته، متّصفا بصفاته، متميّزا بميّزاته، محافظا على أعرافه، وعاداته. وهناك أهداف أخرى ظاهرة وخفيّة.
أمّا الأهداف الظاهرة منها فإيجابيّة كلها، ومقبولة شخصيّا، واجتماعيّا، ولكنّ الخفيّة منها سلبيّة مغرضة، ومعظمها هدّامة مدمّرة.
إنّ التنشئة الاجتماعيّة الحديثة لترمي إلى أشياء كثيرة، مظهرة سلامة نواياها، ومغلفة غاياتها بالفكر الحديث السامي، والقيم الاجتماعيّة الإنسانية التي لا يمكن معارضتها أو حتى انتقادها، وتتأثر كثيرا بالمبادئ، والعقائد المستوردة الدخيلة.
إنّ للتنشئة الاجتماعيّة، وبغض النظر عن أهدافها، وغاياتها التي قد يتفق البعض عليها، وقد يختلفون، ولكن نتائجها حقائق واقعة لا يمكن إنكارها أو إخفاؤها أو التهرب منها.
وهذه النتائج إذا ما قيّمت حسب معايير غربيّة لتعتبر نجاحا باهرا، وتحقيقا للأهداف، والغايات المرجوة، ولكنّها إذا ما قيست بمقاييس شرقية إسلامية لتعتبر أخطارا مدمرة، أهدافها خبيثة، ووضعت بناء على مخططات مدروسة.
إنّ ما يميّز المخططات الغربية المناهضة للإسلام خفية هو إتّحادها في محاولة تشويه صورة الإسلام الحقيقيّة، وتغيّرها أو العمل على إساءة فهمها من قبل المسلمين أنفسهم، وذلك عن طريق تزييف، وتزوير حقائق، وتفسيرها بتفاسير بعيدة عن الحقيقة في مضمونها. 
وهذا دأب أعداء الإسلام منذ فجر الدعوة بعد أن فشلوا في محاربة الإسلام جهارا نهارا. 
ففي معظم الدول غير الإسلاميّة تُمنح للمسلمين حريّة العبادة، فيرى العالم أنّ هذه الخطوة ديمقراطيّة حديثة نابعة من احترام الأديان، واحترام حقوق الغير، ويبدو للمسلمين أنّهم مدينين لهذه الدولة بالشكر والعرفان على هذا المنح العظيم.
ولكنهم يدركون أنّ الإسلام ليس عبادة فقط إنّما هو منهج حياة كامل متكامل، ولهذا فإشغال المسلمين بالعبادة فقط يبعدهم عمّا يميّزهم كمسلمين، وعن المجتمع الإسلامي.
فلا غرابة أن تجد في دول أوروبا بعض المسلمين متحرّرين من قيم اجتماعيّة إسلاميّة كثيرة، وقد يعتبر التحرّر منها أحيانا من الكبائر، ولكنّهم يصلون، ويرتادون المساجد في الجمعات، والأعياد، ويؤدون الصلاة كطقوس دينيّة مقدّسة ليس إلا. أو أنّهم يصومون رمضان، ويفطرون على حرام، ومثل ذلك كثير. 
وكذلك لا يتورّع كثير من المسلمين من إتيان الموبقات، يأتونها بأنفسهم أو يزجّون بها أزواجهم، و أبناءهم، وبناتهم، ومع ذلك يرفعون لا اله إلا الله محمّد رسول الله.
ومن طريف ما يحدث في هذه الأيام، إنّ من يشارك في التظاهرات الإسلاميّة في الدول الأوروبيّة وأمريكا، وبعض بلاد المسلمين، والتي تحتج على الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم هم من المسلمين المميّزين بأشكالهم الغريبة، وقصّات شعرهم البهيميّة، وكذلك من المسلمات الآتيات بلباسهنّ الفاضح، السافرات، الحاسرات، الكاسيات، العاريات، اللاتي يتلونّ بشتّى أنواع الطلاء والأصباغ.
فالسؤال: هل الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة لهذه النخبة لتدافع عنه؟ وتقف بوجه أعدائه؟ أهكذا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم أنّ أهمّ نصرة له الامتثال لأوامره وتعليماته، وقس على ذلك كثير.
ومن الأخطار الناجمة عن التنشئة الحديثة أيضا:
خلق نموذج الشخصيّة المسلمة المعاصرة على غرار الفرد الغربي المتحضّر بزعمهم. 
ومن مميّزات الفرد المسلم الذي نشأ تنشئة حديثة أنّه:
- بعيد عن الدين، وليس فحسب إنّما يرى الدين الإسلامي هو التخلف، وهو الذي يضع الفرد المسلم في بوتقة الانعزال، والانطواء، والابتعاد عن ملذات الحياة؛ فيحتقر الدين، ويحاربه، ويرى فيه عدوّه الذي يحرمه من كلّ ملذات الحياة الحديثة، والتي تشيع في بلاد الغرب وبشكل كبير جدّا، وبدأت تغزو بلاد المسلمين أيضا. 
فالدين الإسلامي، بزعمهم، يحرم أفراده من النساء، والحديث عن العلاقات الجنسيّة غير الشرعيّة، ويحرمه من لذة الخمرة، والدخان، والمخدرات، ويحرمه من سماع المعازف والأغاني. بل يثقل كاهله بالعبادات، وينقص من جيبه مال الزكاة، والصدقة، ويحرمه من الكذب، وقول الزور، وانتهاك المحارم وغير ذلك.
وهكذا فنجد المسلم الحديث المعاصر إمّا أن يحارب الدين علنا، وإمّا يبتعد عنه كثيرا، وإمّا يأخذه ولكن بغير حقيقته حتّى يبدو وكأنّه دين جديد وليس الإسلام المعهود. 
وهكذا فإن نشأ الفرد بعيدا عن الدين فإنّه بعيد عن الإسلام أيضا، وذلك ينافي قوله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" (آل عمران: 19). وقوله سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85).
وكذلك ينافي طلب العزّة في الإسلام وليس بغيره، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي عبيدة ابن الجراح: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله".
أليس الإسلام هو الذي يقي أفراده فتن النساء، والعلاقات غير الشرعيّة، والزنا والفجور؟ ويقيهم شرّ الخمرة، والمعازف؟ أليست الزكاة طهارة لأموالهم؟
- متحرّر خلقيّا ومنحلّ أخلاقيّا، فالأخلاق لديه هي المعاملات الحديثة مع الغير، وما فيها من مجاملات، ومداهنة، ورياء. والمألوفة اجتماعيّا في المجتمعات الحديثة، وإن كانت منافية للدين، والعادات، وحتى أنّ معظمها حيوانيّة لا تناسب الحداثة أيضا. 
فكثير من سلوكيّات المسلم المعاصر المقلد للغرب هي سلوكيّات بهيميّة شيطانيّة، وإن عدّت إسلاميا انحلالا أخلاقيّا، وانهيارا للقيم، والمعايير الاجتماعيّة فتعدّ غربيّا تحرّرا، وتقدّما، وتطوّرا.
ألم يؤكد الإسلام أهميّة الأخلاق وما بُعث محمّد إلا ليتممّها، فقال: "إنّما بُعُثتُ لأتمّم مكارَم الأخلاق" (احمد: 8595)، وقال أيضا، تأكيدا على أهميّة حسن الخلق: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً،... (البخاري: 4/278)، وقال أيضا: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً"( البخاري: 8/16). 
- مقلد للحيوانات، والبهائم في أمور الجنس، والرغبات الجنسيّة، وإشباعها، فينتشر بين أفراد هذه الفئة كاللباس الفاضح، والجنس المباح في بيت الدعارة والمنتديات الخاصّة، ويروج له في الإعلام، والفضائيات، ويمارس البغاء علنا دون وجل أو حياء أو حدود. ويعد من يمارس الجنس علنا، وبدون قيود للزوجيّة أو للمحارم أو الجيران من الناجحين المتطوّرين دعاة الحريّة والعصرنة.
إنّ الدعوة إلى الإباحيّة في الأساس هي دعوة ماسونيّة غربيّة، وكذلك دعوة علمانيّة في المجتمعات التي جاهرت بكونها مجتمعات علمانيّة لا دينيّة، وما أشبه. لقد حملت هذه الدعوة راية التحرّر، والتقدّم، والثورة على القديم الموروث، وقام دعاتها بالتغرير بالعالم أجمع بأنّ أفراده مقيّدون بالتقاليد البالية مع أنّ لهم الحق في أجسادهم، والتمتع بها، والتلذّذ بالحريات الجنسيّة. والسؤال: أليس هذا منافيا للصورة الإنسانيّة التي خلق الله الإنسان فيها. فقال تعالى: "لقد خَلقنا الإِنسَان فِي أَحسَن تقويم" (التين: 4). ومنافيا، كذلك للتكريم الرباني الذي كرّمه لابن آدم. فقال تعالى: "وَلقد كَرَّمنا بَنِي آدم" (الإسراء: 70). 
- فارغ المضمون فتجد الفرد التابع لهذه الفئة لا فكر له، ولا فلسفة لحياته، بل لا مبادئ، ولا عقيدة، ولا قيود اجتماعيّة، ولا حدود. منواله الأكل، والشرب، والنوم، والجنس كالدواب بل أضلّ سبيلا. فقال تعالى يذمّ هؤلاء معتبرا إياهم كفارا، وليسوا من المسلمين في شيء، بل مثواهم جهنّم: "والَذين كَفرُوا يتمَتَّعُون ويأْكلونَ كَمَا تأكل الأنعَامُ والنَّارُ مثوى لهُم" (محمد: 12). 
فتجد، على سبيل المثال، شابا في ريعان شبابه لا يفكر إلا في مأكله، وملبسه، وتجواله، وتسكعه في الشوارع أو بعلاقة جنسيّة مشبوهة أو ممنوعة. فابتسامة فتاة عاهرة تفقده صوابه، وترقصه؛ فيسير خلفها راكضا لاهثا، وإن "صادها"، فقبلة منها تضعه في صفوف الناجحين الذين وصلوا ما أرادوا؛ فلا يضاهيهم أحد، ولن يدركهم أحد. ولو جامعها لوصل إلى أرقى الدرجات وأسمى المراتب، وهو قد نال السعادة بعينها، وليس جزء منها. ولكن الإسلام حضّ على قوة الشخصيّة، والاستقلاليّة في الفكر، والرأي، وأن لا يهتم المرء بسفاسف الأمور، ولا يكون كالإمعة كيفما مال الركب يميل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا" (الترمذي: 2138).
- مهتمّ بالمظاهر والشكليّات دون فهمها، وإدراكها أو حتّى الاقتناع بها، فتجد الشاب المسلم يلبس ما لا يريد، ولا يطيق، ولا يرغب إنّما همّه أن يجاري موضة عصريّة. ويسمع موسيقى صاخبة بعيدة عن مزاجه، ومنافية لرغباته، ويتظاهر وكأنّه مولع بها مغرم بسماعها، وهو يعي بداخله أنّه لا  يرغبها إنّما يسمعها لكي يري الآخرين أنّه يسمعها، وكأنّها شارة من شارات التقدّم والليبراليّة. كلّ ذلك، والمسلم الحقيقي يدرك أنّ هذا منافيا لتعاليم الإسلام لأنّ الله جلّ وعلا لا يحفل بالمظاهر، فيقول في محكم التنزيل: "إِنّ الله لا يَنظر إِلى صُورِكم وأَموالكم ولكن يَنظرُ إلى قلوبِكم وأَعمالكم" (مسلم: 2564).
وهكذا، فهذا النموذج الحديث للشخصيّة المسلمة لا مبادئ تسيّره، ولا عقائد يعتقد بها، ولا قيم اجتماعيّة أو معايير يسلك حسبها.
فرد لا أخلاق له، ولا فضائل، ولا مقومات إنسانيّة، ولا دين. إنسان لا يشغل فكره، وتفكيره ليصل إلى سعادته الجسديّة، والمعنويّة الروحيّة. فرد فارغ من كل ما هو ذو قيمة، وذو حاجة اجتماعيّة إنسانيّة. يسلك كما تسلك الدواب آكلا، شاربا، ونائما.

المصدر:http://www.swmsa.net/articles.php?action=show&id=2269

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك