الطيب بياض

 

الخديمي، علال، الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912، دار أبي رقراق، الرباط، 2009.

يقول علال الخديمي متحدثا عن دوافع اختياره لموضوع الحركة الحفيظية: «إن ما دفعني للاهتمام بموضوع الحركة الحفيظية أي عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، ليس هو الخلاصات التي كانت مجهولة لنا، بل ا كنت قد درسته من مقدمات عن جهاد المغاربة ببلاد الشاوية، حيث تبين لي بوضوح أن ثورة مولاي عبد الحفيظ على المحتلين، وانقلابه على أخيه السلطان مولاي عبد العزيز، موضوع يستحق الدراسة لما له من اتصال مباشر ووثيق بمعرفة ردود فعل الشعب المغربي اتجاه السلطة الحاكمة من جهة، واتجاه التدخل الأجنبي من جهة أخرى في ظرفية تميزت بتدهور أحوال المغرب وبتعاظم الأخطار الأجنبية. وعلى هذا الأساس، فإشكالية هذه الأطروحة وغايتها هي معرفة الجذور الأولى للمشروع الذي هدف مولاي عبد الحفيظ لتحقيقه من وراء انقلابه على أخيه. كيف ولد المشروع وكيف ترعرع؟ أي كيف ظهرت الحركة الحفيظية؟ وكيف تولت السلطة؟ ثم كيف تعاملت مع محيطها الاجتماعي ومع الخارج؟ وما هو المصير الذي انتهت إليه؟ وأخيرا ما هي العوامل البعيدة والمباشرة التي تؤول الوقائع والأحداث المصيرية التي عرفها المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية سنة 1912؟» (ص.5-6).

هذه إذن هي الانشغالات الفكرية والمعرفية التي قادت علال الخديمي إلى اختيار الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912 عنوانا لأطروحته ثم كتابه الذي جاء في 611 صفحة من الحجم المتوسط، والصادر عن منشورات دار أبي رقراق سنة 2009.

لم يخف الباحث إذن أن كتابه يأتي بشكل أو بآخر مكملا لعمله الأول المعنون بـالتدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب 1894-1910، حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية. أو بتعبير أدق جاء الكتاب الثاني مستلهما ومدققا للفصلين الثالث عشر والخامس عشر من كتابه الأول. كما لم يخف منذ مقدمة الكتاب تأثره بالشخصية موضوع الدارسة أي السلطان عبد الحفيظ، ذلك أن شخصية هذا السلطان، حسب نفس الباحث كانت «شخصية غير عادية وقد تولى الحكم في ظروف غير عادية، وفرضت على المغرب في عهده ضغوط إمبريالية هائلة انتهت بإرغامه على قبول الحماية، ولهذا تعرض عهده إلى تضارب الأحكام والتقييمات التي أرسلت فيها الأقوال على عواهنها، وغابت الحقائق أو غيبت عن عمد أو قصور، سواء من طرف المحتلين الذين عانوا من صمود الرجل أو من المخالفين له» (ص.7).

موضوع التأثر هذا، ومسعى الباحث الذي رأى أن «معظم الذين اهتموا بعهد حكم مولاي عبد الحفيظ، من المغاربة يتهيبون الخوض في حقائقه التاريخية، ومن أدلى فيه بحقائق تاريخية أرادها أن تكون قاطعة إما كان منساقا وراء العاطفة، أو مدفوعا بدوافع النفس الأمارة بالسوء. وبمغامرتنا في هذا الموضوع فإننا قصدنا وحاولنا البحث بين الأشواك إن كانت هناك أشواك، لالتقاط الثمرة، ثمرة الحقيقة التاريخية مهما كانت نسبية ومهما كان التجرد في المواضيع الإنسانية من الصعوبة بما كان» (ص.7)، يجعلنا نستحضر مقولة بول ريكور «وماذا بأمر المواجهة بين مهمة القاضي ومهمة المؤرخ؟ إن ظروف النطق بالحكم داخل محكمة قد فتحت، كما رأينا، ثغرة في الجبهة المشتركة التي يحتفظ بها المؤخ في وجه الخطأ والظلم. على القاضي أن يقضي- إنها وظيفته. عليه أن ينهي. عليه أن يبت (...) كل هذا لا يقوم به المؤرخ، ولا يستطيع أن يقوم به، وإن حاول وجازف بأن ينصب نفسه وحده محكمة للتاريخ، فإن ذلك سيكون على حساب الاعتراف بالطابع المؤقت لحكم يعترف بتحيزه، بل حتى بطابعه النضالي. لكن عندها فإن حكمه الجسور يخضع لنقد جماعة العاملين بكتابة التاريخ، ولنقد الجمهور المستنير، وسيكون مصنفه عرضة لسيرورة لا تنتهي من المراجعات تجعل من كتابة التاريخ إعادة كتابة مستديمة. هذا الانفتاح على إعادة الكتابة هو علامة الاختلاف بين حكم تاريخي مؤقت وبين حكم قضائي نهائي».

قبل أن أعود في خاتمة هذه القراءة لمساءلة تقييم الباحث لمسار شخصية عبد الحفيظ واختياراته، للإسهام في مراجعة تجعل من كتابة التاريخ إعادة كتابة مستديمة، سأسعى أولا إلى التفاعل مع القضايا الكبرى التي يطرحها علال الخديمي في عمله، وهي ثلاث قضايا عرضها في شكل أبواب: الأولى متعلقة بالتطورات الاجتماعية والسياسية للحركة الحفيظية، الثانية مخصصة للبيعة الحفيظية والصراع بين العزيزيين والحفيظيين، أما القضية الثالثة فركزت على مصاعب العهد الجديد ومشكلاته.

يستهل المؤلِّف معالجته لهذه القضايا بالتوقف أولا عند التطورات السياسية والاجتماعية عقب وفاة السلطان الحسن الأول أي خلال الفترة الممتدة بين 1894 و1900. إذ تبدأ العلة، في نظر الباحث، من مرحلة سوء تدبير الانتقال السلطاني، أو ما أسماه بالانقلاب في البيعة والذي قاده الحاجب أحمد بن موسى مُقصيا ولي العهد (مولاي امحمد) ومقدما عليه إلى سدة العرش أخاه الصغير عبد العزيز، ومنتقما من كل معارض لهذا التوجه سواء داخل الجهاز المخزني أو في أوساط القبائل، مما أدى إلى تصدع سياسي واجتماعي لم تقتصر تداعياته على هذه المرحلة.

وإذا كان علال الخديمي يرى أن مؤسسة المخزن ظلت قادرة بدواليبها وبنيتها على مغالبة كل محاولة تمردية لا تستطيع حشد الإمكانيات المادية والمعنوية، كما حصل مع الرحامنة المعارضين للبيعة العزيزية والمناصرين لمولاي امحمد، والذين بادروا إلى السعي للحصول على الزعامة التي ترمز للنظام وتوحيد الجهود لكنهم لم يتمكنوا من حشد المال والرجال القادرين على خوض حرب ضد حكومة أحمد بن موسى، فإن نفس الباحث يلاحظ أن المخزن بدأ يطور سلوكه تجاه احتجاجات القبائل من الاعتدال إلى التشدد في العقاب، وهو ما زاد من وتيرة التجاء الناس إلى التعلق بالحمايات، لذلك بات من الضروري رصد خيوط اللعبة الاجتماعية للفترة ومحركاتها الأساسية والتي أمكن تلخيصها في تعاظم صراع الأطماع والطموحات بين النخبة الحاكمة والنخبة المرتبطة بالرأسمال والنفوذ الأجنبيين وبتهريب السلاح للقبائل. وإذا كان باحماد سلك سياسة ظاهرها قمع الرعية وامتصاص دمائها، فإنه في الوقت نفسه، ضيق الخناق على الحكام (القواد) حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت. وأصبح همهم هو جمع المال والضغط على الناس للنجاة من بطش الصدر المستبد في الحياة، حتى إذا أدركهم غضبه أو الموت، كان التتريك لما جمعوه بالمرصاد؛ فمن خلال مجموعة ضحمة من المراسلات تبادلها قواد مغمورون وآخرون مشهورون مع الوزير الأكبر خلال سنوات 1895 و1896 و1897، يلاحظ أن أساس وركيزة سياسة باحماد الداخلية كان هو جمع المال، الذي كان وحده الشفيع في صاحبه لتولي الوظيفة، والوسيلة الفعالة بل والوحيدة لعزل هذا الحاكم أو ذاك وتولية غيره. بل الأخطر من ذلك لشراء هذا الخصم أو الإساءة لذلك المنافس. والجدير بالملاحظة أن أخطاء هذه السياسة كانت غير بارزة وغير ذات عواقب سريعة، ما دامت المجاري مراقبة وتنتهي لمصب واحد، هو المركز الذي كان يراقبه بصرامة. أما بعد اختفاء قبضة الوزير المستبد، فقد انحرفت المجاري واتخذت اتجاهات عديدة نحو مراكز الثقل، التي تنوعت بفعل عجز المخزن العزيزي وفساد أعضاءه، وبذلك برزت العواقب الكارثية بعد وفاة الصدر الأعظم مباشرة.

يخلص الباحث في هذا الصدد إلى تعميم ملاحظة عبد الله العروي القائلة بأنه «لا يمكن أن نقول إن الصدر قد سار على خطى الحسن الأول. لقد ظل وفيا للمظاهر والبرتوكول، أما في العمق فإن سلطته المغتصبة تأكدت بدون اهتمام بالشرعية وبنيت فقط على الفساد: إن حقبة الأدعياء يحق لها أن تبدأ » (ص.42). لقد بدأت فعلا حقبة الأدعياء التي استفادت بشكل كبير من هذه الفترة، فبعد أن تخلص السلطان عبد العزيز من الحجر والوصاية، آن له أن يواجه مصيره لوحده وأن يقدم على مبادرات وخطوات جريئة لم تكن محط إجماع الكل. فكانت الذريعة والمبرر لظهور المعارضين بل والطامحين إلى إزاحته عن عرشه، وهو ما شكل عنوانا للظرفية الصعبة لبداية العهد العزيزي بعد وفاة باحماد.

التف أعضاء المخزن العزيزي، الذين كانت وجهات نظرهم متعارضة بتعارض مصالحهم الشخصية، حول سلطان شاب يفيض حيوية وحماسا للشروع في إصلاح ما يمكن إصلاحه، لمواجهة الأخطار المحدقة. وتقرر عدم استبداد أي واحد برأي أو اتخاذ قرار والعمل لصالح البلاد. واتفق الجميع على أخذ اليمين من كل موظف، على أن لا يستأثر بهدية أو يأخذ رشوة أو يخون في عمله السلطان «وحلفوا على ذلك - يقول الحسن بوعشرين- بجميع أيمان المسلمين». لكن الذين أقسموا كانوا أجرأ على الاختلاس من غيرهم، كما يقول الحجوي. وهو ما جعل مهام السلطان الشاب عبد العزيز صعبة خاصة أن صراع وزرائه واختلافهم لم يكن حول طبيعة الخطط الكفيلة بإنقاذ البلاد، بل كان حول مصالحهم الشخصية المرتبطة بالقوى الأجنبية. فصاروا حسب بيير كَيلين (Pierre GUILLEN) حلفان: حلف موال لبريطانيا وآخر منافح عن مصالح فرنسا في المغرب، وكلاهما سعى إلى إقناع السلطان وتوريطه في مشاريع تخدم استراتيجيات الدولة الموالي لها.

في هذا الجو الملغوم، ظهرت الأفكار الإصلاحية للسلطان عبد العزيز والتي اعتبرها البعض مؤشر انبعاث وتحديث للبلاد، بينما اعتبرها البعض الآخر ارتماء في أحضان الأجنبي وتنكرا للهوية. وفي مقدمة هذه الأفكار والمشاريع تأتي ضريبة الترتيب، التي حاول من خلالها السلطان عبد العزيز تحقيق نوع من العدل الجبائي والتخفيف على الرعية من شطط الجباة وتعسف القواد. وهي الضريبة التي اعتبرت بمثابة قميص عثمان الذي حمله خصوم السلطان للإطاحة به والتخلص منه، بدء ببوحمارة وانتهاء بعبد الحفيظ. والحال أن عبد العزيز لم يكن في الواقع مبتدعا ولا صاحب سبق في هذا الإصلاح الجبائي الذي خرج في الأصل من رحم مؤتمر مدريد، في بنديه الثاني عشر والثالث عشر، وترجم فيما بعد في شكل ما عرف بقانون 30 مارس 1881 المنظم للترتيب، والذي تجاوزه السلطان الحسن الأول، بعد استحالة تطبيقه، بإقرار نظام آخر للترتيب سنة 1884، وحاول قدر المستطاع أن يكيفه مع الواقع المغربي محدثا بذلك تحولا في النظام الجبائي المغربي بنقل جزء مهم منه، على الأقل، من مرجعيته الدينية إلى مرجعية وضعية.

وبذلك تكون خطوة ابنه عبد العزيز في هذا الاتجاه مكملة ومطورة لنهج ارتضاه والده منذ حوالي 20 سنة. وإذا كانت مبادرة الابن أكثر حماسا واندفاعا، فإن المناخ العام الذي طرحت فيه هو ما عمل على نسفها وتشويهها وتحويلها إلى عنصر إدانة له، إذ أسهمت الدسائس والمكائد التي كانت تدبر بين وزراءه في فشل المخزن على كل الواجهات، ولم يعمل أولائك الوزراء سوى على استنزاف خيرات البلاد تصفية لحسابات شخصية، أو عمالة لمصالح دولة أجنبية. فالجناح المُوالي لفرنسا أبى إلا أن يعرقل أي نجاح يمكن أن يحققه وزير الحرب المهدي المنبهي الحليف لبريطانيا المتهمة بكونها صاحبة فكرة الترتيب، وإظهاره بمظهر الفاشل تمهيدا لإبعاده عن المشهد السياسي الذي كان مستأثرا به. وقد تأتى له ذلك ولو على حساب مالية الدولة وهيبة سلطانها. فأفلت شمس المنبهي، ومعها شمس بريطانيا، ليظهر عبد الكريم بن سليمان حليف فرنسا على مسرح الأحداث، مما أشر على بداية تحول جديد في سلوك السلطان وتحديد اختياراته وأولوياته، لا على مستوى مشاريعه الإصلاحية الداخلية فحسب، ولكن أيضا في علاقته بالقوى الأجنبية. هذه الأخيرة التي لا يمكن أن نتجاهل دورها المحوري فيما حصل بشأن الترتيب، خاصة فرنسا التي كانت تتطلع إلى تجفيف موارد خزينة المغرب لجره إلى مستنقع الاقتراض، ذلك ما أكده بيير كيلين بالقول : إن كل القوى الأجنبية الموقعة على اتفاق مدريد « بادرت كلها بالموافقة على الترتيب باستثناء الحكومة الفرنسية التي كانت تسعى إلى تمديد ما لها على المخزن من وسائل الضغط والتهديد، واستعملت كل الذرائع لتأخير موافقة لم تتم إلا في 26 نونبر 1903 بعد أكثر من سنتين على إعلان الإصلاح، وهكذا حالت العرقلة الفرنسية من سنة 1901 إلى 1903 دون جباية ضريبة الترتيب من الأجانب والمحميين، علما بأن ذلك كان من شأنه أن أن يوفر في الحين بعض المداخيل للمخزن بعد أن توقف عن جبايتها من القبائل ». وهو ما يفسر ترتيبات الحكومة الفرنسية بشأن الوضع في المغرب، والتي اختزلها جون كلود آلان (Jean Claude ALLAIN) بالقول : إن الغزو الفرنسي للمغرب مر عبر ثلاثة مراحل : في ظل المخزن، مع المخزن وباسم المخزن. ففي المرحلة الأولى خلقت فرنسا جناحا مواليا لها داخل المخزن سهل مهمتها وضيق على منافسيها وأتباعهم داخل الجهاز المخزني في وقت عملت فيه على توريط المخزن في سياسة الاقتراض ثم أرسلت مبعوثها سان روني طايلندي (Saint René TAILLANDIER) إلى فاس مطلع سنة 1905 بمشاريع إصلاحية شكلت مقدمة لفرض الحماية الفرنسية على المغرب، واجهها السلطان عبد العزيز بدعوة تشاورية لمجلس الأعيان الذي عضد السلطان في رفضه للمقترحات الفرنسية، وهي مبادرة معبرة عن حنكة وانفتاح للسلطان الشاب لم تتكرر مع خلفه عبد الحفيظ في مواجهة المقترحات الفرنسية الألمانية سنة 1911.

وإذا كانت فرنسا قد اعتبرت الأمر منتهيا، وإخضاع المغرب بات مسألة وقت فقط بعد اتفاق 8 أبريل 1904، المعروف بالاتفاق الودي مع بريطانيا، فإن تجاهلها لمصالح ونفوذ ألمانيا في المغرب كلفها الكثير من الجهد والوقت. إذ جاءت زيارة إمبراطور ألمانيا غيوم الثاني إلى المغرب سنة 1905 وضغط الحكومة الألمانية على نظيرتها الفرنسية لإبعاد ديلكاسي من رئاسة "الكي دورسي" لتخلط الأوراق من جديد، ولتظهر الورقة الألمانية بمثابة قشة احتمى بها المغرب، ولو لحين انكشاف هذا الوهم. فقد راهن عليها السلطان عبد العزيز لتدويل القضية المغربية والذهاب لمؤتمر الجزيرة الخضراء الذي لم تعمل مقرراته، التي قبلها المغرب، إلا على مزيد من تسويد صحائف السلطان وبداية التفكير في خلف له، وهو المسؤول في نظر خصومه على ارتكاب جريمتين على الأقل : نسخ الزكاة الشرعية بالترتيب الوضعي، والاعتراف بمقررات الجزيرة الخضراء. فكان الخلف بمراكش يعد عدته في انتظار اللحظة المناسبة لتقديم نفسه سلطانا للجهاد، مستفيدا من تأزم الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد وخاصة بمنطقة الحوز بين 1903 و1906. فمن يكون هذا الرجل؟

يتعلق الأمر بأخ السلطان وخليفته على مدينة مراكش عبد الحفيظ المزداد حوالي سنة 1876 الذي تلقى تعليمه بأحمر نواحي آسفي حيث حفظ القرآن وعدة متون فقهية ولغوية فصار عالما متبحرا وأديبا متمكنا وشاعرا ناظما مقتدرا، يظهر ذلك من خلال مؤلفاته في علوم اللغة والفقه والحديث والشعر والفكر والسياسة والتاريخ، وكان يحظى باعتبار خاص عند أحمد بن موسى، فالوزير الصدر كان هو المشرف على تعليمه هو وإخوته. ولعب قبوله مبكرا بيعة أخيه الأصغر عبد العزيز دورا مهما في حظوته لدى باحماد، وبالتالي تكليفه بمجموعة من المهام والوظائف التي انتهت به إلى تولي منصب الخلافة عن أخيه السلطان بعاصمة الجنوب مراكش، فاستفاد من المصاعب السابقة والأخطاء المرتكبة في التدبير من طرف المخزن العزيزي ومن تزايد نفوذ القواد الكبار بالحوز وتدبيرهم للمكائد والدسائس واستفادهم من عدم تجزيئ إيالاتهم زمن السلطان الحسن الأول كما فعل مع قبائل الشمال، ومن عجز السلطان عبد العزيز عن الحد من تزايد نفوذهم خاصة بعد استفادتهم من ثورة بوحمارة، كما استفاد من تشديد القبضة الأجنبية على البلاد خاصة بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء واحتلال كل من وجدة والدار البيضاء سنة 1907 من طرف القوات الفرنسية التي وضعت المغرب بين فكي كماشة. هذا الحدث الأخير هو الذي سهل لعبد الحفيظ مهمة العبور نحو كرسي العرش، خاصة بعد عجز الجالس عليه آنذاك في التصدي للقوات الفرنسية.

تضاربت الآراء حول نوايا عبد الحفيظ إزاء ما كان يعرفه المغرب مطلع القرن العشرين، بين مدع أنه كان يعد العدة مبكرا للإطاحة بأخيه عبد العزيز والعمل على اقتناص أخطاءه واستغلالها، وبين من رأى فيه زاهدا في الملك غير طامع فيه، لم يفكر بشكل جدي في تحمل المسؤولية إلا بعد أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه من اضطرابات وفتن وسوء تدبير وتزايد للأطماع الفرنسية في المغرب، خاصة بعد أن أصبحت أمرا واقعا باحتلال أجزاء مهمة من شرقه وغربه، وبذلك لم يكن عبد الحفيظ حسب هذا الطرح، والذي يتبناه علال الخديمي، إلا ملبيا لواجب ديني ووطني بعد تقاعس المخزن العزيزي عن القيام بمهمة الجهاد وصيانة البلاد. ومهما يكن من أمر عبد الحفيظ ونواياه، فإن السلطان عبد العزيز بدأ يشعر فعليا أن أخاه وخليفته بمراكش صار شخصا مزعجا يسعى إلى سحب البساط من تحت قدميه، لذلك حاول إزاحته عن خلافة مراكش، وهو ما تؤكده محلة مولاي عمر التي كان هدفها الظاهر جمع عائدات الترتيب التي تقاعس الكلاوي عن قصد في توجيهها للسلطان، ومسعاها الباطن التوجه إلى مراكش للتخلص من الخليفة الذي صار يشكل "حزبا" معارضا للتوجه العزيزي مستفيدا من وضع مهترء للبلاد ومن دعم قوي من قواد الحوز. وإذا كان الخليفة قد بادر في بداية الأمر إلى دفع التهم عنه، والتي رمته بالتطلع للملك في رسالته إلى السلطان المعنونة بـ"إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر"، المؤرخة بـ 9 يونيو 1906، فإن في ذلك ما يؤكد، بعيدا عن النوايا، أن الرجل كان يعرف جيدا أن الظروف لم تنضج بعد ليقول عكس ما قاله في هذه الرسالة. وأن الأمر لازال يتطلب المزيد من الاستعداد في مراكش، وانتظار توالي الأخطاء في فاس التي من شأنها أن تحول أنظار وتطلعات المغاربة صوبه باعتباره الملاذ والمنقذ. فقد عرف المغرب أزمة مالية اضطرته إلى الاقتراض، وتأزمت الوضعية أكثر بين 1904 و1906 بسبب شح التساقطات وما نتج عنه من نقص في الأقوات وتضاعف أسعار الحبوب، فساد التذمر العام. وعوض أن يسهم الخليفة من موقعه في التخفيف من حدة الأزمة، سعى إلى تكريسها. لذلك يحق لنا أن نتساءل مع علال الخديمي لماذا لم يتخذ الخليفة موقفا حاسما من الرافضين لأداء الزكوات والأعشار؟ وبعبارة أدق ما هي الحوافز التي تفسر موقف الخليفة؟ ألم يكن لإرباك حسابات السلطان ؟

يجيب الباحث بالقول إن عبد الحفيظ « كان يعلم مقدار عدم شعبية مخزن عبد العزيز ومقدار تذمر الرأي العام، ولذلك لم يرغب في اقتسام حقد الناس على أخيه. بل بات يقترب من القبائل لكسب صداقتها ويوجه الأوضاع بشكل يخدم أهدافه البعيدة، ويحرف المجاري لحقوله... إن الاضطراب يضعف نفوذ السلطة المركزية وهيبة السلطان. وبروز عبد الحفيظ مستقلا برأيه وتدبيره قد يرفع من هيبته أمام الناس، ثم إن تأزيم وضعية المخزن المالية، قد يتسبب في بروز مراكز قوى واستقطاب جديدة يجد فيها الخليفة فجوات للعمل لصالحه. وهذا ما يفسر في نظرنا قراره بمنع خروج الخراصة للقبائل، كما أمر مخزن فاس ». (ص.145-146). وإذا أدركنا مع علال الخديمي أن إكثار عبد الحفيظ من عقد الاجتماعات مع أعيان الرحمانة في واضحة النهار في صيف 1906 لم يكن أمرا عاديا، وإنما كان ينبىء عن تدبير شيء ما أو الاحتياط من أمر ما، وصارت الإشاعة حقيقة وهي أن الخليفة كان يستعد لإعلان نفسه سلطانا بدل أخيه، تأكد لدينا أن رسالة 9 يونيو 1906 التي تقمص فيها عبد الحفيظ شخصية الفقير الصابر كانت تهدف بالأساس إلى تفادي النقمة قبل اشتداد العضد والإعداد الجيد لسحب المشروعية عن السلطان القائم بفاس، لاسيما بعد مصادقته على مقررات الجزيرة الخضراء، والتي شكلت فرصة لم يفوتها خليفته بمراكش للإقدام على خطوات اعتبرت تدشينا عمليا لما كان يصبو إليه؛ إذ شدد الحراسة على مقر سكناه، وأعاد تنظيم قواته العسكرية، وخطب ود أولياء المدينة ومقدمي الرماية وأهل الحل والعقد بالمنطقة، ونسق استعداده مع قواد القبائل المجاورة، وخاصة مع الرحامنة. لكنه لم يتجه رأسا إلى طلب الملك، بل سعى إليه بحذر وترفق متبعا الطريقة الشرعية التي اعتادها المغاربة وتعارفوا عليها لإعلان بيعة سلطان جديد.

وإذا كان اغتيال الدكتور "إميل موشان" (E. MAUCHAMP) في 19 مارس 1907 بمراكش وفر الذريعة لفرنسا لاحتلال مدينة وجدة في 25 من نفس الشهر، فإن عجز عبد العزيز عن التصدي لهذا الحدث عبّد الطريق أمام أخيه وخليفته عبد الحفيظ ليعلن نفسه سلطانا بديلا للجهاد بعد تقاعس سلطان البلاد عن القيام بواجباته كاملة. وجاءت قنبلة مدينة الدار البيضاء واحتلالها مع بداية شهر غشت 1907 لتسرع وتيرة الأحداث خاصة بعد استغاثة زعماء الجهاد بالشاوية وعلمائها يوم 11 غشت من نفس السنة بعبد الحفيظ لمواجهة الغزاة المحتلين لمدينة الدار البيضاء. ليكون يوم الجمعة 16 غشت الموالي يوم إجماع بمسجد القصبة بمراكش على خلع بيعة المولى عبد العزيز، وإعلان بيعة المولى عبد الحفيظ سلطانا جديدا للمغرب. « وبمجرد ما تمت بيعة مراكش، بادر المولى عبد الحفيظ إلى نشر دعاية واسعة في أنحاء المغرب للجهاد، وهكذا بعثت رسائل إلى مختلف جهات البلاد، وإلى كل القبائل والمدن وإلى أهل الحل والعقد من القواد والعلماء والرؤساء والمرابطين، تدعوهم إلى الانضمام إليه من أجل العمل على تحرير المغرب من الاحتلال والمحافظة على استقلاله. والملاحظ أن معظم القبائل الحوزية والديرية والدرعية والصحراوية والفيلالية، وبصفة عامة معظم سكان البوادي لبوا الدعوة للجهاد. وكان عامل تافيلات مولاي رشيد بن محمد من المبادرين بإرسال بيعة قصور تافيلالت مع ولده محمد الذي سيقود أول محلة حفيظية نحو الشاوية ». (ص.202).

ولمواجهة هذه التطورات المتسارعة بمراكش، قرر السلطان عبد العزيز، بعد تردد، مغادرة فاس في اتجاه الرباط يوم 12 شتنبر 1907، وهو ما فسح المجال للقوى الناقمة عليه أو على الوضع القائم للتمرد بالعاصمة والجهر بولائها لعبد الحفيظ، إذ شهدت مدينة فاس في دجنبر من نفس السنة انتفاضة في هذا الاتجاه كادت تتحول إلى فتنة تم تفاديها بإعلان أهل الحل والعقد عزل السلطان في 3 يناير 1908 تمهيدا لبيعة أخيه عبد الحفيظ بدلا منه بعد يومين من ذلك التاريخ. « لقد كان التبرير قويا في نظر الجمهور الذي بايع مولاي عبد الحفيظ، لأنه أعلن الجهاد. وإذا كان الأجانب يعرفون حدود قوة سلطان الجهاد، كما كان هو نفسه يعرفها، فإن إعلانه للجهاد ملأ فراغا محسوسا وسمح لحزبه بالمبالغة في تقدير قوة السلطان الثائر». (ص.223). ومنح للمغاربة فسحة أمل كبرى سرعان ما ستخبو كما سنعرض لذلك بعد قليل.

جاءت بيعة فاس متأخرة عن بيعة مراكش بما يقرب من خمسة أشهر، وفي هذه المدة تطور رأي العلماء بفاس من موقف التشبث بالسلطان القائم ومعاداة منازعه بمراكش إلى موقف معاكس. ولا يمكن أن نزعم أن شخص الكتاني وتأثير موقفه كان وحده المسؤول عن هذا التأخير في إتمام البيعة والتغير في الموقف، فالرجل نفسه لم يحسم موقفه إلا بعد أن استغل خروج السلطان من فاس قاصدا محاربة أخيه القائم بمراكش. ويبدو أن كلا الرجلين، أي عبد الحفيظ والشيخ الكتاني، كانا يدركان قوة وقيمة بعضهما البعض. لذلك لم يكن من العبث أن يرسل عبد الحفيظ بعد ثلاثة أيام من بيعة مراكش رسالة إلى الشيخ الكتاني مخاطبا إياه بـ « الشيخ الأجل العارف بالله تعالى الولي الكامل الشريف البركة (...) وأعلمناك بهذا لتأخذ حظك من الفرح وتوجه بيعتك لشريف حضرتنا سائلين منكم صالح الأدعية بإعزاز هذا الدين الشريف وتأييده، وإعانة جنابنا على القيام بـأمور المسلمين ». كما أن الشيخ الكتاني أدرك أن عبد الحفيظ عرف كيف يركب "حصان الشاوية الجهادي"، ويحقق الإجماع حوله كزعيم منقذ، لذلك لم يتوان في إعطاء الشعار الحفيظي الذي أوصله إلى العرش بعدا رسميا وشرطا إلزاميا، واضعا إياه بين احتمالين، إما نصر مبين أو فضيحة مشهودة بنص بيعة مشروطة. فشروط بيعة فاس، التي كانت من إملاء الكتاني، والمكبلة للسلطان الجديد كانت، بالنظر إلى إمكانياته وإلى الوضعية الديبلوماسية والعسكرية القائمة، بمثابة مطالب مثالية قصوى، وهي حسب أحمد التوفيق أشبه ما تكون بخطبة دعائية لمرشح يائس من الفوز بالحكم يفضل لغة الإعجاز على تصور برنامج عملي لتحقيق تلك الشروط.

وإذا كانت الحركة الحفيظية قد استطاعت أن تلف حولها مختلف الفئات الاجتماعية باسم الجهاد، كمبرر للتنصل من عقد سياسي "بيعة مولاي عبد العزيز"، فإن ذلك حسب تقدير عبد الله العروي، لم يكن سوى إعادة انبثاق للمخزن الحسني؛ فهذا الإجماع، حسب رأي نفس الباحث، كان بإمكانه أن يشكل المفتاح السحري لحل كل مشكلات البلاد، إلا أنه لم يخلق إلا أملا وهميا وحلما سرعان ما تبخرا، لأن فرقاء الإجماع كانوا يدافعون في الأصل عن مصالحهم الخاصة، ولم توحدهم المصلحة العامة للبلاد، لذلك مباشرة بعد البيعة بدأت مرحلة تصفية الحسابات. سعى عبد الحفيظ في مرحلة أولى إلى الظهور بمظهر الممتثل لشروط البيعة، وأعلن في 19 يناير 1908 تنكره لمقررات الجزيرة الخضراء، غير أن الدول الموقعة على هذه الاتفاقية أرسلت مذكرة جماعية إلى السلطان الجديد بتاريخ 14 شتنبر من نفس السنة تؤكد عدم اعترافها به ما لم يعمل على الإقرار والعمل بكل الأوفاق التي وقعها سلفه. وأثناء اجتماع عقد بتاريخ 8 أكتوبر بقصر السلطان، حاول الكتاني مرة أخرى خلط الأوراق معلنا أن السلطان مادام يحظى بدعم شعبي فهو في غنى عن أي اعتراف دولي، وإن كان لابد من تطبيق الإصلاحات المقترحة بالخزيرات فلتكن بدعم ألماني. غير أن عبد الحفيظ ترك غريمه يزرع الأشواك في طريقه ريثما تحين فرصة الانتقام منه، وأعلن في 7 دجنبر 1908 قبوله بمقترحات المذكرة المرفوعة إليه من لدن الدول الأوربية. فكان عليه أن ينتظر سنة كاملة بعد بيعة فاس لينال الاعتراف الدولي الرسمي به سلطانا للمغرب بتاريخ 5 يناير 1909. إذاك أدرك الكتاني أن عبد الحفيظ قلب ظهر المجن لشروط البيعة، وأن ساعة الحسم قد دنت، فخرج من فاس خلسة قاصدا قبائل بني مطير بالأطلس المتوسط، لغرض في نفسه، لا نملك من القرائن ما يجعلنا نجزم هل للثورة أم للهجرة إلى الله. ومهما تكن نواياه وأحلامه، فإن عبد الحفيظ لم يتركها تكبر وتتضح، بل أقبرها في المهد بإلقاء القبض على صاحبها وذويه في مارس 1909، ليوضع في سجن فاس، بعد أن وجهت له تهمة عصيان السلطان الشرعي وإثارة الفتنة حوله، وعذب في سجنه حيث توفي يوم 4 ماي 1909.

لم يكن عبد الحفيظ يحتاج لحسم الموقف في صراعه مع أخيه عبد العزيز لأدعية وبركة الشيخ الكتاني فقط، أو حتى الاكتفاء بالعبور السلس من بوابة شرعية الخلع والبيعة، بل تطلب الأمر مواجهة عسكرية دارت رحاها على التوالي في كل من الشاوية والحوز بين 14 أكتوبر 1907 و19 غشت 1908، تاريخ الاندحار النهائي للقوات العزيزية بموقعة بوعشيبة. وبين هذين التاريخين كان عبد الحفيظ يريد أن يعطي الانطباع أنه فعلا سلطان الجهاد، وفي نفس الوقت يسعى لتفادي نقمة الفرنسيين بعدم إشهار عدائه لهم. وهو ما يفسر مكوثه بمخيم عين الشعير، على الضفة اليسرى لواد أم الربيع، حوالي ثلاثة أشهر بين بداية يناير وبداية أبريل سنة 1908. فلم الأولوية؟ هل للجهاد والتوجه لمآزرة المجاهدين بالشاوية؟ أم لاستكمال مراحل الجلوس على العرش بدخول العاصمة فاس؟ لتفادي هذا الإحراج حاول عبد الحفيظ طمأنة المجاهدين بالشاوية بالإقتراب منهم في مرحلة أولى قبل أن يخترق بلاد زيان في اتجاه مكناس التي وصلها في 16 ماي 1908، ثم فاس في منتصف يونيو من نفس السنة بتأييد وحماية من القائد الشهير موحى أحمو الزياني كما يوضح ذلك أحمد المنصوري.

إذا كان عبد الحفيظ قد حسم المواجهة مع أخيه عبد العزيز بانتصار بيّن، إن على مستوى المشروعية أو النزال العسكري، فإن تخلصه من الكتاني كلفه شيئا غير يسير من شعبيته، ولم يكن له ليستريح بعد هاتين المواجهتين، بل استمر في مواجهة الثوار والمعارضين؛ إذ كان عليه حسم الموقف مع أخيه مولاي امحمد ومع المتشبه به، أي بوحمارة، ومع مولاي الكبير قبل أن يواجه في وقت لاحق مولاي الزين. وبذلك يكون واجه ستة رجال في ظرف لا يتعدى الأربع سنوات، مما أربك حساباته، وانشغل عن المهمة التي بويع من أجلها، أي واجب الجهاد، وسعى عوض ذلك إلى إرضاء الأجانب والحصول على الشرعية الدولية، في وقت حاول فيه ترتيب بيته الداخلي عبر الإمساك بزمام الأمور والقضاء على الخصوم والمناوئين لتثبيت مشروعيته الداخلية، فانزوى مشروع الجهاد إلى ركن اللامفكر فيه أمام هذه الأولويات الحفيظية. فخبت شعبيته بعد توهج لم يعمر طويلا، لاسيما بعدما ضيق الخناق على جريدة لسان المغرب، وأقبر الحركة الدستورية وحلم الحكم الديمقراطي بالمغرب مبكرا. استبدل عبد الحفيظ مشروعه الجهادي بتوجه جديد يرمي إلى نهج أسلوب الحوار والتفاوض مع الفرنسيين، مراهنا على إقناعهم بالجلاء عن الشاوية كمدخل لاستعادة الهيبة وتقوية السلطة، لذلك طرح مسألة الشاوية على رأس مطالبه في المفاوضات التي انطلقت جولتها الأولى بفاس بين يناير ومارس سنة 1909، ولم تنته عمليا إلا بتوقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، وعرفت جولات شاقة وطويلة سواء في فاس أو في باريس، وقعت خلالها العديد من التسويات والاتفاقيات، أهمها اتفاق فاس حول الشاوية بتاريخ 14 مارس 1909، واتفاق الحدود في 23 مارس من نفس السنة، ثم تسوية 15 يناير 1910 بباريس التي انتظرت موافقة السلطان عليها، فاضطرت فرنسا للضغط عليه وإنذاره في 18 فبراير 1910 للخضوع لكل ما تطلعت إلى تمريره من بنود في مفاوضاتها مع ممثليه بباريس، فكان لها ما أرادت وجاء الجواب الحفيظي بالإيجاب يوم 23 فبراير 1910.

اتسمت هذه المفاوضات منذ انطلاقتها بفاس مطلع سنة 1909، فضلا عن تفاوت القوة التفاوضية للطرفين، بتوجه فرنسي كان يرى أن المسألة المالية هي محور المفاوضات بين الجانبين وجوهر المشكل، سعيا منه إلى إغراق المغرب في وحل الاقتراض، وبالتالي تكبيله وفرض المراقبة الفرنسية عليه. مقابل توجه مغربي يعتبر مسألة الاحتلال هي مكمن الداء في العلاقات المغربية الفرنسية وبالتالي يجب حلها ليبنى على الشيء مقتضاه. لكن انتصرت إرادة الطرف الأقوى، وأجبر المغرب على عقد اتفاقية للاقتراض بتاريخ 21 مارس 1910، حصل بموجبها المغرب مبدئيا على 101 مليون فرنك، مقابل تجفيف مختلف مصادر ماليته من عائدات جمارك ومستفادات المراسي ومداخيل الأملاك المخزنية التي تم رهنها كضمانات لهذا القرض. فأصبح المغرب بعد الإنذار الفرنسي وتوقيع اتفاقية القرض تحت رحمة المراقبة العسكرية والمالية للفرنسيين. وكان طبيعيا بعد أن انكسر أفق انتظار المراهنين على هبة حفيظية لطرد المحتل أن يبادروا إلى تجاوز هذا الرهان، مما خلق مزيدا من الارتباك، وصار عبد الحفيظ مطالبا بمواجهة معارضي الداخل ولو بالاستعانة بقوات من الخارج، صنفت سابقا في خانة العدو المحتل الواجب طرده. في وقت جثم فيه صدره الأعظم المدني الكلاوي على صدور الناس، واشتط في جباية ضرائبهم، وتعسف في إدارة شؤونهم. ولم يكن ذلك نزوعا فرديا يلام عليه أهل البدو ممن تصدروا سدة الحكم الحفيظي، بل كان اختيارا ونهجا ارتضاه السلطان الذي أعرض عن تبني إحدى نماذج الحكم المعاصرة، والتي لم تكن خافية عليه سواء الأوربية أو الإسلامية وخاصة العثمانية منها. وعوض ذلك، عاد خطوتين إلى الوراء مفضلا النهج الإسماعيلي في الحكم، متطلعا إلى التشبه بالسلطان القوي والحازم إسماعيل، رغم اختلاف الظرفية والإمكانيات بين الرجلين. فكان التخلي عن الترتيب العزيزي، الذي حاول أن يؤسس لإدارة عادلة، وإطلاق يد القواد والجباة في الناس، باعثا على نقمة الشعب المغربي واستياءه من الوضع القائم وحنينه إلى العهد العزيزي، وهو ما عبر عنه الحجوي بالقول : « واتفق عليه السلطان ووزراءه وعماله وأتوا من أنواع الظلم والتعدي والغصوبات بما لم يعهد مثله في عهد مولى إسماعيل ومن قبله ». وأضاف على سبيل المقارنة « وأعانه كثيرا جمود المولى عبد العزيز وجمود عزيمته إذ لم يفعل شيئأ ولا طرق بابا من طرق الإصلاح صحيح مع جهل وزراءه بأحوال العالم وانصراف وجهتهم إلى بيع الوظائف والأغراض الشخصية. كل ذلك أعان المولى عبد الحفيظ، فثبت أمره مع كون أحواله أردأ من أحوال أخيه بألف مرة إلى ما نهاية من الإضافات وكذلك وزراءه أحوالهم أسوأ من وزراء أخيه بأكثر من ذلك أضعافا ». فصارت أيام عبد العزيز تظهر أيام عدل ورفق بالرعية ويتمنى الناس رجوعها، ولو مع ما كانوا يتهمونه به، حسب محمد بن الحسن الحجوي.

هذه الاختيارات هي التي تفسر الجو المشحون الذي شهده العهد الحفيظي على المستوى الداخلي، وخلقت تحولا في العلاقة مع القبائل من الترحيب والاحتضان إلى النفور والاستهجان؛ فقبائل بني مطير التي احتمى بها الشيخ الكتاني، وانتزع من بين أحضانها ليسجن ويعذب ويموت ما كان لها أن تنسى هذا الأمر أو تتحمل شططا أو تعسفا من المخزن الحفيظي، لذلك بادرت إلى تكوين حلف من القبائل القريبة من العاصمة فاس لمحاصرة المدينة، وخططت لقتل المدني الكلاوي واختطاف السلطان خلال احتفالات عيد الولد النبوي سنة 1329/1911. ولم تفلح محاولات السلطان لإقناع زعماء بني مطير برفع الحصار عن العاصمة، وفشلت كل الوساطات التي استعملها. وأمام فشل رهانه على مساعي الوساطة، أو حتى على دعم بعض القبائل الأخرى مثل الحياينة وبني وراين، اتجه السلطان إلى طلب المساعدة من القوات الفرنسية التي كانت تنتظر هذه الفرصة بعد أن أعدت لها جيدا، بل أنضجت شروط الوصول إليها. إذ عرفت كيف تعد الخطة وتستدرج السلطان إليها كمنقذ لا بديل له عنها بعد أن حاصرته القبائل المحيطة بعاصمته، وبالتالي فهي لم تفاجأ بطلبه بل توقعته واستعدت له سياسيا وعسكريا كما يوضح ذلك جون كلود آلان. غير أن تحرك القوات الفرنسية من القنيطرة إلى فاس لم يمر دون مقاومة القبائل التي عبرت أراضيها هذه القوات أواسط شهر ماي سنة 1911، كما لم يسلم من تداعيات دولية كان أبرزها التحرك الإسباني لاحتلال مدينتي العرائش والقصر الكبير وكذا الرأس الأسود سنة 1911. أما الألمان فكان لهم رأي آخر، إذ سارعوا إلى إرسال بارجة حربية إلى عرض ميناء أكادير مطلع شهر يوليوز من نفس السنة للضغط على فرنسا لتحقيق المزيد من المكتسبات مقابل التنازل لها عن المغرب. وهو ما توج باتفاق نهائي أرضى الطرفين معا، وأزال آخر العقبات الديبلوماسية أمام فرنسا ليتسنى لها بعد ذلك التحرك بشكل أسهل في المغرب. إذ لم يعد لها إلا الاتفاق مع السلطان، بعد أن انفردت به، على صيغة وجودها في المغرب، غير أن هذا الأخير، ومنذ أن أدرك أن التسوية الفرنسية الألمانية ستكون لا محالة على حساب استقلال بلاده، بادر هو شخصيا إلى اقتراح صيغة لتنظيم الوجود الفرنسي في المغرب في شكل مذكرة (تقييد) « تحتوي على الشروط التي يرى أن التعاون المغربي الفرنسي يجب أن يستوحيها ويسير عليها وهي مؤرخة بـ7 شوال 1329/ 1 أكتوبر 1911. وقد سلمت للجانب الفرنسي بتاريخ 17 أكتوبر 1911. من هذه الشروط أو المطالب ما هو خصوصي يتعلق بمصالح الأسرة المالكة وأملاك السلطان الخاصة ومستقبله. ومنها ما هو عمومي يهم الشعب المغربي ومصالح الدولة المغربية.

إن مطالب السلطان وشروطه هي التي تمثل الحلقة المفقودة في الكتابات التي تحدثت عن معاهدة الحماية وكأنها اتفاقية غير الاتفاقية الأصلية. ولذلك نعتبر مذكرة السلطان هذه هي الأصل الذي انبنت عليه اتفاقية الحماية الموقعة في 30 مارس 1912. ولقد قام السفير المغربي محمد المقري بتعديل المذكرة ولائحة الأملاك المخزنية الملحقة بها، التي طالب عبد الحفيظ بالاحتفاظ بملكيتها واستمرار التصرف فيها. وتقع معظم هذه الأملاك في مراكش وفاس، بالإضافة إلى دُور المخزن بطنجة، وأضاف لها المقري، دُور المخزن الموجودة بالعرائش والدار البيضاء وأملاك أحمد بن موسى بها أيضا. وتتكون المذكرة المغربية المعدلة المشتملة على مطالب السلطان من سبعة وعشرين فصلا أو مطلبا، يمكن تصنيفها إلى ما هو متعلق بحكم السلطان واختصاصاته وصلاحياته وتضم ثلاثة عشر فصلا، وما ارتبط منها بأملاك المخزن وتحتوي على تسعة فصول، فيما خصصت الخمسة فصول المتبقية لمصالح البلاد. وإذا كانت الحكومة الفرنسية قد قبلت معظم ما في التقييد، وقدمت ملاحظاتها بشأن بعض مواده، فإن النقط الخلافية بين الطرفين، قبل تقديم الصيغة النهائية للمصادقة عليها في 30 مارس 1912، همت بالأساس مصالح السلطان إذ « أن موضوع الأملاك المخزنية أصبح محور عدم التفاهم من جديد، لأن الحكومة الفرنسية بدأت تتراجع عما حصل من اتفاق مع السلطان حولها » (ص. 535). وهو ما يؤكده ربط السلطان توقيعه للعقد بشروط أصر عليها، وطلبه من السفير التعهد له كتابيا بتحقيقها. « وهكذا لم يضع خط يده على العقد إلا بعد توصله برسالتين من السفير الفرنسي في الموضوع : الرسالة الأولى بضمان وضعية لائقة بشخص السلطان، بحيث تعهد السفير بوضع 500 ألف فرنك حالا في البنك المخزني تحت تصرفه... أما الرسالة الثانية فتعهدت بحماية الدولة الفرنسية لشخص السلطان وعائلته، وبضمان معاش مناسب له، إذا اختار التنازل وعين وريثا للعرش. وبقبول بقاء الاتفاق سرا حتى يسافر السلطان إلى الرباط ». (ص.539-540).

وبتوقيع عبد الحفيظ على معاهدة الحماية، جاء رد الفعل من عسكر السلطان ضدا على تعسفات الضباط الفرنسيين، إذ رفضوا حمل "بردعة أولاد النصارى" على حد تعبير "دانييل ريفي" (Daniel RIVET). وجاء تضامن سكان فاس وجوارها معهم إذ هبوا لرد صك البيع الذي جاء به الفرنسيون حسب نفس الباحث. فأي رغبة كانت للسلطان، والتي أفشت سر حالته النفسية، وهو يواجه الضغوط الفرنسية ويتخذ القرار المصيري؟ وهل وقع فعلا وهو مرتاح إلى أن ما فعله هو في صالح بلاده وشعبه؟ أم أنه، كما ذهب إلى ذلك دانييل ريفي، تعامل، إلى جانب وزيره المقري، مع المغرب كمركب موشك على الغرق يجدر بهما انتزاع ما أمكن منه؟ هل كان من الصواب، تكتيكيا، المسارعة إلى تقديم مذكرة المطالب إلى فرنسا لتحديد نوعية مراقبتها للمغرب وهو سلطان الجهاد المصر على التحصن ورد كل ما يتعارض مع هذا المبدأ؟ وهل كان ورعا زاهدا في كل شيء من أجل مصلحة دينه ووطنه؟ أم كان له كما أورد ذلك الحجوي « شغف بالنكاح، ولم يعهد لأحد من هذه العائلة شغف به، وتزوج عددا كثيرا، ونكح من السراري ما لم يخطر ببال أحد، وصاهر من لا يصلحون لمصاهرة الملوك. ومن غريب ما يخلد من التواريخ أن السلطان عرس في شهر ربيع الثاني الذي هو محصور فيه غاية الحصار على عروسين اثنتين »؟

قد تختلف التقييمات والتقديرات في الإجابة على هذه الأسئلة المتعلقة بمسار سلطان تحمس للجهاد، وانتهى به المطاف إلى توقيع معاهدة الحماية والاستقالة من منصبه. لكن يبقى أن تطور الأحداث في اتجاه استغاثة عبد الحفيظ بالقوات الفرنسية، التي أقدمت على إهانة الجنود المغاربة، دفعت القبائل المجاورة للعاصمة فاس، بعد أن حاصرت سلطان الأوربيين سنة 1911، إلى محاصرة أوربيي السلطان سنة 1912 على حد تعبير عبد الله العروي. ويبقى من الصعب أيضا أن نعتبر الاتجاه الهوياتي الذي قاده عبد الحفيظ، باسم كل المعادين للتحديث والحداثة والذي حارب انفتاح أخيه عبد العزيز على المخترعات والأفكار الغربية وضيق الخناق على المقترحات الإصلاحية والتوجهات الدستورية، هو الذي بذر البذور الأولى للحركة الوطنية المغربية التي نراها امتدادا لجماعة لسان المغرب ومشاريع الدساتير التي رغم هامشيتها خلال الفترة العزيزية ومحاصرتها إبان العهد الحفيظي فإنها خلقت وعيا وطنيا جنينيا سرعان ما ترعرع وتطور خلال فترة الحماية متشبعا بأفكار وقيم وقناعات جديدة مواكبة لمتغيرات المرحلة.

البيبليوغرافيا المعتمدة

- أكنينح، العربي، آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ تحت إشراف أحمد التوفيق، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1983 – 1984.

- بياض، الطيب، المخزن والضريبة والاستعمار، ضريبة الترتيب 1880-1915، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011.

- توفيق، أحمد، تأملات في البيعة الحفيظية، ندوة المغرب من العهد العزيزي إلى سنة 1912، الجامعة الصيفية، المحمدية، يوليوز 1987، ص 335 – 347.

- الحجوي، محمد بن الحسن، انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، تحت رقم ح 123.

- الحجوي، محمد بن الحسن، دفتر تقاييد تاريخية مخطوط الخزانة العامة، الرباط، رقم ح 128.

- الخديمي، علال، التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب 1894-1910، حادثة الدار البيضاء واحتلال الشاوية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1994.

- الخديمي، علال، الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912، دار أبي رقراق، الرباط 2009.

- ريكور، بول، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009.

- السباعي، محمد بن إبراهيم، البستان الجامع لكل نوع حسن وفن مستحسن في عد بعض مآثر السلطان مولانا الحسن، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، تحت رقم د 1346.

- عياش، جرمان، أصول حرب الريف، ترجمة محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1992.

- فيير، كابرييل، في صحبة السلطان، ترجمة عبد الرحيم حزل، جذور،2003.

- كليين، بيير، الاقتراضات المغربية، 1902-1904، تعريب المصطفى برنوسي، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى، 2007.

- المشرفي، محمد بن محمد بن مصطفى، الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعد بعض مفاخرها الغير المتناهية، دراسة وتحقيق بوهليلة إدريس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، 2005.

- المنصوري، أحمد، كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر، تحقيق محمد بن الحسن، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى، 2004.

- Allain, Jean Claude,Agadir 1911, une crise impérialiste en Europe pour la conquête du Maroc, publications de la Sorbonne, Paris, 1976.

- Arnaud, Louis, Au temps des Mehallas ou le Maroc de 1860 à 1912, Atlantides, Casablanca, 1952.

- Bekraoui, Mohammed, La révolte de Bou Hmara (L’homme à l’ânesse), contribution à l’histoire du Maroc précolonial, Thèse de 3ème cycle, Université de Poitiers, 1980.

- Burke, Edmund III, Prelude to protectorate in Morocco, precolonial protest and resistance, 1860-1912, University of Chicago Press, 1976.

- Hariss, Walter, Le Maroc disparu, Paris, 1929.

- Houel, Christian, Mes aventures marocaines, Ed. Maroc- Demain, Casablanca, 1954.

- Hubert, Jaques, Les journées sanglantes de Fes, Casablanca, 1926.

- Julien ,Charles André, Le Maroc face aux impérialismes, 1415-1956, Ed. J.a, Paris, 1978.

- Laroui, Abdallah, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Centre culturel Arabe, Casablanca, 1993.

- Rivet, Daniel, Lyautey et l’institution du Protectorat français au Maroc 1912 – 1925, L’harmattan, Paris, 1988.

- Saint, Aulaire, Au Maroc avant et avec Lyautey, extrait des mémoires de l’ambassadeur, Flammarion, Paris, 1954.

- Weisgerber (F), Au seuil du Maroc moderne, La porte, Rabat, 1947

المصدر: http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...