زوايا من الحياة اليومية بمراكش في العصر الموحدي

 

محمد رابطة الدين، مراكش زمن حكم الموحدين جوانب من تاريخ المجال والإنسان، مراكش، المطبعة والوراقة الوطنية، 2008، جزءان.

ألف هذا الكتاب بغاية الإسهام في تأسيس كتابة تاريخ قطاعي لمدينة مراكش بعد تلك التي قام غاستون دو فردان، مع ما في العمل الثاني دائما من مراجعة وتدقيق وتحقيق. وقد انصب العمل على الفترة الموحدية من عمر مراكش، أي ما بين 541 و668هـ/1147- 1270 م، وتم تناولها في منحيي القوة والضمور وفي انخراط تام في مقولة الثنائيات الشهيرة التي انعكست من خلال المقامات التالية: قوة العصر الموحدي وتفكك مرحلة الانتقال إلى الحكم المريني، والانتقال من الاستقرار إلى الاضطراب، ومن اقتصاد الفائض إلى اقتصاد الأزمة، ومن الازدهار العمراني إلى انكماشه، ومن أحادية المذهب الرسمي إلى تأطير ديني يدخل في الحسبان، إلى جانب المذهب، منحى سلوكي مشاغب يتمثل في التصوف.

تعتبر الحياة اليومية بمراكش في العصر الموحدي من أهم انشغالات البحث، وقد حاول المؤلف رصدها من زوايا متعددة، كالمجال والديموغرافيا والنظم الحضرية المتماهية مع نظم الدولة والاقتصاد وتعايش ساكنة مراكش والولاية والحياة العلمية. ويبدو من البداية أن معضلة البحث هي كيفية دراسة مراكش لذاتها والتحرر من الحضور المخزني، أي دراسة الدينامية الخاصة بالمدينة انطلاقا من إشكاليات التاريخ الحضري وليس انطلاقا من وظائفية المدينة من منظور تشكيلة غريبة عن المدينة تتمثل في الأسرة الحاكمة وعصبيتها القبلية. وفعلا فإنه لا يبدو لنا أن هذا هو جوهر المقاربة إذا تتبعنا إشكالية المؤلف المتمحورة حول أولوية المجال، باعتباره مسألة حيوية بالنسبة لجزء من ساكنة الأطلس الكبير الغربي من جهة، وتهديدا لمصالح دولة فتية تتهيب الجبل وتسعى إلى مراقبته.

ليست غايتنا طرح بديل منهجي، وإنما مواجهة خطة عمل بأخرى قد تسعف في إغناء النقاش حول الظاهرة الحضرية بالمغرب. ومهما يكن الأمر، فمن المؤكد تاريخيا ان المرابطين أسسوا مراكش قرب الجبل، كما بنوا سلسلة من الحصون التي أضحى عدد منها مدنا على امتداد الجبل، كما لو أن هناك خوفا دائما من المجهول الذي يمثله الجبل في أذهان جماعات ألفت الانبساط اللا متناهي للقفر. ومن المؤكد أيضا ان المدينة بقيت حتى بعد زوال الحكم الموحدي خاضعة سياسيا لقوى بشرية من الجبل ترأسها الأسرة الهنتاتية، لكن هذه المسألة تجعل مراكش أحد أقطاب مشروع محلي أو جهوي، والحال أن مراكش كانت حاضرة لمشروع يفوق هذا بكثير، فحتمية التكامل المجالي الضيق تصطدم بأفق أكبر وبمشروعية أقوى تتجاوزه، نظرا لاستنادها إلى خلفية دينية أقوى من الحقوق الفرعية لقبيلة أو عصبية ما، هي مشروعية إقامة إمارة للمؤمنين كما تبلورت وتطورت على امتداد القرون السابقة.

وفيما يتصل بحقوق الجماعات على المجال، فهي تصبح في الواقع ثانوية إن لم تنتف كلية، بدليل ما آل إليه أمر باقي الجماعات في المغرب بعد ان صار الأمر للموحدين. ومن الملاحظ أيضا أن مسألة الحقوق الشرعية أو العرفية على أرض مراكش، إن تأكدت، فقد وجدت من قبل حلولا مرضية لها حسب ما أثبتته الاسطوغرافيا على الأقل، ونذكر هنا بالجماعات الممتلكة لأراضي فاس وكيف تم تعويضها من قبل باني المدينة، وقد حصل نفس الأمر بالنسبة لمراكش فيما يبدو.

وعلى اعتبار أولوية التكامل بين السهل والجبل، فإن المجال الذي احتلته مراكش وهو 606 هكتار، أي حوالي 6 كلم مربع، لا يبدو مؤثرا جدا من الناحية الاقتصادية، لكن على العكس من ذلك فإن وجود المخزن المرابطي هو ما يشكل قطيعة مع الممارسات القديمة. من ناحية أخرى، فلا شك أن أي تجمع بشري بالحجم المذكور من شأنه ان يخلق دينامية جديدة في المجال لا تلغي بالضرورة التكامل الاقتصادي بين السهل والجبل، بل لربما أغنته لكن وفق شروط سيادية جديدة. وكلنا نعرف أن تجذر المدينة في مجال ما ليست مسألة تلقائية ولا نتيجة لتطور إيكولوجي أو اقتصادي وإنما هي في الغالب نتيجة لقرار سياسي، إن لم تكن إرثا أزليا أريد استثماره من جديد. ولا شك أن السيرورة التي تجعل من المدينة أداة لمراقبة المجال من قبل الدولة هي المسؤولة عن التوتر والاصطدام، وهو اصطدام بين نمطين من الأنظمة؛ نمط الخلافة الشمولي ونمط القبيلة الجمهوري. وفي هذا الصدد نعتقد أن سبب الاصطدام ليس بالضرورة الاختلال الاقتصادي المترتب عن استقرار جماعات ذات أنشطة منافسة، وإنما ضرورة الخضوع لمؤسسات الدولة وشروط تغلبها المتمثلة في أداء الضرائب والاستجابة للتعبئة في الجيش كلما استدعى الأمر ذلك.

أما بالنسبة للتطور الديموغرافي لمراكش، فلا يبدو أن سكان المدينة من أهل الصحراء كانوا من حجم كبير. فالظاهر حسب ما ذهب إليه المؤلف أن ثلثيهم قد ضاعا إما بسبب التقتيل، أو بسبب الإفقار الديموغرافي المتصل بحوالي عشرين سنة من الصراع المرابطي الموحدي وما ترتب عنه من كوارث طبيعية. وعلى عادة الدول المتعاقبة على حكم المغرب فقد قام الموحدون بزرع بعض قبائلهم داخل مراكش من أجل خلق توازن ديموغرافي. هل هو قدر المدينة المغربية أن لا تتطور إلا في ظل الدولة وأن تتأثر بكل تحول سياسي فتفقد ما راكمته من قبل، في انتظار دورة أخرى؟ يبدو أن الأمر كذلك، ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذه الدورية تحول دون حصول التراكم في المدى البعيد وتسمح في كل مرة لشرائح جديدة بالاستفادة من موقعها بالنسبة للدولة في إطار توزيع جديد للثروة يكون محكوما بدوره بالشروط السياسية التي أفرزته.

لقد أضافت الأسرة الحاكمة إلى الكتلة المصمودية مجموعات الخدمة وحفظ التوازن التي شكلت، كما هو الشأن بالنسبة لدول مغربية أخرى، أحد مظاهر احتراز الحاكم من عصبيته، وضمت كومية والأغزاز والعرب والروم الذين حولوا ولاءهم جهة الموحدين بعد زوال حكم المرابطين. وفي هذا الصدد يمكن أن نتساءل مع المؤلف عن الوضعية القانونية للنصارى وهل كانت تسري عليهم أحكام الذمة كما ذهب إلى ذلك(1)، وكذلك الشأن بالنسبة للعبيد إذ ان تسمية عبيد المخزن بالذات تنطوي فيما يبدو على غموض كبير لا يفيد دائما بفقدان الحرية لأن الموحدين كانوا يسمون الرعية ومن لم ينظم إلى حركتهم عبيدا على رأي ابن تومرت بأن "أهل الجماعة وصبيانهم عبيدهم كل من في الدنيا"(2)، أو عندما استرجع يعقوب مدينة قفصة حيث "وجد بها جماعة من الأغزاز فرغبوا في عتق رقابهم على ان يكونوا عبيدا للأمر العزيز مماليكا للخلافة"(3). هذا، بغض النظر عن واقع العبودية الذي لا يرتفع، والذي كان يمس أعدادا كبيرة من البشر من جراء التجارة والحروب. ونحتفظ من متابعة المؤلف لهذا الموضوع بأن عدد سكان مراكش مرتفع ويناهز في الغالب مائتي ألف نسمة، وأن أغلبهم ممن لم يصقل بعد بمقومات أهل الحضر، وهو ما من شأنه أن يطبع المدينة بطابع ريفي زراعي بالنظر إلى أهمية هذا النشاط في وسائل تمويل بيت مال الموحدين وفي تغذية المدينة، وأن هذا العدد سرعان ما تراجع بقوة خلال القرن السابع بحلول أزمة الحكم الموحدي ودخول مراكش في مسلسل خراب طويل.

وبالرجوع إلى موضوع المورفولوجيا الحضرية، فإنه يمكن التأكيد بأن ما تصدى له المؤلف لا يمكن ان يقوم به أي باحث، بل يفترض ان يقوم به ابن البلد العارف بأسراره وثقافته. وكالعادة، فإن التعريفات المتصلة بالمدينة المغربية تطرح دائما صعوبات شتى قد يغنيها ربما، القيام بمقارنات مع مدن أخرى وترجيح قراءة على أخرى.

تصدى الباحث للتعريف بوحدات المدينة من حومات وحارات ومحلات. وإذا جاز أن ندلي بملاحظات في هذا الشأن، وبغض النظر عن أهمية ما أنجز، فيبدو أن الحارة قد تكون مرحلة أولى في انتظام المدن، فتكتسي معنى الربض أو تشير إلى ما ينبغي إبعاده من المدن كحارات الجذامى. أما الحومات فهي الوحدات الحضرية المشكلة للمدينة بامتياز، وهنا لا بد من السؤال عن كيفية التمييز بين الحومة والحارة والزقاق والدرب والزنقة، والتعريف بها في ضوء الخصوصيات المحلية. من جهة ثانية، فقد أثبت اصطلاح المحلة في البحث مرتين في جدول أعده الباحث، وفي كلاهما تمت الإشارة إلى مجموعة قبلية هما هرغة والشرقيين. ومن المعلوم أن المحلة ترتبط تاريخيا بتنقلات الجيوش والسلطان وبطابعها المؤقت. فإلى أي حد تطابق المعنيان هنا؟ ثالثا، يبدو ان المقاربة هنا هي أقرب إلى اهتمامات الجغرافي منها إلى مؤرخ المدينة، فالسؤال اهتم دائما بالمجال ولم يمتد إلى الجانب الاجتماعي. فهناك مسألة التراتب الذي لم تغفله الدراسات المتعلقة بالمدينة الإسلامية، وهناك مسألة طبيعة المكونات البشرية المستقرة بهذه الحومات وما هي طبيعة الأنشطة الطاغية بها، وهل هناك محورية معينة لنشاط ما ترتب عنها انتظام الوحدات الحضرية بطريقة ما لها صلة بالمقدس أو بتجارة الأثواب أو بصناعة المعادن النفيسة (الصاغة)؟ وهل للمجمع السلطاني دور ما في انتظام هذه الوحدات؟ وهل كانت للطبوغرافيا بمراكش إكراهات معينة؟...الخ. وإذا ما تعلق الأمر بوحدات مستقلة تضم مرافق عدة كما هو الشأن بالنسبة لحومة الصالحة وكما قد يفهم أحيانا من تسمية الوحدات الجديدة بالمدينة، ألا يعد هذا إضافة قيمة إلى النقاش النظري المتصل بالمدينة؟.

بعد ذلك يأتي دور الخطط المهيكلة للمدينة، ولعل أهم الصعوبات المنهجية بالنسبة لهذا العمل هي كيفية دراسة مراكش كمجال وكهوية حضريين، لكن المشكل هوأن مراكش كانت حاضرة المغرب في هذا العصر وفي سابقه، فلا مفر من المخزن في أي مستوى من مستويات الدراسة وهذا إشكال حقيقي، لأنه فيما يخص الخطط يصعب التمييز دائما بين خطط الدولة وخطط المدينة. والتركيز على المشرف وصاحب الشرطة يبرز صعوبة التحرر من الحضور المخزني بالمدينة. نعم، لا سبيل إلى تفادي حقيقة معروفة وهي أن المدينة في المغرب وفي المجالات المشابهة أداة مخزنية، والخطط المخزنية حاضرة بها وتمثل أدوات تطويعها. لكن يظهر أيضا أن من شروط الدراسة الحضرية إيجاد الآليات المنهجية لإبراز الوظائف الحضرية الفعلية من قبيل الاقتصاد الحضري ورواج المعرفة... الخ. كل هذه المسائل موجودة طبعا في الكتاب، لكنها لم تتحرر كفاية من ثقل الدولة. فالقاضي وخطيب الجامع والمحتسب وأمناء الحرف، وإن كان للدولة دخل في تعيينهم، إلا أنهم منبثقون من نخب المدينة. ونعرف أن كثيرا من قضاة مراكش أجانب عنها، وأن النخبة العلمية بها مستدعاة من آفاق مختلفة، وكذلك الشأن بالنسبة لخطيب الكتبية لأن مهمته عظيمة الشأن لتترك دون توجيه بالنظر إلى محورية المذهب في الآليات الايديولوجية للدولة. أما الحسبة فهي لم تتبلور بعد كخطة مستقلة عن إشراف القاضي إذ أن الكتاب تغاضى عنها مع أن بوادر انبثاقها ظهرت في العصر الموحدي حسب ما ورد في كتاب المستفاد للتميمي.

كل شيء يؤدي بنا إلى "الأمر العالي" وإذا كان الأمر كذلك وأن المؤلف على صواب بالنسبة لمحورية الدولة فأين المدينة في كل هذا؟ هل في الحضور المخزني الوازن انتفاء لها؟ وهل يصدق هذا الاستنتاج على كل حواضر الملك في المدى البعيد؟. هل إشكالية التاريخ الحضري في المغرب وفي بلاد الإسلام عموما مختلفة عن مثيلتها في الضفة الشمالية للمتوسط حيث لعبت النخب الحضرية أدوارا طلائعية في مجمل التحولات التي عرفتها بلدانها في المستوى السياسي والتحولات المرافقة للأنشطة الاقتصادية والتشكيلات الاجتماعية؟

أعتقد أنه لا يمكن إغناء ترسانة الأسئلة الموجهة لتاريخنا دون انفتاح على تجارب الغير، وأن المقارنة في هذا الصدد مطلوبة لأنها تكسبنا وسائل أهم لمحاصرة المادة التاريخية حتى وإن انتهينا إلى حقيقة لا ترتفع وهي أن المسارين مختلفان. ويمكن ان نلم ببعض عناصر الإجابة من خلال الإحالة على نسق التطور الحاصل في حواضر البيئات الشمال- متوسطية كإيطاليا وفرنسا منذ نهاية العصر الوسيط،، والذي تميز بكون النخب المحلية المتحكمة في الإنتاج وفي رواج المعرفة قد فاوضت في شأن علاقتها بالنظام السياسي وانتزعت منه، لقاء دعمها المادي والسياسي، امتيازات وحقوق في شكل مواثيق. وفي المقابل فإننا نقف على تطور مختلف تماما في البيئة الإسلامية لا يعكس بتاتا هاجس التحرر من ثقل الدولة. وفي الوقت الذي انبعثت فيه طوائف حرفية قوية وقادرة على تعبئة القوات من أجل صون مصالحها في البر والبحر وتطورت مؤسسات العلم وبلورت مفهوم الجامعة العصري كطائفة مهنية منشغلة بالحفاظ على استقلاليتها إزاء النظام السيادي القائم(4) نلاحظ ان المدينة في المغرب لم تفاوض في شأن مستقبلها، وأن إطارات ومؤسسات العلم لم تفض إلى بروز فكرة الجامعة كطائفة مهنية، وكذلك الأمر بالنسبة للإطارات التنظيمية للحرف (الحنطات) التي بقيت في الواقع خنوعة وراضية بتبعيتها للمخزن بفعل الدور المركزي لخطة الحسبة في حياة الحواضر وبفعل الركود الاقتصادي الذي لم يفرض بعض الحيوية الاجتماعية باستثناء حالات نادرة لنهوض الحرفيين في فاس أو في مراكش في وقت متأخر بالنسبة للفترة التي يعتني بها الكتاب.

تبدو المدينة في الفصل الثالث من الكتاب ككيان محجور عليه(5)، والاستثناء الوحيد الذي عين فيه مشرف من أهل مراكش واكب أزمة المخزن الموحدي في سنة 629هـ، مع الإشارة إلى ان الأمر يتعلق بأحد السادة الموحدين، وتم اختياره لإبراز حياد مراكش بصدد الصراع بين يحيى الناصر والمأمون. والمبحث الخاص بالمشرف مفيد جدا، لكنه لا يحسم في المصطلح ولا في طبيعة الخطة إذ بالرغم من محاولة التفسير التي قام بها المؤلف، فإن القارئ يصطدم بإشارات تهم مواضع أخرى من الكتاب نجد فيها بعض السادة (الأمراء) يزاولون خطة العامل في معنى الإشراف، وفي أحيان أخرى نجد العامل مخصوصا بالجباية. فالمسألة غير محسومة بالاستناد إلى المصادر والرسائل الرسمية. أما صاحب الأشغال فيبدو أنه اضطلع بخطة رسمية مركزية، بحيث نجده المرجع في محاسبة عمال الجبايات كما حصل في فاس حسب ما ورد في البيان، وأنفذ الناصر أمره إلى الشيخ ابن المثنى صاحب الأعمال المخزنية والمفوض إليه الأشغال العملية إلى القبض على عامل فاس عبد الحق بن داود...."، وهذا لا يتنافى مع ما ورد في الكتاب ص152 وإنما يفيد بصعوبة البث في النظم الموحدية اعتمادا على المصادر الموحدية المتأخرة.

وفيما يخص أنشطة المدينة، وفي ارتباط دائم بتجاوبات المجالي والاجتماعي، يلاحظ أن هذا الأخير ينمحي مرة أخرى أمام مقاربة تنظر إلى إعداد المجال من خلال مبادرات الدولة. لا شك أن الباحث ليست له يد في هذا لأنه حبيس إفادات مصدرية محدودة ترتبط دائما بالفعل السلطاني. ومحصلة ذلك أن المرابطين ثم الموحدين لعبوا دورا مركزيا في تشكيل المنظر الزراعي حول مراكش ووفروا شروطا إيجابية للإنتاج الزراعي. وقد اعتنى المؤلف في حدود ما توفر لديه بطرح مشكل البنية العقارية التي يظهر منها أن ملكيات الدولة والاستغلاليات الكبرى كانت طاغية، وهذا يدخل ربما في إطار ما هو معروف تاريخيا وهو أن الدولة الموحدية سعت إلى تأسيس مختص لتمويل المشاريع المختلفة للسلطان وعينت من يشرف عليه. وهنا لا بد من التساؤل عن ظرف الاستغلال وشروطه؛ هل أضحى الناس عمارا في أراضيهم كما تشير إليه المصادر؟ هل هم مسخرون؟ أم هل هم مأجرون بنسب معينة؟ وهل انخرطت الدولة في شروط الإنتاج المعروفة بالنمط الآسيوي؟ وهل الأسلوب المتبع في تشكيل البحائر يشبه ما مورس في إشبيلية حينما تم تجريد الملاكين من أراضيهم وتم تعويضهم بأراضي أخرى بعيدة عن النهر؟ قد لا تتوفر لدينا أجوبة شافية عن هذه التساؤلات، لكن طرحها يبقى مشروعا لأن من شأنه إغناء الاستشكال ويساعد على بلورة أطروحة ما تؤطر علاقة المدينة بالدولة.

من الفصول الشيقة في الكتاب، الفصل المخصص للولاية والصلاح الذي يبرز بشكل جلي جانب المحقق المدقق في شخصية المؤلف. وفي صلة بالموضوع، قضية الجانب الشرقي بمراكش ومستقر ثمانية عشر صوفيا. وقد بلور الباحث بصدد ظهور هذا التحديد الجغرافي في كتاب التشوف أطروحة عن الدلالات الاجتماعية والسياسية للمسألة نلخصها فيما يلي:

  تعبر تسمية الجانب الشرقي عن وعي جماعي لمتصوفة هذا المجال بتميزهم عن غيرهم من متصوفة المدينة.

  سياسة المنصور المعروف بالزهد والذي اشتهر تجاه هذا الوسط باختيارات تأرجحت بين الشدة والمراقبة الحذرة وعناية بالمتصوفة الذين لم يظهر في سلوكهم ما يزعج الدولة.

  تميز متصوفة الجنوب الشرقي المذكور بمحاشاة المخزن والتحصن من محاولات الاحتواء.

  اعتبار عناية التادلي "بالجنوب الشرقي" محاولة للانتصار لجماعة منهم استهدفت من قبل المخزن الموحدي.

لا يهمنا بالنسبة لهذا الموضوع ان نتفق مع ما أورده المؤلف من تحليلات، بقدر ما يهمنا التركيز على مسألة تبدو لنا مهمة، وهي إلى أي حد تطابق هموم أهل مراكش ومواقفهم المعلنة أو المضمرة المواقف التي تحكمت فيما نسب للتادلي من اختيارات؟ لا يبدو لنا أن الكتاب الذي بين أيدينا أسس لهذه المسألة فيما تقدم، لاسيما حينما تعرض لمسألة الإشراف والجبايات. من جهة ثانية فإن سمات سلوك متصوفة الجنوب الشرقي لمراكش تبرز أكثر جانب العزلة والابتعاد عن الخطط مع ما في ذلك، علما بأن تجربة أبي العباس السبتي تبين أن المخزن الموحدي توفق في استمالة بعض رموز هذا الوسط وجعله جزءا من سياسة الاحتواء. لكن وبالرغم من ذلك فهذا لا يعني غياب متصوفة بقوا على مقاطعتهم المبدئية للمخزن غير أن كتاب التشوف وحده غير كاف لإبراز هذه الظاهرة التي تجاوزت مدينة مراكش إلى غيرها من المدن.

مرة أخرى نجد أنفسنا في سياق عام يتصل بسيرورة الدولة الموحدية في علاقاتها بمختلف مكونات المجتمع، وليس بصدد دراسة حضرية وبالآليات المعروفة لمقاربة هذا التاريخ.

يلزم في نهاية هذه المتابعة أن نعترف بأن المقاربة التي اخترنا ان نناقش بها الكتاب، وإن كانت كفيلة ربما، بوضع هذا العمل في إطار إشكالية محددة فإنه يتعذر علينا تدليل الصعوبات المتعلقة بهذا الاختيار، لأننا لا نتوفر على مادة تاريخية كافية بالنسبة لمتطلبات مونوغرافية تهم العصر الوسيط، كيفما كان نوعها. من جهة ثانية، فإن المدينة المغربية لا تعدو أن تكون أداة من أدوات التحكم في المجال. وإذا تأملنا التاريخ الموحدي المتسم بثقل الدولة والطابع الاستبدادي لأشكال تدبيرها، فإننا نفهم استحالة بروز أي تعبير يخرج عن نطاق النظام الموحدي، كما نفهم ارتباط ازدهار المدن باستقرار الدولة. ثالثا وأخيرا فإن مراكش الحاضرة المرابطية ثم الموحدية شهدت في حدود قرنين من الزمن (463-668هـ) استقرار عصبيتين قبليتين مختلفتين، وهو ما يعني أن التخلي عن طباع البداوة والأرياف لم يتحقق بسبب التغيرات التي شهدتها البنية السكانية بسبب الوفود الجديدة، وبسبب انتفاء شروط الاستقرار السياسي خلال أزمات الحكم الموحدي التي توجت فيما بعد باستقرار المرينيين بفاس، وبتردي أحوال حاضرة الجنوب لمدة طويلة كما يشهد على ذلك كتاب وصف إفريقيا للحسن الوزان.

مراكش زمن حكم الموحدين لمحمد رابطة الدين، كتاب مفيد أريد له أن يكون إسهاما في تاريخ مراكش، فإذا به يفتح آفاقا أرحب لمتابعة التاريخ والنظام الموحدي. ومن باب الإنصاف والاعتراف بالجهد المبذول القول إن المؤلف قد وفق إلى حد بعيد في الكشف عن أشياء كثيرة تتصل بالأسلوب الموحدي في التعامل مع المجال الخاضع لسيادة هذه الدولة.

الهوامش

1- انظر الكتاب ص. 51

2- البيذق، أخبار المهدي، دار المنصور، الرباط ،1971،ص .55

3- الاستبصار، تحقيق سعد زغلول عبد الحميد، الدار البيضاء، ،1985 ص151

4- انظر على سبيل المثال محمد القبلي، قضية المدارس المرينية: ملاحظات وتأملات، ضمن كتاب مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبقال للنشر، 1987.

5- الكتاب، ص. 136

المصدر: http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك