كشكول من الجوانب الحضارية للغرب الإسلامي
يتضمن هذا الكتاب مجموعة من المقالات التي ساهم بها المؤلف في مناسبات مختلفة، معظمها سبق نشره. وقد انطلق في جمعها ضمن كتاب واحد من اقتناعه بوجود "فجوات تحجب رؤية معمار الحضارة المغربية بشكل مكتمل"، أو لأن بعضها يستوجب "إعادة النظر والمراجعة وتقديم تفسير جديد" (ص 7).
ومن خلال النظرة الأولى للمقالات الموزعة بين دفتي الكتاب، يتضح أنها –فعلا- تمس أهم الأبعاد التي يمكن أن تتخذها المظاهر الحضارية، من سياسية (العلاقات المغربية الاسكندنافية) وثقافية (اللغة الأمازيغية) وبشرية (التطور الديموغرافي)، ومذهبية (صحوة المذهب المالكي) وعمرانية (معمار مراكش ووجدة...) وعلمية (علم النجوم والفلك)، فنحن أمام كشكول من الجوانب الحضارية للغرب الإسلامي.
في المقالة الأولى المعنونة ب "نمط اقتصاد المغازي"، تساءل المؤلف عن حدود انتشار هذا النمط كأسلوب إنتاج في مغرب العصر الوسيط، وهو سؤال كان قد أثاره قبل عقدين بأطروحته الجامعية عن الحياة الاجتماعية في المغرب والأندلس خلال عصر المرابطين. وتقوم أطروحة "اقتصاد المغازي" على سيادة بيئة بدوية بالمغرب الوسيط، ونظام قبلي مؤسس على موارد اقتصادية غير ثابتة، وانتفاء الأمن، مما يجعل من "نظام الغارة والاعتداء على الغير نظاما مألوفا" (ص 12). ويحدد الباحث سمات "اقتصاد المغازي" في هامشية السلطة المركزية وقيامها على أساس الجهاد، مما يتيح توافر الغنائم، ثم في الطبيعة العسكرية للدولة المغربية الوسيطية، وأخيرا في احتكار القبيلة الحاكمة للسلطة. أما موارد "اقتصاد المغازي" فهي صادرة عن قوى حربية غير طبيعية، مثل غنائم الحروب وضرائبها، والمصادرات.
وبعد تشريح خصائص نمط اقتصاد المغازي، يخرج المؤلف بمجموعة من الملاحظات من خلال نموذج الدولة المرابطية، ومن أهمها أن موارد هذا النمط غير قابلة للاستثمار، وأن عائداته كانت موجهة أساسا لحياة البذخ وأما الزراعة فإنها "لم تلعب دورا مهما في قوة هذا الاقتصاد (ص 28)، وتبقى الصناعة مقتصرة على ما هو استهلاكي. وعلى المستوى المذهبي، أفرز نمط اقتصاد المغازي وحدة مذهبية ممثلة في المذهب المالكي الداعي إلى نبذ الخلاف، لأن التعبئة يجب أن توجه إلى العدو الخارجي المسيحي. هكذا يظل نمط اقتصاد المغازي حبيس حلقة مفرغة لهشاشة مقوماته، وأيلولته إلى دورة حلزونية بطيئة بطء التطور الاجتماعي.
أما المقالة الثانية فبحثت في ظاهرة الدين والسلف بالمجتمع المغربي خلال العصر الوسيط، فقد كانت "ظاهرة بارزة تمخضت عنها انعكاسات اجتماعية (ص 31). تناول المؤلف هذه الظاهرة من المنظور الشرعي، ثم تتبع دواعي التجاء مجتمع الغرب الإسلامي آنذاك لأساليب الدين والسلف، وركز في ذلك على سببي الفقر وضعف الدخل الفردي، مستنبطا بعض الأمثلة عن ذلك من معيار الونشريسي. كما رصد طرف التعامل بالدين والسلف من تحرير لعقود السلف ودين بالتقسيط وأداء للدين بواسطة الصك (الشيك) وتسليف بالربا.
"اللغة الأمازيغية في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط" هو موضوع المقالة الثالثة. وفيها اعتبر المؤلف أن اللغة الأمازيغية عانت من الإقصاء باعتبارها لغة المغلوب (ص 57)، وزاد من ضعف انتشارها اعتمادها الكبير على الشفوي، ثم تتبع حضورها في تاريخ المغرب الوسيط من حيث هي لغة التواصل بين المغاربة لأن اللغة العربية لم تنتشر "سوى بشكل محدود في أوساط العلماء" (ص 60)، بينما كانت اللغة الأمازيغية تعم الأرياف والجبال.
وتبدو سيادة اللغة الأمازيغية من خلال النموذج الموحدي؛ حيث إن ابن تومرت كان يخاطب أتباعه باللسان البربري، وكان "أكثر الدعاة ذكاء في توظيف اللغة الأمازيغية للتمهيد لقيام دولته" (ص 67)، ويجد المتتبع للمؤلفات الموحدية عينات من الكلمات ذات الأصول البربرية. وقد نحا أتباع ابن تومرت منحاه في استخدام اللغة الأمازيغية في التواصل والتبليغ. غير أن هذه السيادة للغة الأمازيغية بدأت في التراجع بارتفاع وتيرة التعريب مع حلول القرن الثامن للهجرة. ولاشك في أن حضور اللغة الأمازيغية في تاريخ المغرب الوسيط يبقى في حاجة إلى مزيد من البحث، لاسيما أمام نقص النصوص الواردة حولها (ص 70).
وفي المقالة الرابعة راقب الباحث أثر قيام الدول وسقوطها في التطور الديمغرافي بالمغرب الوسيط، وقدم لها بالتأكيد على صعوبة طرق الحقل الديمغرافي نظرا لخلو الأرشيف المغربي من أي مستند إحصائي (ص 71). إن تتبع المنحنى الديمغرافي ينطوي على أهمية كبرى، إذ عادة ما يكون التحول الديمغرافي، بما يصاحبه من أزمات وكوارث، من العوامل المساهمة في سقوط ونشأة الدول المغربية الوسيطية.
وبعد أن اتخذ المؤلف التجربة المرابطية نموذجا لتحليلاته، قسم النصوص المتوافرة إلى نصوص انطباعية وهي "التي لا تنطق بالأرقام"، ونصوص رقمية، وهي التي تتضمن إحصائيات تقريبية يستفيد منها المهتم أيما استفادة. ولأجل ذلك، عرض نماذج من النصوص الانطباعية والرقمية عن العصر المرابطي، وخلص إلى أنها "تحمل بعض الدلالات حول التطور الديمغرافي" (ص 80). إن المسار الديمغرافي في العصر المرابطي، وباقي فترات العصر الوسيط المغربي، شهد انخفاضا في عدد السكان عند بداية تأسيس الدولة وارتفاعا في فترة توطيد الحكم، ثم انخفض من جديد في مرحلة هرم الدولة.
أما المقالة الخامسة فتمحورت حول صحوة المذهب المالكي في الغرب الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري. ذلك بأن هذا القرن صادف مدا سنيا في المشرق الإسلامي، فظهرت انعكاساته من خلال صحوة للمذهب في الغرب الإسلامي. وبعد أن تسرب المذهب المالكي إلى المغرب في عصر الأدارسة، تزايد حضوره بالمنطقة، ومع نهاية القرن الرابع الهجري "كانت أصول هذا المذهب وفروعه قد بدأت تترك بصماتها الأولى في مرافق الحياة العامة" (ص 76).
إن صحوة المذهب المالكي بالمغرب تفسر بمعطى بيئي وحضاري متقارب بين المغرب والمدينة المنورة حيث أقام مالك، كما ساهم في تلك الصحوة الإعجاب المتبادل بين المغاربة والإمام مالك وتلامذته، علاوة على أن المرابطين دافعوا عن وحدة المذهب حفاظا على الوحدة السياسية لإمبراطوريتهم، فحاربوا باقي المذاهب المناهضة للمذهب المالكي، مثل المذاهب ذات المنحى الفلسفي، وعولوا في ذلك على مجموعة من العلماء الكبار. وكان تدريس المذهب المالكي والتأليف فيه من أهم وسائل نشره في العصر المرابطي. وقد قدم المؤلف لائحة بالمصنفات المالكية، وميز فيها بين النموذج التحصيني والنموذج الهجومي، والنموذج التعليمي الدعائي، والذي مثله كتاب ترتيب المدارك للقاضي عياض.
وفي المقالة السادسة وقف الباحث عند علوم النجوم والفلك والتنبؤ بأحداث المستقبل في بلاد الغرب الإسلامي خلال عصري المرابطين والموحدين، فبالرغم من الطابع العسكري للدولة المرابطية، فإن الحياة العلمية شهدت تطورا ملحوظا، وعلى النهج ذاته، سارت الدولة الموحدية، فكثرت حركة التأليف ونسخ الكتب، ومن ضمنها كتب علم التنجيم المرتبط بالتنبؤات، وذلك بهدف إدارة شؤون الدولة ومعرفة توقعات المستقبل. ولعل من أهم الطرق التي استخدمت في قراءة أحداث المستقبل خلال العصر المرابطي ما يعرف بخط الرمل (ص 109). وكان المهدي بن تومرت من الممارسين لهذه الطريقة التي استغلها لتحقيق مآربه السياسية. كما اتخذت قراءة المستقبل في العصرين المرابطي والموحدي صيغا أخرى، منها "الزايرجة" و"الملاحم".
وإلى جانب علم التنجيم، تطور علم الفلك في تلك الفترة. لهذا قدم المؤلف أسماء بعض الفلكيين كابن السكاك وابن عبد الله الحراز. وقد تجلى وجود فلكيين مرموقين في ابتكار بعض الآلات وتوظيفها في مجال الهندسة العمرانية. ذلك بأن علم النجوم وتوقعات المستقبل أصبح خلال تلك الفترة "علما نافعا ومفيدا" (ص 115).
أما المقالات الثلاثة الموالية، فيمكن القول بأنها تصب كلها في محور العمران. بحثت أولاها في معمار مراكش في عصري المرابطين والموحدين من خلال النصوص الأثرية الواردة في المصادر المكتوبة. فالنص المكتوب "قد يحمل في طياته معلومات أثرية... يستفيد منها الباحث الأثري" (ص 116).
وتوخيا لدراسة تطبيقية، اتخذ الباحث مدينة مراكش المرابطية والموحدية نموذجا عن ذلك، ورصد لهذه الغاية نصوصا تهم الموقع ومواد البناء وسور المدينة والمساجد والرباطات والقصور والأبواب والفنادق والحومات والحارات والمنازل والمقابر ومنشآت عمرانية أخرى. وخلص إلى أن مختلف هذه النصوص تساهم في معرفة مواقع الآثار وتمكن الباحث الأثري من تفسيرات قد لا تسمح بها الشواهد المادية المتبقاة، وهذه دعوة من أجل تحقيق تكامل بين البحث الأثري المكتوب والبحث الأركيولوجي (ص 124).
وفي سياق العمران ذاته، وقف المؤلف عند كيفية حضور ثقافة المنع والهدم في معمار المدينة بالغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط من خلال نموذج القيروان. فقد أفتى بعض الفقهاء بمنع النصارى واليهود من رفع مباني معابدهم في القيروان، وتم منع إقامة دور الدباغة داخل المدينة، ومنعت كذلك دور البغاء بها، كما لم يجز بعض الفقهاء إصلاح سور القيروان بنفس المواد التي تم استعمالها في البناء الأول. إن مختلف الفتاوى المعروضة كانت تهدف إلى الحفاظ على المعمار القيرواني وجمالية منظره (ص 131). أما ثقافة الهدم في المعمار القيرواني فتجلت في سلسلة من عمليات الهدم التي طالت المدينة بمجرد تغيير حكامها أو بعض مكوناتها. إلا أنه لا يجب أن تؤخذ ثقافة الهدم في بعدها السلبي فقط، فرغم أن دوافع الهدم لم تكن أحيانا مؤسسة على قاعدة أخلاقية "فإنها شكلت رافدا آخر من الروافد التي كان ينتعش فيها المجال العمراني في القيروان" (ص 137).
أما آخر مقالة يمكن أن نموضعها في المحور العمراني، فتهم المدينة المغربية والمدينة الأوربية في العصور الوسطى من خلال دراسة مقارنة تتخذ مدينة وجدة نموذجا لها. تتبع الباحث تاريخ تأسيس المدينة مستحضرا ظروف نشأتها التي تختلف عما عرفته المدينة الأوربية، حيث إن وجدة كانت إفرازا لعوامل عسكرية وقبلية، على عكس المدينة الأوربية التي ارتبطت في نشأتها بدينامية النشاط التجاري وببروز طبقة التجار (ص 142-143). ومست المقارنة المقترحة تطور المؤسسات السياسية والاقتصادية والعمرانية. فقد ظلت وجدة مركز صراع القوى السياسية وغارات القبائل البدوية، مما عرضها للتدمير عدة مرات، وظلت الفلاحة والرعي قوتها الإنتاجية الرئيسية، وخربت بواديها، وساهم في تدهور أحوالها ضعف مساهمة السلط المتعاقبة على حكم المغرب الوسيط في تطوير المدينة، وشططها في فرض الضرائب على سكانها، الشيء الذي جعل وجدة تظل "وفية لتراثها البدوي" وعاجزة عن تحقيق "ثورة حضرية" (ص 158).
أما المقالة ما قبل الأخيرة فتمحورت حول علاقات المغاربة بالشعوب الاسكندنافية خلال القرن 3هـ/9م. فرغم بعد الشقة وصعوبة الرحلة والتنقل، فقد "وقع امتزاج بشري واحتكاك حضاري بين الطرفين" (ص 160). وقد تمكن الباحث من استغلال بعض الشذرات المتناثرة بالمصادر لرسم بعض الخطوط عن تلك العلاقات، وخاصة من خلال نزول النورمان بأصيلا وبنكور التي مكثوا بها مدة ثمانية أيام (ص 168).
بينما كانت المقالة الأخيرة عبارة عن عرض ومناقشة لكتاب الملكية والإسلام السياسي في المغرب لمحمد الطوزي.
لاشك في أن الكتاب جاء غنيا بمقالاته، وبقدر دسامة المادة المعروضة به، فهو يتيح للقارئ إمكانات عدة لمناقشة مجموعة من الأفكار الجريئة والمشاكسة في آن واحد. وقد عنت لي قراءة الكتاب ببعض الخواطر التي أبسطها ضمن ما يلي:
1- اختار المؤلف عنوانا للكتاب حلقات مفقودة من تاريخ الحضارة في الغرب الإسلامي، وبما أن عنوان أي كتاب هو العتبة التي تسمح بتأشيرة الدخول إلى الموضوع المطروح، فالسؤال المباشر هو: هل نحن فعلا أمام حلقات مفقودة من التاريخ؟ فأن تكون الحلقات مفقودة من التاريخ، معناه أنها غير معروفة نهائيا، أو أنها مطموسة فيتم الكشف عنها. والظاهر أنه باستثناء مقالة "علاقات المغاربة بالشعوب السكندنافية"، فإن باقي المواضيع تمت إثارتها بشكل أو بآخر. كما أن إقحام المقالة الأخيرة التي هي عرض ومناقشة لأحد الكتب، قد لا ينسجم مع طبيعة باقي المقالات، خاصة وأنها تعرض قضايا معاصرة، بل وراهنة.
2- إن مقولة "اقتصاد المغازي" تبدو وكأنها استحضار لمواصفات "نمط الإنتاج الآسيوي" كما أثيرت في أدبيات المدرسة الماركسية، وكما هو معلوم، فمقولة "نمط الإنتاج الآسيوي" لا تعدو أن تكون رسائل تبودلت بين قطبين من هذه المدرسة لاقتراح تجاوز ميكانيكي، وليس جدلي لسيرورة المجتمعات التي لا يندرج تطورها التاريخي ضمن اللوحة الخماسية التي فسرت بها الأدبيات الماركسية حركية التاريخ. ومن سمات هذا النمط استبداد الحاكم وإدارة السلطة المركزية للحرب وضعف تقسيم العمل وضعف المبادلات بين المدينة والريف وركود المجتمع....
لقد جعل الباحث من المعطى الديني والجهادي أحد أبرز مواصفات "اقتصاد المغازي". والواقع أن وظيفة الجهاد هي من صميم الوظائف الشرعية المنوطة بالدولة في الإسلام، ولم تكن مقتصرة على الدولة المرابطية، ولا ينفصم الاهتمام بالجند عن مهامها الشرعية، فيبقى الحكم والجند متلازمين. وقد عبر الطرطوشي عند هذا التلازم بقوله: "الملك بناء والجند أساسه، فإذا قوي الأساس دام البناء، وإن ضعف الأساس انهار البناء، فلا سلطان إلا بجند..." بل إن التلازم بينهما حاضر في كل التجارب. فلا غرو أن يعتبر ماكيافللي أن عدم الاهتمام بفنون الحرب السبب الرئيس في ضياع الملك وأن توسع الممالك إنما ينتج عن اهتمام الأمير بصناعة الحرب. كما أن الباحث يضع هامشية السلطة المركزية إلى جانب المعطى الديني والجهاد باعتبارهما من معطيات "اقتصاد المغازي"، والظاهر أن الجمع بين المعطيين قد لا يتأتى لأن القيام بوظيفة الجهاد يقتضي وجود سلطة مركزية قوية، وهو الأمر الذي تحقق مع المرابطين الذين دشنوا أول حكم مركزي في تاريخ المغرب الإسلامي.
إن حصر موارد "اقتصاد المغازي" في الموارد غبر القابلة للاستثمار، مثل المصادرة وغنائم الحروب وضرائبها يستدعي التأريخ لمالية الدولة ومصادرها، وهو أمر يبدو أنه لم ينجز لحد الآن. ثم إن الأخذ بمقولة "اقتصاد المغازي" قد يترك انطباعا عن الدولة المغربية الوسيطية قوامه أنها عاشت دوما في وضعية حرب، ولم تنعم بفترات السلم، وبالتالي بالظروف المشجعة على الإنتاج والعمران. فقد حققت إنجازات مهمة في تاريخ المغرب الوسيط ليس بالاستناد على موارد الحرب، وإنما من خلال ممارسة العملية الإنتاجية بكل أصنافها، فبناء الجامع الكبير بفاس –مثلا- في العصر المريني، تم الإنفاق عليه من مال معصرة مكناسة.
3- في موضوع ظاهرة الدين والسلف في المجتمع بالمغرب الوسيط، يبدو أن القراض قدم باعتباره قرضا، فعمليات القرض تفيد مختلف طرق التعامل التي رصدها الباحث من دين وسلف، وأما القراض فهو عبارة عن عقد بين صاحب المال وتاجر عامل. يقدم الأول رأس المال للثاني من أجل استثماره في التجارة حسب اتفاق مسبق يحدد استفادة التاجر العامل من نسبة الأرباح المحققة، كأن تكون الثلث أو النصف أو نحوهما. وفي سياق الموضوع ذاته، خرج المؤلف بمجموعة ملاحظات، من بينها أن عمليات الإقراض ساهمت في "تدبير الشأن التجاري والمقاولات التي لم تكن لتنجح لولا توظيف رؤوس أموال بعض الأثرياء والمتنفذين في المجتمع المغربي" (ص 55)، فهل هو مجرد انطباع وهل تعضد النصوص التاريخية هذا التخريج؟
4- يذهب الباحث إلى أن اللغة الأمازيغية شهدت نوعا من الإقصاء في تاريخ المغرب الوسيط، وهو مما يشي بوجود تصميم مسبق لتحجيمها. والظاهر أن أيلولة هذه اللغة إلى ما آلت إليه بالمغرب الوسيط، إنما ترتبط بخصوصيات التطور التاريخي للمنطقة، وخاصة في باب المطالبة بالحكم. فالتغييب يمارس من الغالب على المغلوب، ولعل التاريخ السياسي للمغرب الوسيط كان تاريخا للعصبيات البربرية. فإذا ما استثنينا مرحلة دخول العرب إلى بلاد المغرب في القرن الهجري الأول، ومرحلة حكم ولاة بني أمية بها إلى العشرينات من القرن الثاني للهجرة، وفترة حكم الأدارسة بفاس، فإن باقي فترات الحكم بالمغرب الوسيط كانت للعصبيات البربرية، وذلك انطلاقا من بني مدرار بسجلماسة وبرغواطة بتامسنا، مرورا بالإمارات الزناتية التي توزعت بالمغرب الأقصى قبيل الحكم المرابطي، ووصولا إلى الدول المغربية الكبرى من مرابطين وموحدين ومرينيين، والتي تأسست على التوالي على عصبيات صنهاجة ومصمودة وزناتة. أما ما يمكن أن يتصور على أنه تهميش في حق اللسان البربري، فلا يعدو أن يكون تحصيلا لمقتضيات سياسية ركنت إليها العصبيات المغربية البربرية الحاكمة لبناء توازناتها وضمان مشروعيتها، فقد حرصت هذه الدول على استعمال اللغة العربية في دواوينها ومراسلاتها، أي على المستوى الرسمي، وكما هو معلوم، فاللغة ذاتها استعملت بدار الإسلام. ومنذ دخول الإسلام إلى المغرب، أصبحت المرجعية الإسلامية بكل مكوناتها هي الكفيلة بتحقيق المشروعية في الحكم.
ولا غرو أن المصادر المغربية تجعل من دخول الإسلام إلى المغرب بداية للتاريخ. وبما أن الدين الإسلامي انتشر بواسطة اللغة العربية، وحملته إلى بلاد المغرب القبائل ذات الأصل العربي، فإن مشروعية الحكم كانت تمر عبر الدعوة الدينية وعبر الانتساب إلى أصل عربي أو ادعاؤه. ولعل من الملاحظ أن الحركات السياسية في تاريخ المغرب الوسيط سواء نجحت في الوصول إلى الحكم أم لم تنجح،استعملت ورقة الدعوة الدينية أو ورقة الأصل العربي، ولم تستعمل ورقة اللسان أو اللغة.
5- رغم أن المؤلف تحفظ حول التفسير البيئي والحضاري الذي يبسطه ابن خلدون عن ارتباط المغاربة بالمذهب المالكي، فإنه يصل بين سهولة هذا المذهب وبين عقلية المغاربة. نتفق مع الباحث في كون منتهى رحلات المغاربة لم يكن الحجاز. لكن إدخال المذهب المالكي إلى المغرب لم يكن متوقفا على الحجاج والطوافين، ذلك بأن رجال العلم هم أكثر من توجهوا إلى المدينة لأخذ المذهب عن مالك. كما أن جاذبية هذا المذهب للمغاربة يجب أن يفسر بعوامل موضوعية ترتبط بخصوصيات المذهب المالكي واختلافاته عن باقي المذاهب. فمن الواضح أنه كان الأكثر قدرة على التوافق مع العقيدة السنية وعلى مواجهة الشذوذ، كما تميز بسعة أصوله وكثرة قواعده، فهي تمزج بين النقل والعقل وبين النص والاجتهاد، مما يجعله قادرا على أن يستوعب المستجدات الطارئة بالمجتمع، فضلا على أن مذهب مالك ليس بمذهب شخص واحد، بل هو حصيلة لاجتهادات مجموعة من الأئمة والعلماء الكبار.
6- إذا كان الاعتماد على المصدر المخطوط أمرا مطلوبا في الكتابة التاريخية، فالملاحظ أن بعض المصادر تم استغلالها في صيغتها المخطوطة، والحالة أنها أصبحت محققة، مثل المعزى ورسالة في تحقيق اتجاه القبلة وبهجة الناظرين. وفي سياق استغلال المادة المصدرية، تغيب أحيانا بعض المصادر الأساسية في موضوعها، كما هو الشأن في المقالات المتعلقة بالعمران، فلاشك في أن كتاب الإعلان بأحكام البنيان لابن الرامي الذي عاش في القرن الثامن الهجري، جمع أهم ما كتب في موضوع العمران، ثم أضاف إلى كل ذلك تجربته الشخصية لأنه كان من أهل البصر والمعرفة في الميدان.
7- عقد الباحث مقارنة بين تاريخ وجدة الوسيطية والمدينة الأوربية، وإذا كانت المقارنة مطلبا مفيدا في الكتابة التاريخية، فإنها تستوجب ما يمكن أن يقارن. وما قدم من معطيات مقارنة بين وجدة والمدينة الأوربية، يبدو أنه مطالبة بتوفير شروط تاريخية في تطور وجدة، ما كان لها أن تتحقق إذا استحضرنا خصوصيات مدينة وجدة، بل وباقي المدن المغربية الأخرى، ونعتقد أن المقارنة متاحة مع مدينة مغربية وسيطية واحدة هي مدينة سبتة التي سار تطور مؤسساتها السياسية والاقتصادية في اتجاه يذكر كثيرا بما عرفته المدينة الأوربية في العصر الوسيط، ولاسيما على عهد الأسرة العزفية.
وفي سياق المقالة نفسها، أورد المؤلف بعض التفسيرات عن أصل تسمية وجدة تأكيدا لعلاقة هذه التسمية بالوظيفة الحربية للمدينة. ولعل التفسير الأكثر وجاهة عن أصل اسم وجدة –والذي غاب بالدراسة- هو ذلك الذي يربط بينه وبين اسم قبيلة وجديجة التي كانت تتحرك بالمنطقة. وللكلمة صلة ب "إيوجدي" التي تعني أزهار نبات السدر المنتشر كثيرا بها، حتى إن وجدة عرفت بمدينة "السدرة". (عن هذا التفسير ينظر محمد لغرايب في ترجمته لكتاب وجدة والعمالة لفوانو، ج 1، 2003، هامش 1، ص. 75).
وفي هذه المقالة كذلك، ينعت المؤلف ابن خلدون ب "عالم الاجتماع في العصور الوسطى"، وهذه الصفة كثيرا ما تلصق بابن خلدون، ولاسيما في بعض الكتابات المشرقية التي لا يتردد بعضها في اتخاذ العنوان التالي: "ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع". والظاهر أن العلم الذي تحرك فيه ابن خلدون لم يكن علم اجتماع، وإنما "علم عمران"، وهو إفراز لفكر هذا الرجل الذي عاش في القرن 8هـ/14م. إن ابن خلدون لامس ظواهر اجتماعية بفكر وقاد وغير مسبق، لكنه كانت تعوزه الأدوات التي وظفت لاحقا في علم الاجتماع. فهذا العلم كان محصلة لظروف معينة ولزمن معين. فقد نشأ في القرن 19م بفعل الثورة الاجتماعية التي قادتها الطبقة الوسطى بأوربا على أنقاض ما يعرف بالنظام القديم. ولاشك في أن الأدوات والأسئلة التي طرحها ابن خلدون ليست هي الأدوات التي وظفها أوكست كونت أو سان سيمون.
8- أخيرا في المقالة التي خصصها الباحث لعلاقات المغاربة بالشعوب الاسكندنافية، يبدو أنه باستثناء الحديث عن هجوم النورمان على أصيلا وعلى نكور، فإن معطيات المقالة هي رصد لعلاقات الأندلس بالبلدان الاسكندنافية في فترة كانت الأندلس خارجة عن سلطة المغرب. صحيح أن المؤلف نبه على أنه "يستلزم الأمر دمج وقائع تاريخ المغرب والأندلس معا لإماطة اللثام عن علاقات المغرب مع النورمان أو الدول الاسكندنافية خلال العصر الوسيط" ص 162)، لكن يظهر أن المقالة تحولت إلى تأريج لعلاقة الأندلس بتلك المنطقة الأوربية. فهل كانت قلة المادة المصدرية عن علاقات المغرب مع الشعوب الاسكندنافية وراء هذا الاختيار؟ ثم أليس من الأنسب الحديث عن علاقات الغرب الإسلامي بالدول الاسكندنافية؟.
هذه خواطر عنت لنا من خلال قراءة هذا الكتاب الذي أبان فيه الباحث –على عادته- عن تنوع النوافذ التي يفتحها للنظر إلى تاريخ المغرب الوسيط، وعن جرأة في التفسير، مما يدفع بالضرورة إلى الاطلاع على الكتاب.
المصدر: http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...