السيرة الذاتية للآخر
أثـيـر محمد شهاب |
الدراسات النقدية التي تناولت السيرة الذاتية قليلة، قياسا بما قدم من تحليل ونقد في الفنون الأخرى كـ(الرواية، والقصة القصيرة، والشعر، والمسرح، والرسم)، ومع ذلك تعد المقالات السيرية في الأدب العربي قليلة نسبيًا بما قدم في الآداب الأخرى، وقد أخذ هذا الفن فرصة أكبر في أدبنا مع ما قدّمه طه حسين في (الأيام)، أو (حياتي) لأحمد أمين، أو فدوى طوقان (رحلة جميلة، ورحلة صعبة)، أو جبرا إبراهيم جبرا في (البئر الأولى) أو (شارع الأميرات)، وهي أشكال اتخذت من الذات نقطة للانطلاق (**) إن الرغبة في كتابة السيرة الذاتية محاولة لتعريف القارئ بالمعلومات الممكنة لذات المبدع، تبقى (الأنا) هي المحور الأساس في بناء السيرة الذاتية، على نحو تدريجي، بدءا من الطفولة مرورًا بالشباب وانتهاء بالكهولة، وقد تتعدّى الأساليب، وتكون النهايات مفتوحة بحسب رغبة المبدع في سرد الأحداث بالطريقة والكيفية التي يطمح إليها. وشهدت السيرة الذاتية في الأدب العربي تداخلاً واضحًا مع بقية الفنون (1)، مثل المذكرات واليوميات والرواية- السير ذاتية، بسبب عدم ضبط قواعد هذا الفن، وضياع حدود السارد بين (الأنا) والعالم الخارجي أو الآخر. والنقطة التي تنطلق منها السيرة الذاتية وتعود إليها، هي الذات بما تحمله من خصوصية، فمن أوضح (أسباب وجود العمل الفني، وجود صانعه المؤلف)(2)، إذ يعتقد المبدع حاجة القارئ إلى التعرف على سيرته، وأدبنا القديم يذكرنا ببدايات الاهتمام بتدوين السيرة الذاتية(3)، إذ لم يتوقف التأريخ الإبداعي عند حدود نقل الأخبار عن سيرة الأعلام أو الشخصيات التأريخية، بل ذهب بعضهم إلى تدوين سيرهم وإنجازاتهم، مع ما قدّمه أدب الرحلات من نوع مقارب لأدب السيرة الذاتية(4)، ويؤشر الدكتور إحسان عباس قلقه بشأن تعلّق السيرة بالتأريخ مرّة، والطابع الفني مرّة أخرى(5)، وربما هناك قلق من نوع آخر يتمثل في خطورة ما ستقوله السيرة وأهمية ذلك بالنسبة إلى المستهلك(6). ولا يهمنا ممّا تقدم كلّه التنظير لقوانين السيرة الذاتية وإشكاليتها مع بقية الفنون(7)، بقدر الاهتمام بالنظر إلى ظاهرة جديدة في أدب السيرة لم يتم التطرق إليها والبحث في قوانينها التي تضبطها، إلا وهي سيرة الآخر، التي تتجسد بطريقة السرد وخصوصية الموضوع؛ لأن (اختيار الموضوع قد يكون أصعب ما يواجهه)(8) كاتب السيرة. سيرة الآخر- ضبط المصطلح: والمشكلة الأخرى التي تواجه السيرة الذاتية وتختلف بها عن سيرة الآخر، هو تذبذب الأخبار التي نعني بها كمية المصداقية داخل فعل السرد، إذ (من العبث أن نتصوّر كاتب السيرة الحديثة كائنًا محايدًا)(12)، وهنا نواجه مشكلة البطل في السيرة، إذ إنّ السارد في السيرة الذاتية بطل إلى حدٍّ كبير، في حين لا يكون بطلاً في سيرة الآخر؛ لأنّ وجهة نظر الآخر التي نقرؤها قد تكون (مصدر غرور أو كبرياء باطلة أو مصدر أشياء أخرى)(13)، وهذا كلّه يعتمد على مفهوم الصدق والكذب في طبيعة الإخبار، والصورة الذهنية التي تشكلت من الذاكرة التي (تمثل أحداثًا مضت)(14)، وتفترق سيرة الآخر عن السيرة الغيرية التي نظّر إليها كثير من النقّاد(15)، في درجة القرابة مع الذات الإبداعية، إذ إنّ كُتّاب السيرة الغيرية أغلبهم يبتعدون عن صاحب السّيرة في التأريخ والزّمان والمكان، والقربى، ويعتمدون في تدوين السيرة على ما تناقلته الكتب أو الروايات سواء كانت مدونة أم شفاهية، مثل سيرة الأعلام أو السّيرة النبوية لمحمد بن إسحاق، بطريقة وصفية (وصف حياة شخص)(16)، وضمن هذا المنطق للسيرة الغيرية سوف نكون مهتمين بدرجة الموضوعية في تدوين سيرة من نرغب فيه من الشخصيات خارج الأطر الآيديولوجية، أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية (فإن خير ما يفي الشخص العظيم حقه الطبيعي، هو أن نحسّ بأنّ شخصيته إنسانية وقريبة من شخصيتنا)(17)، ومع ذلك تبقى الحقيقة والموضوعية نسبية من شخص إلى آخر، وتبقى هناك عوامل اجتماعية ودينية وسياسية تمنع من دون انتشار الحقائق والصدق –بالنحو المطلوب- والاعتراف داخل بنية السيرة(18)، فإذا فقدت السيرة الصدق المطلوب فقدت قيمتها(19)، وبذلك تتحوّل السيرة الغيرية إلى تدوين فعل تأريخي لشخصية ما، وتتحوّل كلّ الأشياء إلى هوامش أمام مركزية الذات، إذ (أحداث الفترة تبدأ وتنتهي به)(20)، ومن هذا المنطق لا بد من إيضاح مصطلح سيرة الآخر وضبطه تلك التي نعني بها أن تكون درجة القرابة ما بين الذات الإبداعية والذات الكاتبة قريبة من بعضها، وأقرب مثال: هو أن تقوم زوجة كاتب بكتابة سيرة زوجها، أو أن يقوم زوج بكتابة سيرة زوجته، وهنا نحصل على ذاتين في ذات إبداعية، ولا نقصد باتحاد الذاتين فقدان هوية إحداهما كما يقول دوبار(21)، بل الحصول على هويتهما المختلفة عن طريق سرد سيرة إحداهما، ونحتاج في ذلك إلى التعرف على من يقوم بالتدوين والمقصود بالسيرة، ودرجة الاقتراب والقرابة تكون في أن الذاتين قريبان من بعضهما، ضمن حدود زمان ومكان وروح واحدة، وهذا يدلّ على أنّ الحقيقة التي نرغب في الحصول عليها تختلف من حيث الاقتراب والابتعاد من الذات الإبداعية التي نرغب في قراءة سيرتها، وهو أمر يختلف عن توصيف الأديب بالمصور الفوتوغرافي (الذي لا يستطيع أن يلتقط صورة إلا عن بعد معيّن)(22)؛ لأن الاقتراب يفضي إلى تشوّه الصّورة، ولكن في هذا النوع نحتاج إلى الاقتراب، حتى يتسنى لنا معرفة الذات ومعرفة حقيقة قائمة على أساس المعايشة والاندماج، وأعتقد أن أقرب نقطة لتسجيل ذلك، هي الزوجة التي تدوّن هذا الأمر، ولعلّ أفضل من قام بتدوين سيرة مبدع، هو ما قدّمته عبلة الرّويني في كتابها (الجنوبي) عن سيرة الشاعر الراحل أمل دنقل(*)، أو ما قدمته آنا غريغوريفنا(**) عن دستويفسكي، على الرغم من تسمية سيرتها بالمذكرات، ويعود ذلك إلى أن تسمية السيرة الذاتية قد استقرت مع بداية القرن التاسع عشر، وهي في سيرتها لزوجها بعيدة كل البعد عن اشتراطات المذكرات. وتنطلق الرغبة الحقيقية التي تدفعنا إلى قراءة سيرة الشاعر أمل دنقل (الجنوبي)؛ من السعي إلى معرفة جماليات التأريخ لشخصية الشاعر، فـ«الحقائق المتعلقة بحياة رجل عظيم ما تخبرنا في أحسن الحالات عن المناسبة الخاصة التي أنجز فيها شيء عظيم ما»(23)، وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال مهم وجوهري، هل فحص السيرة الذاتية، قراءة تأريخية أم أدبية لسيرة مبدع؟ وأعتقد أن هذا يدخلنا في إشكالية مصطلح السيرة الذاتية بين التاريخ والتخييل، بين الرغبة في نقل الحقائق والدخول في منطق الخبر الذي يحمل الصدق والكذب، وبين الإحساس باللغة وجمالياتها في التعبير عن ذات المبدع. إن الصدق الذي نرغب فيه ونطلبه في السيرة الذاتية، هو نوع من أنواع الإخلاص للكتابة، فما «يميز السيرة الذاتية من الرواية ليس هو الدقة التأريخية المستحيلة، ولكن النيّة الصّادقة فقط»(24)، التي توافر متعة خاصة بعيدة عن منطق التناقض، فكثير من الكُتّاب، حينما يكتبون إنما يحاولون أن يكونوا على غير ما هم عليه في سيرهم الحقيقية، ونحن -في ضوء ذلك- مطالبون بمتابعة الوثائق والحقائق والشهادات من أجل التأكد من مصداقية صاحب السيرة الذاتية أو سيرة الآخر، حتى لا يصنع من نفسه بطلاً، ويضخ النّص بكمية من المعلومات الملفقة. وتعدّ سيرة الجنوبي التي قدمتها عبلة الرويني؛ محاولة للاعتراف الضمني بالمعاناة الحقيقية التي أصابتها عن طريق الاقتران بالمحارب الفرعوني القديم (أمل دنقل)؛ لأن الاعتراف في بعض الأحيان، هو إعادة لإنتاج الخطأ، على خلاف السكوت عن الاعتراف، بمعنى أنها ركزت على إنسانيته في بعض الجوانب، فمن لحظة الاقتران ثمة مثبطات أفضت إلى تجاوزها، على الرغم من أن وجودها يمثل حالة للتعبير عن المدح السري لكاتبة السيرة، أو التعبير عن صعوبة الارتباط بشخصية لها مثل هذا الوضع والمزاج. تلخص اللقاء بدنقل، عندما قال أحد جلساء مقهى ريش: «إنها ليست منا ... يومها بكيت دون أن أفهم أو أسأل، ماذا تعني (منا) هذه، وكيف يتوحد الرجل مع أمل دوني .. قلت للرجل الذي لا أعرفه: أنا منكم .. في هذا اليوم قرر أمل ألا يحادث هذا الشخص لأنه أغضبني، وقبّلني في رأسي مؤكدًا علنًا، لست مطالبة بالدفاع أمام أحد على الإطلاق .. إنك تنتمين إلى قلبي»(25)، والقول بأنّك (لست منّا) إشارة إلى فضح الطبقية التي أعلنتها بصورة غير مباشرة ما بين طبقة أمل وطبقتها البرجوازية التي لا يحتاج القارئ إلى معرفتها، ويستمر الاعتراف بالمعاناة ضمن بنية السيرة الذاتية في الفصول الاخرى، بدءًا من رحلتها إلى الصعيد والاختلاف في الأزياء والطبائع مع تلك البيئة وانتهاء بمرض السرطان الذي أصاب دنقل(26)، وهذه الرحلة تؤكد طبيعة الوظيفة للمتن السيري الذي سعت إليه عبلة لتبين حجم المعاناة مع شاعر كبير، له مزاج كبير، ومرض كبير، وأحزان كثيرة؛ لأنّ عمق الاندماج ما بين الذاتين سوف يفترق في لحظة ما من أجل البحث عن «الهوية السردية لكل فرد يتطلب تطلبا حيويًّا فترات من الوحدة، ضرورية لإعادة استحواذه على تأريخ أشخاص»(27). سيرة الآخر.. والمحارب الفرعوني القديم وقد وفّر الزواج والاقتراب الروحي لعبلة الرويني من أمل دنقل فرصة للتقرب منه، والتعرف عليه بصورة يصعب فيها التعرف عليه من كثير من المبدعين الذين وجدوا إشكالية في فهم شخصية أمل دنقل «فوضوي يحكمه المنطق، وبسيط في تركيبة شديدة، وصريح وخفي في آنٍ واحدٍ، وانفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبدًا»(29)، فهو شاعر مزاجي جمع بين المتناقضات (الحكمة والفوضى، والبساطة والغموض، والصراحة والخفاء، والانفعال والحكمة) التي أسهمت في تكوين سيرة غامضة لأمل دنقل، على النحو الذي لا يوفّر جمع منطق الصدق والصراحة سيرة مميزة «الإصرار على الصدق والرغبة في الجمال مطلبان متناقضان»(30)، ومع هذا التصور، نجد أن الكتابة عن قضية المرض وما يتعرض له المبدع، والمزاج الذي يحكمه هو الذي وافر للنص جمالية من نوع خاص ومتفرد، أبعد النص عن المقولات الجاهزة التي قدمتها التصورات النقدية في عدم قبول النص الذي يجمع صدق القول، والإحساس بالجمال. السلبي في سيرة الآخر: «يقرأ في أيّ مكان شاء في استغراق تام وسط مجموعة من سهرة أو وحدة»(37). «لا يوجد له عنوان محدد، مقهى ريش، اتيليه القاهرة، دار الأدباء»(38). «تعجبت مرّة أخرى من هذا الموقف الصعيدي جدًّا بشاعر خرج على الشيوعية والقوانين وكاسر لكل التقاليد والعرف العام»(39). وإذ نضع السلبيات التي تقدمه جانبًا بوصفها جزءًا من سلوكيات عامة يتصف بها الأدباء والفنانون، يأخذنا المقطع الأخير لتأشير قصدية في تحديد مسارات سلبية عن شخصية أمل، بالانتماء إلى الجذر الصعيدي الذي جاء منه، ولعل قولها كلمة «تعجبت مرّة أخرى من هذا الموقف الصعيدي» دلالة على تشخيص الحالة السلبية (لمرة ثانية)(40)، في سرد شخصية أمل دنقل. وأصبح عرض السلبيات والمتناقضات في سرد السيرة للمبدع عن طريق الآخر سمة أسلوبية تهمين على مجريات البناء باستغلال ضمير الغائب (هو) الذي يمثل في الوقت نفسه ضمير المتكلم للآخر المندمج معه (أنا) عبلة الرويني، فقد تجذر هذا الأسلوب في أكثر من مكان، لذلك وجدنا الأخبار حاضرة «فوضوي يحكمه المنطق»(41)، «أرستقراطي يشبه نفسه»(42)، «عاشق للحياة»(43)، «استعراضي يبحث عن لفت الأنظار إليه»(44)، «صعيدي حدّ النخاع»(45). ويأخذ التوزيع السردي لشخصية أمل دنقل مقدمة الكتاب محاولة من الآخر زرع صورة قلقة للشاعر، وهو أسلوب لا يختلف عمّا قدمته زوجة ديستويفسكي في رسمها لشخصية زوجها بالمقامر الكبير(46)، ويظهر أن الصفة التي تمتاز بها الشخصية الساردة (أنا) الآخر تأخذ حيز المراقبة في بداية حياة الاندماج بالآخر (هو) الذي يمثل نقطة عدم تعرف في بداية علاقة ملتبسة، ولكنها تأخذ بالوضوح ورسم صورة البطولة –بعد ذلك- على أساس تحقق فعل الاندماج. الإيجابيات وتحولات رسم الشخصية: ولو دققنا ديوان (أوراق الغرفة 8)(55)، الذي يمثل سيرة ذاتية شعرية لأمل دنقل، لوجدنا هيمنة الزمن الماضي، وهو جزء من بناء سيرة ذاتية، وحضور التأريخ تارة والمكان تارة أخرى. وقد تمثل الحضور التاريخي بالاسترجاعات التي قام بها أمل عندما بدأ ينظر في صورة قديمة له، تعيده إلى الماضي الذي جاء منه، صورة عائلية تستحضر الماضي، ومع ذلك يشير إمبرتو إيكو إلى أنه «لا يمكن أن أبدأ رواية قصة حياتي دون أن أشير إلى والدي، فقد أثر طبعهما وحنانهما في تربيتي وفي استعدادي الفيزيقية»(56)، والأخذ بالماضي والاسترجاعات عن طريق الشعر يعود إلى تنشيط عمل الذاكرة لرسم صورة سيريه له، إذ «يرتبط إدراك العمل الأدبي ارتباطًا وثيقًا بعمليات الذاكرة»(57)، على خلاف السرد الوصفي الذي لا يرتبط بالذاكرة. إن كثرة الفعل الماضي (كنت، كنا، كان) يمثل لحظة لسعادة ستنهار بعد أيام، بسبب مرض السرطان، وفي الغرفة رقم (8) التي جاء حضورها بنحوٍ يدلّ على الاهتمام بها بطريقة تشكيلية ماضوية على الرغم من حضوره الآني في تلك المدة، وفي قوله: «في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض لون المعاطف أبيض» (58) فمحاولة تأثيث القصيدة باللون الابيض، اقتران سببي بالإحساس واقتراب الموت الذي سوف يزوره بعد أيام، ومع كل هذا الذي قلناه في سيرة الموت، تبقى ظاهرة الموت في السيرة تؤدي دورًا جوهريًا عند نخبة القراء، في حين تقل أهميته عن الوعي الذاتي(59)، وأعتقد أن هذا التصور النقدي يأتي من عدم إدراك أهمية من نحن بصدد الاستماع إلى سيرته. من أكثر الاشياء التي حفل بها كتاب (الجنوبي)، هو الصراع السيري بين سيرة الآخر على لسان عبلة الرويني، والسيرة الذاتية لأمل دنقل، وهو صراع مثّل خصوصية مميزة في متن هذا الكتاب، قلّما وجدنا له نظيرا عند كتّاب السيرة، ولعل الصراع يتمثل في حضور طاغٍ لـ(أنا) السارد عبلة الرويني في طريقة سردها لحياة أمل دنقل منذ بداية الكتاب إلى نهايته، وظهور صوت أمل دنقل بكل أبعاده عن طريق الإفادة من التمييز اللوني للخط، إذ سعت عبلة السارد إلى تنشيط السيرة بصوت صاحب السيرة والمقصود (أمل) عن طريق وضع سمات خاصة للخط تثبت أن هذا الكلام والصوت هو للشاعر نفسه، وبذلك تثبت حضور الشاعر الذي سوف يغادرنا بسبب المرض بعد قليل، ومع ذلك لم يكن هذا الحضور بالمستوى المطلوب، إلا شعريًّا او تمردًا، وإذا أردنا حساب حضوره، فيكون مؤلمًا جدًّا يؤكّد ضعف صوت المتناقضات، القوة/ الضعف، والحب/ الكره، مع هذا كلّه نجد صور الشخص الذي لا يداري الآخرين في مشاعرهم حاضرة في حواره، حينما زاره أحد الأصدقاء المغاربة (وهو أعرج) إلى المشفى، وهي المرة الأولى التي يلتقي فيها بأمل، قال له: «أهلاً يا أستاذ أمل - أهلا يا أعرج»(60) وحاولت عبلة تبرير ذلك، بقولها: «إنه يكسر المسافات دائمًا، وإن بدأ التكسير حادًّا بهدف الاقتراب.»(61) هذا الاقتراب لا يختلف عن اقترابها من أمل ومعرفة تفصيلاته كلّها على المستوى الاجتماعي والسياسي والطبي «على كاتب السيرة ألاّ يكتفي بمعرفة أمراض من يكتب عنه، وإنما عليه أيضًا أن يعرف أطباءهم وما وصفوه من أدوية»(62)، وعندما سكنا الغرفة رقم (8)، في معهد السرطان، تحوّلت من ساحة الحزن إلى مكان للأمل، فعندما دبّ الحزن واليأس بسبب تفاقم المرض، قالت له: يجب أن يكون لدينا أمل، فأجابها: «- منذ متى أصبحت حكيمة - منذ أن جاورت الحكيم» وبالفعل كل غرف معهد السرطان كان يسكنها يأس ودموع، والغرفة رقم (8) كان يسكنها (أمل)(63)، وتزداد المقولات لأمل دنقل حدّة، عندما يأخذ المرض مساحته على جسده، يسأل عبلة: «ما الذي تفعلينه بعد موتي - لا شيء مثلما تفعله أنت بعد موتي»(64). هذا التشتيت لفكرة الموت هو جزء من فهم عام استطاعت عبلة الرويني تجاوزه حتى يستطيع الشاعر التفكير بأشياء أخرى أكثر أهمية. وربّما القدرة التي لا يمكن أن تتصور، هو تحول المريض (دنقل) إلى سلطة قوة أمام انهيار الإنسان السليم (عبلة)، وهي قوة جعلت صورة المريض أكثر تحملاً من السليم نفسه، وذلك عندما أعلن الطبيب إصابة امل (بالتراتوما)، وصراخ عبلة على الطبيب «اندهش الطبيب من سلوكي العصبي الحاد! .. وبينما أخذتني طبيبة أخرى إلى خارج الغرفة همس أمل إلى الطبيب .. لماذا كنت قاسيًا معها إلى هذا الحد .. كان يمكن أن تخبرني وحدي»(65). إن الشعور الذي أعلن فيه الطبيب المرض الخطير بشكل صريح، هو جزء من تصور سلوكي قائم على أساس الاختبار، يقول: اهتمام الأطباء بالمرضى الذين سيكون مصيرهم الموت أقل إنسانية من المرضى الذين لديهم أمل(66). هذا من جانب، ومن جانب آخر، على الرغم من التنوع في طبيعة الصراع الصوتي بين شخصية أنا السارد/ عبلة الرويني، والمقصود بالسيرة/ أمل دنقل، ثمة امتياز خاص حقيقته أنا/ السارد، حينما تقوم بتهشيم صورة الزمن والتتابع ضمن بنية السيرة، بحيث نجد أن فصول السيرة غير مهتمة بملاحقة بعضها بعضًا على نحو ما تقدمه الرواية، لذلك امتازت عنوانات الفصول باختيارات أقرب إلى الامتياز الشعري التخييلي. الزمن خارج قوس التراتبية: خلاصة: وجاء ربط البطولة عندما تم الاقتران بأنا/ المتكلم- عبلة، وأعتقد على الرغم ممّا قيل كلّه يصعب تصور سيرة ذاتية لأمل دنقل عن طريق كتاب (الجنوبي) إلا محاولة لتصوير جوانب انفعالية أكثر منها سيرية، ومع ذلك أعتقد أن الهيمنة التي تميز بها الكتاب قد تتمثل في الإصرار على سلطة اللغة الأدبية على حساب المتن التاريخي، والعنوانات الداخلية دليل على ذلك، مثلاً (البحث عن المحارب الفرعوني)(74)، و(وسادة المتعب)(75)، و(أول الفقراء)(76)، و(جمهورية الصعيد)(77)، و(مأساة السمك النادر)(78)، وهذا يؤشر رغبة أنا/ السارد في دخول المنطق التخييلي على حساب النقل المعلوماتي التسجيلي، فالزمن التفصيلي الذي تكونه عبلة غير قابل للمنطقية، فهي تنتقل من فصل إلى فصل آخر ضمن لحظات مختلفة، وهذا يدل على تحطيم الزمن السيري(79) مع وجود زمن عام يحكم البناء منذ التعرف على بعضهما، ومن ثمّ الزواج فالموت، ولكن هذا تراتب (زمن عام) غير مقبول ضمن متن الزمن التفصيلي. من جهة أخرى حينما أرادت الكاتبة/ عبلة أن تسجل تولد الشاعر اكتفت بالحوار الذي دار معه قبل أن يتزوج بها، من دون أن تزودنا بصورة من بطاقته الشخصية في متن الكتاب، إذ قالت عن طريق الحوار الذي دار بينهما نشرته إحدى الصحف المصرية (جريدة الأخبار): «الاسم: محمد أمل فهيم محارب دنقل المهنة: شاعر، قانون الصدفة يحكم علاقته بالشعر»(80) وهو أسلوب لا يكشف تقريرية المعلومات وصحتها بقدر ما يسعى إلى بث الجانب الإبداعي في سيرة تقريرية للشاعر أمل دنقل، وإجابته: «شاعر قانون الصدفة» يهدف المنطق التقريري الذي ابتدأ به الحوار لمعرفة السيرة التقريرية الواضحة للشاعر، ولكن تبقى سلطة المخيلة هي المحرك الأساس لسيرة أمل بدليل في موقع آخر من الكتاب، تقول عبلة: «ولا أدري إذا كانت ثقافته الدينية في تلك المدة المبكرة من حياته هي التي فرضت عليه نشاطه الديني، من إلقاء خطب الجمعة في المساجد»(81)، فقولها: (لا أدري) يمثل لحظة ضعف حقيقية في كشف سيرة/ البطل الذي نرغب في تدوين سيرته، وعدم الدراية يؤكد غموض الكثير من المعلومات لـ(أنا) السارد/ عبلة، مع تأرجحها في مناطق أخرى على طبيعة الكتب التي شكلت ثقافة أمل «ويظل برأي كتاب القرآن والكتاب المقدس بعهديه»(82)، ويظهر أن سلطة السيرة لم تمثل حقيقة مطلقة مع الاقتران الزوجي بين الاثنين. سيرة (الجنوبي قراءة) لسيرة شاعر عاش بين نارين، نار العوز، ونار المرض، بأسلوب سردي يثبت للسارد خصوصية في التخييل على حساب الحقيقة لمنطقية السيرة.
كلية التربية للبنات – جامعة بغداد الهوامش: (**) لم تنتشر عبارة السيرة الذاتية إلا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وقبل ذلك كانت تسمى بالمذكرات: ينظر: أدب السيرة الذاتية، د.عبد العزيز شرف، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1992: 38. 1. ينظر: أدب السيرة الذاتية، د.عبد العزيز شرف: 37. 2. نظرية الأدب، أوستن وارين، رينيه ويليك، ت. محيي الدين صبحي، مر. د.حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ط3، 1972: 93. 3. ينظر: أدب السيرة الذاتية: 57. 4. ينظر: فن السيرة، د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ط2، د.ت: 7-10. 5. ينظر: م.ن: 19. 6. ينظر: أزمة الهويات، تفسير تحول، كلود دوبار، ت.رندة بعث، المكتبة الشرقية، بيروت، ط1، 2008: 357. 7. ينظر: أوجه السيرة، أندريه موروا، وأدب السيرة الذاتية، د.عبد العزيز شرف، والسيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر، أمل التميمي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005. 8. أوجه السيرة، أندريه موروا: 48. 9. ينظر: أدب السيرة الذاتية: 116 وما بعدها. 10. أزمة الهويات: 154. 11. ينظر: الحب في التراث العربي، د.محمد حسن عبد الله، عالم المعرفة (36)1980: 135. 12. أوجه السيرة: 22. 13. اشكال الزمان والمكان في الرواية، باختين، ت.يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1990: 86. 14. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة، كامل المهندس، مكتبة لبنان ناشرون، ط2، 1984: 172. 15. ينظر أدب السيرة الذاتية: 3، وينظر: سيرة جبرا الذاتية، خليل شكري هياس، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة الموصل، 2000: 19. 16. ينظر: أدب السيرة الذاتية: 3. 17. أوجه السيرة: 27. 18. ينظر: السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر: 176. 19. ينظر: فن السيرة، د.إحسان عباس: 74. 20. أوجه السيرة: 82. 21. أزمة الهويات: 161. 22. سيكولوجيه الإبداع في الفن والأدب، يوسف ميخائي أسعد، دار الشؤون الثقافية، الهيأة المصرية للكتاب: 116. (*) الجنوبي، عبلة الرويني، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ط3، 2006. (**) دستويفسكي في مذكرات زوجته، آنا غريغويفنا، ت.د.هاشم حمادي، دار طلاس،سورية، ط1، 1989. 23. الرواية التاريخية، لوكاش، ت.صالح جواد كاظم، منشورات وزارة الثقافة والفنون، جمهورية العراق، سلسلة الكتب المترجمة (49)، 1978: 45. 24. أدب السيرة الذاتية في فرنسا، المفاهيم والتصورات، فيليب لوجون، ت.ضحى شيخة، م.الثقافة الأجنبية-العراق، ع (4)، 1984: 30. 25. الجنوبي: 54. 26. م.ن: 81-145. 27. أزمة الهويات: 161. 28. الإبداع في الفن، قاسم حسين صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، 1986: 22. 29. الجنوبي: 9. 30. أوجه السيرة: 37. 31. ينظر: الإبداع في الفن: 57. 32. سيكولوجيه الإبداع في الفن والأدب: 92. 33. نظرية الأدب، اوستن وارين، رينيه ويليك، ت. محيي الدين صبحي، مر. د.حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ط3، 1972: 103. 34. نقلا عن: م.ن: 98. 35. الجنوبي: 9. 36. م.ن: 11. 37. م.ن: 11. 38. م.ن: 11. 39. م.ن: 104. 40. م.ن: 16. 41. م.ن: 9. 42. م.ن: 9. 43. م.ن: 10. 44. م.ن: 13. 45. م.ن: 16. 46. ينظر: دستويفسكي، في مذكرات زوجته. 47. أوجه السيرة: 30. 48. ينظر: م.ن: 9. 49. الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، مكتبة مدبولي، د.ط، مطبعة أطلس، 1995: 440. 50. ينظر: م.ن: 429-485. 51. طبيعة السيرة، م.الثقافة الأجنبية، الثقافة الأجنبية، ع (4)، 1984: 219. 52. الجنوبي: 117. 53. م.ن: 117. 54. م.ن: 117. 55. الأعمال الشعرية الكاملة: 429. 56. 6 نزهات في غابة السرد، إيكو، ت.سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005: 197. 57. شعرية التأليف، بنية النص الفني وأنماط الشكل الفني، أوسبنسكي، ت.سعيد الغانمي، مر. ناصر حلاوي، المجلس الأعلى للثقافة، 1999: 86. 58. الأعمال الشعرية: 440. 59. ينظر: أشكال الزمان والمكان، باختين: 87. 60. الجنوبي: 84. 61. م.ن: 84. 62. طبيعة السيرة، مجلة الثقافة الأجنبية: 217. 63. الجنوبي: 126. 64. م.ن: 146. 65. الجنوبي: 158. 66. ينظر: قلق الموت، د.أحمد محمد عبد الخالق، عالم المعرفة الكويتي (111) 1087: 45. 67. الزمن في الأدب، هانز ميرهوف، تر: د.أسعد رزوق، مر. العوضي الوكيل، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1972: 10-11. 68. أشكال الزمان والمكان في الرواية، باختين: 82. 69. الجنوبي: 71. 70. م.ن: 72. 71. م.ن: 73. 72. ينظر: أدب السيرة الذاتية، د.عبد العزيز شرف: 147. 73. ينظر الرواية التاريخية، لوكاش: 446. 74. الجنوبي: 19. 75. م.ن: 25. 76. م.ن: 53. 77. م.ن: 103. 78. م.ن: 115. 79. أشكال الزمان والمكان في الرواية، باختين: 82. 80. الجنوبي: 23. 81. م.ن: 71. 82. م.ن: 73. |