نجاح الحوارات التلفزيونية الاجتماعية

بشار إبراهيم

 

تستطيع البرامج الحوارية الاجتماعية النجاح، بعيداً عن التماس مع الشأن السياسي، مباشرة أو مواربة، وذلك عندما تتمكن من مقاربة الموضوعات الاجتماعية، التي تتعلق بحياة الناس اليومية، واجتماعهم، وقدرتهم على ممارسة الحياة، بهموم أقل، وآمال أكثر.
ويمكن للمرء الانتباه إلى أن عدداً من برامج الحوار الاجتماعي استطاعت تحقيق النجاح، والمتابعة الجماهيرية الواسعة، انطلاقاً مما تثيره هذه البرامج من موضوعات وقضايا، ومما تناقشه من هموم ووقائع. 
إن تجربة برنامج من نوع (السالب والموجب)، الذي كان يبث على شاشة التلفزيون السوري، في عقدي السبعينات والثمانينات، مثلاً، تشير إلى طراز هذه النجاحات التي قامت أولاً وتالياً على تسليط الضوء على شؤون اجتماعية، يجد المشاهد صداها في حياته الخاصة، وتجربته المعيشية.
وراهناً، يمكن القول إن كثيراً من حلقات البرامج الحوارية، أو الفقرات المفتوحة، تشهد متابعات جماهيرية وتفاعلاً ملفتاً، عندما يجد هذا البرنامج، أو تلك الفقرة، طريقة ذكية لتناول ما يهم الناس، في حياتهم اليومية، وشؤونهم الخاصة والعامة.
ثمة الكثير من حلقات برامج حوارية متنوعة، ما بين السياسة والثقافة والاجتماع، من طراز (العاشرة مساء)، أو (90 دقيقة)، أو (واحد من الناس)، وغيرها، تبقى في بال المشاهد وذاكرته، ونخص بالذكر الحلقات التي تناولت، مثلاً، معاناة الناس في الحصول على كأس ماء شرب صالحة، أو رغيف الخبز، ومشكلات من طراز التسول، أو التحرش، أو البطالة، أو الضرب في المدارس، وكذلك مسائل هجرة الشباب، والعزوبية المتأخرة، والعنوسة، والكثير مما يشبه هذه الموضوعات والقضايا، وغالباً مع التركيز عليها مباشرة، وفي حدودها العملية، دون النظر إلى الخلفيات السياسية لها.
 عبر عقود مضت من تاريخ المشاهدة التلفزيونية العربية، وربما حتى انطلاقة (موسم الربيع العربي)، كان ثمة ميل راسخ إلى الفصل بين الدين والسياسة، سواء أكان هذا بضغط من السلطات الحاكمة التي ركزت على هذا المبدأ، حماية لهيمنتها المطلقة في ممارستها السيادة، أم بسبب محدودية انتشار الإسلام السياسي لصالح شيوع الإسلام الشعبي.
ويمكن القول إنه خلال قرابة نصف قرن من عمر الشاشة التلفزيونية العربية، كان ثمة عدد من البرامج، بل وحتى القنوات الدينية المتخصصة، التي انصب اهتمامها على الدين بعيداً عن السياسة، فإذا كان من المناسب استذكار مجموعة قنوات (اقرأ)، و(المجد)، و(الرسالة)، سننتبه إلى أنها عمدت إلى التركيز على المفاهيم، والطقوس، والفقه، والعقائد، والممارسات، والفتاوى، دون الاقتراب أبداً من مفهوم الإسلام السياسي، التزمت الدين بوصفه ممارسة فردية، وعلاقة بين المرء وخالقه، وليس ثمة من دور لهذا النوع من البرامج والقنوات إلا حض المشاهد على المزيد من الالتزام بتعاليم الدين، وممارستها.
كان هذا قبل (موسم الربيع العربي)، وقبل أن تنطلق، بشكل متسارع، مجموعات واسعة ومتعددة من البرامج والقنوات الدينية التي جعلت من الإسلام السياسي هاجسها، وعنوانها، إلى درجة أن تحول الدين في منظورها طريقاً إلى الحكم، وتسنم السلطة.
ومما لاشك فيه أن نجاح الكثير من الحركات الدينية في القفز إلى كرسي الحكم، في غير بلد عربي، عزز من انتشار ظاهرة تكاثر رجال الدين، الذين بات همهم الأساس الخوض في الشأن السياسي أكثر من شرح وتفسير الدين، وحض المشاهد على الالتزام بتعاليمه وممارساته. صار من المألوف ظهور رجال دين قدامى أو جُدد، معروفين أو مغمورين، على غير شاشة تلفزيونية دينية متخصصة، أو غير دينية، يخوضون في الشأن السياسي وملابساته.
وفي كل حال، ينبغي القول إن الموقف المنتظر في هذه الحالة أن رجل الدين لن يكون أكثر قدرة على الاستقطاب السياسي من غيره من رجال السياسة، خاصة مع ظهور حالات الانقسام السياسي الحاد. بل إن كثيراً من رجال الدين، الذين خاضوا في السياسة، لم يستطيعوا الحفاظ على حصانتهم التي اكتسبوها كرجال دين، بل غالباً ما جرى التعامل معهم سياسياً قبولاً أو رفضاً، تأييداً أو معارضة.
إذا كان جوهر السياسة هو البحث في طبيعة العلاقات السائدة في المجتمع، ما بين سلطة وشعب، أو رئيس ومرؤوس، أو طبقة حاكمة وطبقات محكومة، فإن السياسة منذ انطلاق (موسم الربيع العربي) باتت شأناً عاماً. ننتبه هنا إلى حقيقة أن الشعوب العربية أمضت عقوداً من القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين، مطرودةً من شارع السياسة. لم يكن من المُتاح حينها للكثيرين ممارسة أي فعل سياسي. بل لطالما ارتبطت ممارسة أي فعل سياسي بأثمان باهظة، تبدأ من المطاردة والاعتقال والسجن، ولا تنتهي عند الحرمان من أبسط الحقوق، بما فيها حق الحياة ذاته.
لا غضاضة في القول إن (موسم الربيع العربي) أشاع فكرة نقيضه لما تم تسكين الشعب عليه، وترويضه طيلة عقود، وهو أن بالإمكان ممارسة السياسة. ربما يكون وهماً أو حقيقة. ولكن في كل حال انتشرت هذه الفكرة إلى درجة أن فئات واسعة من الشباب البعيدين أساساً عن أي انتماء سياسي، والذين على خلو تماماً من أي تجربة سياسية، باتوا في صدارة المشهد.
هل السياسة مركب للشهرة؟.. أم هي قضية العصر؟.. ربما.. ولكن ستبقى فكرة أن بالإمكان للجميع ممارسة السياسة، قيد الامتحان، خصوصاً وأن قوى تقليدية، ومنها قوى نكوصية تاريخياً، محافظة أو رجعية، هي التي تمكنت من قطاف الكثير من ثمار ما جرى في نهر السياسة العربية، على مدى السنتين المنصرمتين!.. وربما ستقوم هي بدورها بعملية إعادة طرد الشعب من شارع السياسة، مرة أخرى!
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك