الأصوليات في الفضاء الديمقراطي

لا أحد ينكر أن الأصوليات لا تعترف بالديمقراطية, حتى وإن وجدت نفسها تتنفس حريتها في مساحات الفضاء الديمقراطي الرحب. هذه حالة تُعرف بها الأصوليات, حتى وإن لم تعترف بها صراحة، خاصة في هذه الأيام التي يتنامى فيها المد الديمقراطي على نحو جماهيري يجعل من المستحيل التصريح بطرح الرؤى المناهضة لهذا المد التحرري الجماهيري العريض.

اليوم لا تستطيع الأصولية الاصطدام مباشرة بهذا المد الجماهيري الشعبوي, لأنه هو الجمهور المستهدف بخطابها الانغلاقي الرخيص الذي لا يروّج إلا في أوساط المحرومين من ثقافة التحرير ومن عادة التفكير.

الأصوليات هي وليدة تراكمات تاريخية من الرؤى المنغلقة على ذاتها، من الرؤى التي تخلق أدبيات التعصب وتستثمر فيها، تلك الأدبيات التي هي النتاج الطبيعي لكل ما تبثه التقليدية الاتباعية الارتجاعية من مقولات الترويع، والترويض، والإخضاع بالاتباع القائم على وأد كل صور الإبداع, لصالح التوجه الشمولي الأصولي العام .

الأصوليات هي التجلي الواقعي للتصورات الشمولية التي تلغي الفرد، من حيث هو كائن مستقل في تفكيره, كما هو في خياراته التي تحدد ماهية وجوده، أي هي العدو الواقعي للتصور الديمقراطي التحرري الذي ينهض على الفردانية، أقصد: التصور الفرداني الذي يبدأ من الفرد, لينتهي بالمجموع، وتحديداً المجموع الذي يتغيا فردانية الأفراد، وليس العكس كما في التصور الأصولي المنكوس.

في مقابل هذا التصور الأصولي المنغلق, نجد الفضاء الديمقراطي هو وليد الرؤى المناقضة / المناهضة لذلك، إنه وليد فلسفة التنوير التي تمثل النقيض لكل ماهو أصولي دوغمائي. فلسفة التنوير التي خلقت الرؤى الديمقراطية ورسّختها في الفكر كما في الواقع، هي فلسفة قامت على هدم التصورات الأصولية المتعصبة ذات النفس الاتباعي، ولم تستطع فلسفة التنوير الفعل في الواقع, إلا بعد أن أنجزت مهمتها في نقل الأصوليات من موقعها الريادي في توجيه الحراك الاجتماعي والسياسي، إلى موقع الهامش, حيث تنعدم فيه قدرتها على التدمير, لانعدام قدرتها على التأثير.

غالبا ما تكون (مصر) هي الصورة المُكبّرة لما عليه العالم العربي في حاضره أو في مستقبله القريب. اليوم تحاول الديمقراطية في مصر، من خلال ممثليها الحقيقيين أو الانتهازيين، استنبات نظام ديمقراطي ضامن للحريات وللحقوق، حريات الجميع، وحقوق الجميع، الجميع بلا استثناء، وبلا تفريق. بينما تحاول الأصوليات، وخاصة الأصوليات المتطرفة الغارقة في مستنقعات التقليدية الاتباعية، استغلال هذا الفضاء الديمقراطي من أجل حسابات أصولية ضيقة، حسابات طائفية ذات نفس صراعي واضح، حسابات لا يمكن أن تنتهي بمصر، مصر الحضارة والإنسان، إلا إلى حيث انتهت طالبان، تلك الدُويلة التي جسّدت في الواقع حكومة الأصوليين, كما تراها وتتمناها وتحلم بها العناصر الفاعلة في التقليدية الاتباعية سواء في القديم أو في الحديث.

انفتاح الفضاء الديمقراطي في مصر الآن، جعل حتى الأعداء التقليديين له، والمصرحين بعدائهم للرؤى الديمقراطية يطفون على سطح الفضاء الديمقراطي المتسامح.

اليوم نرى كيف خرجت أفاعي التقليدية الاتباعية من جحورها المظلمة، وسراديبها المغلقة، من عالمها المستور الذي كانت تبيض وتفرخ فيه منذ أمد طويل دونما رقيب، وفي حالة سكون شبه تام, لتشتبك مع قضايا الرأي العام, ولتطمح بعد ذلك بدور سياسي في الزمن الديمقراطي القادم. وهذا ما عبرت عنه صراحة بما أسمته بـ(غزوة الصناديق)! تلك التسمية التي لا تعبر عن روح المنافسة الديمقراطية السلمية التي تعكس أصل الهوية الديمقراطية، بقدر ما تعبر عن مكنون إلغائي متطرف، مكنون ينطوي على تصورات الغزو والاحتراب والصراع الدامي.

تحاول التقليدية الاتباعية اليوم في مصر أن تخرج إلى ساحة الفعل السياسي المباشر, بعد أن كمنت لعقود تعمل في أوساط الجماهير على نحو يتمظهر بالزهد في كل ما هو دنيوي / سياسي. كانت فيما مضى تسعى، وبأسلوب دعوي سلمي خالص، لتأسيس أرضية من التشدد الذي يخدمها وقت الحاجة، وكانت تدرك أن الضرب على أوتار المفاصلة، والتمايز، والنقاء الطهراني، والاختلاف الشكلاني ..إلخ تلك العبثيات التقليدية التي ترضي غرور الدهماء، وتستفز نزوات البسطاء، هي الطريق الأقصر إلى تطويع الجماهير لها، واستثمارهم لحساباتها الخاصة في فترات الصراع.

التقليدية الاتباعية هي المخزون الأغنى بأدبيات الاحتراب، والأقدر على صنع مقولات الإرهاب. من يجهل حقيقة خطاب التقليدية الاتباعية, لا يمكن أن يدرك أن نهجها (السلمي) الذي كانت تجنح إليه فيما مضى (في زمان ما، ومكان ما)، هو ضرورة مرحلة، تنتهجه اضطرارا, ريثما تستطيع النهوض بما يستلزمه النهج (اللاسلمي = الحربي) من إعداد واستعداد للقتال.

الأصوليات الحركية، وعلى الرغم من كل ما تتسم به من جمود، ونفس ماضوي واضح، ووعي دوغمائي حاد، نجدها - رغم كل ذلك - في موضع الذي يمكن أن تطاوله رياح التغيير بشيء من التغيير، ولو بمستوى (نسبي) معقول في سياق وعيها الخاص. لكن تبقى التقليدية الاتباعية، ومن خلال كونها المرجعية الفكرية المشرعنة لهذا الحراك الأصولي، تشدها إلى الوراء، وتربطها بالثابت، وتُجرّم لها كل تحوّل يحاول أن يتماس مع خطاب التنوير الاصلاحي الذي هو في النهاية خطاب الإنسان.

ظهور تيارات التقليدية الاتباعية في الساحة السياسية، بعد أن كانت في حالة انطواء وانزواء، منحَ الحراك الأصولي المتشدد زخما جماهيريا كبيرا، وجعل له صوتا ذا وزن في المستقبل السياسي القريب.

ولا شك أن التقليدية الاتباعية تستطيع الفعل في الواقع السياسي مستقبلا، لا بذاتها مباشرة، وإنما من خلال تمدداتها الفكرية في الحراك الأصولي الذي يمتلك خبرة نسبية في هذا المجال.

ومهما حاولت التقليدية الاتباعية نفي علاقة الإرهاب بها، أو علاقتها بالإرهاب، فالعلاقة راسخة وقوية برسوخ وقوة المنظومة العقدية الواحدة التي يؤمن بها هؤلاء وهؤلاء. حتى عندما اختصمت / اختلفت التقليدية الاتباعية مع تنظيم القاعدة ظاهرياً، كان الخلاف مجرد اختلاف سطحي على بعض محددات عملية ترتبط بالسلوك الواقعي، ولم يكن ثمة خلاف على المرتكزات العقائدية, بحيث يمكن أن يحدث تمايز حقيقي / جذري لهؤلاء وهؤلاء.

لهذا السبب، لم يكن من المستغرب، وخاصة في ظل هذا الفضاء الديمقراطي الرحب، أن يرثي بعض صقور التقليدية الاتباعية في مصر زعيم الإرهاب الهالك علانية، وأن يصفه بعضهم بالـ(الشهيد)، أو بـ(الشيخ)، أو بـ(أسد الإسلام)، أو بـ(زعيم الجهاد)، ويُعقّب بعضهم على ذكر اسمه بـ(رحمه الله) و(رضي الله عنه).. إلخ عبارات الثناء التي تتخفى في صورة الدعاء!.

بل إن خطورة الأمر تعدّت ذلك، إذ نتيجة تنامي قوة الحضور الأصولي، وحاجة اللاعب السياسي إلى أصوات الناخبين من جماهير التقليدية في القريب العاجل، اضطر بعض كبار المسؤولين في الحكومة المصرية إلى التوقف عن الإشادة بالعملية البطولية التي انتهت بمقتل زعيم الإرهاب الهالك، إذ اكتفى بعضهم بالصمت، وآخرون بـ(كلام حيادي !), وكأن هذا الإرهابي (ابن لادن) لم يرتكب جرائم إرهابية طاولت آلاف الأبرياء من سكان المعمورة، فضلاً عن ضحاياه من المصريين الأبرياء؟

يحدث كل هذا في مصر علانية, حيث الثناء على زعيم الإرهاب، ومن ورائه منظومة الإرهاب، أو التسامح معهم، في الوقت الذي تمارس فيه التقليدية الاتباعية تهييج الفتنة الطائفية (الإسلامية - المسيحية)، على نحو مباشر وغير مباشر، وهي الفتنة التي تهدد مستقبل مصر حقيقة، وكل ذلك من أجل حشد أكبر قدر من الأتباع بإشاعة ذهنية الصراع, حتى يتم استثمارهم (الأتباع) في العمل السياسي الديمقراطي القادم.

ألا يحق لنا أن نتساءل على ضوء كل هذا التنامي لخطاب الأصوليات: أي مستقبل تعد به الديمقراطية القادمة في ظل أجواء سياسية تفعل فيها المقولات المتطرفة أقصى ما تتمناه؟ بل أي مستقبل تعد به الديمقراطية الواعدة في ظل أجواء تتم فيها مغازلة الخطاب المتطرف، الخطاب المناهض - ومن مبادئ عقائدية راسخة - لمعظم الأصول الثقافية التي ينهض عليها العمل الديمقراطي؟ هل سينتهي الخيار الديمقراطي بخيار إلغاء الديمقراطية لصالح خيارات القمع والإلغاء؟

• تنبيه وإيضاح: لقد تعمدت في المقالات السابقة كتابة (بن لادن) كما هو النطق الشائع عالميا, بدل (ابن لادن) المفترضة إملائيا، وهو الخيار الذي اختاره شاكر النابلسي في كتابه عن زعيم القاعدة (بن لادن والعقل العربي) وذكر هناك ما المبررات المقنعة لهذا الخيار..

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك