صراع الهويات.. والفصام السياسي

الكاتب  :  مروان شحادة

 

على ما يبدو فإن إشكالية الهوية وبروز الهويات الفرعية أصبحت أهم ملامح المرحلة السياسية التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية في ظل تراجع المشروع النهضوي الأممي الذي يستند إلى رسالة الإسلام الأممية الذي تحاول حركات الإسلام السياسي والحركات الوطنية والقومية السعي لتحقيقه، كل بحسب وجهة نظره في المرحلة التي أعقبت ما يسمى بـ(الربيع العربي).
بعد سقوط الخلافة، تأسس عدد من الجماعات الإسلامية تسعى إلى إعادة الاعتبار للهوية الجامعة للأمة من خلال استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة دون اعتبار للجنس أو العرق أو الطائفة، واجهت هذه الجماعات دولاً تقوم أساساً على القومية القطرية، فكانت دائرة الانتماء للدولة، وبالتالي للنظام السياسي الحاكم تضييقاً تدريجياً، للتحول إلى الانتماء القومي الجامع المانع، والذي يقوم على فرضية أن كل قومية من القوميات المشكلة للبلدان العربية والإسلامية، هي قومية منفصلة ومستقلة بذاتها؛ ما يعني أن الروابط بين القوميات العربية والإسلامية، تمثل روابط مصالح، وتحكمها اعتبارات الأمن القومي لكل قومية على حدة، ولقد تم تضييق الهوية الإسلامية الجامعة، لتصبح هوية قومية عربية، ثم بدأت القوميات القطرية في البروز على حساب الهوية الجامعة، وهذا ما عززه مشروع (سايكس بيكو) الذي قسم القطر العربي الواحد إلى أقطار متنازعة متنافسة.
 ومن الضروري التمييز بين مسارات مختلفة لتعريف الهوية، فالهوية القومية تخص قوم بعينهم، وتجعل مصالحهم الخاصة هي المحدد لتوجهات الدولة والنظام السياسي، ويتشكل مفهوم الأمن القومي لكل قومية قطرية، لحماية شعب الدولة، وحماية مصالحه، ثم تتعاون الدولة القومية مع الدول المحيطة بها لتبادل المصالح، باعتبار أن التعاون في المحيط الجغرافي يستند إلى المصالح المتبادلة والتاريخ المشترك، وتستدعي مختلف الروابط؛ لتعميق العلاقات مع الجوار، ولكن بهدف حماية المصالح القومية لكل قطر، على قاعدة تبادل المصالح.
هذا النمط يمثل النموذج الغربي، والذي قام على الدول القومية المنفصلة عن بعضها، ثم تحول هذا النموذج إلى مرحلة تأسيس اتحاد القوميات الأوروبية، ففي داخل الإطار الأوروبي العام، توجد قوميات لها خصوصيتها، ولكن أوروبا اكتشفت أهمية تأسيس اتحاد أوروبي، يقوم على حماية المصالح الأوروبية المشتركة، ويستند لما هو مشترك في التاريخ الأوروبي، ولما هو مشترك في الحضارة الأوروبية.
النموذج الآخر، تبنته حركات الإسلام السياسي من خلال تقديم نموذج الهوية الإسلامية الجامعة، وهو نموذج يقوم على أن الهوية الأساسية هي الهوية الحضارية الإسلامية، وكل الهويات الأخرى -إقليمية، إثنية، جنسية، عرقية، طائفية- هي هويات فرعية، وبهذا تصبح الهوية الوطنية والهوية القومية، هويات فرعية، ولا تمثل هوية نهائية، أو هوية جامعة مانعة، بل هي هوية جزئية، أي أنها دائرة من دوائر الانتماء، ولكنها لا تصلح أن تكون دائرة انتماء في حد ذاتها، ولا يمكن الاكتفاء بها، فهي ليست هوية كاملة، بل هوية ناقصة؛ لأنها لا تعرف الفرد تعريفاً نهائياً، بل تعريفاً جزئياً، فأصبحت الهوية الوطنية والهوية القومية، في نظر هذه الحركات، مثل الانتماءات الصغرى، كالانتماء العائلي والانتماء الجغرافي، وغيرها، وهنا برز أن القومية ليست انتماءً في حد ذاتها، ولكنها تعريف لانتماء فرعي، داخل الانتماء الحضاري الإسلامي.
وانطلق الصراع بين ما هو إسلامي وعلماني وغير ذلك بسبب التوظيف الأيديولوجي للدين في السياسة، الذي ينطلق من اعتقاد أن للهوية الدينية (الإسلامية) الحق في الوصاية على الآخرين عبر الهيمنة على فضاء الحياة العامة، وهو اعتقاد يجد سنده القوي في الفقه التقليدي والتفاسير السلفية، وهنا يشتعل الصراع بين الهوية الإسلامية والهويات الدينية والعلمانية الأخرى ليس اعتراضاً مبدئياً على وجود الإسلام كعقيدة وشعائر ووجود المسلمين ككيان له هويته المستقلة، وإنما اعتراضاً على الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يطالب بها المسلمون على مستوى الدولة، لأن هذا التمييز على أساس الدين يتعارض مع مبدأ المساواة في المواطنة في الدولة المدنية الحديثة وهو تمييز تتضرر منه كثيراً المجموعات غير المسلمة في ظل دولة تفتقر أساساً للتوازن التنموي والعدالة في توزيع السلطة والثروة والديمقراطية السياسية والثقافية.
إشكالية الهوية المركزية الجامعة للحركات الإسلامية السياسية مع الهويات الفرعية الأخرى ولد حالة من الفصام السياسي انعكس على سلوك الأحزاب السياسية التي كانت في موقع المعارضة وأصبحت اليوم في السلطة، حيث إنها مازالت تتعامل مع الآخر -العلماني والقومي ولا يتماهى مع أيديولوجيتها- على أساس حزبي ضيق، ولم ترتق لتحمل مسؤولياتها على اعتبار أنها دولة عليها احتواء الجميع على أساس المواطنة والحقوق والواجبات.
ولعل العجز السياسي الذي عانته حركات الإسلام السياسي قاطبة في ظل ممارسات الدولة القطرية المستبدة، ولد حالة من الفصام الهوياتي لديها، ما أوجد حالة من الخلل في تقديم إجابات واضحة بشأن نظام العقد الاجتماعي والتحايل على سؤال الهوية والذي سيشكل حالة من التخبط والفوضى ومقدمة لصدام الهويات المركزية والفرعية داخل الدولة الحديثة التي لم تتضح رؤيتها وهويتها في محاولة منها لإرضاء المجتمع المحلي الممثل بالمواطنين بكافة توجهاتهم وأطيافهم من جهة، وبالغرب ومؤسسات الدولة من جهة ثانية، في ظل تفشي مفهوم (الإسلاموفوبيا)، وتحويل الدول الجديدة إلى دول دينية، لا مدنية. 
إن حركات الإسلام السياسي المعاصرة عليها أن تدرك أن إحلال مشاريع وهمية للدولة المثالية الافتراضية لمجتمع الصحابة في ظل صراعات عميقة بين الهويات المركزية -الجامعة- والفرعية سيشكل أكبر التحديات للانتقال السلس بين العلمانية الصلبة التي عاشتها الأمة العربية والإسلامية لعقود طويلة، وتقديم أنموذج يمثل دولة الإسلام السياسي المعتدلة، وبخاصة أن العالم أصبح قرية صغيرة بفعل تطور وسائل الإعلام وبروز وسائل الاتصال الجماهيري التي تتواصل مع كل الأفراد والجماعات وتسهم في تغيير اتجاهاتهم وسلوكهم بسهولة ويسر.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك