طغيان اللغة المذهبية على النقاش

الكاتب  :  د. بدر الإبراهيم:صفوى

 

يجب بداية توضيح الفرق بين التصنيفات الفكرية والأيديولوجية المبنية على الانتماء لاتجاهات فكرية حديثة ورؤى وبرامج عمل سياسية، ومنها مسميات مثل الليبرالي واليساري وغيرها، وبين التصنيفات المذهبية المبنية على انتماءات أولية أو أصلية تؤتى بالولادة غالباً مثل تصنيف الناس إلى سنة وشيعة. التصنيف الأول يبدو مفهوماً في سياق صراع الأفكار. وإذا كان النقاش خالياً من التعسف في التخوين وتوجيه التهم المعلبة بالعمالة؛ فإن مجرد التصنيف ليس مشكلة، ومن يتصور أن بإمكانه إلغاء هذه التنوعات الفكرية وإلغاء التصنيفات التي تبنى على أساسها يتوهم كثيراً، وهؤلاء إما يعتقدون بأن مجتمعاتنا يجب أن تتوحد على رأي واحد يمثل حقيقة مطلقة، وإما يظنون أنه يمكن أن تتوحد كل الانتماءات تحت شعارات إنسانوية تتحدث عن بشر يتعالون على تنوعاتهم الثقافية والفكرية، وهو ما يطرحه بعض الليبراليين مثلاً، وفي الواقع تقوم الدعوات الإنسانوية تلك - رغم انطلاقها أحياناً من نوايا حسنة – على إلغاء التنوع واعتبار البشر كتلة واحدة وهو ما لا يمكن تصوره أو تحقيقه، وما يشكل أيضاً ضربة للتنوع الثقافي والفكري الذي ندعو للحفاظ عليه ولا نعتقد أنه يمثل مشكلة بذاته.
المشكلة تبرز في التصنيفات المبنية على انتماءات أولية للجماعات الأهلية (الطائفة والعشيرة والمنطقة)، وهذه الانتماءات التي تؤتى بالولادة عندما تتسيد النقاش والفضاء العام تبرز مشكلات كالطائفية والجهوية، وفي مسألة التصنيف تظهر المشكلة حين يطرح المثقف رؤية منطلقة من اتجاه فكري حديث لحدث أو ظاهرة ما فيُحكم على طرحه عبر استدعاء انتمائه المذهبي أو المناطقي، ويظهر هذا الأمر بوضوح مع تصاعد الصراع الطائفي في عدة بلدان عربية، وطغيان اللغة المذهبية على النقاش، ما يعطي الفرصة لاستخدام هذه التصنيفات بشكل متواصل في كل حوار، ونقاش المثقفين في أوقات الأزمات لا يخلو من هذا الاستخدام للتصنيفات المذهبية في التعاطي مع الأفكار، واستخدام هذه التصنيفات يبدو محاولة لتشويه الفكرة عبر حصر صاحبها في فلك انتمائه الأولي، وهكذا فإن التعامل مع الفكرة حسب هوية صاحبها الأولية (المذهبية) تقود إلى تكريس النقاش المذهبي حتى على مستوى النخبة التي يفترض بها أن تتعامل مع الأزمات بشكل مختلف، وأن تفصل بين الانتماء المذهبي والاتجاهات الفكرية والآراء السياسية.
لا ننكر أن هناك من يتحدث في الشأن العام ويعطي آراءه بناءً على هويته المذهبية أو المناطقية، لكن المشكلة حين يكون الطرح على أساس مختلف ويتم البحث عن هوية الشخص المذهبية لوضعه في قالب محدد مسبقاً، ولا يمكن إغفال تأثيرات الأزمات السياسية التي نمر بها على جر النقاش الفكري إلى هذا الوضع من استخدام التصنيفات المذهبية في صناعة الاتهامات المتبادلة، ففي أوقات الأزمات تشتد هذه المسألة وتنمو، وتجر مثقفين من المصنفين في خانة الاعتدال في الطرح، لكن هذا لا يعني أن استخدام هذه التصنيفات يختفي في غير أوقات الأزمات، فالمسألة متعلقة أيضاً بسيادة الهويات الفرعية في الفضاء العام وغياب القدرة على التعبير عن اتجاهات فكرية حديثة بشكل فاعل، ما يفرض الهويات المذهبية كلاعب رئيسي ومادة للسجال الفكري بشكل مستمر.
وما يحدث في الإعلام الجديد هو تعبير عن الصراع الموجود اجتماعياً، والإعلام الجديد لا يصنع المشكلة بل يعكسها فقط، وما نحتاجه ليس ضوابط بقدر ما هي حرية أكبر في التعبير عن الاتجاهات الحديثة في الفضاء العام ووعي أكبر من النخبة المثقفة تترجم بعدم الانجرار إلى اللغة المذهبية في نقاش الأفكار والرؤى.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك