تفكيك الثنائيات الفكريّة العربيّة: الأزمة والمشاريع البديلة
انشغل العرب بهذه الإشكاليّة التي باتت جزءاً من التكوين الثقافي العربي. عدة ثنائيات تطرح في سياق حركة الثقافة العربيّة: العروبة /الإسلام، القوميّة /الوطنيّة، الدين /الدولة، المثقف /السلطة وغيرها من الثنائيات التي تستعصي على الإنسان تحديد أسمائها ومسمياتها.
وقبل تفسير مرد هذه الثنائيات والمشاريع البديلة عنها، لا بد من طرح عدة افتراضات رئيسية تتشكل من التالي:
أولا: أنه لا يمكننا الحديث عن واقع وجود ثنائيّة إلا إذا كان هناك نوع من الصراع الفكري حول شرعيتهما، فمنهم من ألغى أحد طرفي الثنائيّة ومنهم من اختار النزعة التوفيقيّة ومنهم من آمن بالتعدديّة كخيار للتعايش.
ثانيا: لا يمكن تفكيك هذه الثنائيات إلا إذا فككنا ظاهرة الصراع بين الأيدلوجيات أو المشاريع الفكريّة، فهذه الثنائيات نتيجة لتشرذم المشاريع على المستوى العربي، فالإسلاميون لهم مشروعهم الخاص، وكذلك العلمانيون من اليسار والتقدميين واليبراليين، وكل من هؤلاء ينعت الآخر بنعوت تنم عن نرجسيّة فكريّة- إن صح التعبير- حيث نجد أن الإسلاميين ينعتون الآخرين بالمغترِبين والمستلَبين. . . . والعلمانيون بأجنحتهم المختلفة يصفون مخالفيهم- مع الاختلاف بينهم في حدة النقد- بالرجعيّة والتخلف والحنين للتراث.
والسؤال المشروع هل الحديث عن الثنائيات يكرسها؟
ومن الأفضل أن نشتغل بتنمية الإنسان؟
أم أن فض الاشتباك بات أحد مهام المشاريع الثقافيّة العربيّة؟
ماذا أقصد بتفكيك الثنائيات هل أقصد به فك رموز النزاع أم أنني أجنح إلى ضرورة تفكيك هذه الثنائيات للبحث عن هويّة تدمج الثقافة بالكل الجمعي؟
وهل هذه الثنائيات مشكلة خاصة بالمجتمع العربي أم هي مشكلة عامة على صعيد الفكر الإنساني؟
أرى أنه يجب علينا أن نبحث فعليا عن إجابات شافيّة لهذه التساؤلات - في الثقافة الغربيّة خصوصا –
هل فعلا أنّ جدليّة الدين والعلمانيّة تطرحان بقوة في الثقافة الغربيّة كما هو الحال في ثقافتنا العربيّة؟
يمكن القول مبدئيا أن هذه الثنائيات أدت وما تزال تؤدي إلى تحجيم الفكر العربي وأفكار شعوب أخرى كثيرة. وتحدث هذه الثنائيّة في مجالات فكريّة كثيرة لدى شعوب يسود حياتها قدر من الديمقراطيّة مثل شعوب أوروبا الغربيّة والوسطى والولايات المتحدة وكندا وكذلك دول جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. إلا انه ينبغي التأكيد أن حجم الاشتباك يختلف بين مجتمع متقدم ومتخلف بحجم اختلاف الهوة الحضاريّة بينهما.
ومن الواضح انه على الرغم من واقع وجود هذه الثنائيات إلا أن بعض الكتّاب بالغ في تضخيم مشكلة الثنائيّة لدرجة أن احدهم رأى أن من حالات الثنائيّة العربيّة هو الخلاف حول الدور الأمريكي في العراق، ولا عجب أن نقرا من يسطّر لتحليل ثنائيّة قوى الممانعة والاعتدال في محيطنا العربي، ومن الطريف أن أحدهم عنون مقالته بثنائيّة الإقصاء والإخصاء يوصّف بها علاقة السلطة بالمثقف، والتي هي إما نفيه أو سجنه وهذا يمثل الإقصاء وأما إخصاء المثقف فتتمثل في تدجينه لمصلحة السلطة.
ولا بد في معالجتنا لهذه الثنائيات الفكريّة من تفسير عوامل استنباتها في مجتمعاتنا العربيّة حيث نجد أن المثقفين العرب اختلفوا طرائق قددا في تفسير وجود هذه الثنائيات. فيرى سهيل العروسي أن مرد إشكاليّة الثنائيات يعود إلى أن العلاقة بينها هي علاقة ضديّة حينا وحينا آخر غير ضديّة. فإذا تناولنا ثنائيّة المثقف والسلطة فإن الذهنيّة التاريخيّة تنصرف إلى أن شكل العلاقة بينهما عدائي. . . فالسيف والقلم لا يمكن أن يتواجدا في قارب واحد. أما إذا تناولنا ثنائيّة المثقف والمجتمع فنجد أن شكل هذه العلاقة غير عدائي حيث أن الأول ينظر إليه على أنه ينير الطريق للثاني.
لكن توصيف العروسي “التجزيئي” يغفل واقع أن الاشتباك بين هذه الثنائيات هو الذي يعطيها هذا الطابع، وإلا لما كان هنا داع من التعارف على تسميتها بالثنائيات، لا سيما أننا نجد أن بعضا من المثقفين يطلق عليها بالمتضادات والمزدوجات.
ويلحظ تبريرا من العروسي لاعتبار هذه الثنائيات مسألة قديمة في التاريخ العلمي، وربما كانت أولى المتناقضات هي التي وضعها زينون اليوناني عن الحركة والتي تدحض فكرة المتناهي. . . بيد أن استدلال العروسي على المستوى العلمي لا يمكن أن يمتد إلى صعيد الفكر الإنساني، حيث إن العلوم الإنسانيّة لا يمكن ضبطها وتجريبها كما هي في العلوم التجريبيّة، وإن كان العروسي يرى أن التعامل مع هذه الثنائيات عبر العلم كفيل بحلها، وهو استشراف يحتاج منا إلى التأكد ابستمولوجياً إلى مدى واقعيّة قدرة العلم المحسوس على إحكام العلوم الاجتماعيّة والتي تعتمد على النسبيّة وتغير الطبيعة الإنسانيّة، لا سيما أن ما يسمى بالعلم الكاذب كما أسماه “بوبر” يطال حتى العلوم الطبيعيّة، ففي عالم المدركات الحسيّة لا يوجد شيء يتسم بالحقيقة المطلقة.
ينظُر المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري إلى هذه الثنائيات أنها ضد المشروع الحضاري العام، وان الانشغال بها قد أجهد بها الفكر العربي وقسّم وعي الأمة إلى أقسام متضادة بين ثنائيات لا تنتهي مثل العروبة أم الإسلام؟ الوطنيّة أم القوميّة؟ التراث أم المعاصرة؟ ورؤية الأنصاري لا يختلف عليها إثنان إنما الأزمة ما هي الخيارات للخروج من هذه الأزمة الفكريّة العالقة؟ لاسيما أن المشاريع البديلة باتت تعبر عن مشاريع شخصانيّة أقرب إلى المشاريع الأنانيّة، وهي صورة تعكس واقع المجتمع العربي بكافة مؤسساته الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والدينيّة. وأنا أسأل ماذا استفادت الأمة من هذه المشاريع النخبويّة التي غاب فيها دور الجمهور كمشارك فاعل في صياغتها، لذلك أرى أن تعدد المشاريع العربيّة في ظل غياب الفكر المؤسساتي هو سر الأزمة المتمثلة بهذه الثنائيات.
بينما ينظُر مفكر آخر محمد برادة أن هذه الثنائيات ترجع إلى الانفصام الحاد بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني بدلا من تكاملهما، وأضيف لبرادة أيضا الانفصام الحاد بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي العشائري. ولكن أليس أزمة الثنائيات تعبر عن حالة التشرذم الذي يعيشه المجتمع المدني نفسه فمع اعترافنا بغياب الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني إلا أن المراقب يشعر أن هذه المؤسسات تعاني من تعدد خطوطها وتضارب مشاريعها وضبابيّة مرجعيتها فهناك من مرجعيته الدين وآخر المجتمع وآخر السلطة.
أما “علي حرب” فيرى أن هذه الثنائيات تحشر المفكرين في عنق الزجاجة بقدر ما تفرض عليهم منطق الإحراج أي الاختيار بين الأنا والآخر أو بين الخصوصيّة والعالميّة. ورغم عولمة علي حرب لهذه الثنائيات إلا أن بعض الثنائيات تأخذ الطابع المحلي، فالتناقض بين مشاريع العروبيّة والإسلامويّة هي تناقض يتعلق بالذاتيّة الثقافيّة للعرب والتي تمتد إلى التاريخ المبكر وبالتحديد إلى العصر العباسي الثاني حيث كان الصراع بين الشعوبيّة والعروبيّة متجذّراً آنذاك وممتداً لمراحل التفكير العربي المختلفة. أما ثائر ديب فيرى أن منطق الثنائيات يتلخص بالقول إنّ مجتمعنا وثقافتنا منقسمان إلى قسمين : شرقي ذاتي تقليدي جماهيري “أكثرية” والآخر غربي نخبوي “أقلية” والعلاقة بينهما علاقة تضاد واغتراب متبادل. أي أن أزمة هذه الثنائيات- كما نفهم من ديب- يفسر طبيعة العلاقة بين الجمهور والنخبة، “جمهور” يُعبّأ من جهة الحاكم أو من بعض الخطابات التعبويّة التي تتجسد في شكل الإعلام كما قناة الجزيرة، و“نخبة” خطابها أقرب ما يكون إلى الفن التشكيلي الذي يستعصي على غير أهله فك رموزيته. وأختم برؤية الجابري حيث يصور أن أزمة الثنائيات مرتبطة بمسألة الهويّة. فهو يرى أن سؤال الهويّة طرح ويطرح جملة أزواج أو ثنائيات.
ولعلي أميل إلى ما ذهب إليه الجابري حيث يتسم توصيفه بالتكامليّة ولمس جوهر الإشكاليّة، حيث سؤال الهويّة والأنا الذاتيّة يطرح نفسه بقوة على مستوى الإنسان والمجتمع والدولة واختلاف الرؤى حول مسألة هذه الثنائيات بين كل هؤلاء.
المشاريع البديلة عن الثنائيات الفكريّة:
طرحت في سياق أزمة الثنائيات الفكريّة المتراكمة والتي باتت قدرا لا بد منه عدة مشاريع قد يوصف بعضها بالواقعيّة والآخر بالإجرائيّة والثالث بالطوباويّة والأخير بالتجاوزيّة.
أولا: النهضة كبديل
مأزق الثنائيات الذي أصبح الفكر العربي الإسلامي يتموضع عليها كقاعدة يبني عليها نتائجه ومحصلاته، هو مصادرة للتطلعات الجديدة، والذي حال دون توليد معادلات أخرى مساعدة أو رديفة، فالنهضة برنامج مؤجل دائما يوضع أمامه عصا الثنائيات لتعرقل عجلة التطور.
لكن الإشكاليّة في هذا البديل يكمن في سؤال النهضة، فمثلا في كتابه «كيف ينهض العرب؟» يرى عمر فاخوري أن سؤال النهضة في فكر العرب والمسلمين مرتبط، بالضرورة، بواقع الأزمة في المجتمع العربي الإسلامي، ونشأة هذا السؤال مشروط بأجهزة السلطة السياسيّة ونوعيّة علاقاتها بحركة المجتمع وتفكيره، وردود الفعل العام، وفي اتجاهات عديدة، ذلك أن البحث في مسائل الأزمة والنهضة يعني بالضرورة البحث في طبيعة السلطة السياسيّة والعلاقات الاجتماعيّة والنظرة إلى الكون والآخر. ومن هنا تنشأ ثنائيّة الفكر السياسي في النهضة: الاستبداد / الديمقراطيّة، الخراب / العمران، التأخر / التقدم. هكذا تكون النهضة، مصطلحاً وفكراً ومشروعاً، مولوداً عليلاً، لأن الفضاء العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، سلطة سياسيّة ومجتمعاً وثقافة وعلاقات، يراكم الأزمات ويواجه باستمرار مسائل ومشاكل جديدة تزيد الركام السابق والطبقات الدفينة تعقيداً، مما يفسر أن النهضة العربيّة هي باستمرار برنامج مؤجل، وبالتالي يحدث التصادم بين المفاهيم في الفكر العربي المعاصر وتتعمق صدمة الحداثة مع واقع اللاحداثة في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر.
ويذهب “احمد جدي” في كتابه «محنة النهضة ولغز التاريخ في الفكر العربي الحديث والمعاصر» إلى القول إن السبب الأساسي والمرجعي يكمن في عدم احتلال الحضارة العربيّة الإسلاميّة موقعاً مميزاً وفاعلاً في التاريخ الحديث والمعاصر مرتبط بالضرورة بعلاقات وقراءات محدودة مع ثالوث الأزمة: التراث، والتاريخ الحاضر، والغرب. وإذا لم تحدث القطيعة التاريخيّة مع أنماط التفكير والسلطة والعلاقات الاجتماعيّة لإنجاز النهضة، وإذا لم يخرج الفكر العربي من التلفيقيّة السطحيّة، المتمثلة في محاولات الربط بين الغرب والشرق، أو بين حاضر المسلمين وماضيهم، أو بين حاضرهم وحاضر الغرب، فإننا نجسد تخلفنا بجمع نُثار فكريّة من أزمنة متباينة، ومن تجارب تاريخيّة مختلفة، ونمنع التقدم من أن يتقدم ليلغي تخلفنا.
ثانيا: التنمية كبديل
تتمثل هذه الرؤية خارج إطار حركة المشاريع العربيّة النخبويّة والتي يعبر عنها مشاريع التنمية البشريّة والتنمية المستدامة وتنمية الموارد البشريّة، والتي هي مشاريع تأخذ الطابع التكنوقراطي والممثل بالخطاب الأكاديمي والذي يتجاوز الخطابات الطوباويّة إلى خطابات إجرائيّة مباشرة، فيركز على مشاريع تنمويّة مجزءة، مثل توفير مجموعة عوامل تعمل على نحو متزامن على تنمية الإنسان وترقيته، كتخفيض نسبة الأميّة ورفع المستوى الدراسي وإشاعة قدر أكبر من الديمقراطيّة - والديمقراطيّة التامة مستحيلة - ورفع مستوى المعيشة والصحة وتطوير مفهوم المواطنة وتحقيق الأمن للمواطنين. ويمكن أن تحقق هذه العوامل على نحو تدريجي وفي أوقات متزامنة ومتعاقبة. وواضح أن أزمة هذا البديل يكمن في إشكاليّة أن تنمية الإنسان سوف تكون معرقلة دائما بمناخ الحداثة والتقليديّة لدى هذا الإنسان الذي من المفترض أن يكون هو محور التنمية.
ثالثا : التوفيقيّة كبديل
التوفيقيّة بين الحداثة والمعاصرة، والعروبة والإسلام، والقوميّة والوطنيّة. . الخ، هي إحدى الحلول التي طرحت من خلال عدة مثقفين عرب ويغلب على هذا المدخل أو الرؤية استخدام أسلوب الانتقائيّة والدمج بين الفلكلور والحديث ليأخذ شكل “العصرنة”، والغالب أن هذا المدخل ينحو إلى “عصرنة” القالب وتلفيقيّة القلب.
ويرى زكي نجيب محمود أن محاولة التوفيق بين التراث والمعاصرة هي أُمّ المشكلات الفكريّة. ومع ذلك فانه يجنح إلى مبدأ التوفيق والجمع بين الطرفين، ويرى أنه هو الحل للخروج من إشكاليّة هذه الثنائيات. ولا عجب من هذه التوفيقيّة عند “محمود” فهو حتى في أحلامه يعيشها حيث رأى- كما روى ذلك في كتابه هموم المثقفين- في المنام “الغزالي” و“برتراند رسل” في آن واحد.
لكن التوفيقيّة سوف تعيدنا إلى الجدل مرة أخرى، فمثلا إذا أخذنا بالتوفيق بين التراث والمعاصرة فإننا ففي ممارساتنا الفكريّة وبناء مشاريعنا النهضويّة سوف نضطر إلى الانتقائيّة، أي أننا سنختار المناسب من التراث ثم نعود لنختار الملائم من المعاصرة. وهذا في حد ذاته مشكلة لأن هذه الانتقائيّة سوف تعيدنا إلى حلبة الصراع والتجزؤ الفكري وهكذا دواليك في كل ثنائيّة، لأن ما هو مناسب لمنظومتي الفكريّة قد يكون غير ذلك بالنسبة إلى آخر، ولذلك قد تكون التوفيقيّة نوعا من الهروب من مواجهة الأفكار الأصيلة وما يمكن أن أسميه بـ “فوبيا الأفكار” أو الجدل الحر.
لكنه من الضروري التذكير بأنّ ظاهرة التوفيقيّة ممتدة إلى جذور ما قبل التاريخ. ويتساءل الجابري هل التوفيقيّة الفكريّة والمجتمعيّة التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هي مجرد استجابة آنيّة لظروف وقتيّة عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمراريّة التاريخيّة الحضاريّة للمنطقة، أم أنّها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمراريّة؟ ويجيب أنه إذا كانت الظاهرات الفكريّة والمجتمعيّة لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضيّة المعاصرة لاكتشاف حفائر التكوّن الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخيّة المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكريّة التوفيقيّة التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس.
وتبدو الظاهرة التوفيقيّة - حسب الجابري- على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص- ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. وكمثال تاريخي، المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحيّة.
رابعا: التعدديّة كبديل
يطرح العديد من المثقفين التعدديّة كبديل عن الثنائيات الفكريّة من خلال مداخل متعددة، احدها المداخل العقليّة/الابستمولوجيّة التي تقوم على تفكيك المقولات السائدة المنطوية على الفكر المطلق، وبدلا من ذلك التوجه إلى العقل وطريقة التفكير بوصفهما مكمن الداء والدواء في نفس الوقت.
إن إحدى سمات الفكر الذي يمكن أن يوصف بالفكر غير التقليدي أو الفكر غير المحافظ أنه فكر نسبي وليس فكراً مطلقاً. وإحدى سمات المجتمع المتطور هي أنه في سلوك أفراده أو سلوك قسم كبير من أفراده الإقرار بالتعدديّة الفكريّة وبوجود البدائل الفكريّة.
والفكر المطلق لا يتفق مع التعدديّة الفكريّة ولا يتيح مكاناً له. وكذلك الفكر المطلق لا يتفق مع الفكر النسبي. وأستطيع أن أستنتج أن الفكر المطلق = الثنائيّة الفكريّة. إن عدم قبول نسبيّة صفات الأشياء وقبول الثنائيّة الفكريّة يعنيان تضييق هامش الحريّة الفكريّة وتقييد الفكر، لأن قبول الثنائيّة الفكريّة لا يتيح للفكر أن يتخطى أحد الطرفين النقيضين، بينما يوجد في الواقع ما بين هذين النقيضين، وبنفس المنطق يمكن القول إن التيارات الفكريّة العديدة من قبيل الليبراليّة والقوميّة والقطريّة والعلمانيّة والإسلاميّة لا يمكن أن يستبعد الواحد منها الآخر استبعادًا تامًا أو يقبل الواحد منها الآخر قبولاً تاماً. فبعض أطروحات هذه التيارات متماثل وبعضها الآخر غير متماثل. تتفق هذه التيارات مثلاً على مفهوم التحرر ومفهوم الحاجة إلى المحافظة على البقاء، وقد لا تتفق على مفهوم توزيع الثروة.
إذن منطق الثنائيات منطق عدمي الغائي، فإذا كان مفهوم التكفير التقليدي هو نفي الإيمان عن الآخر فقد يأخذ مفهوم التكفير منحى أوسع، فأن ألغي رأي الآخر فهذا تكفير بطريقة أخرى، فالتكفير تهمة قديمة تأتي اليوم بثوب جديد وبأشكال متعددة.
ويطرح علي حرب بدائل ابستمولوجيّة “تفكيكيّة” عن الفكر المطلق أو الثنائيّة الفكريّة من خلال عدة عقول معرفيّة:
1- العقل/الفكر التركيبي
وهو المضاد للتفكير بصورة أحاديّة البعد والجانب، وهذا التفكير ينتج العوائق والموانع بقدر ما يقوم على تبسيط المشكلات وطمس الحقائق. أما الفكر التركيبي ينظر إليه بغناه وتعقيده وبحركته وصيرورته بوصفه معطى مفتوحا على تعدد الوجوه.
2- العقل التواصلي
لأن من أكثر العوائق التي عرقلت مشاريع الإصلاح والتغيير هو التفكير بمنطق الحتميات المقفلة والمطابقات المستحيلة والثنائيات الخانقة، التي تطبق على العقل وتضع الفكر بين فكيّ كماشة لكي تعيد إنتاج العوائق والمآزق.
3- العقل التداولي
العقل التداولي هو عقل جديد يطرحه علي حرب كحل للأزمة العامة اليوم، هذا العقل يُخضع للنقد أشكال المصداقيّة ومصادر المشروعيّة. هو تجاوز للنماذج الثقافيّة أو الأنماط البشريّة، سواء من جانب العقليات الأصوليّة بعقائدها المقفلة وتصنيفاتها العنصريّة ومشاريعها المستحيلة أو من جانب القوى الإمبرياليّة بمنطقها الأحادي والعسكري القائم على الانفراد والإقصاء والطغيان أو من جانب النخب الثقافيّة والفكريّة بعقلانيتها القاصرة ومشاريعها الفاشلة وأطروحاتها الإنسانويّة المفلسة. إذن العقل التداولي هو تجاوز وخروج عن مضادة الثلاثي المسيطر على الساحة الفكريّة في هذا الوقت مما يجعل رهانه أصعب وامتحانه أشد.
يشتغل هذا العقل على أكثر من جهة وأكثر من جانب، أهمها جانب التفكيك والتجاوز وجوانب الاشتغال مشتملة على التالي:
أ- الخروج المزدوج من فلك العقل الماورائي بماهياته الثابتة وحقائقه المطلقة وعلى المنطق المتعالي بمفاهيمه المحضة وقوالبه المسبقة. وتعود الأفكار هنا إلى العالم البشري الواقعي القائم على النسبيّة والاحتمال أكثر من قيامه على الجزم واليقين.
ب- فضح المنزع العنصري الذي يعمل أصحابه بعقليّة التمييز والفرز أو التطهير والتصفيّة من حيث العلاقة مع المختلف والآخر. العقل التداولي يرفض العداء المستشري ضد الآخر في العالم العربي ويسعى لكشف منطلقاته الفكريّة القابعة في العقل الشمولي العنصري.
ج- الفكاك من المنزع النرجسي للنخب المثقفة بفكّ وصايتها على القيم والحقوق والحريات. لا يعترف المفهوم التداولي بتصنيف المجتمع إلى خاصة وعامة، بل بوصفه مجتمع اختصاصيين، عاملين ومنتجين في قطاعات إنتاجهم وحقول عملهم.
د- تجاوز التقسيمات العرقيّة أو الدينيّة أو الجغرافيّة كـ «عقل عربي أو إسلامي أو غربي» وسوى ذلك من التصنيفات التي تشل طاقة الفكر وتحشره في الزاوية الخانقة. هذه الزاوية هي زاوية الصورة النمطيّة المسبقة التي تجمع الكل في واحد وتمحي التفرد والاستقلال.
ظروف هذا العقل صعبة بالتأكيد في ظل صراعه مع العقول التي جاء ليتجاوزها، ولكن المشجع هنا هو أن هذا العقل متسق مع منطق العصر والواقع وهو الأكثر وعيا بالتحولات العالميّة في عصر الانفتاح وانكسار الحواجز.
ويضع حرب عدة أدوار للعقل التداولي:
(1) أن العقل التداولي عقل تركيبي في تعامله مع الواقع. العالم شديد التنوع والتعقيد والتحول ولذا فلا يمكن حصره في صورة نهائيّة. ولذا فهو مسرح للخلق. ولذا فالعقل التداولي لا يخشى المتغيرات بل يراها فرصة لبدء علاقة جديدة مع الواقع.
(2) استثمار التعدديّة الثقافيّة من خلال النظر إلى المجتمع على أنّه متعدد العناصر والقوى والمشروعيّات ومن خلال قبول الآخر من حيث كونه مختلفا ومساويا في آن. وكذلك من خلال اقتناع المرء بأن هويته متعددة وأنها مشروع لم يكتمل بعد. وهذا هو الأهم في نظر “حرب”. فالهويّة عنده مسرح لتعدد الأطياف والشخوص والأصوات بقدر ما هي “سويّة” وجوديّة مبنيّة من تعدد الميول وتعارض الأهواء أو من التباس المعاني وتوتر الأضداد.
(3) العقل التداولي عقل تواصلي وأصحابه ينظرون إلى العلاقات مع البشر كإمكانات للتعارف والتبادل سواء في الزمان بين الأجيال والأطوار أو في المكان بين الثقافات والجماعات.
(4) العقل التداولي عقل تأويلي يستثمر منهج التأويل من حيث تعامله مع المعاني والحقائق. المعنى هنا هو ما لا ننفك عن إعادة إنتاجه عبر تداول الكلام وإنتاج الخطاب وتشكيل النص، على سبيل الاختلاف أو الزحزحة والإحالة أو المجاز والاستعارة.
(5) العقل التداولي يشتغل بحسب المنطق التحويلي، بقدر ما يستخدم النقد التفكيكي، من حيث التعامل مع الأصول والثوابت أو مع المعطيات والأدوات. فعل التفكيك والتحويل هذا يتجه للمقولات والهويات أو للسلطات والمؤسسات، وبصورة تتغير معها بنية الفكر وجغرافيّة المعنى بقدر ما تتغير بنية الواقع وخارطة القوّة.
يمكن ختم القول بأنه ستبقى إشكاليّة الثنائيات الفكريّة قائمة ما لم يتم تجاوز هذه الثنائيات إلى فكر تعددي منفتح يؤمن برأي الآخر. فالتعدديّة بشروطها الحضاريّة المتكاملة هي الملجأ الأخير لمجتمعاتنا وعند جهينة الخبر اليقين!.
المصدر: http://alawan.org/%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%8...