التحولات الفكرية بين الديني والسائد
أحمد الأعجم
عبر التاريخ البشري الطويل كان الفصل بين ما هو (ديني) وما هو (سائد اجتماعي أو عرف) من أهم الإشكالات الفكرية التي واجهت العقل البشري بل وأوقعته في الحيرة، ثم قادته إلى الضلال، ولذلك فإن (تقديس) السائد الاجتماعي وإلباسه لباس الدين وتحويله إلى عقيدة هو سبب ضلال معظم الأمم السابقة، ومن ثم فقد كانت محاربة (تقديس) السائد الاجتماعي وتحويله إلى دين هي لب الرسالات السماوية والمهمة الأعظم للأنبياء الكرام، وقد لقي الأنبياء في سبيل ذلك كثيرا من العنت والمعاناة من التكذيب والمحاربة والطرد بل وصل الأمر إلى القتل، ذلك أن العقول البشرية تحفظ وتتمسك (بالسنن) الاجتماعية أكثر من حفظها وتمسكها ( بالسنن) الدينية.
أسوق هذه المقدمة لأتحدث عن مرحلة تعتبر من أهم مراحل التحول الفكري والثقافي في المملكة تحديدا، وهي مرحلة (حرب تحرير الكويت) فقد أعقب تلك الأزمة انفتاحا كبيرا على العالم ،وللمرة الأولى منذ عقود، من خلال التغطية الإعلامية الواسعة والدقيقة لمجريات الأزمة منذ بدايتها، وحتى آخر لحظاتها، حيث سلط الإعلام الغربي الضوء على الحياة في المملكة بكل مجالاتها وتفاصيلها، كما شهدت إقبال السعوديين على التعاطي برغبة مع وسائل الإعلام تلك، ثم كان أن جاء بعدها مباشرة البث الفضائي المفتوح، مما مكن السعوديين من الاطلاع على ثقافات جديدة، وكل هذا أوجد تجاذبات فكرية وثقافية هائلة، ارتكزت في معظمها على الإشكالية العقلية الأزلية نفسها، أعني الفصل بين ما هو ديني لا يجوز المساس به، وبين ما هو (سائد اجتماعي) أو عرف يمكن تغييره! حيث كان الموروث الفكري والثقافي في المملكة قد امتلأ بكثير من (السائد الاجتماعي) الذي ألبس لباس الدين، وحرمت مخالفته، واعتبر من يناقشه أو يخالفه مخالفا لثوابت الدين الحنيف.
ولعل من أهم التحولات الفكرية والثقافية في هذا المجال ظهور وانتشار (ثقافة الحقوق) حقوق الإنسان عموما ومنها حقوق المرأة، وحقوق الموظف، وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وحقوق الطفل، وحقوق العمال، وحقوق المرضى، وغيرها، فتشكلت في المملكة للمرة الأولى هيئة خاصة لحقوق الإنسان، بعد أن كان طرح مثل هذه الأمور أو مناقشتها يعتبر انتقاصا من الدين الإسلامي وكماله وشموليته، ومن يطرحها أو يناقشها يأتيه الرد الجامد المكرر دائما وهو (إن حقوق الإنسان موجودة ومكفولة في الشريعة الإسلامية منذ أكثر من 1400 عام) وهو كلام لا غبار عليه، ولا أحد يستطيع التشكيك فيه، غير أنه كان مجرد شعار جميل لا وجود له في الثقافة المجتمعية، ولذلك وبعد تأسيس هيئة حقوق الإنسان رأينا للمرة الأولى موظفين مفصولين تعسفيا يقاضون مراجعهم الإدارية، بل وتصدر بحق مراجعهم عقوبات جزائية ومالية، كما تم تحديد مدة محددة للسوابق الجنائية تسقط بعدها عن صاحبها، بعد أن كانت تقضي على حياته الاجتماعية والعملية معا، كما حدث تغير نسبي لكنه ملموس في منح المرأة حقوقها في الطلاق والميراث والنفقة ورؤية وحضانة أبنائها، كما حدث تطور كبير في منح ذوي الاحتياجات الخاصة حقوقهم في التعليم والعلاج والترفيه وإيجاد ما يتناسب وظروفهم من مواقف ومداخل في الدوائر الحكومية والمراكز التجارية والمتنزهات وغيرها.
كذلك كان من التحولات الفكرية المهمة انطلاق مشروع السياحة الداخلية ببرامجها وأنشطتها ومهرجاناتها، بعد أن ظلت عقودا طويلة (تابو) اجتماعيا ألحق بالدين، باعتبارها فكرا تغريبيا يؤدي للفساد، كذلك عادت للظهور من جديد احتفالات الأعياد في كل مناطق المملكة، بعد أن توقفت سنوات طويلة بحجة أنها ضرب من ضروب اللهو! كذلك كان من أهم التحولات الفكرية التي ظهرت سقوط قناعة أننا أفضل الشعوب أخلاقا وأكمل المسلمين إسلاما، وظهر لنا وللعالم أجمع أننا جزء منهم وفينا ما فيهم من عيوب ونواقص، وظهرت لدينا صور مفزعة للعنف ضد الوالدين وضد المرأة وضد الأطفال وضد العمال لم نكن (لنصدق) أنها توجد بين ظهرانينا، وكان ظهور هذه الأمور منطلقا للإيمان بحاجتنا الماسة للإصلاح النفسي والسلوكي فظهرت برامج تطوير الذات، وبرامج البرمجة العصبية، وبرامج التثقيف الأسري، ثم كان من أهم أدلة ومظاهر التحولات الفكرية والثقافية التي أفرزتها مرحلة ما بعد حرب الكويت تراجع بعض الدعاة والمشايخ والعلماء والمفكرين عن كثير من القناعات والمبادئ والأفكار التي كانوا يعتنقونها ويؤمنون بها ويدعون إليها، وكان هذا التراجع بسبب اكتشافهم أن معظم هذه القناعات والمبادئ تعلقت بـ(سائد) اجتماعي ألبس لباس الدين تعسفا حتى أصبح مقدسا، وهو ليس كذلك، وما زال المجتمع السعودي يعيش حتى هذه اللحظة مخاض كثير من التحولات الفكرية والثقافية بين ما هو (سائد اجتماعي) قابل للتغيير، وما هو ديني لا يمكن المساس به، ولعل أحداث الجنادرية الأخيرة تؤكد ذلك بوضوح.
لمصدر: جريدة الرياض.