الإسلام السياسي وصناعة الدول القلقة

علي الخشيبان

القلق السياسي والاجتماعي الذي تشهده دول الثورات العربية ليس مرده لطبيعة الثورات واحتياجها إلى وقت كي تتكيف مع الواقع الجديد ولكن هناك معضلة إضافية تكمن في نشوء صراع خطير بين خطاب جماعات الإسلام السياسي الذي كانت تروج له وبين المجتمع

هذه المقالة ليست تحليلاً سياسياً بل هي بعض تساؤلات فكرية اجتماعية عن المستقبل الذي يمكن أن نذهب إليه مع بديل الدكتاتورية في دول الثورات العربية ألا وهو الإسلام السياسي تلك الكلمة التي خلطت بين متناقضين فهذا الخلط نحن ندركه ونعرفه في تاريخنا ونعيش آثاره بشكل ونقرأ نتائجه عبر تراثنا.

بدأت الثورات العربية بشكل مفاجئ وخلال أشهر قليلة تغير الوجه السياسي في دول الثورات العربية ولأن حجم الصدمة كان كبيراً فلم يكن أمام شعوب تلك الدول سوى أن حلمت بمفاجأة أكبر وتوقعت أن الديمقراطية تقف مباشرة خلف الأبواب السياسية منتظرة الخروج إلى ميادين الثورات العربية.

لم تتمكن الديمقراطية من الخروج بكامل مقوماتها لأنها لم تكن قادرة على أن تكون بديلا ًحقيقياً لأنظمة دكتاتورية فالكل يهتف باسم الديمقراطية ولكن ذلك كان فقط شعارات بائسة لمجتمعات تعودت وعوّدت على أن تكون المسؤولة عن كل إخفاق يصيبها.

ولدت المجتمعات بائسة بعد الثورات ولكن ليس لأنها مجتمعات عربية مبنية على أسس التخلف كما يقال عنها ولكن لأنها مجتمعات فرض عليها أن تكون هي المسؤولة عن أخطائها فقط وفي كل أزمة فلدى العرب مثلاً لا يتحمل الآباء أسباب فشل أبنائهم أبداً وهكذا هي المجتمعات العربية وسياساتها.

الوجه الآخر للعملة السياسية التي كان عنوانها الدكتاتورية في بلدان الثورات العربية كان الإسلام السياسي فهو البديل الوحيد الذي كان قريباً من الأنظمة الديكتاتورية لأنه وبدون أن نشعر طول هذه السنين كان هو وقود تلك الدكتاتوريات وسبب بقائها فالتشابه في النمط السياسي بين الدكتاتورية والإسلام السياسي هو ما صنع البديل المناسب لذلك كان الإسلام السياسي بديلاً جاهزاً ومحتملاً.

لم تكن الصدفة هي التي أتت بالإسلام السياسي إلى ممرات السياسة في دول الثورات العربية ولم تكن المجتمعات لتعتقد فكرياً أن الإسلام السياسي هو من سيمنحها قيم الديمقراطية ولكن الأسس الفكرية التي بنت عليها جماعات الإسلام السياسي منهجها قيدت المجتمعات برباط صنعته من العقائد حيث يمكن التحكم بالمجتمعات وخاصة العامة منها من خلال الحلال والحرام والصحيح والخطأ والفتوى التي تصب في اتجاه فكري بعينه، هذه الأفكار استطاعت جماعات الإسلام السياسي استخلاصها لنفسها فكل مصادر التشريع متاحة للتفسيرات بحسب المذهب الفكري أو الطائفة فكما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (القرآن حمال وجوه والحديث ذو رواة).

تاريخ الجماعات الإسلامية اعتمد ترويض المجتمعات وفقاً لسلطة الميتافيزيقيا دون مراعاة للطبيعة البشرية وهذا ما خلق التفاوت الذي شهدته التطبيقات السياسية لجماعات الإسلام السياسي، المشكلة تكمن أيضا في اكتشاف الجماعات الإسلامية أن قدرتها التنظيرية حول المجتمع والسياسة لم تكن كافية كي تنزل على أرض الواقع بشكل يتوافق مع الخطاب الذي كانت تطرحه تلك الجماعات عندما كانت تعادي السلطة القائمة بذات الخطاب.

القلق السياسي والاجتماعي الذي تشهده دول الثورات العربية ليس مرده لطبيعة الثورات واحتياجها إلى وقت كي تتكيف مع الواقع الجديد ولكن هناك معضلة إضافية تكمن في نشوء صراع خطير بين خطاب جماعات الإسلام السياسي الذي كانت تروج له وبين المجتمع ولعل أكبر دليل على ذلك أن الصراع بدأ الآن يظهر بين جماعات الإسلام السياسي نفسها من سلفيين وإخوان وقاعدة ..الخ من تلك الجماعات التي تعتقد ان لديها الحلول السياسية للمرحلة حيث تتهم كل جماعة مناهضتها بأنها لا تطبق التشريع الصحيح.

هذا المشهد السياسي تكرر في تاريخ وتراث المنطقة العربية المسلمة بشكل خاص مرات عديدة وكان الأمر يحسم للفرقة أو الجماعة أو المذهب الأقوى وكان الصراع يتم بين مجموعات لها ذات المرجعية العقدية لذلك نجد في عالمنا وتاريخنا طوائف أو مذاهب تقيم لها دولاً أو تعيش في مقاطعات بعينها لا يسكنها غيرها وهذه نتيجة طبيعية لعدم التوافق الفكري وعدم الاتفاق على نوعية العقيدة التي يمكن أن تستوعب كل هذه التفاوت.

قلق تاريخي عايشه العرب وكثير من المسلمين ولازلنا ولكنه اليوم يظهر ماثلاً أمامنا عبر الثورات العربية التي تتصارع بين ثلاث تقاطعات اتجاهات فكرية تريد أن تحكم تحت غطاء ديني وجماعات تريد أن تحكم لتطبيق مشروع ديني وجماعات تحلم بنموذج ديمقراطي على الطريقة السياسية الغربية.

لقد أصبح واضحاً أن حجم القلق السياسي والاجتماعي يتضاعف مع مرور الوقت وأصبحت الشكوك تأتي من أصحاب مشروع الإسلام السياسي أنفسهم في مشروعهم والأدلة على ذلك التفاوت والفرقة التي تقسم جماعات الإسلام السياسي في دول الثورات العربية.

مقومات الثورات ومشروعات المستقبل هي أهم مفقود بل هي أهم باعث للقلق الفكري والسياسي الذي أنتجته الثورات العربية التي تورطت بالمشروعات الخاصة بالإسلام السياسي: لذلك مهما طال المستقبل والانتظار حول نتائج الثورات العربية فلن يكون سوى إعادة لذات النماذج التي ذهبت من القيادات السياسية ولكن بغلاف وألوان جديدة ولن يستطيع العالم العربي ودول الثورات العربية خصوصاً التخلص من رغبته الدائمة بوجود التسلط العسكري على دوله لأن دكتاتورية العسكر هي المسار الوحيد القادر على ترويض التفاوت الفكري.

المشروعات الثورية في دول الثورات العربية لم تكن موجودة ولم يكن هناك مشروعات حضارية كانت تنتظر لكي تحل محل الدكتاتوريات فكل ما هنالك مشروعات تنظيرية تعتمد إما سلطة الدين لترويض المجتمع أو سلطة الأقلية لكسب التأييد أو مثالية المساواة المستحيلة.

شروط الديمقراطية ليست كبيرة فهي مشروع حضاري وقدرة على الاستقلالية الاقتصادية وإقصاء لسلطة الأفكار المنتجة أو المعتمدة في المجتمع بالإضافة إلى إيمان بأن الحقيقة لا يملكها أحد إذا كان الهدف تعايش البشر في دولة ومجتمع موحد وليس واحداً لأن مشروعات الإسلام السياسي كلها تقول بالمجتمع الواحد وليس الموحد وهذا يعني حقوقاً أقل لمن يختلفون فكرياً أو عقدياً أو مذهبياً، والمحتمل إنتاجه من هذه الثورات مجتمعات تعيد إنتاج القلق تاريخياً لمرحلة زمنية قد تمتد لخمسة عقود أخرى.

المصدر: http://www.amnfkri.com/news.php?action=show&id=22682

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك