بين النون والنون أين ضاعت بقية الحروف؟

رحمة الله محمد

في ظل  التماهي ما بين الأرض والسماء، الحاضر والماضي، الجسد والروح، السلم والحرب، الجدب والخصوبة، الأمان والخوف.. ومن  نقطة النهاية عودة لنقطة البداية ومروراً بكل تلك التناقضات العجيبة التي لن تحتضنها سوى أرض عانقت السماء منذ آلاف السنين. ألِفنا نجران الماضي بحروبها, باكتفائها الذاتي وبالتجمع القبلي الذي ساهم في غريزة البقاء لمدينة احتضنت التاريخ البشري لقرون عدة, تاركة على ثيابها الباليه آثار دماء التضحية في سبيل السعي إلى  التغيير انطلاقاً من أطهر البقاع هناك حيث نقشت أبجديات التغيير والبناء الإنساني لتتمثل في بقايا أدوات حياة مادية كانت ومازالت مدداً روحانياً زاخراً بالدروس والعبر.

الأخدود التي تشكل تاريخها بـ الغلام الصغير, المرأة والرجل, الغني والفقير، الشريف والوضيع، الأمير والخادم الذين قاسوا لهيب نارها ليخلقوا  اخضرار دائماً لن يتعلم الجفاء أو التفرقة, إذ كانت محرقة التاريخ الكبرى بداية لبناء الفكر الجديد والعصر المجيد عن طريق العلم والمعرفة والتضحية بالوقت والجهد والنفس  والبحث الدؤوب عن الحقيقة, لكي تسطر يوثوبيا الأرض حيث المساواة والسلام والمشاركة دعائم موصله للحرية, ونحن إذ نتساءل هنا: أين وصلت نجران الآن وهل هناك من صدى لصوت جديد يصدح بالتغيير صانعاً لقاء نون البداية بنون النهاية  لتخلقان معا ذلك الحلم الأبدي والنور الكوني الماضي قدماً نحو التطور المادي والفكري وتكامل الروح والجسد ونحو جوهر الماضي ومعطيات الحاضر؟

لست هنا بطبيعة الحال أتكلم عن المدنية وإن كان البناء والمدنية رمزاً مشرقاً للفكر الإنساني الطموح والطبيعي الذي لم يمت ويتعفن بعد، ولكني أشير إلى قضايا البناء الإجتماعي، فشيء ما يعيدني إلى نون البداية مرة أخرى ليترك الروح هائمة في ذاك المجتمع النجراني القديم بكافة أطيافه والتي  كانت تشكل  حراكاً ما ويجمعها هدف تحسين مصيرها وحياتها على كافة مستويات الوجود, لكن يا ترى هل يجدر بنا أن نخاطب الحاضر بمفردات الماضي؟ إذ كيف  لتركيبة الماضي أن تعبر عالم اليوم بنفس صورتها وهيئتها؟ هنا سنعود للبحث عن (ماريا.. طفلة الأخدود).

في عالمنا اليوم ولكن  حتماً لن نجدها.. فماريا الأخدود مغيبة والمرأة بكل حضورها لا توازي تلك المستحيلة، الإستثنائية التي لم تتكرر وعبد الله بكل حريته وإنفتاح عقله وقلبه غائب عن عالم ذكوري لا زال يحمل شذرات من جمال الإنسان المغلفة بالكثير من الخوف والجفاء والخجل من حقيقة الإنسان الحر.

تتراوح الأقلام والأفكار في سماء أخدودنا اليوم في ألفيتها الثالثة لتعطل كل مظاهر الفكر المتحرر البسيط ويصنع غيمة قاتمة لتحجب قطرات مطر خجولة قادمة من (سمائها الثامنة) التي عانقت حاضرها بكل سخاء لتمنح الأرض خصوبة دائمة العطاء, قطرات كتلك جعلت للماء طعماً سائغاً ليصنع بذلك أحد معجزات الكون, حسناً حتى الماء تغير ليصبح كالبقية متكرر بلا طعم, بلا هوية وشمسك مازالت دافئة أيها الجيم الذي سبق الراء ولن يخفيك الجفاء ولن يفسدك ران النعم على القلوب, فلازالت الروح النجرانية  تفيض به لشعورها العميق بالكثير من الواجبات التي تنبع من صفاء النفس ونقاء السريرة وإن كانت الوصاية تخنق أحياناً, تلك النفس التي شربت ذلك الماء النقي المنحدر من شموخ جبال طوقت المدينة بقسوة عاطفة أبوية لتحافظ على شموخها أصالة شخوصها.

ومابين رحلة عودة واجتماع بين الماضي والحاضر دعونا نستنشق نفحات إرث جميل كان نتاج لعدة تجارب تشوبها الآلام، الحروب والتضحيات والتي تعلموا منها التكافل, الترابط, الدفاع عن النفس, الإستقلال والسعي إلى الخلق والتطوير بمعطيات الزمان والمكان في شتى جوانب الحضارة الإنسانية بما في ذلك التوجه في عاداتهم وتقاليدهم لتصبح بذلك من المسلمات ومن أسس الفكر النجراني.
والحيرة لم تزل منتصبة بين تلك النون ونون عصرنا اليوم, بين ما يجب أن نفعله تجاه كل التجارب التي خضناها والتي يتوجب علينا خوضها وتلك التي تفرضها علينا الحياة بطبيعة الحال وإن كان من المفترض أن نتخلص من السلبيات التي انطوى عليها هذا الإرث والتي لم تكن في جوهره في يوما ما, ولكن بإختلاف الزمن وواقع ومعطيات الحياة تحولت إلى سلبيات لم تعد تسد رمقا وبكل بساطة لا تسمن ولا تغني من جوع وتبعا لذلك فإننا لن نستطيع أن نبني أبجديات أخدود الحاضر إلا إذا غيرنا ترتيب حروف الماضي. 

فلنعيد معاً ترتيب حروف السر المكنون بين نون البداية ونون النهاية بحروف وسطية متشابكة لتصل علو السماء بواقع  الأرض وترسم معاً مستقبل مشرق بلا حدود ليحتضن ماريا وعبد الله معاً.

المصدر: http://www.okhdood.com/index.php?act=artc&id=8688

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك