التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي

شعراء أصبحوا قادة للضمير والفكر الإنساني
التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي

قام بتأليف هذا الكتاب الناقد الفرنسي الشهير بول بينيشو الذي أمضى حياته المديدة في دراسة الشعراء الكبار للرومانطيقية الفرنسية كجيرارد دو نيرفال، وفيكتور هيغو، ولامارتين، وألفريد دوفيني، وألفريد دوموسيه، وآخرين. وقد جمعت كل دراساته عنهم في مؤلفين ضخمين مؤخرا، وهكذا يتيسر للطلبة الجامعيين والباحثين الاطلاع عليها بسهولة. وهو يدرس هؤلاء الشعراء ليس فقط من الناحية الفنية أو الجمالية وإنما أيضا من الناحية الفكرية والآيديولوجية والسياسية.

ومعلوم أنهم ظهروا جميعا في القرن التاسع عشر ورافقوا الثورة الفرنسية وأحداثها الضخمة، بمعنى آخر فإنهم شهدوا احتضار العالم القديم وولادة العالم الجديد على أنقاضه، وهنا تكمن أهميتهم وعظمتهم في نظر الناقد الكبير؛ فقد انعكست كل هذه الأحداث الكبرى في أشعارهم ولونتها بألوانها وأثرت عليها؟ يقول المؤلف:

إن الأطروحة الكبرى التي أنطلق منها في كل دراساتي هي أنه تشكلت بين عامي 1760 و1850 سلطة روحية علمانية تنافس السلطة الدينية المسيحية، وقد استطاعت الحلول محلها تدريجيا بعد الثورة الفرنسية، وكان ذلك يعني استهلال عهد الحداثة. وقد لعب الشعراء والفلاسفة دورا كبيرا في هذا الانقلاب على الماضي الأصولي للقارة الأوروبية. بمعنى آخر فإن الانتفاضة السياسية سبقتها انتفاضة فكرية ومهدت لها الطريق. ولهذا السبب نجحت وأدت إلى تشكيل نظام جديد كليا.

وبالتالي ففيكتور هيغو لم يكن شاعرا فقط بالمعنى الغنائي والفني الرائع للكلمة، وإنما كان أيضا مفكرا وسياسيا ومنخرطا في هموم عصره وقضاياه. ومعلوم أنه كان ضد الكهنة والمطارنة والخوارنة الذين يمثلون حزب الرجعية والجمود في نظره. ومعلوم أن أوروبا كانت محكومة سابقا من قبل الكنيسة المسيحية التي تستمد هيبتها وسلطتها من السماء. وكانت هيبتها فوق هيبة الملوك، ولا يتجرأ أحد على نقدها.

ثم جاء عصر النهضة وابتدأ الفلاسفة والأدباء ينتقدونها ويكشفون عن نواقصها وعيوبها. وازداد الهجوم عليها في القرن الثامن عشر: أي عصر التنوير. ثم استمر الهجوم متصاعدا في القرن التاسع عشر حتى انتصرت هذه السلطة الروحية العلمانية على السلطة الكنسية اللاهوتية للأصولية المسيحية. وهذه هي أكبر ثورة تحصل في التاريخ البشري. وبناء عليها تم تشكيل نظام الحداثة الذي نعرفه والذي يسود أوروبا وأميركا الشمالية حاليا.

ما الذي قاله فلاسفة الرومانطيقية الكبار إذا ما أخذنا كلمة رومانطيقية بالمعنى الفلسفي العميق والواسع للكلمة وليس بالمعنى الضيق كمدرسة فنية؟ قالوا إن رجال الدين المسيحيين يضحكون على البشر، إذ يقولون إنهم يتصلون بالسماء أو يحكمون باسم الله. فالواقع أنهم يحكمون باسم مصالحهم الخاصة ويخدمون مصالح الملوك والنظام الإقطاعي الاستبدادي الأصولي القديم.

ثم يضيفون قائلين: «الواقع أن السماء تركت لنا حرية حكم أنفسنا بأنفسنا على هذه الأرض. والله سبحانه وتعالى لم يعين أحدا ناطقا رسميا باسمه، حتى ولو كان البابا شخصيا! وبالتالي فكل هذه العقائد أساطير ينبغي أن تنتهي لكي يبزغ عصر الحداثة والنور والنزعة الإنسانية. وهكذا أسقطت مشروعية السلطة الروحية السابقة: أي سلطة الكنيسة والمطارنة والخوارنة، وحلت محلها سلطة الشعراء والفلاسفة والأدباء الكبار بشكل عام. ولكن المشكلة هي أنه ليس من السهل أن تحل سلطة روحية جديدة محل سلطة روحية قديمة. فسلطة الكنيسة المسيحية كانت راسخة ومهيمنة على العقول طوال مئات السنين. وكانت تشعر الناس بالطمأنينة عندما يصابون بالفقر أو بالجوع أو بالأمراض وبمصائب الحياة. وبشكل عام كانت العاصم لهم من الانهيار النفسي.

ولذلك فإن انهيارها ترك فراغا كبيرا، بل أحدث هلعا في النفوس، وما كان بالإمكان ملء هذا الفراغ بين عشية وضحاها. وقد حاول الشعراء الكبار والفلاسفة أن يسدوا هذا الفراغ ويقدموا للناس عقيدة جديدة تشعرهم بالطمأنينة. ولكن القلق استبد بالنفوس لفترة طويلة من الزمن بما فيها نفوس الشعراء أنفسهم. والدليل على ذلك أن الشعر الرومانطيقي كثيرا ما يمتلئ بالشكوى ولواعج الحنين إلى عصر مضى وانقضى».

ثم يردف المؤلف قائلا: «وبالتالي فلا يمكن فهم القلق المعاصر إن لم نأخذ بعين الاعتبار هذه النقطة الجوهرية: وهي أن انحسار المسيحية عن سطح المجتمعات الأوروبية ترك الناس يتامى. وقد حاول الشعراء أن يعالجوا الوضع بقدر المستطاع. ولذلك فيمكن القول: إن الشعر حل محل الدين في أوروبا بعد الثورة الفرنسية. لقد حل محله كعزاء للنفوس الحائرة، والضائعة. وكذلك فعلت الفلسفة وشتى الأنواع الأدبية الأخرى».

في مثل هذا الجو من الفراغ الروحي أخذ الشعر يحتل مكانة ضخمة في النفوس، مكانة ما كان يعرفها سابقا أبدا. فعصر التنوير مثلا كان يعتبره تعبيرا عن طفولة الجنس البشري، بمعنى أن الشعر سينقرض في العصر الصناعي الوضعي: عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكنهم لم ينتبهوا إلى أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في الانتقال بالبشرية الأوروبية من حال إلى حال.

ضمن هذا الإطار يمكن أن نفهم الدور الكبير الذي لعبه لامارتين، وفيكتور هيغو، وألفرد دوموسيه وسواهم في التاريخ الفرنسي المعاصر، فقد حلوا محل الكهنة المسيحيين في نظر الجمهور المثقف وقدموا للناس الغذاء الروحي الذي ينقصهم بعد انحسار المسيحية والكهنة التقليديين من مطارنة وخوارنة.

وهذا يعني أن الشعر أخذ يمثل مكانة المقدس في وعي الأوروبيين بدلا من الدين الذي فقد مصداقيته بعد الثورة الفرنسية وسقوط النظام القديم. من هنا جاءت أهمية الشعر الرومانطيقي وخطورته، فقد لعب دورا أكبر بكثير من الدور التقليدي المعزو للشعر عادة. لقد أصبح كبار الشعراء في المرحلة الرومانطيقية قادة للضمير والفكر الإنساني.. وبالتالي ينبغي أن نخرج من المفهوم الضيق للرومانطيقية لكي نفهم أبعاد هذا التحول الكبير الذي أصاب الشعر، أو بالأحرى الوظيفة الشعرية، إذا جاز التعبير. فالرومانطيقية بالمعنى الذي نقصده أكبر من ذلك بكثير.

ولولا أن الشعراء المذكورين حلوا محل الكهنة في ملء وظيفة القداسة والتقديس لشعرت أوروبا بالفراغ الروحي الهائل، ولربما عادت إلى الكنيسة المسيحية من جديد، فالإنسان بحاجة إلى غذاء روحي مثلما هو بحاجة إلى الطعام والشراب. ولغة العلم والصناعة الجافة لا تكفيه، على عكس ما توهم الفلاسفة العقلانيون جدا. ولهذا السبب فإن الشعر الرومانطيقي استولى على اللغة المقدسة للدين وراح يهاجم اللغة الجافة للعلماء والصناعيين الذين لا قلب لهم ولا إحساس. فلغة علماء الاقتصاد والتكنولوجيا تقتل الشعر.

وضمن هذا الإطار نفهم عبارة لامارتين الشهيرة التي يقول فيها: «أنا حزين جدا لأني ولدت في عصر الرياضيات وكل هذه المعادلات والأرقام»! ومعلوم أن القرن التاسع عشر هو عصر العلم والفيزياء والكيمياء واختراع الكهرباء وبقية الآلات التكنولوجية والصناعية. إنه عصر لا يؤمن إلا بالعلم، بل ويعتقد أن العلم سوف يحل محل الدين ويزيحه نهائيا عن عرشه.

ولكن المشكلة هي أنه ليس بالعلم أو بالعقل الجامد وحده يحيا الإنسان، وإنما بالعواطف أيضا والمشاعر والأحاسيس الإنسانية، من هنا أهمية الدور الذي لعبه شعراء الرومانطيقية الفرنسية في القرن التاسع عشر: «لقد كانوا (أنبياء) للبشرية الأوروبية وقادة للشعوب. وهكذا راح الشعراء ينافسون على المكانة العالية ليس فقط الكهنة ورجال الدين، وإنما أيضا علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات».

ثم يردف المؤلف قائلا: فلغة الشعر غير لغة العلم. والإنسان بحاجة إلى كلتيهما معا وليس إلى واحدة منهما فقط. ولغة الشعر مليئة بالطراوة والجمال والنزعة الإنسانية العميقة. أما لغة العلم فجافة، باردة، موضوعية إلى حد الصقيع. ولهذا السبب فإن كبار شعراء الرومانطيقية كفيكتور هيغو مثلا كانوا يعتبرون أنفسهم بمثابة المنارات المضيئة للبشرية. وكانوا يعتقدون أنهم محملون برسالة كونية إلى البشر لإضاءة الطريق لهم وسط دياجير الظلمات والخرافات والخزعبلات القديمة. وبالتالي فالشاعر آنذاك لم يكن فقط مطربا أو مغنيا، وإنما كان أيضا رسولا يضيء للبشرية عتمات الطريق. وهذه الوظيفة الاجتماعية والسياسية والروحية المقدسة للشعر ظلت مستمرة حتى ظهور بودلير تقريبا.

بعدئذ حصلت ثورة 1948 العمالية المضادة للبورجوازية وأدت إلى إغلاق العهد القديم للشعر وفتح عهد جديد يتمثل في خيبة الأمل. ولم يعد الشاعر الرومانطيقي على طريقة فيكتور هيغو مقنعا للجماهير الجائعة التي تطالب بالخبز. ولهذا السبب حل شعر الخيبة السوداوية المريرة (أي شعر بودلير) محل شعر الحماسة والتفاؤل بالمستقبل (أي شعر فيكتور هيغو). وكل ذلك يعود إلى أسباب سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى.

مهما يكن من أمر فإن دراسة تلك الفترة بشكل مطول وتفصيلي دقيق شيء مهم جدا لأنها توضح لنا كيفية نشأة الحداثة في فرنسا على مدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهذا ليس بالشيء القليل. يضاف إلى ذلك أن منهجية المؤلف في التحليل لا تركز على الشكل الشعري فقط، وإنما على المضمون أيضا. كما أنها تربط بين مضمون الشعر ومختلف الحركات الفكرية والفلسفية السائدة في القرن التاسع عشر: كالتيار الليبرالي مثلا، أو التيار المسيحي الجديد، أو التيار الاشتراكي الصاعد، أو غير ذلك من التيارات الفكرية والآيديولوجية.

إنه كتاب مهم جدا لمن يريد أن يعرف كيف حلت العصور الحديثة محل العصور القديمة في فرنسا وكل أنحاء أوروبا الغربية. باختصار شديد؛ فإن هذا الكتاب يشرح لنا كيف أن التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي ويرافقه ويحتضنه ويمهد له الطريق. كما ويفهمنا أن الانتفاضة السياسية من دون انتفاضة فكرية ستفشل حتما، أو قل لن تذهب بعيدا. انظر الثورة الإيرانية أو الثورة المصرية الأخيرة: مكانك راوح، أو حتى إلى الوراء سر! (مجزرة الأقباط الإجرامية).

أتحدى أي مثقف عربي أن يثبت لي أن المسألة الطائفية قد حسمت فكريا عندنا (فما بالك سياسيا؟!) كما حصل إبان الثورة الفرنسية، لهذا السبب أقول إن الثورة العربية الحقيقية لم تحصل بعد. إنها لا تزال كامنة في ضمير الغيب. هذا لا ينفي أهمية الانتفاضات الحالية ضد الأنظمة العسكرية - البوليسية الاستبدادية. ولكنها مجرد خطوة أولى على طريق التحرير الطويل. والآتي أعظم.. من هنا أهمية الثورات الفكرية والشعرية - الأدبية. من هنا أهمية المثقفين والفلاسفة والشعراء الكبار الذين يضيئون لأممهم الطريق.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك