بين السنة والسيرة
من الأمور المهمة في مسألة الترجيح والتصحيح معرفة السيرة النبوية الكريمة من خلال النقول الصحيحة الثابتة .
ففي كتاب الله تعالى عرض لجوانب كثيرة من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- في حربه وسلمه، وإقامته وظعنه، في أموره البيتية وغيرها، وقد كتب أحد المعاصرين كتاباً في السيرة النبوية من خلال نصوص القرآن الكريم سماه ( السيرة النبوية : صورة مقتبسة من القرآن الكريم ) .
وثمة مصدر ثر مهم للسيرة يغفل عنه الكثير وهو كتب السنة النبوية كالصحيحين والسنن والمسانيد والمعاجم و الموطئات وغيرها ..
ففي هذه الكتب مرويات هائلة وموثقة عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- وحياة المجتمع المسلم في عصره، قد لا توجد في كتب السيرة الأصلية .
وهذه المرويات عني بعض العلماء بجمعها، ومن أكثر من رأيت عناية بها وجمعها الإمام الحافظ ابن كثير في جزء السيرة النبوية من البداية والنهاية والذي طبعه ( مصطفى عبد الواحد ) في كتاب مستقل ، والإمام ابن القيم في كتابه الفذ ( زاد المعاد في هدي خير العباد ) فضلاً عن مصنفات مسندة تعنى بجانب معين من السيرة كـ ( دلائل النبوة ) لأبي نعيم والبيهقي وغيرهما .
وقد حاول عدد من الباحثين المعاصرين تناول بعض أحداث السيرة على ضوء روايات كتب السنة الموثوقة المعتمدة وهو منهجٌ حميدٌ يحسُن أن تقوم الأقسام العلمية في الجامعات بتوسيع دائرة البحث فيه .
وبين يدي عدد من الكتب والرسائل الجامعية، منها رسالة ( الهجرة ) للدكتور سليمان بن علي السعود من الجامعة الإسلامية، ورسالة ( السيرة النبوية من الصحيحين مقارنة بسيرة ابن إسحاق ) للدكتور سليمان العودة من كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بالرياض، ومجموعة كبيرة من الرسائل في الجامعة الإسلامية تتناول المغازي والمعارك بصفة خاصة كـ ( مرويات غزوة بدر ) للعلمي ، و ( مرويات غزوة الحديبية ) للشيخ الحكمي، وغيرها كثير، وقد حاولت تطبيق هذا المنهج في كتابي ( الغرباء الأولون ) .
ليس مرادي سرد البحوث العلمية فهذا له ميدانه الخاص ، ولكن أريد الآن أن أؤكد أن الباحث قد يجهد في كتب السيرة ؛ ليوثق حادثة ما فلا يستطيع، لكنه يملك ذلك من خلال الرجوع إلى كتب السنة بكل يسر .
حادثة حصار الشعب وصحيفة قريش الظالمة الآثمة المعلقة في جوف الكعبة، تجد الإشارة الواضحة إليها في عدد من أحاديث الصحيحين، أذكر منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين أراد قدوم مكة : (( منزلنا غداً ـ إن شاء الله تعالى ـ بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر )) يعني بذلك المحصب .
وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وقريب منه رواية أسامة بن زيد بن حارثة المتفق عليها . وهذه الحادثة قد لا تجدها في كتب السيرة مروية بإسناد كإسناد البخاري ومسلم مثلاً .
فأمثال هذه الرسالات تجعل الباحث في أي شأن من شؤون الحياة يستنبط صورة ذلك (( المجتمع )) بكاملها، إذاً السيرة ليست سجلاً لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الخاصة، كلا . بل هي تدوين أمين لحياة المجتمع المسلم بأكمله ، ورصداً لتحركاته الاجتماعية والسياسية وغيرها .
وهذا الإدراك القوي لمجريات الأحداث في المجتمع الأول يمدّ الفقيه والدارس بوسائل جديدة للترجيح خاصة حين يقف أمام إشكالية تتمثل في تعارض نصين خاصين ـ ظاهراً ـ وبالذات في القضايا العامة التي تقع على مرأى ومسمع من الناس، أو تكون حاجات ضرورية تهم الجميع خذ قضية : الصلاة ومواقيتها وهيئتها العامة وأحكامها الإجمالية .. قضية الأذان والإقامة .. المياه وأقسامها وما يجتنب منها .. الوضوء والغسل .. معاملة المشركين واليهود وغيرهم .. إلى مسائل أخرى كثيرة لا يأتي عليها الحصر يمكن التماس القول المعتمد فيها من خلال النظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم- وسيرة المجتمع الأول .
مثلاً: وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم مطلقاً حتى لو لم يجنب حال كفره .. مسألة فقهية خلافية .. نعم لكننا نعلم أن الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- كانوا كفاراً فأسلموا وهم يعدون بعشرات الألوف .. بل الذين حضروا معه حجة الوداع يزيدون على مائة ألف فهل من الممكن أن يكون هؤلاء جميعاً أمروا بالغسل ثم لا ينقل إلا أمره - صلى الله عليه وسلم- لقيس بن عاصم ؟
صحيح أنه عليه السلام أمر قيساً بذلك لكن هذه القضية العينية الخاصة لا تدل على وجوبه على كل كافر أسلم بلا تفصيل .
مسألة أخرى : دعوى أن المشرك نجس العين يجب التحفظ منه حتى قال بعضهم: "من صافح المشرك فليتوضأ!" هل يمكن قبولها في الوقت الذي نجد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يساكنون قريشاً المشركة في مكة، ثم اليهود في المدينة .. وربما نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم- ضيفاً على أحدهم أو أكل أو شرب في آنيتهم … ومن هنا جاء اعتماد الإمام مالك على المشتهر من عمل أهل المدينة لأنه سنة عملية يتلقاها اللاحقون عن السابقين .
وعلى العموم فإن هذه الجزئيات لا تعدوا أن تكون أمثلة فحسب،وإلا فالعناية بصحيح السيرة يمكن أن يستخرج منها المنهج العملي الإسلامي الذي يحكم جميع شؤون الحياة، سواء في معاملة المسلم داخل بيته أو مجتمعه، أو في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو في علاقة الأمة المسلمة بغيرها في حال حربها وسلمها .
ولذا فإن من الضروري إخضاع مرويات السيرة لدراسة أخرى ـ غير الدراسة التوثيقية ـ تستهدف رسم معالم السياسات الإسلامية في العلاقات الدولية والاجتماعية، خاصة والمسلمون يعيشون مبادئ صحوة تدعو إلى تحكيم الإسلام في جميع مجالات الحياة .