صدام الحضارات أم حوار الحضارات؟
صدام الحضارات أم حوار الحضارات؟
يبدو أيضا و للوهلة الأولى و كأن هذا التساؤل يدفعنا للإختيار الإرادي المتعقل بين حالتين يمثلان طريقان من الممكن لنا أن نسلك أيهما.
بل و يوحي السؤال للمستمع - حسب المواقف التي إعتدنا على سماعه فيها - بأن طارحه يتخذ موقف الذي يحث على الخيار الثاني "حوار الحضارات" في مقابل من يتخذ الخيار الأول "صدام الحضارات" هدفا و طريق.
أي أنه قد يبدو من صيغة التساؤل أن الحالتين هما إختيار إرادي واعي و على كل من الأطراف أن تتفق على أي طريق يجب أن يخطون.
هل حقا "صدام الحضارات" و "حوار الحضارات" يمثلان بديلان للإختيار على نفس المستوى أو طريقان على نفس مفترق الطرق؟
كنا قد إتفقنا سابقا في هذا الشريط على أن "صدام الحضارات" هي نظرية تقف بأقدامها على أرض الواقع - ثم تتنبأ تباعا بنتائج ذات إحتمالية عالية من وجهة نظرها.
فما هو إذا "حوار الحضارات"؟
يتبادر للذهن حال سماع ذلك المصطلح صورعدة يمكن تمثيلها بالمناظرات الكوميدية بين كهنة الأديان أحيانا, و بوفود رجال الدين الأزهريون في مؤتمرات الحوار أحيانا أو بحلقات ثقافية عقيمة لا طائل من ورائها إلا بدلات سفر و إقامة أعضاء الوفود.
نعم .. يدفعنا هذا السؤال "صدام الحضارات أم حوار الحضارات؟" بصيغته التي تحس منها بإختيار إرادي بين الحالتين - تدفعنا دفعا - للتفكير بجملة "حوار الحضارات" و كأنها فعل إختياري من الممكن أن ينهي كل الصراع على مائدة المفاوضات.
لكن لما لا نسأل أنفسنا: على أية مائدة و أية مفاوضات؟ هل هي مائدة المفاوضات الإقتصادية السياسية؟
بالرغم من أن المفاوضات السياسية / الإقتصادية ستظل قائمة - هي و الحاجة إليها - ما ظل الإنسان قائما. إلا أننا نعلم يقينا أن حصر الصدام الحالي في أسباب إقتصادية سياسية هو إخلال مغرض بالوضع. و الشواهد جميعا لا تدل على ذلك.
هي إذا مائدة مفاوضات حضارية إن جاز التعبير؟ فنحن لا نعتقد أن كهنة الدين و رجال الأزهر و بعض المثقفين - الرسميين غالبا - سوف يناقشون بحلقاتهم مواضيع السياسة و الإقتصاد.
و الآن .. هل "حوار الحضارات" هو عمل إرادي بهذه السطحية الساذجة و التي تصل لدرجة كوميدية - بحيث يتم تحضير الموائد له و سفر الوفود - ثم يختتم بحفلات جميلة و تصوير فوتوغرافي لجميع نجوم الحفل و هم يتصافحون بإبتسام بعد وجبة دسمة؟
أم أن "حوار الحضارات" هو حالة جدلية شديدة التعقيد بين الأفكار و المعارف و لا تتم بالنيات - بل تمتلك قوانينها الخاصة حيث البقاء للأقوى / الأصلح؟
تباعا يقودنا السؤال السابق لعدة تساؤلات أخرى:
- هل "الأقوى" يعني القوة المادية؟
- هل - حسب التساؤل السابق - لم يحدث للآن حوار حضاري بين الشرق و الغرب - و لذلك فنحن نطلق نداء الحوار - أم أن الحوار الحضاري قد حدث بالفعل منذ بدء الإحتكاك و نحن بالفعل في آخر مراحله؟
- هل يمكن بحال أن يكون الحوار الحضاري الذي حدث فعلا بين الشرق و الغرب هو السبب المباشر في "صدام الحضارات"؟
و بصيغة أخرى فإن "صدام الحضارات" هو نتيجة أو مرحلة أخيرة لفشل زريع و هزيمة حادة لأحد أطراف ذلك الحوار؟
هل "حوار الحضارات" هو عمل إرادي بهذه السطحية الساذجة؟
أم أن "حوار الحضارات" هو حالة جدلية شديدة التعقيد بين الأفكار و المعارف و لا تتم بالنيات - بل تمتلك قوانينها الخاصة حيث البقاء للأقوى / الأصلح؟
بداية فالأكيد أننا حين نتفوه أو نستمع المصطلح "حوار الحضارات" فالمقصود دائما هو تفاعل أفكار بالأساس (جدل / حوار / صدام) و يجب ألا نخلط بين ذلك و بين وسيلة هذا التفاعل و إحتمال كونها قوة السيف مثلا.
الزخم الحضاري هو منظومات من الأفكار المتوضعة في العقل الجمعي لمجتمع ما - و بغض النظر عن الإختلافات النوعية بين تلك المنظومات (معرفية - أخلاقية .. إلخ) إلا أنها تبقي أفكارا في النهاية.
قد يكون من المحير جدا النظر لتفاعل و إنتشار الأفكار عبر التاريخ فنجدها و قد إنتشرت بالسيف أحيانا - و بقوتها الذاتية أحيانا أخرى - بل و ستجد نفس الحضارة ذاتها - بذات منظوماتها الفكرية - ستجدها و قد إنتشرت عبر السيوف حينا و بدافع قوتها الذاتية حينا.
فالفكر الديني الإسلامي على سبيل المثال قد إنتشر بوجه عام عن طريق الفتوحات (الغزوات) و الترغيب و الترهيب. لكن و في حالة غير متوافقة مع ذلك نجد أنه إنتشر بين التتار - تلك القبائل الغازية لدار الإسلام - أي في إتجاه عكسي للقوة.
سوف نجد أفكارا وافدة على مجتمع ما - بغض النظر عن وسيلة إنتشارها - و قد إستقرت فيه نهائيا و قضت تماما على الأفكار التي سبقتها في العقل الجمعي لهذا المجتمع. كمثال الإسلام حين حل محل القبطية في المجتمع المصري.
بينما ذات الأفكار - الإسلام - و بالرغم من صولاتها و جولاتها كاللاعب الوحيد في أسبانيا إنتهت بعد هزيمة المسلمين و لم يعد لها وجود - بل و كأنها لم توجد يوما. و هذا و للغرابة مع كون المجتمع الأسباني يعتنق ذات الفكر الديني (المسيحي) الذي إعتنقه المجتمع المصري القبطي.
هل تدفعنا حيرتنا في هذه الأمثلة و غيرها الكثير عبر التاريخ أن نستخلص أنه لا يوجد قانون محدد للتفاعل الفكري (الحوار الحضاري) و أن كل حالة هي وضع منعزل تماما عن الأخرى و يجب دراستها منفصلة عن جميع الحالات الأخرى؟
أم أنه من الممكن أن نبدأ بمحاولة تصنيف تلك الحالات و تجميع العوامل المشتركة في محاولة لإستنباط قانون ما؟ حسنا فلنحاول:
إلى هنا و مع حقيقة أنه في ظل الثبات النسبي لكلا من الفكر الوافد على مجتمع ما و الفكر المستقر به (كما في مثال الفكر الإسلامي في كل من مصر و أسبانيا) و إختلاف النتائج كلية في الحالتين - فهل يمكننا أن نقرر مطمئنين أن عملية إنتشار الأفكار أو التفاعل الفكري تتوقف بالكامل على عاملين رئيسيين:
1- المجتمع صاحب الفكر الوافد:
من حيث قوته المادية, الوسيلة التي إتخذها لفرض أو نشر فكره, و قدرته على الإستمرارية في عملية التطبيع تلك, ثم حياته الإجتماعية ممثلة في مقدار تحضره أو بداوته - طبيعته العدوانية أو المسالمة .. إلخ.
2- المجتمع المتلقي لهذا الفكر:
من حيث حياته الإجتماعية أيضا ممثلة في مقدار تحضره أو بداوته .. بل و طبيعة المنظومة الإقتصادية له و التي تضفي خواصها على هذا المجتمع و مدى تقبله للجديد من عدمه ..إلخ, ثم المهم مقدار تمسكه بفكره المقيم و قد يتوقف هذا العامل الأخير على موقعه الجغرافي و طبيعة جيرانه أيضا. ففي المثال الأسباني كان الفكر الإسلامي الوافد محاصر بالأعداء (الماديين و الفكريين) على عكس المثال المصري. و الأهم مدى إمكانية التوافق بين خلفيات هذا المجتمع بوجه عام و بين الفكر الوافد.
كما قد يتأثر ذلك التفاعل الفكري كثيرا بمسألة الإختلاف الإثني بين المجتمعين صاحب الفكر الوافد و الآخر المتلقي.
يمكننا بالفعل أن نكتب مئات بل و آلاف العوامل الثانوية المؤثرة كالتي سردنا منها بعاليه على سبيل المثال و التي تندرج تحت طبيعة و ظروف كلا من المجتمعين صاحب الفكر الوافد و الآخر المتلقي لهذا الفكر.
و في خطوة متقدمة من التصنيف من الممكن لنا تباعا الآن أن نقرر أنه و في كافة الأحوال (مجتمع الفكر الوافد - أو مجتمع متلقي) فعوامل التفاعل الثقافي تصنف حسب طبيعتها للآتي:
- عوامل مادية و إقتصادية.
- عوامل إجتماعية.
- عوامل طبيعية.
هل نسينا أو تناسينا عاملا قد يراه البعض و يعتقدونه من أهم - بل أهم - العوامل؟
ماذا عن طبيعة الفكر نفسه (الوافد أو المقيم)؟ ماذا عن القوة الذاتية لهذا الفكر أو ذاك؟ مادمنا نتحدث عن تفاعل ثقافي - أي فكري - ألا يوجد لتلك الأفكار أي دور في هذا التفاعل؟
من كل ما سبق و الذي ترجح فيه الأمثلة التاريخية تأثر عمليات التفاعل الفكري بتلك العوامل (مادية - إقتصادية - إجتماعية - طبيعية .. إلخ) بدون تأثير يذكر للأفكار ذاتها. لن نستطيع سوى أن نسلم بذلك.
سوف نسلم تباعا مع كارل ماركس بأن الأفكار و الثقافات هي وليدة تلك العوامل الإقتصادية / الإجتماعية و سوف نصفق لإعادة الوضع الطبيعي للدياليكتيك بعد أن قلبه هيجل رأسا على عقب.
ثم سنصل للتسليم أيضا بمقولة نسبية الثقافات و الجزر المنعزلة. فلا يوجد حوار ثقافي فكري إذا - و حوار الحضارات هو عبارة عن حوار أو صراع مادي إقتصادي و الإنتصار فيه للأقوى - و الأقوى هنا المقصود به ماديا و إقتصاديا و إجتماعيا .. و ليس لأفكار التي لا يوجد لها ناقة و لا جمل في هذا الصراع.
الأفكار هنا هي عبارة عن إفرازات ثانوية ذات وظائف تحددها و تدفعها العوامل المادية.
و إنطلاقا على ذات هذا الطريق من التسليمات فحتما سوف تفقد الأفكار أي مصداقية أو قوة لذاتها - لن يكون هناك حقائق موضوعية - سوف نصل مع ليبنتز لنظرية الساعات المنعزلة التي لا يوجد بينها أي مشترك سوى أنها مضبوطة على نفس الوقت.
سوف يرسى بنا مركبنا عند أعتاب مدارس الفوضى التامة.
لكن و عند وصولنا لنهاية هذا الطريق - سعداء كنا أم مرعوبين من الفوضى - فلابد أن نفيق على الواقع - العالم الذي نعيش فيه من حولنا - سيد الأدلة و سيد الموقف. العالم الذي نعيش فيه و نستطيع فيه التواصل معه و مع أنفسنا و مع بعضنا البعض بغض النظر عن إثنيتنا و عاداتنا و معتقداتنا - ينكر بما لا يدع مجالا للشك وجود تلك الفوضى الفكرية.
يالها من حيرة إذا!!!
هل نستخلص من هذا العصف الذهني أن التفاعل الحضاري (حوار الحضارات) هو تفاعل مادي إقتصادي في الأساس و لا دخل للأفكار به و نقبل بنتائج هذا الفرض بدءا من نسبية الثقافة و صولا للفوضى ذاتها مناقضين بتلك النتائج واقع العالم الذي نعيشه؟
أم نتمسك بأن الأفكار تنتشر أو نقرض تبعا لقوانينها هي و لقوتها الذاتية مناقضين إستقراء التاريخ الذي يصرح بغير ذلك على الأغلب؟
لعلنا أخطأنا الحسابات و أو قد يكون "التعميم" - العدو الأكبر للعقل البشري - قد أدخلنا في متناقضة وهمية لا وجود لها.
و قد تكون الإجابة على كلا السؤالين تصلح بنعم.
هل نستخلص من الأمثلة التاريخية السابقة أن التفاعل الحضاري (حوار الحضارات) هو تفاعل مادي إقتصادي في الأساس و لا دخل للأفكار به و نقبل بنتائج هذا الفرض بدءا من نسبية الثقافة و صولا للفوضى ذاتها مناقضين بتلك النتائج واقع العالم الذي نعيشه؟
أم نتمسك بأن الأفكار تنتشر أو تفرض نفسها تبعا لقوانينها هي و لقوتها الذاتية مناقضين إستقراء التاريخ الذي يصرح بغير ذلك على الأغلب؟
في إستقرائنا للتاريخ - و الذي نحاول أن نستخلص بواسطته قانون ما - دعنا ننتقي مثال ذو صلة مباشرة بنا: و هو الصدام الحضاري الشرقي / الغربي.
و بالرغم من إمتداد هذا الصدام عبر الزمن منذ بداياته حتى الآن - هادئ حينا ساخن و دموي أحيانا - مما قد يعطينا إيحاءا بإمكان إعتباره صداما واحدا ممتدا عبر الزمن - إلا أنه و عبر تدقيق هذا الفرض قد نجد ذلك التعميم القاتل الذي وقعنا فيه حين وصولا للتناقض أعلاه باللون الأحمر.
و بداية - دعنا نقسم هذا الصدام لمرحلتين:
(أ) الصدام الغربي / الشرقي منذ بدايته مع الفتوحات الإسلامية مرورا بالحروب الصليبية و حتى أول الحقبة الإستعمارية هو صدام حضاري (إسلامي / مسيحي) بالأساس مع التقرير بعد إمكان عزل ذلك الصدام - أو أي صدام آخر - عن الدوافع السياسية و الإقتصادية.
ففي البدء كانت أطماع العرب الإقتصادية تعمل جنبا بجانب معتقداتهم كدافع و ذخيرة للصدام الدامي.
ثم أتى دور الأطماع الإقتصادية الأوروبية معززة و مدفوعة بمعتقداتهم أيضا كدوافع للصدام الدامي أيضا.
(ب) الصدام الغربي / الشرقي الحالي هو صدام حضاري (إسلامي / ؟؟؟؟) مع التقرير أيضا بعدم إمكان عزل الدوافع الإقتصادية و السياسية.
أولا دعنا نعزل العوامل و الدوافع الإقتصادية و السياسية من كلا المرحلتين - ليس لعدم وجودها أو عدم أهميتها - بل على العكس لوجودها الدائم و الملاصق لأي صدام أو تفاعل حضاري - حتى بين قوميات أو عناصر الحضارة الواحدة. فتلك الدوافع و الأطماع تحكم أيضا علاقات ذات الدول الغربية مثلا بعضها ببعض و بالمثل دول المشرق.
في كلا المرحلتين (أ) و (ب) الصدام الشرقي / الغربي هو صدام حضاري فكري بالتأكيد. لكن يجب ألا نقع في خطيئة التعميم القاتلة هاهنا. فمصطلحي (فكري و حضاري) مصطلحات مطاطة ذات عمومية شديدة. فمصطلح (فكري) على سبيل المثال قد يحوي كافة أطياف الإنتاج الإنساني منذ خطوطه على جدران الكهوف مرورا بالخطابات الدينية و الإنتاج الفلسفي حتى أعقد النظريات العلمية.
دعنا نعود و ندقق أكثر يفما بين المرحلتين من أوجه تباين:
في المرحلة (أ) و كما قد أسلفنا فالصدام الشرقي / الغربي هو صدام حضاري أو فكري (إسلامي / مسيحي). أي أنه صدام بين مجتمع ذو مرجعية (دينية - إسلامية) مع مجتمع ذو مرجعية (دينية - مسيحية).
فالصدام في تلك المرحلة بين مرجعيتين كلاهما ديني غيبي - بل و تنتميان لنفس التصنيف و هو الأديان السماوية. فكلا المجتمعين أقرب كثيرا للآخر من عداهما على عكس مما قد يتراءى.
لكن و في واقع الأمر فلا يوجد بين المرجعيات الدينية سوى حوار الطرشان - وهذا راجع لطبيعة المرجعية المعرفية الدينية ذاتها.
ما قد يسمى - على سبيل المجاز هنا - بالتفاعل الفكري قد لا يحمل في الواقع أي حوار يعتمد على القوة الذاتية للأفكار بل تحسم نتائج هذا التفاعل عوامل أخرى كثيرة مما قد ذكرناها في أول المقال - ليس من بينها قوة أو تهافت الأفكار في ذاتها.
و لكي نقترب أكثر من فهم ذلك - فالحوار أو التفاعل بين أفكار ما بقصد غلبة أحدهما على الأخرى يجب أن يرتكز على وسائل قياس و تجريب مشتركة بين المتحاورين. و إلا فهو حوار طرشان بلا نهاية.
المرجعيات الدينية هي مرجعيات غيبية لا تمتلك أي وسيلة قياس و لا تجريب في هذا العالم الذي نعيشه و تباعا لا تمتلك ضمنيا أي إمكانية لمجرد وضع الحوار مع ذات نفس نوعيتها.
و الصدامات تحت هذا النوع - الصدامات الحضارية الدينية - لا يحسمها غالبا إلا الدم - هذا إذا لم يكن هناك توازن نسبي في القوى المادية بين المجتمعين مما قد يمنع أن يفني أحدهما الآخر ماديا أو على الأقل أن يغزو و يستعبد أحدهما الآخر - تاركا عوامل أخرى نفسية و إقتصادية لكي تقوم تباعا بعملية إفناء لفكر الآخر و تغييره و إستبداله.
القوة المادية هنا هي الأساس - و لا يتناقض ذلك أبدا على أمثلة قد إنمحقت فيها حضارات و مرجعيات بدون إسالة الدماء - هذا لو إفترضنا ذلك - على يد أفكار تنتمي لذات المرجعيات الغيبية. فحالات نجاح التبشير المسيحي في مجتمعات بدائية لسيت مؤشرا على أن الأفكار الدينية المسيحية أكثر صحة و أقرب للصواب من الأفكار الدينية الوثنية مثلا فلا يوجد أي دليل أو تجربة لإثبات ذلك - و ليس من الجنون مثلا أن يرفض أي وثني تقبل المسيحية - مثلما يكون من الجنون أن يرفض أي إنسان - وثني أم مسيحي - قبول أنه سيموت إذا لم يتنفس الهواء.
ففي الحالة الأولى - فالشخص الرافض للمسيحية قد ينعت بالكافر أو الشرير أو تابع الشيطان مما قد يوجب محاربته و قتله مثلا - لكنه لن ينعت أبدا بالمجنون. أما في الحالة الثانية فهو مجنون خارج عن دائرة الإنسان العاقل يستحق الشفقة (أو السخرية أحيانا).
فالحالة الأولى لا إثبات لها و لا تجربة و لا يوجد أي قياس إنساني مشترك يجعل رافض المسيحية مجنون. بينما يكفي أن يجرب أي إنسان الإمتناع عن التنفس ليعلم أن الموت هو النتيجة الحتمية.
و حالات نجاح التبشير المسيحي هاهنا راجع لإنسحاق المجتمع البدائي تحت قوة المجتمع المسيحي الإقتصادية و المادية - الإكراه المادي ليس ضرورة - حيث لن تعود تكفي هذا المجتمع البدائي مرجعيته بل و كافة أساليب حياته أمام قوة الوافد. و لما كانت تلك المرجعيات الدينية البدائية مرنة بطبيعتها فمن السهولة بمكان إستبدالها نهائيا بالمسيحية أو الإسلام أو خلافهما.
في المرحلة (ب) فالأمر جد مختلف - فالصدام الشرقي / الغربي هو صدام حضاري أو فكري (إسلامي / ؟؟؟؟) - ماذا يمكن أن نضع في الشق الثاني من القوس بدلا من علامات الإستفهام؟
حسنا لن يمكننا و بالتأكيد وضع كلمة مسيحي بدلا من علامات الإستفهام. بل و لن يمكننا الإستمرار في إفتراض أنه صدام بين مرجعيتين دينيتين بعد الآن. فبينما بقى وضع المجتمع الشرقي مجتمع ذو مرجعية (دينية - إسلامية) فالمجتمع الغربي أصبح ذو مرجعية (علمية).
بل و لانبالغ إذا قررنا أننا قد نرتكب خطيئة فادحة إذا جعلنا مصطلح (صدام فكري) يجمع كلا المرحلتين.
فالمسألة لم تعد في مجرد تغيير المرجعية الفكرية لأحد المجتمعات المتصادمة - بل تغيير نوع و كيف تلك المرجعية من أساسه.
إن التغيير الحادث بين المرجعية المسيحية و المرجعية العلمية ليس تغيير في المحتوى فقط - بل هو إنقلاب تام على إطار ذلك المحتوى أيضا. لقد تغير (الباراديجم) و نتج ما نسميه (القطيعة المعرفية) في هذا المنعطف التاريخي.
إنه و في نفس وقت تطاحن المرجعيتان الدينيتان (المسيحية / الإسلامية) ظهرت و أخرى ثالثة لكي تتصادم ليس فقط مع محتوى المرجعيتان - بل و مع إطارهما العام من أساسه.
و بينما تنطبق نظريات مثل الأطار(*) و الجزر المنعزلة و بسهولة في حالة المرجعيات الغيبية (المسيحية - الإسلامية - اليهودية .. إلخ) أي في حالة المرحلة (أ) من الصدام - و هذا لطبيعة تلك المرجعيات الغيبية غير القابلة للحوار و التجريب و التبادل. إلا أن تلك النظريات لا تنطبق إطلاقا على العلوم و آثارها تباعا. و التي يمكننا وصف معارفها بالقهرية و بغض النظر عن أية مرجعية يعتمدها الفرد.
تلك المعرفة القهرية إخترقت - ثم إصطدمت بالمرجعيات الغيبية - ليس كهدف من أهدافها غالبا - بل لأسباب ترجع لطبيعة منهجها.
بشكل تدريجي نوعا ما - إخترقت تلك المرجعية الجديدة أحد المجتمعات المتصادمة - المسيحي - و كان نتيجة هذا الصدام أن تم تفتيت المرجعية السابقة لها في آخر الأمر. و في ذات هذا الوقت كان المجتمع الآخر - الإسلامي - يغط في سباته و عزلته - مستندا على ذات مرجعياته.
و في تلك الفترة أيضا إختلت موازين القوى تماما بين المجتمعين المتصادمين - ليس لأسباب طبيعية أو كوارث أو إختلال في أعداد البشر - بل لأن المرجعية الجديدة مكنت من إمتلاك القوة المادية.
و في فورة الإحساس بتلك القوة - و بدوافع الإقتصاد و الكره القديم .. و غيره - غزا الغرب الشرق الضعيف نسبيا - مسببا أكبر صدمة حضارية يمكن أن يتعرض لها مجتمع.
الصدمة - لم تكن و لم تستمر إلى الآن - بسبب الهزيمة العسكرية أو فترة إمتصاص الثروات - فهذه الأحداث كانت دائمة التبادل بين الشرق و الغرب.
الخوف أبدا لم يكن حينها - و لا في أي وقت - من الصدام المادي و حتى الدموي منه. فالخوف الحقيقي و الدفين كان و لا يزال في الحوار و ليس في الصدام المادي.
إن الصدمة المفاجئة بالمرجعية الغربية الجديدة - و التي حاورتنا و مازالت رغما عن إرادتنا - و التي لم و لن نستطيع رفضها بسهولة - ولا حتى بصعوبة - كما المرجعية الغربية المسيحية السابقة عليها - سببت لنا حالة من التقوقع الحاد على الذات و النكوص عبر التاريخ - نستنجد بشخوصه الأسطورية - من هزيمة حوارية حادة.
إن الفكر الجديد لن يمكننا أن نوصمه بالكفر و الضلال و تحريف الشياطين كما السابق - بل و لن يمكننا من نقده و الإعتراض عليه ثم رفضه إلا من ذات منهجه - أي بالتجربة و الواقع - أي أننا لابد أن نعتنقه حتى ننتقده. إنه فكر قاهر و ضاغط على مجتمعاتنا ذات السبات الطويل. و التي أصبح يتزان فيها بوادر الإنفجار تحت وطأة الضغط مع مظاهر تكريس التقوقع و النكوص.
إنه لمن غير الواقعي تفسير حالة الإستنفار و الفوضى في مجتمعاتنا بمخاوف تتعلق بالغزو أو العدوان المادي الغربي - حيث أنه لا يوجد عمليا ما يمنع ذلك إطلاقا. فموازين القوى الحالية شديدة الإختلال - هذا و إن وجد ثقل ما في كفتنا - فإنه و بالضرورة مستورد من الغرب.
لقد إنتهى العصر الإستعماري من ناحية الغرب - هذا نحن متأكدين منه. فلو كان هذا وضع موازين القوى إبان الصدام الديني في المرحلة (أ) لكان لحالتنا تلك ألف تفسير - بل و لم تكن لتدوم تلك الحالة طويلا - حيث أننا حينها في مواجهة دامية مع مجتمع يستطيع سحقنا في بضع سويعات.
كما أنه ليس من الواقعي أيضا تبرير هذا الإستنفار و النكوص و التقوقع بمخاوف تتعلق بإستغلال الغرب لثرواتنا - و هذا ليس نفيا لوجود هذه الأطماع الغربية أصلا - بل أن تلك الأطماع هي قاسم مشترك بيننا و بينهم و بين كل البشر. فنحن نمتلك ثروات طبيعية هائلة - نستطيع بيعها و التحكم فيها و إستغلال عائدها - و كون أننا لا نستطيع التحكم الأمثل في كل ذلك فلا يلام عليه إلا أنفسنا.
و عودة للسؤال "صدام الحضارات أم حوار الحضارات؟" فالسؤال لا يمثل طريقان يختار منها السالكين بالإرادة كما قد توحي صيغته بذلك.
ففي الواقع "حوار الحضارات" قد حدث بالفعل - و رغما عن إرادتنا - و لعل هذا الحوار القهري هو القائد الفعلي ل "صدام الحضارات" تحت وطأه ضغوط الهزيمة الحوارية و عدم التكافؤ.
لقد إنتقل مونولوج "حوار الحضارات" من داخلنا إلى ديالوج "صدام الحضارات" بالخارج كحيلة دفاعية - ليس ضد تهديد خارجي - بقدر ما هو تهديد داخلي بفقدان الهوية.
إن "صدام الحضارات" هي مشكلة المجتمع الإسلامي وحده و هي مشكلته مع ذاته بالأساس. نقلها هربا لجميع الأطراف المتاخمة له و للعالم من حوله. و للأسف فكافة الشواهد تشير إلى إستعداد هذا العالم للصدام القادم و الذي قد يفجره أي مختل - بما قد لا يبقي و لا يذر من مجتمعاتنا إلا التاريخ.
المصدر: http://www.nadyelfikr.com/showthread.php?tid=12185&page=4