الاحتلال الفكري وإقصاء العقل
تسافر في فضاء التأمل أحلامنا تبحث عن هوية لنا في هذا الكون المترامي، لتحلق فيه أرواحنا تفتش عن ذاتنا. هويتنا في هذا الكون انسانيتنا وذاتنا فيه أحلامنا وحريتنا، من يحاول طمس هويتنا لا ينتمي لهذا الكون ، بل هو مغتصب يحاول فرض ثقافة قسرية ودخيلة على الانسانية.
ان من يصادر فكر الانسان وحرياته ماهو إلا محتل يريد استعمار عقولنا بفكره المريض، ويفرض علينا قسرا ما يجب أن نفكر ونحلم به حسب رؤيته الضيقة. الاحتلال ليس احتلال الأرض فقط بل هو احتلال الفكر أيضا، وهذا اخطر بكثير من أي احتلال آخر. فعندما يُغتصب العقل ويستباح الفكر الانساني فان ذلك يعني إلغاء الانسان ككيان منحه الخالق سبحانه وتعالى حرية التفكير والتأمل ، ليس لأحد على هذا العقل وصاية بعد أن مُنح من خالقه حرية ما يختار وما يفكر ويحلم به قال تعالى ﴿افلا يتفكرون﴾.
ومن أخطر انواع الاحتلال الفكري هو احتلال الفكر الجاهل المتخلف الذي يرى أصحابه انهم بفكرهم الرجعي سينتشلون البشرية من براثن الضياع، المتمثل في فكر يزعمون انه سيهلك الإنسانية ويقودها الى الضياع لمجرد أنه يتعارض مع فكرهم، وهم في الحقيقة لم يقدموا للبشرية إلا الخوف والشك والتوجس من أمور غيبية لا يعلمها إلا خالق الكون، آمنوا بالخرافة فصدقوها، وكفروا بالإبداع والتأمل فأنكروها وجرموها، احتووا البسطاء وسلطوا عليهم سياط الدين ليرهبون به عقولهم، ويزرعون الخوف في نفوسهم حتى لا يفكروا إلا بما يمليه عليهم هؤلاء المتسلطين على عقولهم، وإلا فالويل والثبور لهم بما غرسه هؤلاء في أذهانهم وأوهموهم به من العقاب الذي سيحل بهم ، لأنهم خالفوا تعاليم هؤلاء الذين يدّعون أنهم خلفاء الله في الارض وهم فقط من يمتلك الحقيقة ومن لديهم طوق نجاة البشرية ،إن من يدعي أنه الحق وغيره الباطل ماهو إلا انسان مريض بحب التملك والوصاية على الغير.
الادعاء بامتلاك الحقيقة هو تعد سافر على فكر الانسانية مهما اختلفت الرؤى وتعددت المشارب ،وإقصاء للرأي والفكر الآخر المختلف مع أصحاب هذه الرؤى. من يحاول تقزيم الآخرين وتهميشهم هو في الحقيقة مخلوق مشوه لديه افلاس فكري يريد أن يخفيه عن الآخرين، ويرى انه بتهجمه على كل من يختلف معه سيستر به عورته الفكرية، التي بدأت تتكشف قبحا أمام العامة الذين يعتقد أنه قد سيطر على عقولهم وامتلك فكرهم وإرادتهم بما يهذي به عليهم، لم تعلمهم تجارب الحياة والأحداث التي يمر بها العالم اليوم أن الزمن قد تغير، وتغير معه فكر الانسان وهمومه، التي لا تعني لهؤلاء المرضى أي شيء غير اشباع رغباتهم الخبيثة بزرع الشر والفتن بين بني البشر ،لقد أصبح العالم قرية صغيرة وثقافة الصراخ التي أضحت في عصرنا مدعاة للسخرية والتندر قد ولـّت ولم تعد تنطلي على أحد لأنها أصبحت تكرارا مملا في زمن يحتاج فيه الانسان الى من يخاطب عقله ووجدانه ويتلمس أوجاعه وهمومه بدل أن يعبث بها.
من يتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة هو انسان اقصائي في المقام الأول، ينتمي لفئة المستبدين وسماسرة العزف على أوجاع الناس. فعندما يدّعي أي انسان امتلاكه للحقيقة وينكر على غيره ذلك فانه يدل على ان فكر هذا النوع من البشر هو مبدأ "اقبل بما اعتقده ولا تجادل"، ليعطي هؤلاء لأنفسهم شرعية الغاء الآخر وإقصائه بما يعتقده أو يؤمن به هذا الآخر، ويفرضون عليه فكرا واحدا لايقبل الشراكة والحوار مع غيره المختلف فكرا ومعتقدا ،وبهذا الغي العقل كي لايفكر إلا بتوجيه من مدعيي الفضيلة. من الذي أعطى لهؤلاء الحق بالوصاية على عقول الناس؟! وتصنيفهم لفئة ضالة وفئة ناجية!! لمجرد أنهم اختلفوا معهم في الفكر والمعتقد ،بينما الاختلاف سنة كونية بدأت بها الخليقة وستنتهي فهي ارادة الله في خلقه قال تعالى ﴿وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ وقوله تعالى ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾.
لقد بدأت تبرز من جديد في هذا الفضاء الاعلامي المفتوح والغير مسئول، منابر الاقصاء الفكري والمذهبي التي يتزعمها مجموعة من المرتزقة والمتمصلحين باسم الدين لأهداف عدة (مادية وايدلوجية وسياسية)، تعود على هؤلاء بعوائد مجزية من خلال اتصالات ومتابعة أعدادا غير قليلة من العامة التي تجرفها مثل هذه البرامج المقيتة ،التي تعزف على وتر الطائفية باسم الحفاظ على الدين وحمايته، وهي تقذف غيرها ممن يختلفون معها فقهيا وفكريا بأبذى انواع السباب والنيل من كرامة الناس وأعراضهم فالصقوا بالدين من السلوك المشين ما ليس في جوهره من قيم ومبادئ سامية، فالدين يدعونا للتمسك بالأخلاق والأدب في الحوار والترفع عن استخدام المنابر لشتم شرائح مختلفة من الناس الذين لا يتفقون معهم في المعتقد بالرغم أنهم يؤمنون مثلهم برب واحد ونبي واحد وقبلة ونسك واحدة ويجمعهم وطن واحد وهم يخالفون بهذا السلوك قول الرسول "انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أصبحت تلك المنابر تظهر لنا كل يوم ناعق جديد وبأسلوب جديد في التطاول على معتقدات الناس وأعراضهم وتسفيه رموزهم الدينية ووصمهم بما ليس فيهم، دون خوف من عقاب بل ابتغاء للثواب حسب اعتقادهم المريض. متى كان الثواب يُبتغى بالنيل من أعراض الناس والتهجم على المؤمنين لمجرد انهم يختلفون مع هذه الفئة مذهبيا. لماذا يُغض الطرف عن بعض الدعاة الذين اتهموا الرسول عليه السلام ببيع الخمر وإهدائها قبل تحريمها بينما اخرج من الاسلام واتهم بالإلحاد من قال في الرسول قولا اخر مشابه لانرضاه أيضا ولكن لأنه جاء من شخص لا يحظى بلقب "فضيلة الشيخ" كان جرمه كبيرة الكبائر. هل جرم من يتجاوز بعض الثوابت في الدين لجهل منه بها أكبر أم تجاوز شيخ دين يفترض انه يعلم اكثر من غيره بأسس الفقه وثوابت الدين؟! ليطالعنا بعد ذلك باعتذار عما بدر منه على صفحته في تويتر فينتهي الأمر عند هذا الحد دون محاسبة له عما ذكره في سيد الخلق عليه السلام. أي منطق هذا الذي يجرَّم فيه الجاهل بما يجهله ولا يعلمه ويبرأ فيه العالم بما يعلمه ويعلم عاقبة فاعله.
لقد آن الأوان لوضع حد لهذه التجاوزات التي ينتهجها بعض مثيري الفتن ودعاة الطائفية. ولن يتوقف هؤلاء إلا بتشريع قانون يجرم ويردع من يتعدى على حدود الغير الفكرية والمذهبية سواء كانوا افرادا او أجهزة إعلامية، وأن يكون هذا القانون واضحا للجميع ومنصفا لهم. وألا يكون أحدا فوق هذا القانون بأي صفة يمتلكها سواء اجتماعية أو دينية تحميه من وصول يد العدالة اليه. بهذا فقط ندرأ الفتنة ونحمي إقصاء أي طائفة لطائفة أخرى في هذا المجتمع.
وفي الختام دعونا نحلم بوطن حرا ابيا موحدا نقيا من الطائفية ومبغضا للعنصرية، يحتضن بدفئه أبنائه من كل الأطياف دون اختلاف أو انتقاص لمواطنة أي طيف فيه. ليكون بإذن الله سدا منيعا في وجه من يحاول العبث به وبإنسانه.