جائزة السلام لقتل مثلث الموت: الإسلام السياسي والقروسطيّة والامبرياليّة
في اللحظات الحرجة للاستبداد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في شخص الرّؤساء المخلوعين ابن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح...
كان الخطاب الدكتاتوري يلعب لعبة راعي القطيع والحامي له من التمزق والعنف والاقتتال الأهلي الداخلي، ومن التهديد الخارجي من طرف الأعداء، كما كان يعزف لحن الخوف وقلق الضياع ومغامرة بعبع المجهول. يخوض معركة ذرف دموع العواطف الأبويّة الجياشة، وهو يترنح مسندا ومدعوما من قبل العصبيات والأصوليات الدينيّة والمذهبيّة والعرقيّة، لكن الشعوب بخطابها الشّبابي والرّبيعي كانت مصرة على القتل الرمزي للأب والتهامه لتحرير كياناتهم وإعلان مشروعهم الوجودي المستقبلي، المؤسس على التعدّد والتنوع والاختلاف الداخلي الذي يجد مرجعيته في ذاته ككيان إنساني، كما يجد مركز ضبطه في داخله منفتحا على الحياة بأوسع معاني الحريّة والتاريخ والإستراتيجيّة المستقبليّة.
«يحل التعدّد الداخلي في الوقت نفسه الذي تتعدد فيه قنوات الانفتاح على الخارج. فبدلا من الأحاديّة المركزيّة يحل التعدد المتكافئ بين الإخوة الذين توافقوا على تنظيم العلاقات فيما بينهم وارتضوا قانونا يلتزمون به طواعيّة ومن الداخل بدلا من القسر والإرغام الخارجيين. إننا بصدد التحول من التبعيّة القائمة على الإرغام إلى التعدد القائم على التكافؤ والاعتراف المتبادل المؤسس على القانون النابع منهم أنفسهم. إن التكافؤ يحمل معه المشاركة بالضرورة ما دامت الخبرة في قتل الأب والتهامه مشتركة والتوافق على قانون التحريم خيارا مشتركا«1 ولم يكن ذلك من صدف أو فجائيات التاريخ، بل كانت أرضيّة خصبة تشكلت من عطاءات مجموعة من المفكرين والكتاب والفنانين والعلماء كعبد الله العروي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، هشام جعيط، نصر حامد أبو زيد، نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف... الذين تفاعلوا بايجابيّة حيويّة وبديناميّة جدليّة بشكل علمي وفكري وفلسفي وفني...
مع القيم الثقافيّة والعلميّة والفكريّة والفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والاجتماعيّة الكونيّة التي أنتجتها الحضارة الإنسانيّة، وفق ما وصلت إليه التجربة الغربيّة دون أن تكون حكرا عليها، حيث أسهمت كل حضارات شعوب الأرض في تكونها وتطورها.
إلى جانب العطاءات الرائعة لنخبة من المناضلين الذين قدموا تضحيات كبيرة وصلت إلى درجة اغتصاب مرحلة زهرة عمرهم في سجون الاستبداد، أو تمت تصفيتهم من قبل تحالف مثلث الموت المتمثل في قوى القمع والمنع والتجريم السياسي والتحريم الديني كشهداء للحريّة والفكر الحر النّقدي والعلمي والديمقراطي مثل حسين مروة، مهدي عامل، فرج فودة، الطاهر جعوت وشكري بلعيد...
لقد كانت قيم التعدد والتنوع والاختلاف والتحرر والاستقلاليّة والعقلانيّة والنّقد والنقض والتخطي والمعارضة تتبلور وتتطور محليا من خلال الاستفادة من العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة وفي الفلسفة العلميّة للغرب، حيث حاولت الطاقات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة التي اشرنا إليها استيعابها وتوطينها محليا، من خلال إعادة إنتاجها وفق علاقة التميز/ الكوني بلغة مهدي عامل.
وبذلك نشأت اطر فكريّة واجتماعيّة للقيم الكونيّة بممارسة صراعيّة إيديولوجيّة وسياسيّة واجتماعيّة ضد قيم الجمود والركود وتسلط وسطوة وقهر وتخلف التحالف الاستبدادي الديني الطائفي السياسي، المؤسس على الأحاديّة المركزيّة ذات الجواب الواحد الجاهز والناجز والنهائي المطلق في المعرفة والسياسة والعلاقات المجتمعيّة الفوقيّة العموديّة، من السماء إلى الأرض، ومن الرئيس والمسؤول والقس والفقيه إلى من يسمون في أدبيات التسلط والاستبداد بالرعيّة والرعاع والدهماء والأوباش والعامة...
ومن الأب إلى الأبناء ومن الرجل إلى المرأة. هذه هي السيرورة التي يمكننا من خلالها قراءة الصراع الراهن في ثورات الربيع العربي، بين قيم الركوع والخنوع والخضوع والذل والاضطهاد الأبوي الدكتاتوري والقهر السياسي والديني والاثني، وبين قيم الحريّة والتحرر والنّقد والعقلانيّة والفكر النّقدي العلمي والتسامح والتعدد والاختلاف والإنصاف والكرامة والعدالة والديمقراطيّة والتمرد والثورة، وبكلمة واحدة إنها ممارسة صراعيّة على كافة المستويات والمحاور بين الموت والحياة، أي بين من يستهلكون قيم الموت ويحنون إلى ألم القبر والعذاب، وبين من يحلمون بغد أفضل ووطن يسع الجميع ويضمن الحريّة والعدالة والكرامة دون أدني تمييز كيف ما كانت مبرراته التي ترفضها القيم الإنسانيّة الكونيّة.
وفي هذا السياق نفهم الأفاق الرحبة والمضيئة والمكثفة المعاني التاريخيّة التي تحملها جائزة السلام التي حصلت عليها توكل كرمان بصراعها ضد الاستبداد الأبوي الأصولي الطائفي السياسي، فمهما كانت الخلفيات والأبعاد التي تحكمت في اختيارات وتوجهات اللجنة المشرفة على الجائزة فإنها تعد بمثابة الفعل الرمزي لقتل الاستبداد الديني البطريكي. ومن هذا المنظور يمكن تحليل هذه المرحلة التاريخيّة التي افتتحتها الثورات كتحول أفقي في طبيعة الأنظمة السياسيّة التي تم خلع رؤسائها، وهي مرحلة بالغة التعقيد وتحتاج إلى جهد نظري فكري ثقافي وسياسي لفهم الفخ الذي تنصبه القوى الأصوليّة ذات الإيديولوجيّة السياسيّة الدينيّة والمذهبيّة الطائفيّة والعرقيّة.
«نحن ننزلق كالرجل الطفل جرحى متألمين نحو الأصل نحو ماض مخدر كنا امنين فيه وكنا نهيمن على مشارق الأرض ومغربها.
نحن ننزلق كبهلوانات على حبل زمن رديء أسيء توجيهه فكان باتجاه الأموات زمن مصاص دماء يقودنا نحو وليمة الأجداد. وليمة مآتم حاضرنا الذي لا يخلع ثياب الحداد. عندما يزورنا أجدادنا بين فترة وأخرى نستطيع أن نستعيد بهم القوة. أما عندما يصبحون مقيمين دائمين فإنهم يلتهمون الفجر والشمس ويحولون الأحلام إلى خريف«2 كما يمكن لذلك الجهد النظري والسياسي مساعدة الأبناء الشباب على قتل الأب دون التورط في عمليّة اغتياله كما تفعل القوى الأصوليّة، كأحد أقنعة الاستبداد، وهي تحاول جاهدة تأبيد التبعيّة والتسلط والقهر والقمع والتخلف، كأدوات لثقافة الموت، وأرضيّة للمشاريع الاستعماريّة، وكأفق للفكر الصهيوني المنتج للحروب والخراب والدمار والتجزئة الطائفيّة السياسيّة، حتى صار ممكنا أن نتحدث عن صهيونيّة إسلاميّة شيعيّة وسنيّة عربيّة وإيرانيّة وأفغانيّة...
«حين يحدث تمرد على هذا النمط من علاقات السلطة فلن نكون بصدد قتل رمزي فيه استيعاب وتجاوز بل إزاء اغتيال يشكل قطيعة. فصورة السلطان يعاد إنتاجها بعد أن تأكل الثورة أبناءها وينشأ أب جديد مستبد يعيد إنتاج الزمن الدائري بدلا من نشوء تاريخ صاعد. «3 من هذه الزاويّة يمكن فهم حركة التمرد التي تعتمل داخليا وهي تواجه كل القوى التقليديّة التي واجهتها أوربا طيلة ثلاثة قرون لتحقيق النقلة النوعيّة من السببيّة الغيبيّة إلى السببيّة العلميّة، ومن سلطة اللاهوت إلى سلطة العقل، ومن الدكتاتوريّة إلى الحريّة والكرامة والديمقراطيّة، ومن اليقين الإيماني الغيبي إلى اليقين العلمي.
وفي أوربا مؤخرا تم الدخول في مرحلة التطور الجنوني السريع وانعدام اليقين بالتجرؤ على العقل وأصنامه وتحطيم كل المعتقدات المتحجرة الغيبيّة والعلميّة، والدخول بتجاسر في معركة المجهول، من خلال التحكم في الواقع وتسييره قصد صناعة المستقبل، عوض عقليّة التخلف التي تتمسك بنمط التفكير الخرافي السحري، خائفة من المستقبل منتظرة ما يخبئه عوض صناعة صيرورته التاريخيّة وتحدي قلق المجهول الاتي. وهذا نتيجة عدم التملك المعرفي لواقعها مما يولد العجز المزمن أمام ظواهر الواقع وقضاياه التي تتطلب التفكير المنهجي والتحليل العلمي العقلاني والفكر النّقدي الجدلي بدل التفكير السحري والغيبي والتقوقع والهروب في الماضي.
إذن نحن إزاء معركة مترابطة ومركبة وبالغة التعقيد، حيث كل شيء يتعرض للمساءلة، الفكري والثقافي والسياسي والمجتمعي والديني، أي أن السيرورة التاريخيّة للمعطيات السابقة التي أشرنا إليها بشكل مقتضب وسريع فرضت نوعا من الزلزلة، فسمحت بان تعالج كل الظواهر والمواضيع والقضايا بصورة إشكاليّة، بما فيها الوحي، حيث لا يستطيع الشاب المسلم اليوم الثائر والمتمرد حقا، ضد قوى الخراب والرعب والدمار والمجازر، تحت ضغط التحولات القيميّة الثقافيّة والاجتماعيّة التي أنتجتها السيرورة التاريخيّة لبلده ضمن ما صار يعرف بوحدة التاريخ العالمي كضرورة تاريخيّة لصيرورة النظام الرأسمالي، أن يلعب لعبة النعامة إزاء ضرورة الأخذ بمكتبسات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والفكر الفلسفي والعلمي الحديث، أي أن إشكاليّة الوحي صارت تفرض نفسها معرفيا ونقديا وعقليا وعلميا واجتماعيا...
فهو لا يستطيع مهما كان اقتداره المعرفي والعلمي والعقلي والنّقدي أن يجاهد باسم الله في حق جاره السني والشيعي والمسيحي ويحلل ماله وعرضه وسبي نسائه وأطفاله وقتله الأخر الشريك في الوطن دون شفقة ولا رحمة، إنه يفكر عشرات المرات من خلال المفاهيم الفكريّة والعلميّة والفلسفيّة الحديثة، كالسؤال النّقدي والشك المعرفي الفكري والإيمان العقلي والاستقلال الشخصي والفعل الحر الإرادي. إن الله الذي يطلب من عباده إعلاء كلمته ودينه من خلال الغزو والغنيمة والخراب وسفك الدماء لا يمكن أن ينسجم إطلاقا مع أبسط القيم والمبادئ الإنسانيّة، وأنه ليس أكثر من اله بشري يتعفن في الصراع السياسي. كما يعرف أن ما يسمى بأحكام الشريعة سياسيا وقانونيا وأخلاقيا هي مجرد جهد فكري بشري تطلبها سياق اجتماعي تاريخي، كممارسات سياسيّة إيديولوجيّة تم فيها السطو على مكانة الله كفاعل أبرز في ولادة وتكون وتطور المجتمع المسلم.
«ويمكننا هنا أن نتحدث عن حصول محو أو طمس تاريخي للعامل- الذات- المرسل الأول والأعظم. كيف؟ عن طريق تعرض صورته في مخيال المؤمنين لتحولات مستمرة يمكن للمؤرخ التحليل وحده أن يحددها ويوضحها بشكل موضوعي. فعلى مستوى اللحظة القرآنيّة نلاحظ أن الله مقدم على نحو لكي يدرك أو يتصور بصفته فاعلا موجودا دائما في الحياة اليوميّة للنبي والمؤمنين. وهذا ما يدل عليه تكرار كلمة الله عكس ما يحدث اليوم من تكرار كلمة إسلام». 4وفي سياق هذا السطو من قبل الوسطاء السياسيين المتمثلين في العسكر والفقهاء نشأت مدونة الحديث، وتم تسييجها إلهيا خدمة لمصالح سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ورمزيّة.
«إن هذه العمليّة المتمثلة بإضفاء السمة الاطلاقيّة على الغائيّة المثلى سوف تشهد انحرافا إيديولوجيا سريا أو خفيا عندما ننقل الوظائف المضطلع بها نحويا وسيميائيا وتاريخيا – في النص القرآني - من قبل العاملين المدعوين الله ورسوله إلى الوسطاء البشريين ويضطلعون بها فعلا. وأقصد بالوسطاء البشريين هنا جميع الفقهاء والمفسرين والمؤرخين القدامى والقضاة. فهؤلاء هم الذين سينخرطون في تفسير كلام الله والتعليق عليه وتكبيره وتوسيعه إلى ما لا نهايّة وذلك تحت تأثير الضغوط المتغيرة للسياقات التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. «5
بناء على هذا الوعي والفكر النّقديين اللذين أسهمت الطاقات الخلاقة السابقة في تأسيسه، بالإضافة إلى توسع القطاع التعلمي وتطور وسائل الإعلام والاتصال والتواصل والثورة العلميّة التكنولوجيّة والمعلوماتيّة يجد الشباب – أتكلم عن شباب التمرد لا عن شيوخ الخضوع- اليوم نفسه مجبرا معرفيا وسياسيا ومجتمعيا على أن يعيد النظر نقديا في كل موروثه الثقافي والسياسي والديني على ضوء الفكر العلمي الحديث، والمعرفة العلميّة العقلانيّة التي أنتجتها العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. بمعنى أن تحديات واكراهات التحديث والحداثة والعولمة التي تعيشها مجتمعاتنا بتفاعل مع المجتمعات الحديثة، بفضل تطور الفكر العلمي والفلسفي والمنهجيات النّقديّة في التحليل والإعداد والتدبير والتسيير والإنتاج والتغيير، تفرض علينا ضرورة القيام بعدة ثورات ضد الهيمنة الامبرياليّة والاستبداد والطائفيّة الدينيّة السياسيّة والأنظمة اللاهوتيّة والدول القروسطيّة التي «تستمر في إهمال المقولات الانتروبولوجيّة والجانب التاريخي الظرفي من السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة التي كانت قد رسخت فيها الحقائق الإلهيّة المعصومة والمقدسة والعقائديّة. ومن وجهة النظر هذه يمكن القول بان الأنظمة اللاهوتيّة تملأ الوظيفة الإيديولوجيّة نفسها التي كان يملؤها جدار برلين»6
وفي خضم هذه المعركة العنيفة التي لن ينهار فيها القديم القروسطي، بكل قيمه اللاإنسانيّة وعنفه الدموي الرهيب المغلف بالقداسة ليعمي العقل والبصيرة عما تحمله الحقيقة المطلقة من شرور التاريخ البشري للاجتماع الإنساني، لن ينهار هذا الإرث الثقيل بسهولة لأنه مترسخ بشكل بنيوي في اللاوعي الثقافي الجمعي للحاكم والمحكوم. مع العلم أن الاستبداد والأصوليّة الطائفيّة السياسيّة تجد دعمها وسندها من الدول القروسطيّة والقوى العظمى الغربيّة والشرقيّة، خدمة لمصالحها في السيطرة والهيمنة، وهذا ما يعقد أكثر مستويات الصراع، لان هذه القوى المضادة للثورة رغم اختلافها فان لها مصلحة مشتركة في إفشال الثورات، مع تباين في الأهداف التي يسعى إليها المحليون في السيطرة على السلطة بالقهر والغلبة، أي قتل الأبناء وسحقهم من قبل الأب الدكتاتوري الذي يتحرك سياسيا ضد منطق التاريخ في التغيير، وضد مصلحة الشعوب والوطن من خلال التخفي وراء محاولة ترسيخ قيم الحقيقة المطلقة للنظام اللاهوتي القائم على مثلث «عنف، تقديس، حقيقة».
مما يجعل من الصعب التفكير في الثورة أو التمرد لتغيير النظام السياسي والاجتماعي المبني على المقدس. إنه الطغيان الذي يتجاوز منطق الاستبداد، فهو لا يمنعنا من القول فقط بل يفرض علينا القول حسب مشيئته ومصالحه وأهدافه. أما القوى الغربيّة والشرقيّة فتهدف إلى إخراج الشعوب من حركة التاريخ والتحكم في منطق تطورها، سيطرة وهيمنة حتى لو تطلب ذلك الإسهام في ذبح الشعوب، ونشر الخراب والدمار ورعب المجازر، كما يحدث اليوم في سوريّة، حيث الشعب السوري محاصر بأسلحة مختلفة من النظام الدموي، ومن الطوائف السياسيّة السنيّة والشيعيّة ذات البعد الصهيوني في القتل والتهجير والتشريد والإبادة، ومحاصر أيضا من الشرق والغرب، حيث القتل واحد بأساليب وأشكال مختلفة. ولأول مرة يسمح المجتمع الدولي بإبداع مفهوم مجازر ما دون فقر الخط الأحمر ومجازر ما فوق الخط الأحمر.
قلت في خضم هذه المعركة يتجاسر الشباب على التمرد وخوض معركة المجهول، وتحدي مخاطر قلق الضياع التي تسكن الفكر العربي والمعارضة السياسيّة التقليديّة، خاصة في الكثير من المقالات التي تناولت حركة التمرد المصري بنوع من قلق الخوف المرضي الذي يبين بجلاء عجز الكثير من المثقفين والنخب على فهم حقيقة المرحلة التاريخيّة وطبيعة الصراع السياسي والإيديولوجي والقيمي، وما يتطلبه من تحديد دقيق لأشكال التحالف الضروريّة التي تعبر عن إدراك عميق للمفهوم الثقافي السياسي «الشعب يريد إسقاط النظام». وذلك من خلال «فعل نضال الثوريين، يتوحدون على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكريّة والسياسيّة في حركة ثوريّة جديدة واحدة تعيد إلى العالم نضارته وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكرا على فكر أو حزب أو طبقة إنها سيرورة تتكامل في الاختلاف وتغتني بروافد التغيير، تصب فيها من كل صوب في كل مرحلة. «7
نحن أمام مهام جديدة على القوى الحيّة أن تبادر لانجازها وخوض معاركها ضد مثلث الامبرياليّة الغربيّة والشرقيّة والدول القروسطيّة والطائفيّة الإسلاميّة السياسيّة هذا المثلث الرهيب يسعى إلى «تدمير الثورة بكل الوسائل بما فيها الحرب الأهليّة. «8 وترسيخ صورة سلبيّة في وعي ووجدان الإنسان العربي على انه غريب عن الثورة ومصادرة حقه في ممارسة التغيير من أجل السيطرة على واقعه وتسييره وصناعة مستقبله ومصيره.
لذلك فالمعركة جسيمة ولابد من خوضها برؤيّة متعددة الأبعاد بعيدا عن القناعات السياسيّة الضيقة التي تسيء إلى ضرورة التحديد الدقيق لقوى الثورة وللقوى المضادة للثورة، دون التموقف سلبيا ضد الفئات التي تنخدع بالخطاب السياسي الطائفي للقوى الإسلاميّة، بل العمل على فك هذا التناقض بين هذه الفئات الشعبيّة التي تسعى إلى التغيير وبين القيادات الإسلاميّة الطائفيّة التي ارتمت في أحضان المشاريع الاستعماريّة، ووضعت حصانة ومناعة الكيان الوطني بين يدي المؤسسات الماليّة والنّقديّة الدوليّة، إذ هرولت إلى المزيد من الديون الخارجيّة بحثا عن الامتيازات التي لا يمكن موضوعيا أن تتقاسمها مع أتباعها نظرا للوضع الاقتصادي المتخلف، والمتميز بمباركة الأصوليّة للسيطرة والهيمنة الامبرياليّة، دون الاكتراث بواقع الشعب الذي كان أساس تفجر الثورات.
بناء على هذا الفهم السياسي الذي ينبغي اغناؤه وتعميق النقاش النظري والسياسي في أشكاله ومضامينه يمكن لحركات التمرد ولكل القوى السياسيّة المعنيّة بسيرورة الثورات أن تتخطى أزمتها وقصورها السياسي، لأن «مأساة الثورة أن تكون أداة الثورة عائقا لها».9 خاصة وأننا في مرحلة تاريخيّة يحاول مثلث الموت السابق تمييع حقيقة الصراع السياسي، بإعطائه شكلا دينيا مذهبيا طائفيا، وإزاحته عن حقيقته السياسيّة كصراع بين الشعوب المقهورة في حياتها الماديّة والمعنويّة وبين مثلث الموت بقواه الفاشيّة الدينيّة الطائفيّة والقروسطيّة والامبرياليّة.
«فالحروب الأهليّة تتهدد بلدان العالم العربي جميعا بلا استثناء وآليّة الصراع فيها تنبئ بإمكان اندلاعها في كل آن. وأنظمة البورجوازيّة العربيّة في أزمة. والتغيير الثوري بات ضرورة ملحة في كل منها. وحاجة يوميّة في نضال الجماهير الكادحة لكن الثورة في انتظار قيادتها، والثورة سيرورة طويلة معقدة ولها مراحل وأحوال"10
إن ما يحدث اليوم في سوريّة يعري بصورة واضحة المشروع الإسلامي الطائفي السياسي في بلدان الربيع العربي، هذا المشروع الذي يجد إطاره الموضوعي في الدولة والفكر الصهيوني الذي يتناقض مع مشروع الشباب الثائر الذي يؤسس أفقه في مشروع الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة العلمانيّة الحديثة. أي إن المسارات التي تعرفها الثورة السوريّة ما كانت لتحدث في ظل وجود في الحكم حاضنة شعبيّة وطنيّة ديمقراطيّة في تونس وليبيا واليمن وخاصة في مصر...
أي أن الثورة السوريّة تكشف بوضوح طبيعة الأنظمة الدكتاتوريّة الروسيّة والصينيّة والإيرانيّة والأصوليّة الطائفيّة السياسيّة الحاكمة في بلدان الثورات الشبابيّة والقروسطيّة الخليجيّة والهيمنة الغربيّة كما تبين بجلاء مدى حجم ونوع المهام التي تواجهها الثورات في سيرورتها الطويلة والمعقدة. «ذلك أن الأوليّة المطلقة في حقل الصراع الطبقي السياسي هي، بالنسبة للامبرياليّة والبرجوازيّة الرجعيّة، وحتى بالنسبة لتلك الفئات الوسطيّة من البرجوازيّة التي تحتل في السلطة موقع السيطرة الطبقيّة- وهو موقع البرجوازيّة بامتياز-؛ أقول: إن تلك الأوليّة المطلقة هي لسد الطريق على الثورة، وتعطيل كل إمكانيّة للتغيير الثوري، وضرب أدوات هذا التغيير، ومنع تحققه، بكل الوسائل، بما فيها الحرب الأهليّة. «11 وهذا ما يجعل من عمليّة إبداع أشكال وأساليب نضاليّة ثوريّة على غرار حركة التمرد المصريّة ضرورة تاريخيّة ونظريّة سياسيّة. لان الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة العلمانيّة الحديثة قدرنا، فهي ليست دخيلة علينا كما ليست خارجنا نطلب استورادها، بل نحن داخل بحرها الدنيوي العلماني الهائج، وعلينا أن نحسن التصرف والتقدير والدقة في التفكير والتحرك واتخاذ القرار والتخطيط في اقتصاد الجهد النفسي والمعرفي والعلمي والنضالي بعقليّة تاريخيّة إستراتيجيّة منفتحة على التعدد والاختلاف الديمقراطي، وإلا سنكون لقمة سهلة للحيتان الجشعة لمثلث الموت.
لهوامش
1- مصطفى حجازي علم النفس والعولمة ص 49
2- فاطمة المرنيسي الحريم السياسي ص 31
3- مصطفى حجازي علم النفس والعولمة ص 59
4- محمد أركون القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب ص 72
5- محمد أركون المرجع نفسه ص 71
6- المرجع نفسه ص 26
7- مهدي عامل الثقافة والثورة من الانترنيت
8- المرجع نفسه
9- مهدي عامل حركة التحرر الوطني طبيعتها وأزمتها من الانترنيت
10- مهدي عامل الثقافة والثورة
11- مهدي عامل حركة التحرر الوطني طبيعتها وأزمتها
المصدر: http://alawan.org/%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8...