الحوار والإصلاح الديني

علي بغدادي  -  شيكاغو

لقد تابعت واستمتعت وأيضا استفدت من حوار دار بين بعض الأخوة على الإنترنيت  بشأن الدين وخاصة فكر المعتزلة والإصلاح الديني.  وأعترف أنه

ليس من اختصاصي أو موضع اهتمامي أن أخوض في تفاصيل هذا النوع من النقاش الكلامي أو الفلسفي.

لكن كل ما يهمني من الحوار أنه يتعلق بالعدل. وما أستنتجه من قراءة تاريخنا السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي هو أن ديننا استخدم لخدمة الظالمين والمستبدين والفاسدين، وأن الدافع ل"لغزواتنا" للشعوب الأخرى هو الغنائم والسبايا لا لنشر العدل في الأرض.

مفاهيمنا الدينية اليوم – من خلال العصور الطويلة - يعتريها الكثير من الغبار والصدأ وتزداد من سيء إلى أسوأ كما هو واضح في المواضيع التي تتطرق لها يوميا الفضائيات، وكما هو ظاهر على أرض الواقع السوري وغيره.  ورغم النور الذي حاول الأفغاني وعبده والكواكبي وحامد أبو زيد وغيرهم من المصلحين أن يضيؤوه في مجتمعاتنا، لكن لم يصغ إليهم ويتأثر بهم إلا القليل القليل من المثقفين والمهتمين.

مفاهيمنا الدينية – حتى التي تخالف العقل والمنطق ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان – متأصلة في عقول الغالبية التي ترفض مواجهتها أو حتى التطرق إليها. والعجيب هو أن الكثير من الناس غير المتدينين يدافعون وبشدة عن الدين في واقعه الحالي، وهناك البعض - وهم ليسوا بقلة - ممن يقتلون الأبرياء ويدمرون الأوطان ويتحالفون مع الشيطان اعتقادا منهم أنهم ينفذون أوامر "رب العالمين".

لم أكن في يوم من الأيام – خلال سنيني الطويلة - أتوقع أن أستمع لما أستمع اليوم من "علماء" الدين من فتاوى تقشعر لها الأبدان، وتشمإز منه النفوس.

"شيخ الدين" السعودي، عبد الرحمن البراك، الذي أفتى حديثا بهدم الكعبة وإعادة بنائها بشكل يمنع الرجل والمرأة من الاختلاط،، جاءنا البارحة بفتوى تقول:

"إن الانتخابات حرام شرعا وهي أمر دخيل على المسلمين وتشبه بالكفار، معتبرا أن الانتخابات تتضمن التسوية بين العلماء والجهال والرجال والنساء وهذا مخالف للعقل والشرع."

وأتساءل، هل لهذا الشيخ "الجليل" عقل؟  دعني أطرح السؤال بأسلوب آخر، هل له دين، وما هو دينه؟  وإذا أرادنا هذا "العلامة" ألا نتشبه ب"الكفار"، فلماذا لا يرجع إلى ركوب الجمال بدلا من التنقل في السيارات والقطارات والطائرات التي صنعها "الكفار"؟  لماذا لا يشرب بول الإبل لمعالجته من الأمراض؟  لماذا لا يعود إلى خيمته وينام بين غنمه؟ 

أنظر إلى ما يدرسه الأزهر "الشريف" – "منارة العلم" - اليوم من موضوعات تدعو إلى التقيؤ:

"تارك الصلاة يجوز قتله ثم شيه على النار وأكله."

أليس هذا الكلام أكثر عنفا مما جاء في التوراة التي كتبت حروفها بالدم والجنس كما يقول الكثيرون يما في ذلك العقلاء من اليهود؟  التوراة تأمر أتباعها بقتل واغتصاب غير اليهود، بحرقهم ومزارعهم، بتدميرهم وقراهم ومدنهم، ولكن التوراة لا تسمح ليهودي بقتل من هو يهودي، مهما اقترف من ذنوب!!

مثالين من تجاربي الشخصية الحديثة جدا، واجهها أو ما شابهها منا الكثيرون، مثالين يعكسان المفاهيم التي ورثناها من "الدين" وتتناقض والعدل، كما أفهمه.

قبل أيام، دار نقاش بيني وبين أحد الأطباء الفلسطينيين عن المهر المأخر الذي تحصل عليه المرأة عند الطلاق.  لقد اعترف "صاحبي" بأن زوجته التي طلقها بعد زواج دام أكثر من ثلاثين عاما كانت امرأة صالحة، شاركته في الحلو والمر، مكنته من الدراسة بعد أن جاء إلى أمريكا - مثلي - دون أن يكون في جيبه قرشا، اعتنت به وببيته وأطفاله خير عناية، وقدمت له الكثير من الحب والإخلاص والاهتمام.

قلت له لا بد أنك أعطيتها عند طلاقها حقوقها كاملة، نصف ما تملك.  صاح بي الرجل غاضبا، حاشى لله الواحد الأحد، كيف تتوقع مني أن أعطيها نصف نقودي وممتلكاتي التي جمعتها بعرق جبيني؟  ألا تعلم أن ما تقوله هو بدعة ويتناقض مع الشرع، ويخالف الكتاب والسنة - في حين أن الرجل لا يصلي ولا يصوم ولا يدفع الزكاة ولا ينوي في يوم من الأيام أن تطأ قدماه مكة أو المدينة.

من الجدير بالذكر هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية "الشيعية" غيرت بعض قوانينها لتتماشى مع العدالة للزوجه، فإذا طلق رجل امرأته فعليه أن يعطيها نصف الثروة التي جمعها خلال الزواج.  أما الغالبية بيننا أصحاب "السنة" – ونحن الأكثرية بين المسلمين في الأرض - فنصر على اتباع "السلف الصالح"، على اتباع قوانين تخدم مصلحة الرجل القوي البنية والعضلات، وتضر بالمرأة الضعيفة جسديا، "المكسورة الضلع".

هنالك مثال آخر من واقع الحياة التي أعيشها، من البيئة حولي:

ترك رجل مسلم سوري سني زوجته الشابة وبناته الثلاثة وهن في غاية الخلق والجمال والرقة، دون أن يترك لهن ولو دولارا واحدا، ترك شيكاغو ليلتحق ب"المجاهدين" في سوريا لمحاربة "الكفرة"، ولا يرضى أن يتلقى منهن أي مكالمة هاتفية، تركهن للكنائس "الصليبية"، تأويهن وتطعمهن.

هل "جهاد" المسلم ضد أخيه في المواطنة، سواء كان مسلما أو مسيحيا أو غيره، حقيقة جهاد؟، وإذا قتل وهو يقتل ويدمر، هل يكون موته "شهادة"؟  وهل سيدخل هذا الرجل "الجنة" دون جدال أو قولان؟  أوليس "الجهاد" الحقيقي للزوج والأب هو العناية بزوجته وبناته بدلا من أن يتركهن في الغربة للضياع؟  والأهم من كل ذلك، هل هذا هو العدل؟ 

دعني أعرج إلى موضوع آخر، يتعلق أيضا بموضوع العدل...

يذكر الأخ محمد - الذي جعلني نوعا ما معجبا بفكر المعتزلة في القرن التاسع الميلادي – يذكر بأحدى حلقاته القصة التالية كمثال على الرقي الفكري لهؤلاء:

"وحُكي أن لصّاً دخل دار معتزلي فأحسّ به فتبعه ، فنزل إلى البئر فأخذ المعتزلي حجراً عظيما ليدليه عليه ، فخاف اللّص فقال : «الّليل لنا والنهار لكم » يوهمه أنه من الجن ، فهزئ المعتزلي بذلك ورمى بالحجر فهشّمه."

هذه الحكاية تزعجني!!!

يركز الأخ محمد في كتاباته عن العدل، وأن العدل عند الله أهم من عبادته، وهذا كما أراه صحيح. فأتساءل، أين العدل في ذلك؟  هل حاول هذا المعتزلي تقصي الحقائق، إذا كان "اللص" جائعا، أو كانت أطفاله جوعى؟  أهل يجوز أن يقتل إنسان أخاه الإنسان لأنه لص فقط؟  أهل يجوز أن يعاقبه بنفسه دون قاض ودون بينات؟  أهل هذا فكر يقر به الله؟  ألا تسيء هذه الحكاية للمعتزلة وأيضا للدين وأتباعه؟

هذه الحكاية تذكرني بقصة موسى عندما انتصر ليهودي كان يقتتل مع أحد المصريين، قصة يتغنى بها المسلمون حتى يومنا هذا.  فبدلا من أن يصلح بين الرجلين، انقض موسى على المصري فأرداه قتيلا.  كيف يمكن لإنسان يختاره الله بعد هذه الحادثة "نبيا وكليما" أن يقوم بجريمة كهذه؟  ألا يدل هذا الفعل على أن موسى عنصري قتل بريئا لا ينتمي إلى جماعته، وكان يجب أن يلقى جزاءه؟

هناك أشياء جميلة وكثيرة أفخر بها في تراثنا الديني:

"وبالوالدين إحسانا، ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما".

"وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم".

"ليس منا من غش".

إلى آخره... إلى آخره...

ولكن هناك مئات الأحاديث أيضا يجب ألا نقبلها وهي جزء مما "جناه" البخاري وغيره علينا وعلى الإسلام، هناك الكثير من الأحداث التي وقعت خلال أربعة عشر قرنا باسم الدين يجب – على الأقل – أن لا نفتخر بها، هناك الكثير من الأمور الدينية والتاريخية التي لا نتطرق لها في مناهجنا التعليمية، ولا تعرف عنها شيئا الغالبية العظمى من "المؤمنين".

بالاختصار، غالبية الناس في كل بقاع الأرض بحاجة إلى دين، وديننا بحاجة إلى إصلاح، والإصلاح يجب أن يأتي من بين المسلمين لا من غيرهم، نحن بحاجة إلى وضع البوصلة بالاتجاه القويم، حتى نستطيع أن نتقدم ونلتحق بركاب الحضارات الإنسانية، حتى نستطيع أن نحيى في عالم مليء بالضباع التي لا ترحم.

ولكن!

حسب قناعاتي الشخصية، ومن تجربة جمال عبد الناصر ومواقفه من الدين، ورميه للظلاميين التكفيريين في مزابل التاريخ، وإصراره بأن الشيعة ليسوا بكفرة، وأن التشيع هو مذهب خامس كالشافعي والحنبلي والحنفي والمالكي، وإيعازه للأزهر بتدريس هذا المذهب، وتشجيعه للطلبة من العلويين السورين بالدراسة في مصر، وتأكيده أن المسلم والقبطي أخوة، يتساوون في كل حقوق المواطنة، إني أقول إن الإصلاح الديني لن ينجح دون أن يسبقه إصلاح سياسي، دون التغلب على الاستبداد والمستبدين، دون قيادة جديدة متنورة تملك بيدها القرار الذي يحرر الأمة من التبعية والتخلف، قيادة تسمح للمفكرين بالحوار الحر والمستقل، تحترم كرامة الإنسان وعقله، تعمل على تنقية الدين من شوائبه ومما يسيء للدين والمتدينين، ويجعل من الدين عاملا للتقدم بدلا من أن يكون عائقا.

 

المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/tanweer/70725.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك