في فِقْهِ الاستبداد الدِّيني
"الاستبداد"، على وجه العموم، مذموم، ملعون، مكروه، مبغوض؛ حتى المُفْرِطون المتمادون في استبدادهم لا يَجِدون في أنفسهم من الجرأة ما يكفي ليُمجِّدوه ويمتدحوه، علانيةً وجَهْراً أمام الملأ؛ وهُمْ يأبون اعتبار أنفسهم مستبدِّين، مُصوِّرين استبدادهم، الذي لا ريب فيه، على أنَّه "فضيلة"؛ ويمارسون من الاستبداد أسوأه ضدَّ كل مَنْ يجرؤ على وصمهم بالاستبداد.
الاستبداد، عند الكواكبي، هو "أصل كل فساد"؛ لكن أليس جديراً بالقائلين بقول الكواكبي أنْ يتوفَّروا على اكتشاف "أصل هذا الأصل"؛ فإذا كان الاستبداد هو أصل كل فساد، فما هو أصل الاستبداد نفسه؟
إنَّني أقبل كل جواب إلاَّ الجواب الذي فيه يُعْزى الاستبداد إلى "النَّفْس الأمَّارة بالسوء"؛ لأنَّ هذا الجواب لا يَصْلُح إلاَّ لإعادة صَوْغ السؤال نفسه؛ فنسأل، عندئذٍ، عن "أصل هذه النَّفس"، حيث تَكْمُن "الأصول"، أيْ نسأل عن أصلها في "الواقع".
"الاستبداد" يلبس لُبُسٌ (جَمْع لَبُوس) عديدة، منها "الدِّيني"؛ وتَوافُقاً مع "مبدأ الكواكبي" لا بدَّ من القول بـ "الاستبداد الدِّيني" على أنَّه "أصل لكل فساد ديني (وفكري)"؛ وكيف لـ "الدِّين" أنْ يَصْلُح سلاحاً في الحرب على الفساد، إذا ما اعترى الفساد الدِّين نفسه، أيْ الدّين في الهيئة التي تجعله فيها "المؤسَّسة الدِّينية"؟!
"الاستبداد الدِّيني" هو مُفْسَدةٌ للعقل والقلب، للفكر والشعور؛ فإنَّ غاية كل مُسْتَبِدٍّ دينيٍّ هي "إلغاء الآخر"، إمَّا بالتي هي أحْسَن، وإمَّا بالتي هي أسوأ؛ إمَّا بـ "إغرائه بالجَزَرَة (بمعانيها المجازية)"، وإمَّا بـ "إرغامه بالعصا (بمعانيها المجازية)"؛ فـ "الأنا (الدِّينية)" يجب أنْ أنْ تنمو وتَعْظُم وتتَّسِع من طريق التهام "الآخر"؛ وكأنَّ جَعْل "الآخر"، مهما كان حجمه أو نوعه، على مِثال "المُسْتَبِد الدِّيني"، في نمطيِّ تفكيره وعيشه، هو ما يستبدُّ به (تفكيراً وسعياً).
و"الحوار (بمعناه الحقيقي)" ليس بـ "الطريق الثالث"؛ فهو لا يَصْلُح إلاَّ "افتتاحيةً" لمسعى "إلغاء الآخر" من طريق "الترغيب (الدنيوي)"، أو من طريق "الترهيب (الدنيوي)".
أقول ليس "الحوار" بـ "الطريق الثالث"؛ لأنَّ "المُسْتَبِدِّ الدِّيني" لا يَقْبَل أبداً "حواراً" له من "المقوِّمات" ما يكفل لـ "الآخر" حقه في أنْ يظلَّ، بعد انتهاء ونفاد "الحوار"، على ما هو عليه من رأي وعقيدة، وما يكفل له، أيضاً، أنْ يظلَّ متمتِّعاً بـ "بسائر حقوقه الطبيعية"؛ حتى "الحوار نفسه" لا يتمتَّع فيه "الآخر" بما ينبغي له أنْ يتمتَّع به من "حُرِّيَّة فكرية"؛ فإنَّ بعضاً من أهم أسئلته وتساؤلاته، ومن أهم ما يراه ويعتقد به، يُمْنَع من أنْ يَشْغُل حيِّزاً من "الحوار"، بدعوى أنَّه "كُفْرٌ" ينبغي لـ "لسان الآخر" ألاَّ ينطق به، وينبغي لـ "أُذْن المُسْتَبِدِّ الدِّيني" ألاَّ تسمعه؛ لأنَّها تمج سماعه!
"الاستبداد الدِّيني"، وإذا ما كان "سلطان الدولة (أو الحاكِم)" مُسخَّراً له، ولشخوصه ومؤسِّساته، إنَّما هو (دائماً) قرين "الامتيازات (السياسية والاقتصادية..)"؛ و"الامتياز"، لا أفهمه، في هذا السياق، إلاَّ على أنَّه إعطاء "المثيل الدِّيني (أيْ الشخص المُماثِل دينياً للمُسْتَبِدِّ الدِّيني)" ما يَرْبو على "حقوقه الطبيعية (بصفة كونه مواطِناً وإنساناً)"، مع سَلْب وبَخْس "الآخر" شيئاً من "حقوقه الطبيعية (بصفة كونه مواطناً وإنساناً)".
وهذا الهضم لـ "الحقوق الطبيعية" لـ "الآخر" نراه بـ "وَجْهٍ حَسَن"، وبآخر "قبيح"؛ و"وجهه الحَسَن" هو أنْ يستخذي "الآخر" لـ "إغراء الجَزَرَة"، فـ "يُعْلِن" انضمامه إلى فكر "المُسْتَبِدِّ الدِّيني"، ليَنْعَم بما نَعِم به "السابقون" من "امتيازات"؛ وفي هذا "الاستخذاء" يكمن التفريط في حقٍّ من أهم "الحقوق الطبيعية (للمواطن والإنسان)"، ألا وهو "الحق في الاختلاف (فكراً وعقيدةً ورأياً وموقفاً)". أمَّا "الوجه القبيح" فنراه في "الثَّمَن الباهظ" الذي ينبغي لـ "الآخر" أنْ يدفعه (من "حقوقه الطبيعية") إذا ما ظلَّ مقاوِماً لـ "إغراء الجَزَرَة".
والمُسْتَخْذون لـ "إغراء الجَزَرَة" ليسوا كلهم متساويين لجهة "صلة ظاهرهم بباطنهم"؛ فإنَّ منهم من يظل مؤمِناً بما كان يُؤْمِن به من قَبْل؛ لكنه يُظْهِر خلاف ما يُبْطِن؛ فـ "الانتهازية" هي فِعْلٌ، أو موقفٌ، تَسْتَكْرِهه "قناعة" صاحبه؛ وهي تقيم الدليل على أنَّ المصالح الشخصية يمكن أنْ تَحْمِل أصحابها على أنْ يُنْكِروا ويُعادوا، في أفعالهم ومواقفهم العملية، حتى ما يرونه بـ "عيون عقولهم" في منزلة "البديهية".
"الدولة (والوطن)" لكل مواطنيها، المتساويين جميعاً في "الحقوق الطبيعية" جميعاً، بصفة كونهم "مواطنين" و"بَشَر". وفي هذه الدولة يحقُّ لكَ أنْ تُحاوِر "الآخر"، وأنْ تسعى، من طريق الحوار، في جعله مِثْلَك، أو يشبهكَ، فكراً وعقيدةً ونمط عيش؛ لكن ينبغي لكَ ألاَّ تسعى في التوصُّل إلى ذلك من طريق غير طريق "مقارعة الحجة بالحجة"؛ فالرأس مُخْتَزَن "القناعات"، تَكْرَه الفراغ، فلا "قناعة" تَخْرُج منها إلاَّ لتحلَّ محلَّها، وتملأ فراغها، في الوقت نفسه، "قناعة أخرى"، هي "ضديدها". وهذا إنَّما يُلْزِمكَ نَبْذ "الجَزَرَة" و"العصا" معاً في سعيكَ إلى اجتذاب "الآخر" إلى ما تراه "حقَّاً" و"حقيقةً".
عِشْ كما تريد (إذا ما استطعت) لكن بما لا يجحف بحقِّ غيركَ في أنْ يعيش هو أيضاً كما يريد؛ وأعني بـ "العيش"، العيش بكل معانيه وأوجهه (العيش الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي..).
وإنَّ مجتمعاً يعلوه هذا المبدأ (مبدأ "عِشْ ودَعْ غيركَ يَعِشْ") لهو مجتمع يتَّسِع لكل من التزم هذا المبدأ، وألزمته الدولة به؛ وإنَّ ما يتحدَّى "الإسلاميين" على وجه الخصوص هو "غزو" عقل "الآخر" بسلاح "الحجة" فحسب؛ فلا "جَزَر" لتأليف القلوب، ولا "عِصِيَّ" لإكراه مَنْ يُؤْمِن بأنَّ اللبن أسود على أنْ يُؤْمِن بأنَّه أبيض، أو لإكراه مَنْ يُؤْمِن بأنَّ اللبن أبيض على أنْ يُؤْمِن بأنَّه أسود.
مِنْ حقِّ كل مواطِنٍ مسلم أنْ يسعى في زيادة عدد المسلمين، أو في تحسين إسلام المسلم؛ لكن ليس من حقِّه أبداً أنْ يسعى في أسْلَمة ما لا يَقْبَل (بحكم طبيعته) الأسلمة، كـ "الدولة" على وجه الخصوص؛ فـ "الدولة" لا تتوضأ، ولا تُصلِّي، ولا تصوم، ولا تحج البيت..؛ هناك أشياء أعْجَزَها الخالِق عن تأدية الفرائض الدِّينية، وجَعَلَها، من ثمَّ، بلا دين، حتى لا تنال منه ثواباً أو عقاباً.
غالبية أبناء الدولة يمكن أنْ يكونوا مسلمين؛ أمَّا هي فقد أراد لها الخالِق أنْ تكون بلا دين، حتى لا تَظْلِم، ولا تُظْلَم.
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/tanweer/74608.html