حرية الرأي في الإسلام

د. عثمان بطيخ

كلمة الحرية لها معنيان قديم وحديث:

فالمعنى القديم هو ضد الرق والعبودية، فالحرّ من ليس بعبد، والحرِّية من الألفاظ الدالة على المعاني النسبية ولاتفهم إلا بفهم معنى الرّق.

فالعبد مأخوذ من التعبيد والتذليل، يقال : طريق معبّد أي مذَلّل يمكن السير فيه بسهولة.

والعبد اسم للآدمي المملوك لآخر وبمقتضى ذلك لاحق للعبد في التصرّف في شؤونه الخاصة تصرّفاًً بالأصالة إلا بإذن سيده.

وهو نظام نشأ قديماًً بسبب الحروب والغزوات ونتيجة تسلّط مجموعة بشريّة على أخرى. فالأسير يقع بمجرّد أسره تحت هذا النظام، ويصير شيئاً من الأشياء يتصرّف فيه بجميع أنواع التصرّف، وينتقل من يد إلى يد  أي من مالك إلى مالك بكل صور وأشكال التصرّف. فالحرّ إذن بهذا المعنى هو الّذي يتصرّف في شؤونه الخاصة بالأصالة بدون أن يتوقّف على رضا غيره

أما المعنى الحديث للحرّية، وهو الذي يعنينا حيث انقرض المعنى الأوّل، فيراد به عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لايصرفه عن عمله أمر غيره، وهو ناشىء عن المعنى الأول بطريق المجاز.

ويبدو أن هذا المعنى قريب من المعنى الأصلي الذي هو ضد العبودية، لأنه إذا كان معنى الحرّىة يطلق  على أن لايفعل الإنسان إلا مايريده وبكامل اختياره ومن غير إكراه ولاتسلّط، كان معناه أننا رفعنا عنه كل قيد  من شأنه أن يجعله ذليلاً منقاداً لمشيئة غيره، وأن يتصرّف تصرفاً لايريده وفيه قهر وإلزام طبقاً لمشيئة غيره. فالحرية بالمعنيين يشتركان في كون الإنسان له كرامته محترم في ذاته وماله وتصرّفه مالك لذلك كلّه أصالة.

وقد ظهر هذا المعنى الثاني للفظ الحرية بظهور الإسلام ثم ظهر في أوروبا بعد الثورة الفرنسية 1789م خلال القرن 18 بعد أن انتشرت مبادىء الثورة التي نادت بالمساواة والإخاء والحرّية.

يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: ( كان هذا الإطار يقارب مايعبر عنه في العربية بلفظ الانطلاق أو الانخلاع من ربقة التقيّد، ولانعرف في العربية مفردة تدلّ على  هذا المعنى).

فهذا المعنى الحديث هو نتيجة وضع اجتماعي كان سائداً قبل الثورة الفرنسية حيث كان الملك مطلق التصرّف والنظام كان إقطاعيا ً، ولما قامت الجمهورية (فرنسا) تحرّر النّاس من هذه القيود، وكان شعارهم الحرّية (La Liberté)، وهو معنى نقيض الإكراه الوارد على لسان الشرع، كما في قوله تعالى : {لاإكراه في الدّين} (سورة البقرة، من الآية: 256 ).

وقوله تعالى: {أفأنت تُكره الناس ََعلى أن يكونوا مؤمنين} (سورة يونس، من الآية: 99) فعدم الإكراه هو الحرّية بالمعنى الحديث.

وفي اللسان العربي أطلقت كلمة الحرية على السلامة من النقائص المعتبرة من صفات العبيد مثل الذّل والكسل والخساسة نتيجة الإرهاق والقهر المسلّطين على الرّقيق تقابلها صفات الكمال التي هي من لوازم الأحرار، فالحرّ هو الخالص من النقص، وهو العتيق من كل قيد .

فالمعنيان متقاربان فهما فرعان لجذر مشترك بينهما، ففي الحالتين هناك شعور بالكرامة والانعتاق والقدرة على التصرف دون قيد ولاشرط.

 والحرّىة بالمعنيين وصف فطري سار عليه الناس منذ أقدم العصور، ثم بتطوّر المجتمعات وتقدّمها في الحضارة والرّقي الفكري تغيّرت نظرة الإنسان للحرّية، وصار معناها حسن التصرّف والاتزان تقيدها العقول السليمة والشرائع السماوية  وبخاصة الإسلام في نطاق المسؤولية الكاملة والكرامة الواعية، فهي مسؤولية، وهي وظيفة اجتماعية مقيدة بما لايتعارض وحرية الغير، فهي حرية نسبية سواء كان ذلك اختياراًَ أو اضطراراً.

 ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإنسانية، نجد أن الحرية لم تكن على إطلاقها، بل هي نسبية إذ وضع عليها الحََجْرُ لمقتضيات الحياة الاجتماعية، وكانت القيود تارة خفيفة لاتكاد تلاحظ وطورا ًتكبل حرية البشر إلى درجة الاضمحلال، وذلك يرجع إلى طبيعة الأنظمة التي سادت الأمم، وما تبعها من وضع للقوانين والتشريعات التي حكمت تلك الأمم.

  وكان هذا التحجير مع أول إنسان خلقه الله تعالى، وهو مازال في الجنة ولم ينزل إلى الأرض بعد، قال تعالى: {ويا آدمُ اسكنْ أنت وزوجُك الجنةَ فكلا من حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}، (سورة الأعراف، الآية: 19).

وبنزول الإنسان إلى الأرض تغيرت حياته، وتأكدت مسؤوليته في هذا الكون، وصار مكلّفاً بواجبات مقابل مايتمتّع به من حقوق، وهذا يتطلّب أن يكون حرّا في إرادته حرّا فيما يختاره من نمط العيش وأنواع السلوك قلنا في حدود معيّنة رسمها له الوحي من اللّه تعالى: {قُلْنا اهبطوا منها جميعاًً فإمّا يأتينّكم مني هدًى فمن تبعَ هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون}، (سورة البقرة، الآية: 38).

فالحرية صارت مقيّدة باتباع ما أمر اللّه به، وليست مطلقة كما ترسمها الغرائز وتسيرها العاطفة، هي حرية منظمة في إطار المسؤولية باعتبار أن الإنسان كلفه اللّه بخلافته في الأرض، وحمله هذه الأمانة الخطيرة ليحافظ عليها، ويقوم بتنفيذها على أكمل وجه بجدارة واقتدار.

وكان أول تنظيم لهذه الحرية في بيان علاقة الذكر بالأنثى حتى لاتسودها الفوضى ولايحكمها العنف والتسلّط والاعتداء.

وكان أول تمرّد على هذا النظام الكوني الإلهي، فيما حدث بين الأخوين قابيل وهابيل من محاولة تجاوز حدود الحريات، وهو ما قصّه اللّه تعالى علينا في قوله، جلََّ ذكره، قصة ابني آدم إذ قرّبا قرباناً فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، حيث عملت العاطفة الجامحة دورها في تحطيم العلاقات المبنية على الاحترام والمساواة، وحق الآخر في الحياة، فيما يملك وبمن يتزوّج، فكان الحقد والحسد والكراهية وحب الذات سبباً في التعدّي والاعتداء: {واتلُ عليهم نبأ ابني آدمََ بالحق إذ قرّبا قرباناًً فتقبّل من أحدهما ولم يُتَقَبّلْ من الآخر قال لأقتلنّك قال إنما يتقبّل اللّه من المتّقين* لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَّ إليك لأقتلكَ إني أخاف اللّه ربّ العالمين* إني أريد أن تَبُوءَ بإثمي وإثمِكَ فتكونَ من أصحاب النّار وذلك جزاء الظالمين* فطوّعتْ له نفسه قَتْلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين}، (سورة المائدة، الآيات: 30-27).

 وهكذا بدأ الصراع بين الخير والشرّ بين الحرية المنظمة والمسؤولية وبين الاستبداد والقهر والتسلّط.

وكلما تقدّمت  الأمم واحتاج النّاس إلى التكامل والتعاون، وهم محتاجون لذلك لأن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه كما يقول ابن خلدون، إلا وكانت الحرّىة مطمحاًً منشوداًً وقيمة إنسانية وركيزة اجتماعية يتعلق بها الإنسان، لكي تستقيم أموره، وكلما أوغل في الحضارة إلا وازداد تعلّقه بها، ووضع لها الضوابط والقوانين المنظمة لها والتي تحرس كيانه، وتوفّر له الاستفادة منها، واستثمار مواهبه في رحابها. وكلّما أوغلت البشرية في البداوة، وابتعدت عن الحياة المدنية، وكانت خالية من المعارف والعلوم إلا وكانت بعيدة عن الحرية، وما تتطلّبه من مسؤوليات، بحيث كلّما أوغلت الأمة في البداوة كانت أبعد ماتكون عن الحرّية ومكاسبها، وكلما تقدّمت في  الحضارة إلا وازدادت ولوجاً في عالم الحرّية.

ولما كانت البداوة سابقة كانت المجتمعات البدائية خالية الذهن من مفهوم الحرّية لعدم ميلها إلى الاستقرار والتعاون فيما بينها، والخضوع إلى النظام وعدم الشعور بالمسؤولية، وليس لها ما يجبرها على التقّيد بأي قيد أخلاقي وإنساني. فإذا انسلخت من حريتها كان الجهل والظلام، وكان عالم الفوضى والاستبداد، وما يتميّز به من انحلال وتمرّد على العقل والجنوح إلى تحكيم العاطفة التي لايحدها حدّ، ولايثنيها تفكير، فتسلب الأمة من إرادتها، وتنهار عزيمتها، ليسودها العنف وقانون الغاب، فهي إلى التوحش أقرب، ونحن إذا استقرينا التاريخ وحياة المجتمعات على مرّ العصور، نجد أن هناك دورة منتظمة وقانوناً ثابتاً هو أن الحياة الإنسانية غير مستقرّة على نمط واحد من الحياة، وهناك تداول مستمرّ على حياة الشعوب والأمم في حركة جدلّىة بين الحرّية ونقيضها، تشكّلت عبر العصور بأشكال متعدّدة، لكننا لودققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى معنى واحد لمفهومي الحرية ونقيضها.

فالإنسان يكون حريصاً على حريته، فيجاهد من أجلها لاكتسابها والتمتّع بها، ولما كان النّاس على درجات متفاوتة في قدرتهم على اكتسابها واستثمارها فيما وجدت من أجله، فإنّه قد يفقد حريته نتيجة صراع البشر والأفراد حولها، فينحاز دون إرادته في بوتقة الفوضى أو نقيض الحرية، وهي العبودية والقهر والتسلّط.

 وهي ملاحظة المفكر الإسلامي ابن خلدون عندما ذكر في مقدمته الخالدة أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليها، وأنهم أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر، وأن الأمم الوحشية أقدر على التغلّب ممن سواها، وأن النعمة وانحلال العصبية والرق يؤدي كل ذلك إلى الانحلال ثم المذّلة والانقياد للغير (الفصل التاسع عشر)، وبذلك تفقد المجتمعات حرياتها ويصيبها الوهن والانحطاط. ويمكن القول أن ابن خلدون قد تفطن بدقة ملاحظته واستقرائه لأصول الشعوب إلى أن الحرية قيمة حضارية أصيلة بدونها لاتكون للأمة كرامة ولاتستطيع أن تبني حضارة، وهو وإن كان لم يفصح عن ذلك صراحة، إلا أن مجمل كلامه يدلّ على أن معنى الحرية كان حاضراً في ذهنه.

وكانت المجتمعات القديمة منقسمة إلى طبقات متباينة ومتنافرة، وهو تقسيم مشروع في نظر الساسة والفلاسفة وحكماء تلك الأمم. وتبعاً لذلك التقسيم الطبقي المصطلح عليه قديماًً وهو أن المجتمع يتكوّن من سادة وعامة، كانت الحرية امتيازاًً وحقاً للطبقة الأرستقراطية الحاكمة دون غيرها، أما العامة فهم جند وفلاحون وأسرى عليهم العمل لفائدة الأشراف، ولاحق لهم في الحياة إلا بقدر ما يسدّ رمقهم من الضروريات. فكانوا عبيداً أرقّاء أذلاء مستضعفين في الأرض، وتبعاًً لذلك كانت ملكاتهم الفكرية معطّلة، فسيطرت عليهم الأوهام والخرافات، واستسلموا لتعاليم رجال دينهم، الّذين كانوا في خدمة الملك، المتفرّد بالرّأي والتدبير، المعصوم من الخطإ في نظره، لارقيب له ولاحسيب.

كان ذلك سائداً في المجتمعات الوثنية القديمة على حدّ سواء. والعجيب أن الحكماء أمثال أرسطو وغيره، كانوا يتصوّرون المجتمع طبقات لكل طبقة حدود، وكأنهم كانوا يكرسون واقعهم الذي لم يقدروا على  بلورته ولا إصلاحه.

ولعلّ العلاقات المتوتّرة بين الأجوار، والحروب التي كانت  سائدة بينهم، ساهمت في بتكريس الواقع الذي كانوا يعيشونه، والذي صار لديهم أمراً عادياً. أما السلام  والمصالحة والعدل فهي استثناء، بل ربّما لامعنى لها في سبيل فلسفاتهم، لذلك لاغرابة أن نجدهم يقرون بفكرة العبودية، ويستحسنونها باعتبار أن العبيد أسرى الأعداء المحاربين الذين لاحق لهم في الحياة، وإذا عاشوا كان لابدّ من التشفي فيهم وإذلالهم بكل قسوة ووحشية شأنهم شأن الدّواب المسخرة للخدمة لاغير، كان هذا النظام سائداً في الحضارات القديمة الشرقية منها والغربية على حدّ سواء، في اليونان بلاد الفلسفة والثقافة والحكمة، أو في الهند والفرس وروما،  والحضارات القديمة كحضارة الفراعنة، والتي قال اللّه تعالى في شأنها: {وإنَّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شِيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّحُ أبناءهم ويَسْتَحْيي نساءهم إنه كان من المفسدين}،(سورة القصص، الآية: 4).

 ففرعون قد ملك أمماً وسخّرها تسخيراً لبناء الحضارة المصرية القديمة، فكان يَسْتَحْيي طائفة من النساء للخدمة والرّجال للعمل الشاق، ويقتل الأبناء والأولاد خوفاً على مصالحه وعرشه من الهلاك.

 ولكن يبدو أن الوضع في الضفة الغربية من البحر المتوسط كان أفضل حال مما كان عليه شرقاًً، إذ كانت الحضارة القرطاجية مُتَّسمة بطابع الاعتدال في ذلك بالرغم من أن نظامها كان طبقياً، لكنّها كانت أكثر تسامحاً مع العبيد اجتماعياً.

تقول الكاتبة والباحثة الفرنسية (مادلين هورس ميادان) عن الحياة الاجتماعية في قرطاج: " احتفظت بعض الأسر العريقة والغنية التي يرجع أصلها إلى مدينة صور بمراكز الدولة ووظائفها الأساسية. لكن القرطاجيين لم يكونوا عنصريين، فغالباً ما تزوّجوا بالنساء الأجنبيات... وكان العبيد الكثيرون وغالبيتهم من أصل إفريقي يعاملون معاملة حسنة قد سمح لهم القانون بالزواج كما  أعتقوا مراراً".

ولعلّ هذا التسامح والاعتدال يرجع إلى عناصر متعدّدة منها أن القرطاجيين هم من أصل شرقي، وقد يكون عربا ًثم إنهم كانوا قد اكتووا بنيران الحروب والاضطهاد وأنهم وجدوا من سكان البلاد الأصليين قبولاًً، كما أن طبيعتهم التجارية جعلتهم يدركون أهمية الاعتدال والتسامح، وأنهم في حاجة إلى مهادنة جيرانهم نظراًً لانشغالهم بحروبهم مع عدوّتهم الأولى ومنافستهم في السيطرة على العالم القديم أعني بها مدينة روما، التي هي بدورها تشعر بعدائها المكين لقرطاج.

ويصف الشيخ العلامة محمد الطاهر ابن عاشور حال الشعوب قديماً، فيقول : "وفي فترات موغلة القدم، قبل تدوين التاريخ، عرضت للبشر أحوال مختلفة غشّى فيها حب الذات والجري للشهوات، واستخدام بعض قوى النفس على واجب الاعتراف بالنصفة والعدل، فذلََّل القويُّ الضعيف والغالب المغلوب ليحمله على إلغاء حقه، فيسخّر الرعاة لمنافع أنفسهم وحدهم من شاؤوا تسخيره من الرعية غير آبهين ولامكترثين بإهانتهم والإشفاق  عليهم، وما يحصل لهم من ألم وعذاب، فنشأ من ذلك  استرقاق الأسيرواسترهان المدين، واستدامة مسك الأجير والاستخفاف بالدّخيل، ونحو ذلك مما يقدم المرء على تسخير غيره .

أما حالة العرب الاجتماعية فحدث عنها ولاحرج. ففي جزيرة العرب كانت قيس ومضر في عداء شديد وحروب لم تبق ولم تذر، وكان الوضع السائد والعام هوغزو وحروب سجال واقتتال بحثاً عن المرعى والماء طلباً للرزق أوأخذاً  بثأر دفين.

فالعربي من طبعه ميّال للانعتاق والسير في الصحراء بعيداًً عن كل قيد أوقانون أو سلطة تجبره على فعل ما أو تمنعه من آخر، كانت القبيلة هي الملاذ والعادات والتقاليد هي التي يميل إليها، ويحتكم إليها، دون أن يلتزم  بها، إلا إذا لم يجد منها مفرّاً، وإذا كانت تلبي رغباته الظرفية، إذ كان العرب في غالبيتهم قبائل متفرقة، وهم أهل  بداوة فغلبت عليهم حالة اجتماعية سادها التحرّر الخالي من كل تنظيم أو حد يحده بسبب الظروف المناخية القاسية التي كانوا يعيشون فيها.

أما أهل الحضر منهم فهم قلّة، ولايختلفون كثيراًً عن البدو إلا بالاستقرار في بعض المدن البسيطة كمكّة ويثرب، وهم تجار في الغالب لهم رحلتان/رحلة الشتاء ورحلة  الصيف، ويكونون طبقة أرستقراطية نسبياً، كانت لهم السيادة على غيرهم بخاصة قريش بسبب موقعها الجغرافي ونفوذها الدّيني والسياسي وقوتها الاقتصادية والعسكرية، وبجانبهم كانت تعيش طبقة ضعيفة مستعبدة هي طبقة الخدام، وهم من العبيد الأرقّاء من قبائل أخرى أسرى الغزوات بيعوا في أسواق مكّة. كما كان في القبائل الأخرى عبيد استرقّوهم أثناء الهجومات والغارات التي تشنّها القبائل بعضها على بعض. ومن مشاهير هؤلاء العبيد عنترة العََبْسي الشاعر المعروف وعمار بن ياسر وبلال الحبشي وغيرهم.

 

الإسلام والحرية

لوقارنّا بين حالة الشعوب قبل مجيء الإسلام لاحظنا أنه لم تستطع المسيحية ولا اليهودية أن تأخذ موقفاً حاسماً في شأن العبودية، ولا أن تقرر موقفاً صريحاً، من قضية التحرّر، وبقيت على مدى قرون متعدّدة عاجزة عن التصدّي لهذه القضية حتى بعد أن اعتنق الغرب الديانة المسيحية، وصارت الدين الرسمي للدولة، وصار للكنيسة نفوذ قوي على عقلية أتباعها، وتأثير واضح في رجال السلطة وبخاصة الملوك منهم والوزراء. فقد كان الواقع الاجتماعي متحكماً في سلوك المسيحيين، فكانت الطبقية والتي انتشرت معها العبودية في أبشع صورها، واستغل الإنسان أخاه الإنسان وسخّره لخدمة مصالحه الخاصة دون تحرّج ولا خجل. وكان أن انتشر الجهل والرضا بما قسمه الدهر، وسادت الجبرية، وسيطرت على عقول الناس، فرضي كل فريق بما كتب له، نزولاً عند أوامر رجال الدين، الذين كانوا يفسرون الواقع على أنه إرادة الله ومشيئته التي يجب أن تطاع وتسود. واصطبغت الديانة المسيحية بفكرة الجبرية التي لا محيد عنها،  فساد الخمول والإذلال مع قسوة القوانين الجائرة التي لا تخدم إلا مصالح السادة من ملوك ورجال دين وأشراف. وقد ساد ذلك بخاصة خلال القرون الوسطى حيث نجم الخمول والركود الفكري، وسيطرت الخرافة والأساطير على مصادر المعرفة، وكانت دعوة المسيح، عليه السلام، مَبْنيَّةً على تطهير الروح والزهد والإخاء والتسامح، وكانت المسيحية في بداية أمرها منطلقة على  هذا الأساس، فالدين علاقة بين الرّب والعبد، أما  القانون فهو صلة بين الفرد والدولة شعارها" ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه".

لكنّها انحرفت على يد رجال الكنيسة الذين نظروا في طبيعة المسيح، وخلصوا إلى اعتباره له طبيعة مزدوجة طبيعة بشرية وطبيعة إلهيَّة .

لذلك لم تهتم كثيراً بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية للناس.

وحاول فلاسفة الغرب خلال القرون الوسطى أن يوفقوا بين ما لاحظوه من أن للإنسان إرادة حرة، وبين مايعرف بالنعمة الإلهية أو اللطف الإلهي (Lagrace Divine) لكنهم اصطدموا بفكرة قائلة: إن اللّه قد سبق فاختار للبعض السعادة، واختار للبعض الآخر الشقاوة، فاللّه يختار الخلاص لمن يشاء، ويترك من يشاء، وبذلك يكون الإنسان مجبراً لاحرّا.

مقابل ذلك كان هناك من يرى أن حرية الإنسان تقابل حرية اللّه، وهما متجانسان إذا كانت المحبة دائرة بينهما، فيكون كل منهما حرّا. وحاول القديس توما الأكويني أن يوفق بين الإرادتين، فقال: إن حركات الإنسان هي محددة أزلياً وحرّة في الآن نفسه وأفعالنا تحقق إرادة اللّه فينا، وأن الخير المطلق أو السعادة القصوى هي التي تلزم الإرادة. فالإرادة الإنسانية تكون حرّة أمام غير الخير المطلق، ولما  كانت هذه السعادة المطلقة غير موجودة في عالم الحنين تبقى إرادة الإنسان حرة، وبما أن الخير في الدنيا نسبي تكون إرادة الإنسان مترددة بين الخير والشر، ويأتي العقل ليساعد الإرادة على الاختيار، وتبقى أفكاره غامضة ومتهافتة مادامت لاتستند  إلى النقل الّذي يدعمها.

وجاء الإسلام ليحدث حركة اجتماعية وفكرية ودينية واسعة وعميقة ونقلة نوعية كاملة نحو الحرية بأسمى معانيها، وليحرّر الإنسان من الأوهام  والأباطيل إلى الحقائق الثابتة، والمعرفة اليقينية التي ترتكز على نور العلم القائم على التجربة، حرية يتحرّر بها العقل الإنساني من الجهل إلى التفكر والبحث بإرادة ثابتة لبناء حضارة قائمة على  الاعتدال والتوسط بين متطلبات المادة والروح. وللتفكر في ملكوت السماوات والأرض والنفس الإنسانية، ليهتدي إلى الإيمان الكامل بوجود الصانع، الذي أتقن كل شيء، وهو علة العلل والمبدأ والمنتهي إليه كل شيء الواجب الوجود المتفرد بالعبادة والخلق لاشريك له.

وقد أعطى الإسلام مفهوماً جديداً للعبودية تمثَّلَ في أن الإنسان عبد للّه وحده خلقه وأنشأه على أكمل صورة، ووهب له الحرية، وركب فيه الإرادة والقوة والعقل، ليحافظ بهما على حريته، وينميها ويستغلّها فيما فيه سعادته واستقراره وأمنه في الحياة الدنيا والدار الآخرة.

فكان الاهتمام بالضعفاء والمساكين من الأسس التي نادى بها الإسلام، فأكد على كرامة الإنسان مهما كان لونه أو جنسه أو دينه، وسوَّى بين جميع الناس في حسن المعاملة والعدل والإحسان.

وقضى على الطبقية والظلم بجميع صوره، ودعا إلى تحرير الأرقاء بأسلوب حكيم وبما يحقق الفائدة المرجوة من ذلك، فكان تشريعه في هذا المجال مبنياً على أساس من الحكمة التي تحقق بمقتضاها المقصد العام. يقول الشيخ ابن عاشور في هذا المجال: "إن شريعة الإسلام جاءت وحكم الاسترقاق عريق في نظام الأمم وفي تمدّنهم، وهو من جملة النظم التي أقيم عليها نظام العائلات وتدبير المنزل وإدارة دواليب الفلاحة والتجارة ..." وبعد أن يستعرض وجوه هذا النظام مفصلاًً العلاقة بين السادة والعبيد وتسخير هؤلاء للخدمة في جميع أوجه العمل الفلاحي والمنزلي والصناعي، وبين كيف نشطت لذلك تجارة الرقيق التي كان لها أسواق في جميع أنحاء العالم، لاحظ أنه > لو شرع الإسلام إبطال الاسترقاق دفعة واحدةً لأدخل على الذين انضووا تحت شرعه اضطراباً عظيماًً في المسلمين، ومن حولهم من الأمم ذات العلائق بالمسلمين<.

(فضلاً عما يتسبب ذلك من تعاسة العبيد الذين كانوا مطمئنين في حياتهم مع مواليهم فنظر الإسلام هو الجمع بين مقصديه نشر الحرية وحفظ نظام العالم، ولذلك كان تحريره للأرقاء تحريراً تدريجياً تجنباً للفوضى وانخرام سلامة المجتمع واستقراره.

كما أن (الإسلام لم يغفل العناية بشأن العبيد فكانت طريقته في ذلك مبنية على التدرّج ككل شأن استفحل أمره وصار نظاماً أو عادة يصعب الانفكاك منها بسهولة، فقد حرم أشياء كانت سائدة، وهي مفسدة واضحة في المجتمعات بطريق التدرّج رفعاً لكل حرج ومنعاً لما من شأنه أن يدخل اضطراباً على الحياة العامة، مما ينتج عنه من المفاسد ماهو أعظم مما كان عليه الوضع، ولتصدر على الناس الامتثال لتعاليمه من أجل ذلك كانت تعاليمه قائمة على السماحة والتوسط والاعتدال ومراعاة مصالح العباد، وهو من أعظم مقاصده العامة).

فمنع الاسترقاق وحرَّر الأرقاء تدريجياً ووضع تشريعاً في ذلك محكماً جعل من كل مناسبة أو حادثة مناسبة لتحرير الرقاب من نير العبودية وأغلالها المخزية. وتعددت الآيات الواردة في ذلك، ككفارات القتل الخطإ والظهار واليمين والفطر، وتعرّضت السنة النبوية إلى عديد الصور والحالات التي توجب العتق، كما ضمنت للرقيق حياة اجتماعية محترمة، وأوصى الرسول عليه الصلاة والسلام ، بمعاملتهم معاملة إنسانية حتى لا يكلّفوا بما لايطيقونه، وشدد على ذلك حتى لاتكون هناك تجاوزات مخزية، وربط معاملتهم بالثواب والعقاب في  الآخرة، وهو ما جعل المسلمين في صدر الإسلام وفيما بعده يعاملون الرّقيق معاملة إنسانية لم يسبق لها مثيل.

وقد شجعهم الإسلام على عتق الرقاب، وجعل لهم من الأجر والثواب مادفع بالمسلمين إلى الاعتناء بهم وبتربيتهم وتكوينهم وإفساح المجال لهم للاندماج في المجتمع برجاء الثواب والقربى إلى اللّه تعالى، وأمر بعتق الراغب منهم في الحرية مقابل الكتابة مع الإحسان إليه، وتمكينه من المال الذي يستطيع أن يضمن حياة مستقرة، كما جعل للزكاة مصرفاً من مصارفهم لتحريرهم، وشجعت الدولة على ذلك، ولقد قال عمر بن الخطاب قولته الشهيرة: ( متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). فتكوّنت منهم طبقة اجتماعية محترمة فاعلة في المجتمع، وقد قال الرسول  عليه الصلاة والسلام ، >الولاء لحمة كلحمة النسب<، وتخرج منهم العلماء المجتهدون والقواد وكبار الموظفين في الدولة، في زمن كان فيه العبد بضاعة تباع وتشترى في أسواق النخاسين.

ولم يبق من الأرقاء إلا الأسرى في الحرب، وهو من باب المعاملة بالمثل مع الإحسان إليهم وتربيتهم تربية سليمة وتعليمهم وتشجيعهم على الدخول في الإسلام مقابل فك رقابهم من الأسر والرق، إذ أن غاية الإسلام لم تكن الهيمنة ولا الحرب ولا التعدّي على حرمات الغير، بل جاء لنشر الهداية ومكارم الأخلاق وتحرير الإنسان من قيود الجهل والمرض والشرك والعبودية.

وبتتبع مواقف الإسلام من الرقيق وضع العلماء قاعدة: (إن الشارع متشوف للحرية)، ولقد أرجع الشيخ ابن عاشور سبب إبقاء الاسترقاق في الحرب إلى أنه كضغط على المناوئين للإسلام حتى لا يحاربون ولا يناصبون العداء لأن أخشى ماكانوا ـ يخشونه هو الوقوع في الأسر في يد المسلمين واستشهد بقول النابغة:

حِذاراًً على ألاَّ تُنالَ مقَادتي *** ولانِسْوتي حتى يَمُتْنَ حرائرا.

 وإن كان ماقرره الشيخ ابن عاشور وجيهاً في حد ذاته، وهو عامل من عوامل الأمن داخلياً وخارجياً، ومن عوامل الاستعداد الحربي، إلا أن الاسترقاق لم يكن بدعة إسلامية إنما هو نظام عالمي كان سائداًً، في ذلك العصر وما قبله حيث كان الأسير يفعل به من صنوف التعذيب والوحشية تصل إلى حد الإحراق والتمثيل به. وهو أهون عليه من الأسر، فكان الأسير من المسلمين يلاقي من صنوف التعذيب ما اللّه عليم به.

فلزم أن يُبقي الإسلام في بادىء أمره على هذا النظام اضطراراً لااختياراً مع الفارق العظيم بين المعاملة الإسلامية للأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، ومعاملة أسرى المسلمين الذين يقعون في أيدي محاربيهم، فلم تسبق الإسلام شريعة دينية ولاوضعية أن أقامت حقوقاً للعبيد حماية لهم من الأضرار بمقدار ما أقامت لهم الشريعة الإسلامية.

وبذلك يحق لنا أن نفتخر بسبق الإسلام إلى ما أدركه الغرب في العصر الحديث وينبغي أن لايحسب على الإسلام وتعاليمه التجاوزات التي حصلت في المجتمعات الإسلامية، فيما بعد العصر الذهبي للإسلام، لأن تلك التجاوزات كانت بداية انحطاط المسلمين، وتقهقرهم الاجتماعي، وتغلب النظم  الاجتماعية التي  كانت سائدة في غيرهم من الأمم المجاورة لهم. وعلى كل فإن المعاملة لهؤلاء المستضعفين تبقى دائما ًفي  مجملها أفضل مما كان عليه العبيد خارج البلاد الإسلامية.

ولقد وصل بالرقيق إلى الحصول على امتيازات وصلت إلى درجة الإمارة والوزارة حتى في أحلك ظروف الانحطاط والتقهقر السياسي والحضاري.

فقامت دولة المماليك التي ظهر منها قواد عظماء حاربوا الصليبيين وهزموهم ومنهم وزراء تونس في عهد الحكم العثماني كوزراء الدولة الحسينية، وأعظمهم وأشهرهم الوزير خير الدين باشا الذي ارتقى إلى خطة الصدر الأعظم في الخلافة العثمانية.

واستمر ذلك الاسترقاق الجماعي والتعذيب الوحشي إلى بداية النهضة في الغرب.

 وبعد قيام الثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان وظهر تنفيذه في القارة الأمريكية بقرار من الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن الصادر في 1863/1/1م تم عمل تحرير العبيد في جميع الولايات الأمريكية 1865 وكان عددهم يقارب الأربعة ملايين بين رجال ونساء وأطفال اختطفوا عنوة بوحشية وقساوة من القارة الإفريقية، وهي وصمة شنيعة في جبين الإنسانية لا مثيل لها.

ولقد كانت تونس سباقة وعن طواعية واختيار، فأعلنت تحرير الرقيق (في سنة 1814 ثم في سنة 1846م ( ، واستجاب الناس لذلك بدافع ديني محض لما كانوا غافلين عنه عملاً بقوله تعالى: {وذكِّرْ فإن الذّكرى تنفعُ المؤمنين} (سورة الذاريات، الآية: 55)  دون أن تقع ثورات ولامناداة ولا تمرّد مما وقع في غيرها من بلاد العالم حيث لم يكن هناك تحضير نفسي ولاتوعية دينية تقنعهم بالتخّلص من هذه الآفة عن اقتناع  واعتقاد، فتحرير العبيد في تونس كان قبل صدور الأوامر في البلاد الغربية بتحريرهم.

الحرية بالمعنى الحديث

الحرية بمعناها المتداول بين النّاس بعد أن تضاءل المفهوم الأول وكاد أن ينسى ويبقى ذكرى تاريخية انقرضت وولّت.

وهي كما عرفها ابن عاشور: (فعل الإنسان ما يريد فعله دون مدافع بمقدار إمكانه)، وقد عرف  المسلمون إبان نهضتهم هذا النوع من الحرية، وتعرّضوا له، ولم يكن غائباً عن أذهانهم.

وقد اصطبغت الحرية بالجدل الذي قام منذ القرن الأول الهجري، وفي عهد التابعين حيث ظهرت فكرة الجبر والاختيار، وهل أن الإنسان حرّ في تصرّفاته خالق لأفعاله، أم هو مسيّر لا مخيّر مجبور على فعل ما يفعله مسلوب الإرادة من كل اختيار؟.

يقول أحمد أمين في كتابه، فجر الإسلام:  وهي مسألة شغلت الفلاسفة ورجال الدّين في العصور المختلفة، تعترضك في الأخلاق وفي القانون وفي فلسفة التاريخ وفي علم الكلام وفي الفلسفة على العموم. وقد نشأت الأبحاث الدينية في هذا الموضوع لما نظر الإنسان فرأى أنه من ناحية يشعر بأنه حرّ الإرادة يعمل ما يشاء، وأنه مسؤول عن عمله، وهذه المسؤولية تقتضي الحرية، فلا معنى لأن يعذب ويثاب، إذا كان كالريشة في مهب الريح لا بد أن تتحرك بحركته وتسكن بِسََكنِه ـ ومن ناحية أخرى رأى أن اللّه عالم بكل شيء أحاط علمه بما كان وما سيكون، فعلم ماسيصدر عن كل فرد من خير أو شرّ أن هذا يستلزم حتماً أنّه لايستطيع أن يعمل إلا على وفق ما علم اللّّه، فحارفي ذلك بين الجبر والاختيار، وأخذ يفكّر هل هو مجبر أو مختار، وقد امتنع الكثير من الخوض في الموضوع اتقاء الجدل والفتنة منهم الإمام مالك، رضي الله عنه.

وقد انقسم الناس إلى فريقين:  فريق يقول بأن الإنسان خالق لأفعاله والقول بسلطان العقل في كل شيء حتى قالوا الحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما قبّحه العقل، وهم المعتزلة الّذين سموا بالقدرية.

وقد استفادوا من آراء فلاسفة اليونان أيما استفادة، لإثبات صحّة مقولاتهم والرّدّ على مخالفيه

النصوص التأسيسية لنظرية الحرية:

 فمن القرآن نجد الآيات تدل على أن الإنسان حرّ في عمله، وفيما يختار، كما في قوله تعالى:  {وهديناه النجدين* فلا اقتحم العقبة}. (سورة البلد، الآيتان: 10 و 11).

{فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن}. (سورة الكهف ، الآية: 30).

{إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. (سورة الرعد، الآية: 11).

 {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولهُ والمؤمنون}. (سورةالتوبة، من الآية: 105).

{لا إكراه في الدّين}. (سورة البقرة، من الآية: 256). {وإذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (سورة إبراهيم، الآية: 7) {ولو شاء اللّه ما فعلوه} (سورة الأنعام، الآية: 137).

كما وردت آيات متعدّدة تنصّ على أن للإنسان إرادة قادر بها على التصرّف، كما في قول شعيب: {إن أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ} . (سورة هود، من الآية: 88).

 وقوله تعالى حكاية عن هابيل وقابيل: {إني أريد أن تبوءَ بإثمي وإثمك}. (سورة المائدة، من الآية: 29 ) فهو مستطيع أن يرد الفعل ويدفع عن نفسه تسلّط أخيه قابيل، لكنّه آثر السلامة، وأراد الخير، فامتنع بإرادته عن الشرّ. 

وقول شُعََيْبٍ لموسى، عليه السلام: {وما أريد أن أشق عليك} (سورة القصص، من الآية: 27).

وقول نوح لقومه: {ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم إنْ كان اللّهُ يريدُ أن يغويَكُم هو ربّكم وإليه ترجعون}. (سورة هود، الآية: 34).

{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها ولاتزر وازرةٌ وِزْرَ أخرى وما كنا معذبين حتى نبعثَ رسولاً}. (سورة الإسراء، الآية: 16).

وهكذا نلاحظ كيف أن ثنائية الجبر والاختيار واضحة والعلاقة بينهما قائمة، فهناك إرادتان إرادة من البشر، وهي تدل على أنه حر في اختيار وجهته خيراً أوشراً تقابلها إرادة اللّه تعالى: وأن إرادة البشر جزئية، وهي دون إرادة اللّه العليا، وهي كلمته التي هي القول الفصل فيما اختلف فيه البشر، لذلك كانت هي الغالبة لأنها كلية وكاملة.

كما أن للإنسان كسباً، قال تعالى : { ليجزيَ اللّه كلَّ نفس ما كسبت إن اللّه سريع الحساب}. (سورة إبراهيم، الآية: 51). {ولاتعزموا عقدةَ النكاحِ حتى يبلغَ الكتابُ أجلَهُ}. (سورة البقرة، الآية: 235).

وترتب عن الاختيار مسؤولية الإنسان فيما اختاره، قال تعالى: {وقفوهُم إنهم مسؤولون}. (سورة الصافات، الآية:24) و{فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنْسٌ ولاجان}. (سورةالرحمن، الآية: 40) {ليجزيَ اللّهُ كلّ نفس ما كسبت وأن اللّه سريع الحساب}. (سورة إبراهيم ، الآية: 52).

{ولتسئلن عمّا كنتم تعملون}. (سورة النحل، الآىة: 94).

 {فلنسألنَّ الّذين أُرسلَ إليهم ولنسألنَّ المُرسلين}. (سورة الأعراف، الآية: 5).

 فالمؤاخذة والجزاء بعد السؤال لايقتصران على الآخرة فقط، وإنما يسأل الإنسان في الدنيا، ويتحمّل تبعات عمله فيها قبل الآخرة.

{مََنْ عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّهُ حياةً طيبةً ولنجزيَّنهم أجرهُم بأحسنِ ماكانوا يعملون}. (سورة النحل، الآية: 97).

وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلكَ قريةً أمرنا متر فيها ففسقوا فيها فحق عليها القولُ فدمرناها تدميراً }. (سورة الإسراء، الآية: 16).

 

حدود الحرية في الإسلام:

وهنا يتساءل المرء هل الحرية التي بَشَّربها الإسلام، وفَهِمَها منْ فَهم أبعادها وأغوارها من المسلمين، أو من جاء بعدهم من فلاسفة النهضة الغربية، وما أطلق عليه بعصر التنوير، هل هي مطلقة أم محدودة؟

 لقد لخّص ذلك ببراعة العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه أصول النظام الاجتماعي بما مفاده: (الحرية حق للبشر على الجملة، لأن اللّه تعالى خلق للإنسان العقل والإرادة، وأودع فيه القدرة على العمل، فقد أكنّ فيه حقيقة الحرّية وخوََّله استخدامها بالإذن التكويني المستقرّ في الخلقة).

إذن فالحرية في نظر الشيخ حق لاهبة ولامنحة، وهي حق طبيعي فطري من مستلزمات الحياة البشرية كالهواء والغذاء والماء لاتستقيم الحياة ولاتكون بدونها خلقها اللّه في الإنسان كغريزة أصيلة في تكوينه، والناس في ذلك سواء. ويرى الشيخ أن هذه الحرية بما أنها أصيلة وفطرية تبقى مطلقة يمارسها الإنسان في حدود استطاعته بدون منازع ولا مشاغب سالمة من المعارض، فيستوفي الإنسان بمقتضاها مايريد، كالّذي يقيم منفرداً في مكان خالٍ إلا إذا تكاثر الناس، وتعارضت مصالحهم وتضايقوا في ذلك لزم الحدّ من هذه الحرية إما تلقائياً أو جبراً من طرف المجموعة البشرية ككل حتى تنتظم معيشة الجميع، وحتى لايؤدي تعارض الحريات إلى التنافر والتنازع، يقول في ذلك: ( ولما كان أفراد البشر سواء في هذا الإذن التكويني كل على حسب استطاعته، كان إذا توارد عدد من الناس على عمل يبتغونه ولم يضايق عمل أحدهم مراد غيره بقيت حرية كل واحد خالصة سالمة عن المعارض فاستوفى ما يريد، كالذي يقيم منفرداً في مكان، ولكن إذا تساكن الناس وتعاشروا وتعاملوا طرأ بينهم تزاحم الرغبات، فلم يكن لأحدهم بدّ من أن يقصر في استعمال حريته رعياً لمقتضيات حرية الغير إما بدواعي الإنصاف من نفسه، وإما بتقدّم غيره إليه ـ برغبة أو رهبة ـ بأن يكفّ من بعض عمل يريده، لاجرم نشأ في المجتمع البشري شعور بدواعي التقصير من الحرية، ومن شأن ذلك الشعور أن يحدث في تطبيقه حق التطبيق تنازع وتغالب وتهارج).

ولعلّ هذا في نظري شكل من أشكال ثنائية الجبر والاختيار التي جاء بها القرآن الكريم، وقام حولها الجدل واضطربت فيها الآراء قديماً وحديثاً.

ثم يمضي الشيخ مبيناً كيفية الخروج من هذا الارتباك، الذي يحصل في المجتمعات عندما تتعارض الحريات الخاصة، وتتباين المفاهيم، ويحدث التنازع والتهارج، فمن ينظم للناس حريتهم، ويحدد حدودها ومجالاتها حتى يعود الأمن والوئام بين  أفراد الجنس البشري،  وتستمرّ الحياة هادئة مطمئنة ليواصل الإنسان دوره في هذه الكون ويمارس حريته دون كدر، وفي كنف العدل والمساواة.

يقرر في هذه الحالة أن للحرية حدودا ًًلاتتجاوز، ويرى أن الذي يحدّد  هذه الحدود هو شرع اللّه عن طريق الأنبياء والمرسلين، وعن طريق الحكماء، فالشرائع والقوانين هي التي تحمل الناس على الانتظام وتكفهم عن التخاصم والتصادم، مراعاة لما هو مصلحة  عامة مع حفظ مصالح الأفراد، ويمكن أن يحدد الإنسان من حريته تلقائياً بما يقوم به من معاملات وتصرّفات تنشأ عنها التزامات وتعهّدات يوفي بها تلقائياًً.

يقول في ذلك : (إن قصور التفكير والغرور وجهالة المفكر بعواقب عمله تقتضي أن للحرية حدود ألاَّ يتجاوزونها في الاسترسال على الأعمال، إن لم يكن فيها منازع بله متى نازع غيره أو غلبه).

فقيض الله للناس مرشدين من رسل بشرائع وأنبياء بمواعظ وحكماء بنصائح ليكبتوا من غلواء الناس في تهافتهم على ابتغاء مايصبون إليه، تجنباًً لما ينطوي عليه من الأضرار، فسنوا لهم الشرائع والقوانين والنظم، وحملوهم على اتباعها ليهنأ عيشهم فطرأت من ذلك الشرائع والعوائد والآداب والأخلاق، وصارت الحريات محدودة بحسب الجمع بين مصالح الجماعات، بأن لايلحق المتصرّف بتصرّفه ضرّا بغيره، وأن لايعود تصرّفه عليه بوخامة العقبى)، وهي فيما يجاوز ذلك باقية حقاً لكل واحد لايُكَبّلُه عن تصرّفه فيه غاصب ولا متطاول)(1) ويقول: (وكثير ما تحدّد الحرية باختيار صاحبها بما يلتزم به من الالتزامات والعقود والعهود ونحوها مما يلجئه إلى تقييد حرية أقواله أو أعماله، أو كبت حرية تفكيره وإخفائه على حسب التزامه، وبمقدار وفرة الحقوق التي يلتزم أحد القيام بها يشتدّ تضايق حرية الملتزم).

هكذا يقرّر الشيخ، كما أن الحرية  هي حقيقة فطرية، فكذلك حدودها وقيودها طبيعية لتصير من تقاليد البشر وآدابهم وأخلاقهم.

ومن جهة أخرى يرى أن أشدّ الناس قيداً لحرياتهم هم أكثر الناس حقوقاً، وأكثرهم التزامات في المجتمع.

من خلال هذا الفصل الذي كتبه الشيخ يتبيّن لنا منهجه وفكره الاجتماعي، الذي هو امتداد لفكر ابن خلدون وابن رشد من قبله، ولمفكري الإسلام كابن أبي الضياف المؤرخ التونسي صاحب (إتحاف أهل الزمان)، الذين تناولوا هذا الموضوع بإطناب، واستطاع بثاقب رأيه ودقة ملاحظته لحركة الشعوب ولتاريخ الإنسانية أن يعبر عن واقعها بوضوح تام، وأن يشرح مفهوم الحرية وحدودها فكان عمله إضافة جديرة بالتنويه والاهتمام، والكشف عن خفايا وأغوار تفكير هذا العلامة الإسلامي المعاصر.

 

الحرية في عقول مفكري الإسلام.

ونحن إذا رجعنا إلى مكتبة علماء الإسلام، وبخاصة المبدعين منهم، نلحظ أن الحرية سائدة في كتاباتهم، وهي فطرية مودعة في الإنسان مادام يفكر ويمتاز عن سائر المخلوقات بالعقل والإرادة والعمل.

ولورجعنا مثلاًً إلى ابن خلدون نقرأ ما كتبه في مقدمته عن العمران البشري وتصنيفه للعلوم وحركة المجتمعات نكتشف فكرة الحرية سائدة، وإن لم يصرح بها علناً فكتاباته وأفكاره تشير إليها ضمنياً، فهو مثلاً يقول في الفصل الأول من حديثه عن العلوم: (وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكنّ وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيىء لذلك التعاون، وقبول ماجاءت به الأنبياء عن اللّه تعالى، والعمل به، واتباع صلاح أخراه، فهو مفكر في ذلك كلّّه دائما ً لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين ... إلخ).

وهكذا فالإنسان مادام يمتاز بالفكر عن سائر المخلوقات، فهو حرّ، فالحرّية تقود إلى التفكير، والتفكير يستلزم قدراً من الحرية حتى يكون له أثر في الحياة.

والإنسان محتاج إلى غيره ليقيم صرح العمران والحضارة والتمدّن، فهو يستلزم قدراً من الحرية الواعية والمسؤولة والمنظمة، وأن خراب الأمم ودروس الحضارات وانحسار الثقافات يرجع إلى تدهور الفكر الحرّ، وإلى شيوع التغلّب والاستبداد، وضياع الحرية.

 كما يتحدّث عن العمران البشري،  فيبين كيف تستقيم حياة المجتمعات إما عن طريق الشرع أو العقل، ولكنّه يميل إلى الشرع وتظهر عقيدته واضحة تسيطر على فكره ويدافع عنها بالنقل والعقل، فلم يكن متأثراً فيما كتبه بفكر أجنبي لاشرقي ولاغربي بل هداه نظره فيما حوله إلى التوصل إلى فكر أصيل وجرىء وجديد.

يقول في ذلك: (فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولةوبصرائها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل إذ  غايتها الموت والفناء، واللّه يقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي إلى السعادة في آخرتهم... إلى أن يقول.. فما كان منه بمقتضى القهر والتغلّب وإهمال القوة العصبية في مرعاها فَجوْرٌ وعدوان مذموم ...).

 وتحدث الشيخ أحمد بن أبي الضّياف في مقدمة تاريخه عن الأنظمة السياسية وأنواعها  واستشهد بآراء ابن خلدون المتقدمة.

 

 مجالات الحرية في الإسلام

 تمثل الحرية في المجالات الآتية:

 التفكير ـ الاعتقاد ـ القول ـ العمل، هذه مجالات الحرية التي ضبطها الإسلام وأضيف حرية التنقل، والملك.

فأما حرية التفكير أو الفكر، فقد ضمنها الإسلام من أول يوم، والآيات متعددة التي تعطي للإنسان قيمة لعقله، وتدفع به إلى تنمية ملكاته ومعارفه التي عطلها عن النظر والاكتفاء بما هو عليه دون بحث ولا تفكير.

ويشمل التفكير الآراء العملية والتفقّه في الشريعة، والنظر في المعاملات السياسية وتدبير شؤون الأفراد  والجماعات.

وهذه الحرية الفكرية لا تقيدها قيود ولاتوضع لها ضوابط، لأن التفكير أمر نفسي لايطلع عليه أحد، فالإنسان يطلق لتفكيره العنان، فيسبح في مجالات الحياة المختلفة كيفما أراد، إلا إذا تكلم أو فعل بما فكر فيه (فلذلك كانت هذه الحرية لا يتطرق إليها تحجير، إذ لايمكن كبت الفكر عن الحرية في المعقولات والتصوّرات والتصديقات ولذلك قيل، (أربعة لا يقام عليها برهان، ولايطلب عليها دليل، ولايقال فيها لِمََ، وهي الحدود (أي تعاريف الحقائق) والعوائد والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس  فالإنسان يفكر كيف يشاء، وله الأمن في ذلك حيث لاعقاب تفكيره، قال،  عليه الصلاة والسلام ، > إن اللّه تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به  أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم<.

وأهم مجالات التفكير الإنساني، هو مجال العلم والبحث والاجتهاد والاستنباط والاكتشاف، فبالعلم يرتقي تفكير الإنسان، وكلما ارتقى تفكيره زادت معارفه، وتهذّب سلوكه وتمدّن طبعه، وازدادت سعادته.

وسواء كان العلم المتعلق بالشرعيات أو المتعلق بالعلوم الطبيعية، فهي مطلوبة شرعاً وحثّ عليها الإسلام، وأول آية نزلت تدعو إلى القراءة، والآيات الحاثة على التعلّم متعدّدة، ومنها ما تحبب في العلم وترغب فيه، كما أفسح القرآن المجال للتفكير المقلدين المعطلين لهذه الموهبة أو الخاصية التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات، بل شرفه اللّه بالمعرفة والتفكير والعلم مالم يََرْقَ إليه صنف آخر من المخلوقات.

ونحا باللائمة على الخاملين المعطلين لمداركهم الفكرية السابحين في بحر المقلدين العاجزين.

 من ذلك قوله تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} .(سورة آل عمران، الآية: 191).

{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها}. ( سورة ق ، من الآية: 6).

{وفي أنفسكم أفلا تبصرون} .( سورة الذاريات، الآية: 21).

{اقرأ باسم ربّك}. ( سورة العلق، الآية: 1).

 {وعلم آدم الأسماء كلّها}. (سورة البقرة، من الآية: 31).

{كتاب أنزلناه إليك مُبارَكٌ ليدَّبروا آياته}. ( سورة ص، من الآية: 29).

{فلولا نفُرٌ من كل فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدينِ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}. (سورة التوبة، من الآىة: 122).

وبذلك حرّر الإسلام العقل من الأوهام والجهل والأباطيل بل شبه هؤلاء بالأنعام والدواب، بل إن الدواب تفضلهم في الكثير من الحالات.

{لهم قلوبٌ لايفقهونَ بها ولهم أعينٌ لايبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك همُ الغافلون} .(سورة الأعراف، من الآية: 179).

ولقد قامت حرية فكرية في صدر الإسلام، وأثمرت ثروة علمية ومعرفية صحبتها حرية في التعبير لم يكن لها مثيل فيما سبق في شتى العلوم والمعارف.

وسنتعرّض بشيء من الإطناب للحرية العلمية في ميدان التشريع، وما صاحبها من جدل علمي، وآداب في البحث خلَّف لنا تراثاًً فقهياًً، أرخ لحياة المجتمعات الإسلامية ودوََّن عاداتها وسلوكياتها وأنظمتها ومؤسساتها المختلفة على مدى أربعة عشر قرناً ونيفاًً.

 حرية الاعتقاد

ويشمل ذلك ما يعتقده الإنسان من عقيدة دينية يتبناها عن يقين وباختياره الكامل من غير ضغط ولا تلقين، أو كان اعتقاده فيما يختاره من أفكار اجتماعية ودنيوية أو مذاهب فكرية وآراء ومواقف من مجمل القضايا التي يمكن أن يتطرّق إليها الفكر البشري من أمور مادية حسية أو ماهو مغيب عنا مما هو ماوراء الطبيعة أو ما هو ميتافيزيقى، وهو المعبّر عنه بالإيمان بالغيب عندنا معشر المسلمين.

فهذه الحرية تشمل المسلم وغير المسلم، فالمسلم له حرية التفكير، لكن ذلك محدد في حدود ما يدين  به فينبغي عليه أن لا يذهل عما جاء به دينه من قيم ومبادىء، وما صرّح به من تعاليم هي أساس وثوابت لايجوز تجاوزها، وإلا يكون قد خرج عن دائرة الإسلام إما مرتداً أو مشركاً فاسقاً. وهكذا كوحدانية اللّه تعالى وصفاته وحدوث العالم وفنائه وبالبعث والنشور والحساب والجزاء بالجنة والنار إلى غير ذلك من القضايا الإيمانية الثابتة القطعية الثبوت بالنص والتي يقرّها العقل ويصدق بها.

وقد لخص ذلك حديث جبريل، عليه السلام، الذي رواه البخاري عن عمر بن الخطاب وقد تمثّل جبريل  للنّاس كرجل دخل عليهم المسجد، وهم له منكرون، فهوليس من أهل المدينة، ولا من أهل الآفاق، وجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فهذه العناصر الثلاثة هي أسس الدّين وأركانه، وقد مكّن الإسلام من يدين به أن يتفكّر ويبحث بعقله بالأدلة العقلية والمحسوسة، ويتدبّر نصوص القرآن حتى يكون إيمانه ثابتاً لايتطرق إليه الشك، ولا يكون فيه غموض، أو تعاليم غير واضحة.

كما أعطاه مهلة للتفكير ليكون إيمانه عن قناعة وروية وقد أعطى الرسول عليه الصلاة والسلام ، مهلة شهر لصفوان بن أمية، ولم يكرهه على الإيمان حتى جاءهُ مختاراً آمناً مطمئناً، وقد صار النبي،، أحب إليه من كل شيء بعد أن كان أبغض الناس إليه.

فإذا ما دخل المرء في دين اللّه، وآمن بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، التزم بتعاليمه، وصار مسؤولاً عن أعماله وأقواله خاضعاً لأحكامه وتعاليمه. فإذا ما ارتد ورجع كان ارتداده كفراً خاضعا ًًلأحكام الردة.

 وذلك محافظة على وحدة المسلمين وحتى لايصير الدين مطية لتحقيق مآرب آنية، أو ليكون سلوكه تبعاً لهواه، يأخذ ماشاء، ويترك منه ما لايريد مما يضعف من شأن المسلمين، ويعتقد غير المسلم أن انسلاخ المرتد إنما هو لعدم صلاح هذا الدين، وحتى لايكون الداخل في الإسلام لاعن حقيقة وتصديق إنما هو لغرض سيء كالإساءة والتشويه والتجسس وغير ذلك من المآرب الدنيئة، فوجب لذلك إحاطة المجتمع الإسلامي بسياج من الأحكام التي تحصنه من عبث العابثين وكيد الكائدين.

وهذا ليس من باب التشدد أو التعصب أو منافياً لمبدإ الحرية، بل هو حماية للحرية الصحيحة المسؤولة، وهو أمر تسلّم به العقول الراجحة والأنظمة الإنسانية في كل العالم تحمي نفسها وعقيدتها بكل الوسائل التي تدرأ عنها الانحلال والانهيار في نطاق ما يعرف بالقوانين الزجرية التي تمنع من الاعتداء على أمنها الداخلي  والخارجي.

كما أن الحرية مكفولة في الإسلام لغير المسلمين من أهل الديانات الأخرى، وهم أهل ذمة وعهد من اللّه ورسوله والمسلمين، فهم بموجب ذلك الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم، ولهم حرية مباشرة طقوسهم الدينية، وحرية العبادة طبق دياناتهم فلهم مالنا وعليهم ما علينا، ولايميزهم إلا بما استثناه الشرع، وخص به المؤمنين، ولايجوز إكراههم على شيء لايريدونه، أو الضغط عليهم ليدخلوا في الإسلام، بل الواجب أن نستميلهم بكل ما أوتينا من عدل وإنصاف ورحمة ومعاملة حسنة، ودون أن نستغل ظروفهم لنشترط عليهم شروطاًً تجعلهم يدخلون في الإسلام مكرهين، على عكس ماتقوم به حملات التنصير في العالم بوسائل الإغراء التي تجعل المرء يعتنق المسيحية طمعاًً في المال أو الوظائف أو امتيازات ما، وقد اكتوينا أثناء فترة الاحتلال الأجنبي بحملات التجنيس والتنصير بالإغراء المادي الذي لايجدي.

لذلك نجد النصوص القرآنية التي تحدد تصرّف المسلم نحو غيره، فهو إنسان يشاركه الشعور بالإنسانية، وله الحق في هذه الحياة في أمن وسلام.

من ذلك قول اللّه تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ}.(سورة البقرة، من الآية: 256) . وقوله تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظةِِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسنُ}. (سورة النحل> من الآية: 125 ) {إن ربك هو أعلم بِمَنْ ضَلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}. (سورة القلم، الآية: 7).

ومن المعلوم أن آيات القتال التي جاءت في القرآن إنما نزلت لصد العدوان على المسلمين ولحماية أنفسهم، وحتى يكونوا قوة محترمة تدفع عنهم طمع الطامعين وترد كيد المعتدين، قال اللّه تعالى: {أُذِنَ للّذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن اللّه على نصرهم لقدير}. (سورة الحج، الآية: 39).

وكذلك قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} (سورة التوبة، من الآية: 36)وهي خاصة كما فهم مالك، رضي اللّه عنه، بمشركي قريش الّذين شنّوها حرباً شعواء على النبي عليه الصلاة والسلام ، وعلى المسلمين معه.

كما أن قتال الأمم الأخرى، بعد أن استُتِبَّ الأمنُ في الجزيرة العربية، وتوحّدت كلمة العرب تحت راية الإسلام، إنما كانت حروباً دفاعية لما بدأت الأمم الأخرى تتحرّك ضد العرب المسلمين الذين وحد الإسلام صفوفهم وصاروا قوة، فكان الجهاد لتحرير الأراضي العربية التي كانت خاضعة للفرس والروم، ولنجدة من استنجد بهم من الضعفاء  والمعذبين في الأرض، الذين وجدوا في المسلمين الملاذ الذي خلصهم من عذابهم وحرمانهم، وأرجع إليهم كرامتهم وشعورهم بالأمن، ورفع مكانتهم، وصاروا أحراراً في عقيدتهم منتجين متساوين مع المسلمين، حتى  صار منهم العلماء والأمراء والقواد، فلا غرابة أن شجعهم جو الحرية على اعتناق الإسلام، وأن يصيروا حماة له دعاة لمبادئه وتعاليمه، وتلك المعجزة الخالدة، وذلك تصديقاً لقوله تعالى: { إذا جاء نصر اللّه والفتحُ*ورأيتَ الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً* فسبِّحْ بحمد ربك واستغفره إنه كان توّابا}. (سورة النصر).

وحتى الذين بقوا على دينهم لم ينلهم سوء إلى يوم الناس هذا، ولم يثبت تاريخياً أن اضطُهدوا أو صودرت أموالهم أونُكبوا  في حياتهم، بل كانت لهم، في بعض الفترات التاريخية من الامتيازات والحرية التي لم يتمتع بها بعض أبناء المسلمين أنفسهم، تلك عظمة الإسلام ومبادئهِ ونظرته للقتال، فهي النظرية التي اكتشفها فلاسفة الغرب في أن خير طريقة لصد العدوان تكون الاستعداد للحرب، والتمكّن من أساليب القتال وفنون الحروب وأسلحتها مصداقاًً لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (سورة الأنفال، من الآية: 60).

فهي قوة حامية للحق والعدل والحرية، وليست قوة عداونية غاشمة، يتطاول بها المسلمين على الأمم الضعيفة لابتزازهم وقهرهم واستغلالهم، فلا غرابة أن ينجح الإسلام من أول يوم في كل قطر دخله، وتثبت أركانه على يد أبناء ذلك القطر، وهو ما أخفق فيه الروم والبيزنطيون والفرس والوندال وغيرهم من الأمم التي كانت غايتها  احتلالاً واضحا ًواستغلالاً فاحشاً وتوسعاً مقيتاً ثبت قليلاً بالقهر وبقوة السلاح ثم سَرْعان ما انهار وتلاشى أمره: {فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. ( سورة الرعد، من الآية : 17).

وقد نشأ عن هذا الموقف أن صار للمسلم الداخل في دين الإسلام حرية أخرى تبعاً لحرية التفكير، وهي حرية الاختيار، فهو له أن يختار من الآراء والمذاهب ماشاء بشرط أن لاتكون هدامة أو خارجة عن مبادىء الإسلام، وتتعارض آراؤها مع مبادىء الإسلام السمحة وثوابته وأركانه الأساس، كالحركات الباطنية أو غيرها من التي تعمل على تقويض المجتمع الإسلامي وتخريبه وزرع الفتن والضلالات والأحقاد وسفك الدماء وحمل الناس على اعتناق أفكارها بالتهديد والوعيد والترهيب.

وفيما عدا ذلك فالمسلم كما يقول ابن عاشور ( أن يكون سنياً سلفياً أو أشعرياً أو ماتريديّاً وأن يكون معتزلياًً أو خارجياً أو زيدياً أو إمامياً، فقواعد العلوم وصحة المناظرة تميز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطإ أو الحق والباطل، ولاتكفر أحداً من أهل القبلة).

هكذا يرى عقلاء الإسلام الحرية، وهكذا يدعون إلى التسامح بشرط أن يرجع الناس إلى الحق لمَّا  يتبين نوره،  ويتراجعون عن الخطإ لمّا يسود ظلامه، يقول الشيخ ما فيه تقرير هذا المبدإ: (فإذا كان من بعض النحل المحدثة مايستلزم ويجر إلى إبطال معلوم من الدّين بالضرورة فترجع إلى المؤاخذة يلازم الرأي وتعرف عند الفقهاء بالتفكير باللازم).

كل ذلك مادام الحوار فكرياً فيقابله جدل فكري ومقارنة الحجة بالحجة، حتى يرجع إلى الصواب من حاد عنه. وذلك تبعاً لحرية الرأي واحترام الرأي المقابل والاستماع إليه ومجادلته بالتي هي أحسن.

 أما ما استتبع اعتناق نحلة ما والتعصب لها بالرغم من وضوح انحرافها وخطئها، ولجوء مروجيها إلى العنف والقوة لما أعيتهم الحجة العقلية، فلزم للمجتمع أن يتصدّى لهم حتى لايؤدي ذلك إلى نشر الفتن والضلالات، وإضعاف المسلمين وذهاب لحمتهم.

حرية القول

وحرية العقيدة ومايتبعها من حق الاختيار تستلزم حرية القول، إذ لا حرّىة فكرية ولا اختيار بدون حرية القول، كما أن لاحرية في القول لاتسبقها حرية التفكير والاختيار. وإلا كان ذلك عبثاً لا طائل من ورائه. وتكون أفكار الإنسان وعقيدته لاتتجاوز باطنه، ويصير حديثاً نفسياً مكبوتاً يخشى الجهر به من العقوبة والمساءلة.

 لذلك منح الإسلام الناس حرية القول، وحمى الكلمة من كل مايَسمُها بسوء، وجعلها مقدسة وضرورة من ضوررات الحياة، لا كرامة للإنسان بدونها، فقد ميزّ الله البشر بالنطق، وفضلهم على الجمادات والحيوانات بهذا الامتياز بقوله تعالى: {ولقد كرَّمْنا بني آدمَ وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}. (سورة الإسراء، الآية:70 ).

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=239

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك