أسباب الاختلاف

د. ناصر بن سليمان السابعي

مقدمة

فهذا بحث موجز يبحث في أسباب الاختلاف في الأمة الإسلامية، سواء منها ما هو خلاف بين علمائها أو بين فئاتها، وقد ركزت فيه على أسباب اختلاف الفقهاء مما هو في أصله، لايؤثر على حيوية التفاعل بين المسلمين، ولا يزيد المسلم إلا قناعة بصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وذلك من خلال المرونة الواضحة التي وسعتْ دائرتها كل المدارس الفقهية المعروفة.

وعرََّجت من بعدُ على بعض العوامل التي ترفع من قيمة هذه الخلافات، لتجعلها أسباب فرقة وتدابر تذكي  أوار الفتنة التي يصطلي لظاها كل من يستظل بمظلة الإسلام.

أسأل الله جل وعلا أن يلطف بهذه الأمة، ويأخذ بيدها إلى سبيل مرضاته، وهو حسبي ونعم الوكيل.

دعوة الإسلام إلى الوحدة:

دعا الإسلام إلى الوحدة دعوته إلى التوحيد، وجعل وحدة هذه الأمة عنواناً لها ورمزاً لمكانتها بين الأمم، إذ هي الأمة التي تضم  تحت مظلتها كل أفراد البشر بمختلف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، وذلك هو قوله  سبحانه: {ياأَيهَا النًَّاسُ إنَّا خَلقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وََجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أََكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّه عَلِيمٌ خَبِيرٌ }(سورة الحجرات، الآية:13)، فالرابط بين كل هؤلاء البشر هو التقوى الذي هو مقياس التفاضل ومعيار التمايز فيما بينهم، وقد أكد هذه المعاني رسول الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، في خطبته المصيرية في حجة الوداع في قوله: > ألا وإنَّ اللَّه تعالى قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها، بالآباء، كلكم من آدمَ وآدمَ من تراب، ليس إلا مؤمنٌ تقي أو فاجرٌ شقي وأكرمكم عند الله أتقاكم<.

وقد أوجد اللَّه عزَّ وجلَّ في هذا الدين من الأسباب ما هو كفيل بتحقيق هذه الغاية العظيمة، ونجد مظـاهر ذلك في كل جوانب هذا الدين الحنيف.

ففي الجانب الإيماني نجد وحدة الوجهة، فاللَّّه سبحانه وتعالى واحدٌ لا شريك له، وهو المقصود بالعبادة والدعاء والاستعانة، وهو جلّ وعلا الذي يُعلق به الرجاء ويُدفع به البلاء.

ومن عوامل تقوية هذا الجانب الإيمان بوحدة المصير، وذلك هو الإيمان باليوم الآخر الذي يحشر فيه الأولون والآخرون لتُجزى كل نفس  بما تسعى، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، وهذا وحده كافٍ لتوجيه النفس الإنسانية الوجهة التي تُسعدها.

وفي جانب العبادات تتجلى مظاهر الوحدة في العديد من شعائر الدين؛ فالصلاة يؤديها المسلم مع الجماعة التي تتميز بإمام للمصلين، في حركات متسقة وصفوف موحدة نحو قبلة واحدة؛ وكذلك الصوم تتوحد في شهر رمضان مشاعر المسلمين التي تتقيد بنظامٍ للصوم والإفطار، أما الحج ففيه من مظاهر الوحدة ما لا يوجد في غيره، ابتداءً من لباس الإحرام الذي يشترك فيه كل الرجال، ومروراً بالمناسك التي يؤديها الحجيج في أبرز صورة لتماسك المجتمع المسلم المتماسك.

وفي الجانب الاجتماعي فالزكاة إحدى العوامل المؤثرة لزيادة روابط الأُخوة ووشائج المحبة بين المسلمين. على أنَّ الإسلام دعا إلى كل ما من شأنه أنْ يوثق عرى الأُخوة ويقوي الصّلات الاجتماعية، فهو الذي دعا إلى برِّ الوالدين وصلة الأرحام والعطف على الأيتام وإيواء المساكين والرفق بابن السبيل واحترام الكبير والتلطف للصغير.

كما نهى عن كل ما يقطع هذه الروابط، ويمزق الشمل، و يثلم جدار الأمة المتماسك، إذ نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، ونهى عن الغَيْبةِ والنميمة والكذب والسعاية والنفاق وسوء الأخلاق، ونهى عن الظلم والتعدي على حقوق الآخرين وحرمانهم، وأمر بالإصلاح بين الناس، والسعي إلى التقريب بين القلوب المتنافرة،  وذلك في آيات عديدة وأحاديث كثيرة تبين عظمة هذا الدين وعِظَمِ الرسالة التي أُنيطت بالمسلمين.

 إننا لانجد في أُمة من الأُمم من مقومات الوحدة وعوامل التكاتف مانجده في هذه الأمة، فكم يطرق مسامعنا وتقرأ ألستنا: {إنَّ هذه أُمتكم أُمةٌ واحدةٌ} (سورة الأنبياء، من الآية: 92).

 وكم نسمع دعوة الحق قائلة: {يَا أَيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تُمُوتُنَّ إلا وَأََنْتُمْ مُسْلِمُونَ،* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وََاذْكُرُوا نِعْمةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ  إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (سورة آل عمران، الآيتان :103-102).

 موقف الإسلام من الاختلاف

بداية لابد من القول: إن َّ الاختلاف بين البشر صفة بشرية وطبيعة جبليَّة فيما بينهم، وذلك عائد إلى الاختلاف الملحوظ فيما بين فئات البشر واختلاف بيئاتهم، واختلاف مناهج التفكير  وأنماط المعيشة، وتفاوت قدراتهم، وتباين اتجاهاتهم، وتعدد أمزجتهم، وتداخل أهدافهم وتضارب غاياتهم، إلى غير ذلك مما هو سمة لكل الناس مودعة في كل واحدٍ منهم.

ولامراء في أن الاختلاف إنَْ كان لا يؤثر على العلاقات بين الجماعات والأفراد، فهو أمر طبيعي لا يتعارض مع مبادىء هذا الدين، غير أننا نرى وفرة الآيات القرآنية التي تنعى على  الاختلاف من مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إلا أُمَّةً وَاحِدةً فاخْتلَفُوا}، (سورة يونس، من الآية: 19)، إذ ذكر نقيضاً للوحدة، ومثل قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلا الْذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنهُمْ} (سورة البقرة، من الآية: 213)، إذ  قرن الاختلاف بالبغي، وقولـه تعالـى: {وَلا تكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْ لَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيِمٌ} (سورة آل عمران، الآية: 105)، فقد توعد اللَّه سبحانه وتعالى بالعذاب الذين  تفرقوا واختلفوا في آياتٍ كثيرة من كتابه العزيز.

ونحن إذا تساءلنا: هل هذا الوعيد مُوَجّهٌ إلى كل متخالِفَين؟.

 لبيان الجوانب عن هذا السؤال، لا بد أن نعي أنَّ الله جل وعلا جعل مناط الوعيد،  فيمن يكون سبباً للاختلاف، وذلك في نحو قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلََّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (سورة مريم، الآية: 37)، وقوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلْذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (سورة الزخرف، الآية: 65)، وقوله: {وَلَكِنِ اخْتَلفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ امَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} (سورة البقرة، من الآية: 253)، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (سورة النحل، من الآية: 93).

يستفاد من هذه الآيات أنَّ الذين ثبتوا على الحق لا ينالهم العذاب، بل ينال الذين كفروا وظلموا وضلوا، ويؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النَّاس أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إلا مَنْ رَحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (سورة هود، الآيتان: 119-118).

وهذا يعني أنَّ الاختلاف المذموم هو مخالفة الحق والركون إلى الباطل بشتى صوره، وحينئذ فالاستمساك بالحق هو دعوة القرآن والسبيل القويم للوقاية من عذاب اللّه سبحانه وتعالى.

ولكن : هل كل خلاف هو حق أو باطل؟

إنَّ استيعابنا للحوادث العديدة التي كانت في أيام النبي، عليه الصلاة والسلام، وفي عهود الراشدين ومن بعدهم، مما اختلفت فيه أفهام الصحابة وغيرهم، وتباينت فيه مداركهم من أحكام الشرع، من مثل الاجتهاد في أمر النبي، عليه السلام، أصحابه بصلاة العصر في بني قريظة، فأداها بعضهم هنالك، وعجل بعضهم فصلاها ثم توجه إلى  بني قريظة، وعدم إنكاره، عليه السلام، على الفريقين يقودنا إلى أنَّ من الخلاف ما لايؤثر طعناً في الإيمان ولا خروجاً من مقتضاه.

وربطاً بين هذا المعنى وبين الآيات التي تدعو إلى جمع الشمل ورص الصف ورأب الصدع، نوقن بأنَّ الدعوة هاهنا تتوجه إلى عدم تضخيم الخلاف ليكون سببا للفرقة والشحناء والبغضاء، كما نؤمن بأنَّ لدينا من مقومات الوحدة أكثر بكثير من أسباب الفرقة.

وإذا أدركنا ضرورة الاختلاف، بمعنى أنه أمر طبيعي بين البشر، فلا مِراء أنَّ هنالك سبلاً لتلافي الفرقة الناجمة عنه، وأهم ذلك:

.1 الوعي بأسباب الخلاف

 .2عدم  تضخيم الخلاف وعَدُّ الفرع أصلاً والصوابُ حقاً والخطأ باطلاً.

دواعي الخلاف وأسبابه:

الخلاف الحاصل بين المسلمين ينقسم إلى قسمين:

.1 قسم يُخَطّىء فيه بعضهم بعضاً، وهو بعض المتعلق بأمور العقيدة، وبعض الغيبيات كالوعد والوعيد والأسماء والصفات.

 .2 قسم يُعدُ ـ من قبل الجميع ـ خلافاً فرعياً، لايترتب عليه فرقة ولا نزاع ولاهجران ولا أحكام.

والخلاف المندرج تحت القسم الأول هو الذي بعثر الأمة وشتتها وفرقها إلى أحزاب ومذاهب شتى، ولا سبيل إلى تفادي الفرقة من خلاله إلا بما يلي:

أ) الاحتكام إلى الكتاب والسنة بالحوار والمجادلة بالتي هي أحسـن، قـال تـعالـى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنتُمْ تُوْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(سورة النساء، من الآية: 59)، وقال سبحانه: {وَمَا اخَتَلَفْتُمْ فيه مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه} (سورة الشورى، من الآية: 10).

 ب) اعتبار هذه المسائل مما لا تؤثر على الإيمان، ولا مما تقطع الصلة بين المسلم ودينه مادام المتمسك بقوله مستنداً إلى نصٍ شرعي أو متأولاً لدليل.

 

 

 أسباب الاختلاف:

أولاً: العامل الطبيعي:

ومعناه التباين الذي فطر عليه البشر من حيث تفاوتهم في القدرة على الإدراك والاستيعاب، بما فضل الله به  بعضهم على بعض من الفهم والعلم والحفظ وسَعة الاطلاع، وقد يكون لعامل البيئة والمعيشة دورٌ في التأثير على المجتهد في قوة المدارك ونوعية الوعي، وما يترتب على ذلك من الحكم الشرعي الصادر عن المجتهد والفقيه.

ثانياً: الاختلاف في الأدلة الشرعية:

والمراد به أمران، الخلاف في عد الدليل مصدراً شرعياً، والخلاف في المدى الذي يبلغه ذلك الدليل في كونه حجة شرعية.

ولا ريب أنَّ عدداً من الأصول متفقٌ على حجيتها، والخلاف فيها لايعدو في كثير من الأحيان أن يكون خلافاً لفظياً، ولنتناول هذه الأدلة بشيء من التفصيل.

.1  القرآن الكريم:

لاخلاف بين الأمة الإسلامية في عد القرآن الكريم المصدر الأول، في استمداد الأحكام واستيحاء مراد الله سبحانه من الشرائع. ولكن ثمة خلاف فــي الـقراءات الشـــاذة (الآحادية)، هل يجوز أن يعمل بها أو لا يجوز؟ فذهب قوم إلى جواز ذلك تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد في وجوب العمل به، لأنَّ كل منها مروي عن النبي، عليه الصلاة والسلام، بينما لم يرتضِ ذلك قوم آخرون.

 .2 السنة النبوية:

 ليس في الأُمة الإسلامية من ينكر السنة أو ينكر كونها مصدراً تشريعياً، بمعنى أنَّ إنكارها يعد طعناً في الدين، ومنكرها مرتد عن الدين الإسلامي خارج عن هذه الحظيرة المباركة.

والخلاف من قبل السنة النبوية حاصل من أمور:

عدم بلوغ الحديث صاحب الرأي المخالف، فإنَّ الإحاطة بحديث رسول اللهعليه الصلاة والسلام لم تكن لأحد قط، وقد يكون اجتهاد المجتهد حينئذ موافقاً للحديث أو مخالفاً له، وأمثال ذلك أيام الصحابة رضوان اللَّه عليهم كثير، منها: أن َّ أبا بكر الصديق لما سئل عن ميراث الجدة، قال : ما أعلم لكِ في كتاب الله شيئاً، ولا أعلم لك في سنة رسول الله  عليه الصلاة والسلام  من شيء، حتى أسأل الناس، فسأل،  فقال المغيرة: سمعت رسول الله  عليه الصلاة والسلام  جعل لها السدس، فقال: من يشهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة: فقال مثل ذلك.

أن يكون الحديث قد بلغه بطريق لم تثبت عنده سواءٌ كان ذلك بسبب ضعف راويه أو انقطاع فيه أو لشذوذ أو وجود علة قادحة، وقد يكون للحديث طريقٌ أخرى صحيحة.

 أن يكون قد نسي الحديث الذي صح عنده فأفتى بخلافه ، مثل الحديث المشهور عن عمر، رضي الله عنه، أن رجلاًٍ أتاه، فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال: لا تُصَلّ، فقال له عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين، إني وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعَّكْتُ في التراب، وصليت، فقال النبيعليه الصلاة والسلام: >إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك<، فقال عمر: اتق الله ياعمَّار، قال إن شئتَ لم أحدث به، قال عمر: نُولِيك ماتولّيتَ.

.3 الإجماع:

واختلفوا في الإجماع، فقيل:

هو "اتفاق مجتهدي الأمة على حكم في عصر"

وقيل: هو إجماع الصحابة فحسب.

 وعَد بعضهم إجماع الخلفاء الأربعة حجة، وبعضهم إجماع الشيخين، وعد الإمام مالك إجماع أهل المدينة، وعدَّ الشيعة إجماع أهل البيت.

والجمهور على الأول. وخالف النظام في الاحتجاج به بهذا الاعتبار، أيضاً، ونسب ذلك إلى الخوارج، على أنَّ من الذين أنكروا حجيته إنما أنكروا إمكان حصوله، فلذا عدوا ما حصل من الإجماع غير حجة.

وأكثر الخلاف في الإجماع السكوتي، لما يعتربه من احتمالات عدة في تصريح كل المجتمعين بأقوالهم.

 .4 القياس:

وهو "حمل مجهول الحكم على معلوم الحكم بجامع بينهما". والخلاف حاصل في كونه دليلاً شرعياً، فقد ذهب الجمهور إلى أنه حجة شرعية محتجين بنحو قوله عليه الصلاة والسلام  في حديث المرأة الخثعمية التي جاءته، فقالت: يارسول الله، إنَّ فريضة الله على العباد في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لايستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجّ عنه، قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه عنه أكنت قاضية عنه؟ قالت: نعم، قال: "فذاكِ ذاكِ".

بينما أنكر القياس ابن حزم والشيعة الإمامية.

ومما جرى الخلاف فيه علة الربا، إذ اختلفوا فيما يجري فيه الربا إلى أقوال نظراً إلى الخلاف في العلة المأخوذة من قوله، عليه السلام، في حديث عبادة بن الصامت:  "لاتبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا الملح بالملح إلا مثلاً بمثل يداً بيد سواء بسواء عيناً بعين".

 بينما حصر ابن حزم ـ مثلاً ـ الربا في الأصناف التي نص عليها الحديث.

 .5 الاستحسان :

 وله تعريفات، منها:

ـ أنه "دليل ينقدح في ذهن العالم تقصر عن إظهاره عبارته".

ـ أنه"عدول من الدليل إلى العادة".

 ـ وقيل هو "العدول عن قياس أوهو إلى قياس أقوى".

وقد اختلفوا في عَدِهِ دليلاً شرعياً، وممن اشتُهر بأفكار الاحتجاج به الشافعية.

.6  الاستصحاب:

وهو "عبارة عن إبقاء ما كان على أصوله التي كان عليها من وجود أو عدم أو نحو ذلك ما لم يرد دليل ينقله من حكم أصله إلى حكم آخر".

وقد اختلفوا في كونه ـ بهذا الاعتبارـ دليلاً يستفاد منه حكم الأصل، وقيل: هو حجة في الدفع به عما ثبت له دون الرفع به عما ثبت، بمعنى أنه حجة في بقاء ما كان على حاله الأول من غير أن يزاد حكم آخر، مثال ذلك استصحاب حياة المفقود دافعة لغيره من أخذ ماله بسبيل الإرث فماله لا يورث لاستصحاب حياته قبل الأجل، وهو مع ذلك لايكون وارثا ًمن غيره عند صاحب هذا القول للشك في حياته، وشرط أخذ الميراث تيقن حياة الوارث بعد موت الموروث، فحصة المفقود على هذا موقوفة حتى يتحقق موته أو حياته بعد موت موروثه(2).

وممن أنكره جمهور الحنفية والمعتزلة.

.7 الاستقراء

وهو عبارة عن تتبع أفراد الجنس في حكم من الأحكام، فإذا وجدنا ذلك الحكم في جميع أفراد ذلك الجنس قطعنا بأن حكم ذلك الجنس كذا .

وينقسم إلى تام (كامل) وناقص.

فأما التام فهو إثبات الحكم في جزئي بعد ثبوته في كلي، أو هو أن يتتبع المستدل جميع أفراد ذلك الجنس حتى لا يبقى من أفراده إلا الصورة التي طلب معرفة حكمها فيحكم بأ حكم تلك الصورة حكم بقية أفراد الجنس.

وأما الناقص فهو إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته، أو هو أن يتتبع المستدل غالب أفراد الشيء، فإذا وجدناها متفقة في حكم أجري ذلك الحكم في جميع الأفراد، ويسمى هذا النوع إلحاق الأفراد بالأعم والأغلب.

أما الأول فقد اختلف فيه فقيل قطعي وقيل ظني، واتفقوا على ظنية الثاني.

.8 الأصل في الأشياء

 قيل الإباحة وقيل الحظر وقيل بالتوقف .

واختلفوا فيها بعد ورود الشرع، فقيل: الأصل الحل، وقيل: الحرمة، وقيل: الأصل في المنافع الحل والأصل في المضار الحرمة، ومن أمثلة ذلك الخلاف في الاستظلال بجدار الغير والاقتباس من ناره.

.9 المصلحة المرسلة (المرسل المناسب).

وهي ما لم يدل دليل على اعتباره ولا على إلغائه  .

وقد اختلفوا فيها إلى ثلاثة أقوال:

 l أنها حجة مطلقاً، وأكثر من اعتنى بها المالكية والإباضية.

 l أنها غير معتبرة مطلقاً.

 l  أنها معتبرة بشروط، وهي أن المصلحة ضرورية لاحاجية، قطعية لاظنية، كلية لا جزئية. فالضرورية هي إحدى الضروريات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب. والقطعية هي التي يجزم بحصول المنفعة فيها.

والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين.

ومن الأمثلة على ذلك مسألة الزنديق إذا تاب، فهل تقبل توبته لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: >أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله<، أم يقتل لأن المصلحة في قتله لكف شره.

 واختلفوا في خبر الآحاد هل يوجب الاعتقاد، فالجمهور على أنه لا يفيد إلا الظن .

واختلفوا في زيادة الثقة، فقلبها قوم وردها آخرون، وذلك نحو حديث فرض رسول الله عليه الصلاة والسلام  زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأن تُؤدى  قبل خروج الناس إلى الصلاة.

فقد حكم علماء الحديث على زيادة "من المسلمين" بتفرد الإمام مالك بروايتها، وقد عدها قوم من قبيل زيادة الثقة المقبولة، بينما جعلها آخرون  من الشذوذ المردود.

.2 دلالة العام وتخصيصه

ويعرف العام بأنه "لفظ دل دفعة على ما لم يكن منحصراً".

والخاص: "مادل على معنى مفرد".

والتخصيص "إخراج بعض ما يتناوله لفظ العموم بدليل مخرج له عن دخوله تحت تناوله".

وقد اختلفوا في دلالة العام، فقال الجمهور إنها ظنية، وقال الحنفية دلالته قطعية، وتظهر ثمرة هذا  الخلاف في مسألة تخصيص العام.

قال الجمهور بأن الخاص يقضي على العام سواء تقدم أو تأخر أو قارنه، أما الحنفية فقالوا: يخصصه إذا تأخر الخاص عن العام، أما إذا تقدم الخاص فإن العام يقضي عليه أي ينسخه ، ومن ذلك حديث: " فيما سقت السماء والعيون العشر، وما سقي بالدوالي والغرب نصف العشر، مخصص عند الجمهور بحديث: " وليس فيما دون خمسة أو سق صدقة، أما الحنفية، فقد قام الدليل عندهم على تقدم الحديث الثاني الخاص فنُسخ بالحديث الأول.

ومما انبنى عليه، هل يخصص العام بالحديث الآحاد ؟

من ذلك مسألة من التجأ إلى الحرم، وهو مباح الدم بردَّة أو زناً أو قصاص أو قطع طريق، قال تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كََانَ آمِناً} (سورة آل عمران، من الآية:97)، أجاز الشافعية قتله لقوله عليه الصلاة والسلام: >الحرم لا يعيذ عاصياً ولافاراً بدم ولافارا ًًبِخَرْبةِ< ، ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل ابن أخطل وقد وجدوه في فتح مكة متعلقاً بأستار الكعبة .

بينما لايقتل عند الحنفية، ولا يؤذى ليخرج، ولكن لا يطعم ولايسقى ولا يجالس ولايبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل خارج الحرم .

.3 حمل المطلق على المقيد 

ـ المطلق هو: > مادل بالشيوع في جنسه<.

والمقيد >ما خرج من الشيوع بقيد<: .

ولهما أربع حالات:

الأولى : أن يتفقا حكماً وسببا ً، وفي هذه الحال يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً.

الثانية: أن يختلفا حكماً وسبباً، وهنا لا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً.

الثالثة: أن يتفق الحكم ويختلف السبب.

الرابعة: أن يختلف الحكم ويختلف السبب.

وفي هاتين الحالتين اختلف العلماء على أقوال:

يحمل المطلق على المقيد مطلقاً، وقيل لا يحمل مطلقاً، وقيل: يحمل إن كان بينهما جامع. فمثالهما إذا اتفق حكمهما واختلف سببهما قوله تعالى في كفارة الظِّهار: {والذين يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتََمَآسَّا} (سورة المجادلة، من الآية: 3). وقوله تعالى في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنََةٍ} (سورة النساء، من الآية: 92). فالرقبة في كفارة الظهار مطلقة، وفي كفارة القتل الخطإ مقيدة بالإيمان، وقد جرى الخلاف فيهما، والجامع بناء عند أصحاب القول الثالث هو حرمة سببهما أي الظّهار والقتل.

ومثالهما إذا اختلف حكمهما واتحد سببهما: إطلاق الأيدي في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيّدِيكُمْ مِنْهُ} (سورة المائدة، من الآية:6)، مع تقييدها بالمرافق في آية الوضوء، فإن السبب في التيمم والوضوء واحد، هو رفع الحدث واستباحة الصلاة وحكمهما مختلف، والخلاف هاهنا جار على ما تقدم، وأما من حمل المطلق على المقيد هنا بجامع، فهو عندهم اشتراكهما أي الوضوء والتيمم في السبب.

رابعاً : الخلاف من قبل اللغة:

وذلك مثل الخلاف في دلالة المشترك على معانيه، وتردد المعنى بين الحقيقة والمجاز، وحكم الشرط والغاية والوصف وحكم الاستثناء وحروف المعاني ونحوها.

خامساً : توهم الخلاف فيما لا خلاف فيه:

وقد جمع الإمام الشاطبي من ذلك عشرة أوجه، قال: >هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف، يجب أن تكون على بال من المجتهد، يقيس عليها ما سواها، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع< (2).

والأسباب هي:

.1 أن يذكر في التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك  شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أُخَر، في مما يشمله اللفظ، أيضاًً، فينصهما المفسرون على نصهما فيظن أنه خلاف، كما نقلوا في المَنْ أنه خبز رقاق، وقيل: زنجبيل: وقيل: الترنجبين، وقيل: شراب  مزجوه بالماء، فهذا كله يشمله اللفظ<.

.2 أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنًى واحدٍ، فيكون التفسير فيها على قول واحد، يوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه اختلاف محقق، كما قالوا في السلوى: أنه طير يشبه السمان، وقيل: طير أحمر ذو صفة معينة وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور<

.3 أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى، وهما معاً يرجعان إلى حكم واحد، لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى :{ومتاعاً للمُقْوين}، أي المسافرين، وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر<.

.4 أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد . وهو عائد إلى إبهام الموضع المختلف فيه وعدم تحديد محل النزاع الذي يدور الخلاف حوله، وهذا واضح جداً في عدد من القضايا سواء كان الخلاف فيها خلافاً فرعياً، أو كان الخلاف فيها داعياً إلى فرقة وتمزق، ومن أمثلة ذلك مسألة خلق القرآن التي أحدثت شرخاً كبيراً في جدار الأمة الإسلامية وأثرت تأثيراً بالغاً في قضايا تجريح الرواة وقبول الحديث، وبدَّعَتْ عدد من الفرق غيرها، وتخاصم العلماء الكثيرون بسببها، فكم ترى اتهام القائلين بخلق القرآن بالجهمية، واتهام القائلين بعدم الخلق بمثل ذلك، بل  هناك من يقدح فيمن يقول بكلا القولين، وهناك من أبى القول فيها رأساً.

ونحن إذا نظرنا إليها من زواياها نجد أن من العلماء من آثر السكوت وعدم الخوض فيها درءاً للفتنة، على أن من خطَّأ من قال فيها بقول كان للسبب ذاته.

وأما حقيقة المسألة فلها نظرتان.

الأولى: القرآن الذي هو الكلام النفسي، أهو علم اللَّه، فمن قال بقدم القرآن، نظر إلى هذا المعنى.

الثانية: القرآن المتلو بالألسن الملحوظ بالأعين، فمن قال بحدوثه نظر إلى هذا الاعتبار.

ولاخلاف بين الفريقين في تصويب هاتين النظرتين.

ومما يدخل هذا المجال ما يقال عن المعتزلة من تقديمهم العقل على الشرع عوداًً إلى قاعدة التقبيح والتحسين العقليين.

وبالرغم من أن المعتزلة يولون العقل عناية فائقة، إلا أن القول بتقديمهم العقل على الشرع فيه نظر، يقول السبكي : > واعلم أن المعتزلة لاينكرون أن اللَّه هو الشارع للأحكام، وإنما يقولون: إن العقل يدرك أن اللَّه شرَّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها، فهي طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي... ومعناه أن الحسن والقبح لا يُدْرَ كانِ بالعقل عندنا فلا يحترز عنهما، وأما عند المعتزلة فيدركان بالعقل، وهما حكمان عقليان يحترز عنهما، وليس العلم بها فقهاً، والحكم الشرعي تابع لهما على رأي المعتزلة لا عينهما، فما كان حسناً جوزه الشرع، وما كان قبيحاً منعه، فصار عند المعتزلة حكمان: أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له<.

ومن أمثلة ذلك نسبة إنكار الاستحسان إلى الإمام الشافعي قال البدخشي: "والظاهر أن مراده إثبات الحكم بالتشهي، من غير دليل شرعي، ثم النزاع ليس في التلفظ لوروده في القرآن، قال تعالى: {فيتبعون أحسنه} (سورة الزمر، من الآية: 18). وفي الحديث > مارآه المؤمنون حسناًً فهو عند اللَّه حسن<، وفي لفظ الشافعي بعينه فإنه قال في باب الشفعة: أستحسن أن تثبت الشفعة للشفيع بثلاثة أيام، وفي باب المتعة: استحسن أن يكون ثلاثين درهماً، وفي  الكاتب استحسن أن يترك عليه شيء، فالنزاع بحسب المعنى.

ومن ذلك فيما يلتقي بالمصلحة المرسلة قول الإمام الغزالي : "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود  الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل نقطع بكونها حجة، وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يرجح الأقوى".

ومن ذلك، أيضاًً، ما قاله الزركشي بعد أن ذكر خلاف الشافعية والمالكية من سد الذرائع، وبعض أدلة الفريقين: "وإنما قلنا إن هذه الأدلة لاتفيد في محل النزاع، لأنها تدل على اعتبار سد الذرائع في الجملة، وإنما النزاع في ذريعة خاصة هي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع".

ويقول الشاطبي: "فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر". وهناك كثير من المسائل محتاجة إلى تحرير محل النزاع فيها ليتأتى التسليم بوجود الخلاف فيها.

 .5 الاختلاف العائد إلى تغير الاجتهاد، لأن القول الثاني ناسخ للأول..

.6 "أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرأوا بما قرأوا به على إنكار غيره، بل إلى إجازته والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها".

.7 " أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات، وينبني على كل  احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافاً في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة".

.8 " أن يقع الخلاف في تأويل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلاً، وقوم على الحقيقة، والمطـلوب  أمر واحد، كما يقع لأرباب التفسير كثيراً في نحو قوله تعالى: {وتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ} (سورة آل عمران، من الآية: 27) فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز، ولافرق في تحصيل المعنى بينهما".

.9 أن يقع الخلاف في التأويل، وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى مادل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه".

.10 " الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود، وهو متحد، كما اختلفوا في الخبر: هل هو منقسم إلى صدق وكذب؟ أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب؟ فهذا خلاف في عبارة، والمعنى متفق عليه".

هذا، وما تقدم من الأسباب لاتوقِعُ في الأمة خلافاً حقيقياًً، ولاتعدو كونها وجهات نظر وآراء تعبر عن أفهام مختلفة، لأن المقصود من الأقوال المتعددة التعبير عن الحكم الإلهي بحسب نظر كل مجتهد، يقول الإمام الشاطبي: ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى لم يصيروا شيعاًً ولاتفرقوا فرقاً، لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر. كما لا اختلاف بين المتعبدين لله والعبادات المختلفة، كرجل تُقرّبه الصلاة، وآخر يُقرّبه الصيام، وآخر تُقرّبه الصدقة، إلى غير ذلك من العبادات. فهم متفقون في أصل التوجه إلى  الله المعبود، وإن اختلفوا في أصناف التوجه. فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة، وقولهم واحداً .

وهناك أسباب أخرى للاختلاف تتجاوز الخلاف العلمي النظري إلى الخلاف الواقعي العملي، الذي هو بتعبير أدق، الفرقة التي نهى الله، تبارك وتعالى، عنها في قوله: {وَلا تََكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيَّنَاتُ وَأُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران، الآية:105).

وفي قوله: {إنَّ الََّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَسْتَ مِنْهُمُ فِي شَيْء} (سورة الأنعام، من الآية: 159).

ويمكن حصر الأسباب التي من هذا القبيل في أمور:

العامل النفسي:

ويتجلى أثره في التعصب:

سواء كان التعصب لرأي معين أو مذهب، وليس المراد به قوة الاستمساك بالمذهب ولا بمبادئه، لأن ذلك أمر مفترض في أتباع كل مذهب، وهو المسوغ لبقاء كل واحد على مذهبه، بل القصد منه رفض  الطرف الآخر وإلغاؤه وضيق العَطَنِ عن تقبل الرأي الآخر.

ومن آثار التعصب تضخيم الخلاف وعد الصواب حقاً والخطأ باطلاً، وهذا السبب من أقوى العوامل في تمزيق الأمة الإسلامية شرقاًً وغرباً، وأمضاها في تذليل السبل للاستعمار، لكي يَنْصُبََ أشراكه وحبائِلَهُ لأفراد هذه الأمة، وما بلغت الأمة هذا المبلغ من التشرذم إلا لعدم رص الصف الذي انبثق من التعصب للمذاهب، وفتاوى التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع.

 والتعصب عائد إلى أمور، منها:

اتباع الهوى الذي نعى اللَّه سبحانه وتعالى على الواقعين في أو حاله، فقال: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنََّ وَمَا تَهْوَى الْأَنُفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِِّهِمْ الّهُدَى} (سورة النجم، من الآية: 23).

وكما قص اللَّه عز وجل نبأ الذي آتاه آياته، فانسلخ منها بقوله سبحانه: {وَلَوْ شِئنََا لَرَفَْْعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأََرْضِ وَاتَََّبَعَ هََوَاهُ} (سورة الأعراف، من الآية: 176).

يقول  الإمام الشاطبي: وبهذا يظهر أن الخلاف ـ الذي هو في الحقيقة خلاف ـ ناشىء عن الهوى المُضِل، لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل. وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصاًً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها. وإنما جاء الشرع بحسب مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء. فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع، ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء أن كل بدعة ضلالة، لأن صاحبها مخطىء من حيث توهم أنه مصيب ".

الجهل بوجود الخلاف

قد يكون عدم العلم بوجود الخلاف أحد العوامل الداعية إلى التعصب، وذلك عائد إلى حسبان ما يتبناه المرء من أقوال وآراء، مما اجتمعت عليه الأمة، فيعتقد أن الرأي المخالف والحال هذه قد خرق الإجماع، وهذا يدعوه إلى التشنيع عليه.

الجهل بما يجوز فيه الاختلاف.

وهكذا كسابقه، فقد يحسب البعض شيئا ًمن مسائل الرأي مسائل دين لايجوز الخلاف فيها، وهذا ما نلحظه من اشتداد معركة الاختلاف في مسائل عذر النبي عليه الصلاة والسلام من اختلف فيها هو أعظم منها بكثير.

العامل السياسي

وهو دخول السياسة في الخلافات الفرعية، لتضفي عليها منطق القوة حتى يكون دليلاً آخر على صحة القول. وخير مثال لذلك ما حدث أيام المأمون عندما تبنى رأي المعتزلة بالقول بخلق القرآن، وأرغم العلماء على  متابعته في ذلك، وقد أدى ذلك إلى مقابلة ذلك القول بنظيره من الأحك

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=240

الأكثر مشاركة في الفيس بوك