اللغة العربية وتحديات العولمة الثقافية

اللغة العربية وتحديات العولمة الثقافية
محمد تاج

أمر أكدته مختلف الأبحاث في مختلف الميادين, ذاك المتعلق بأهمية اللغة في حياة المجتمعات قديمها وحاضرها, حتى أنّ اللغة ارتبطت بالوجود في مختلف صوره, وهذا ما دفع العلماء إلى التخصص في ميدانها والبحث عن علاقتها بالعلوم الأخرى فظهر علم النفس اللغوي, وعلم الاجتماع اللغوي وعلم الاقتصاد اللغوي ذلك لسدّ الثغرات التي قد تحدث عند صنع العملية التواصلية.
فما دامت اللغة بهذه الأهمية كانت مناط تحول لدى المختصين وتحولت بتحولها المسارات الحضارية, تحرك آلياتها في كلّ قارات العالم بل أصبحت التراستات تسير جنبا إلى جنب مع مصطلحات اللغة بل وأصبحت ثمة مشاريع لغوية لا تقل من حيث الأهمية ومن حيث الرساميل عن المشاريع الاقتصادية, وكل ذلك لأنّ اللغة رسول الهوية التي يحاول أصحابها توسيع دائرتها إما بتذويب باقي الهويات الأخرى أو امتصاصها.
فبقاء الهوية مرهون بقوة الاقتصاد وحكمة السياسة وإصرار أفراد المجتمع على السيادة, ذلك أنّ الهوية ذلك الإحساس الداخلي المطمئن للإنسان على أنّه هو نفسه في الزمان والمكان وعلى أنّه منسجم مع نفسه باستمرار مهما تعددت واختلفت المكانات الاجتماعية وعلى أنّه معترف به بما هو عليه من طرف الآخرين الذين يمثلون المحيط المادي والاجتماعي والثقافي المحلي والإقليمي والدولي.(1)
هذا الأساس المتين وهذه الشجرة المتجذرة بجذورها المتفرعة بفروعها الباسقة كانت دوما الحافز الذي يجعل طموح الإنسان وفي أي زمان ومكان أن تكون هويته الأكثر انتشارا وسيطرة فيبيح لنفسه بلعمة الأخر, ومحاولة تغطيته ويتحول إلى مركز الكون فهو البداية وهو النهاية وهو الاتجاهات المتباينة, وهو أوجه الحضارة المختلفة. فلعلها التوجهات التي تسطر مسار حضارة من الحضارات ,فنسمي كلّ ذلك بمسميات مختلفة, هي العولمة, هي الكوننة أو الشمولية أو في عصرنا الحالي الأمركة.
وهذا الفهم الحضاري لم تخل منه حضارة من الحضارات ولا أيديولوجية من الإيديولوجيات ,فانتشار فكرة من الأفكار أو ظاهرة من الظواهر هو بمثابة رغبة هذه الجهة في الاستمرار فعند المسلمين تتقرر النهاية بقيام الخلافة وثقافتها قبل أن يرث الله الأرض ومن عليها وعند الشيوعيين فالعودة إلى المشاعية المتمخضة عن الاشتراكية الانتقالية.
إذن فالعولمة مصطلح قديم يلبس ثوبه على اختلاف الأزمنة والأمكنة فهي لم تنشأ فجأة, بل لها جذورها التاريخية ولها مقدماتها الموضوعية وخاصة تلك الأخيرة التي ظهرت مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين وارتبطت بالثورة الصناعية الثالثة التي أبرز مظاهرها تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة.(2)
لقد شغلت العولمة كرسي التفكير احتلته سواء بالنسبة للمثقفين الغربيين الذين يرغبون في بسط سلطانهم العارم على العالم والمثقفين العرب الذين يحاولون إيجاد التموقع المناسب الذي قد يكون لهم, في خضم هذا الزخم المتلاطمة أمواجه, وحسب الجهة يكون الموقف ولذلك سنلحظ تباينا بين مختلف المثقفين.
العولمة من وجهة نظر عربية :
المصطلح العربي ترجمة للكلمة globalisation الإنجليزية المشتقة من globe المعرفة في قاموس المورد إنجليزي - عربي بأنّها الكرة الأرضية(3) وتعني في المنظور العام إكساب الشيء طابع العالمية, وما يشترك فيه كل الناس باعتباره مشكلا من أشكال توحد العالم المفضي إلى سعادة البشر.(4)
ويعرفها محمد عابد الجابري بأنّها نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد وإنّها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا(5) إنّها توحيد طريقة التفكير والنظر إلى الذات وإلى الأخر وإلى القيم.(6)
فالعولمة الثقافية محك تمر من خلاله مختلف الهويات وتحاول أن تجعلها تدور في فلكها, وتمدها بمختلف مفاهيمها ومعتقداتها وتشكيل تاريخها والتنظير لمستقبلها. فالعولمة لا تهدد الهوية أو الهويات الثقافية بالفناء أو التذويب بل تعيد تشكيلها أو تطويرها للتكيف مع العصر.(7)
ولعل هذا التباين الحضاري هو الذي أدى بدوره إلى تباين على مستوى التعاريف لهذه العولمة يعرفها صادق جلال العظم قائلا : العولمة هي وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريبا إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة إلى عالمية دائرية افتتاح, وإعادة الإنتاج ذاتها, أي أن ظاهرة العولمة نشهدها بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية (...) ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوّله وهي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء, في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها, وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ, مما يعني أنّ بداية المصطلح كانـت اقتصادية.(8) أما الأستاذ الحبيب الحنحاني فيعرفها قائلا : إنها أشد تعقيدا... واكثر تشعبا إنها وليدة الحداثة في أجد مظاهرها.(9)
أما إبراهيم حيدر فيعرفها : العولمة قاطرة علمية الحداثة والتحديث وبالتالي تهدد الثابت والأصيل... وهي في مضمونها ورؤيتها الفكرية هي تعبير عقلي عن مرحلة الحداثة, ثم ما بعد الحداثة كما تميزت هذه المرحلة بالعلمانية أي فصل الدين عن الحياة العامة.(10)
ويضيف حيدر إبراهيم إن العولمة لا تهدد الهوية أو الهويات الثقافية بالفناء أو التذويب بل تعيد تشكيلها أو حتى تطويرها للتكيف مع العصر.(11)
ارتبطت العولمة بالاقتصاد والسياسة والثقافة وإذا تحول العالم إلى لغة مشتركة فإن هذه اللغة ستكون الإنجليزية بطبيعة الحال وهي لغة الاقتصاد والبحث والتكنولوجيا وإذا كان يتحرك بمعايير مشتركة في مجال الأمان والنوعية... فستكون هذه المعايير أمريكية... أما القيم فتكون قيما يرتاح لها الأمريكيون... هذه ليست مجرد تطلعات لا جدوى منها فاللغة الإنجليزية تربط العالم في مجالات الاتصالات والمواصلات.(12)
يقول زكريا بشير إمام إن العولمة تعني الاستلاب الثقافي وتدمير الهوية الوطنية وأنبياء العولمة وفلاسفتها لا يكنّون سوى الاحتقار للثقافات الأخرى غير الغربية وهم يصفونها بأنها مناقضة للتقدم وللعلم... بل دعوا العالم كلّه إلى تبني الثقافة الماكدولديه.(13) macdoladisme
العولمة من وجهة نظر غربية :
فالمنتج ليس كالمستهلك والذي يراها سلبية لا كالذي يراها إيجابية ويعرفها جيمس روزانو James Rosaneau من الضروري وضع تعريف للعولمة يحدد محتواها بدقة فهي علاقة بين مستويات متعددة للتحليل : الاقتصاد والسياسة والثقافة, وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج وتتداخل الصناعات عبر الحدود, وانتشار أسواق التمويل ,وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول.14
ويرى روزانو أن لهذه الظاهرة خمسة أبعاد نعرضها بإختصار :
1 - البعد التكنولوجي : التفوق في مجال التطورات, التلفاز والأقمار الصناعية والكمبيوتر. وإذا كانت تكنولوجيا الوسائط الإعلامية (الأنفوميديا) التي هي عبارة عن أجهزة سمعية وبصرية كالتلفزيون والراديو والهاتف أي أنّها التكنولوجية التي تتقدم نحو المنزل فتدمج هذه الأجهزة بواسطة الكمبيوتر في جهاز واحد يطرد الخط الفاصل بينها.
2 - البعد السياسي : عولمة النزاعات الدولية وإيجاد حلول لها تخدم دول المعسكر الرأسمالي.
3 - البعد الاقتصادي : تدويل رأس المال العمالة, الهجرة, الشركات العالمية المتعددة الجنسيات.
4 - البعد التعاوني : دور المنظمات الدولية في إقامة تعاون شامل بين الدول على أساس حرية الاستثمار والتسويق.
5 - البعد النفسي يتوقف على مدى استيعاب الناس وفهمهم لظاهرة العولمة.15
كما يعرفها أنطوني ماك جرو Anthony Grew العولمة عملية تصبح بموجبها الأحداث والقرارات والنشاطات في مكان ما من العالم نتائج مهمة لأفراد ومجتمعات في أمكنة أخرى بعيدة.16
أما ميشال كلوغ فيرى : العولمة خلق نظام متشابك لعوالم متصلة, ويرى أن العولمة الثقافية تصبح بالأحرى كوكبا تختلط فيه الثقافات وتتعايش بصورة ايجابية.17
البعد الثقافي :
لا شك في أنّ التدخل في شؤون دولة يأخذ اليوم شكلا يختلف عن شكله القديم ويتمثل في الهيمنة الثقافية واللغوية, ذلك إنّ العولمة السياسة الاقتصادية لا تتم بعيدا عن ثقافة الأمة.
فالعولمة تواجه كل المقومات التي تصنع استقلال الأمة من قيم ودين وأخلاق وتربية فهذه الأخيرة في منظور العولمة تخضع للتغير والتطور والتحرير, وتظل جيوش الإعلام بمثابة معاول نحت لها إلى أن تحولها أو تلغيها نهائيا, وخاصة الأنترنات, فالعولمة الثقافية لا تنتج ثقافة عالمية ولكنها تنتج بالأحرى كوكبا تختلط فيه الثقافات وتتعايش أو تتصارع.18
أما حلام الجيلالي فيرى أنّ ظاهرة العولمة من منظور الشمولية الكونية باتت تطال المجتمعات الوطنية والقومية في مقوّماتها الثقافية الأساسية كالفكر واللغة والأدب والفنون والتاريخ والعادات والتقاليد وحتى أنماط العيش والسلوك مما يضع الدول أمام اخطر تحد بعد أن زال الاستعمار الاستيطاني والحرب الباردة وهي ترتقي عتبات الألفية الثالثة... ولاشك في أن ثمة جهود خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة ولا ريب في أنّ المحصلة النهائية لمثل هذا التطور ستكون في المجال الثقافي وهو مجال يشمل كل ما أبدعه الإنسان أو أكتسبه كالممارسات الفكرية والفنية والاجتماعية والأدبية والجانب الذاتي المتصل بالقيم العقلية والنفسية والروحية واللغوية أي ما يشكل في جملته المرجعيات الحضارية للأمة.19
وبهذه المفاهيم المختلفة للعولمة الثقافية يبدو واضحا أنّها اغتصاب واعتداء صريح على ثقافات الأخر وخاصة إذا توحدت المكتبات الرقمية, مصطلحات هذه المكتبات وتوحدت مفاتيح التواصل بين مختلف الجهات رغبة في اختصار المسافات العقلية التي تطيلها في كثير من الأحيان اللغة ولذلك فإنّ كثيرا من الثقافات أصبحت مهددة لأن لسانها لم يعد قادرا على المواكبة وأنّ اختراقه بات أكيدا بل أنّ أصحابه في كثير من الأوقات وجدوا فيه عائقا ابستميا في سبيل الاندماج فراحوا يغلّبون عليه لسان الأخر.
إنّ المنجزات الثقافية في ميدان الفضائيات أضحت على الأبواب وتدق بقوة بل وتكسرها بلا هوادة وتغرق كلّ من وقف أمامها ,هو زحف بجيوش جديدة جنوده البرامج وأسلحته الدفق المعلوماتي الذي يشبه مياه المحيط فلا ريب في أنّ أول وسيلة تصاب هي اللغة, ولذلك نشهد اليوم اختفاء الكثير من اللغات المحلية والثقافات وهذا بشكل كبير فقد أكدت بعض الأبحاث أنّ أكثر من ألفين وخمسمائة لغة مهددة بالاختفاء على المدى القصير كما أوضح أحد الخبراء أن مائتين وأربعة وثلاثين لغة أصلية معاصرة اختفت كليا محذرين من أنّ تسعين بالمائة من اللغات في العالم سوف تختفي في القرن الواحد والعشرين.20
أمام هذا الزحف الجارف تحاول اللغة العربية الشموخ والوقوف من خلال حضورها المستمر فهي التي تضمن التواصل لكل الأوطان العربية والإسلامية, تحاول أن نصنع قافية القصيدة, وشخوص الرواية والقصة وحوار المسرحية تريد أن تكون اللغة الأدبية وكذلك العلمية, ورغم هذا الشموخ نجد أنّها باءت مستهدفة وأصبحت تعاني التهميش والتراجع وترك الأمكنة التي احتلتها في العهود السابقة, فلولا التراكم الأدبي والعلمي للغة العربية منذ زمن سحيق لما اختلفت عن غيرها من اللغات التي أصبحت في خبر كان.
إنّ النشاط العلمي والأدبي الذي تم باللغة العربية في القرون الزاهرة جعلها تصمد أمام كل المحاولات الاحتراقية, فلم تستقبل في العصر الحديث من الدخيل إل أقل من خمسة بالمائة وهي مصطلحات لا تتعلق إلا بالجانب المادي متمثلة في الإنتاج التقني والعلمي بشكل عام ولا تمس الجوانب الفكرية والعاطفية.
مما يميز العربية عن غيرها أنّها لغة متجددة قادرة على التلاؤم والتطور واستيعاب ما يلده العقل البشري. استطاعت العربية أنّ تحافظ على التراث الإنساني لمدة طويلة من الاندثار والضياع وقد نقحته وابتكرت فيه. كما أنّ حملها لكتاب الله لفظ وغاية يجعلها قادرة على استيعاب أسماء المخترعات. ولكن إلى متى يمكنها أن تصمد بهذه الثقافة وهذا التراكم ؟ وخاصة وأنّ آليات البث الإعلامية تنشط في الاتجاه المعاكس لثقافتنا وفي مقدمتها اللغة وإلا كيف نفسّر تلك الأرمدة من المصطلحات التي باءت وشيكة أن تحل محل اللسان, فهي تعلوه وتركبه فيصنع بها التواصل الذي نريد, كما أنّ المصطلحات لم تعد بريئة في مرجعياتها فهي تورّث ثقافة الأخر وتجعلها تطفوا على سطح الثقافة الأم وما سمسونغ Samsang وأفروديت Afrodite وغيره من التسميات التي حلت في أسواقنا ومكتوبة على أقمصتنا, ولعل ذلك ناتج عن الجمود الذي أصاب إنتاجنا.
واقع اللغة العربية :
تذكر الإحصاءات أنّ اللغة العربية لسان 600 مليون نسمة هي اليوم بكثير وتنتشر فوق رقعة واسعة بين شعوب آسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا.21
اللغة العربية خارج العالم العربي :
يعود الاهتمام باللغة العربية إلى عهود متقدمة وذلك منذ أن أنعم الله تعالى على البشرية بالدين الإسلامي وجعل دستوره ينطق بلسان عربي مبين, ثم أحدثت الفتوحات الإسلامية فعلها في عملية ضرورة التواصل مع الأخر وخاصة بالنسبة للغرب المسيحي الذي وجد نفسه يتقلص أمام المد الإسلامي الذي يحمل الحياة الجديدة التي تعتمد الربية في سبيل إنجاح الدنيا والآخرة.
صرح الأستاذ يوهان فوك بأن علماء الكنيسة كانوا أول من اعتنى باللغة العربية باذلين قصارى جهودهم في درس هذه اللغة غير أن هدفهم كما أضاف يوهان, لم يكن هدفا علميا بل إنهم أرادوا الرد على الإسلام على أساس تراجم لاتينية للقرآن. لذلك فإن تأسيس أول مدرسة للدراسات الشرقية كان في طليطلة عام 1250 م على أنقاض طليطلة العربية التي سقطت في أيدي الأسبان عام 1085 م.
ورغبة من القساوسة والرهبان أنشئت عدة كراسي للغة العربية تسهل عملية التوصل إلى علوم الشرق وتترجمها إلى اللغة اللاتينية. حتى صار الضليع في الثقافة العربية ولاسيما اللغة العربية من الأوربيين أقرب موقعا من تولي مناصب حساسة أو لاهوتية, ومثال ذلك جربرت دورياك Gerbert d'Oriallac ) 938 م - 1003 م) الذي أنتخب حبرا أعظم باسم سلفستر الثاني فكان أول بابا فرنسي وما ذلك إلا لإتقانه العربية وعلوما عربية أخرى كالرياضيات والفلك وكان أول من بث الأعداد العربية في أوربا وله دراسة عن كتاب اقليدس بالعربية إلى جانب أمره بإنشاء مدرستين عربيتين أولاهما بمقر بابويته بروما وأخراهما في رايمس وطنه.22
ونشير في هذا السياق إلى المبادرات الأكثر أهمية والأعمال الأشهر في تلك المرحلة التاريخية التي هيأت في كثير من جوانبها التربة المناسة للتقدم المطرد لعلم الاستشراق الأوربي في القرن التاسع عشر, ففي أواسط القرن السادس عشر قام العلم الفرنسي غليوم بوستل Postel بتدريس اللغات الشرقية بما في ذلك العربية في كوليج دي فرانس.23
التحديات القائمة في وجه اللغة العربية :
الحاسوب : لعل أكبر ظاهرة سجلت في العصر الحديث تتمثل في ابتكار الحاسوب الذي بدأ يأخذ حيزا كبيرا في حياة الناس ويعد الثورة الثالثة أو الرابعة في ميدان مبتكرات الإنسان في العصر الحديث فبعد الثورة الصناعية في أوربا التي أطلقت البخار من مداخن القاطرات, تأتي الثورة الكوبرنيكية التي صححت مفاهيم الفضاء تأتي الثورة التكنونولوجية لتعمق انتصار الإنسان, ثم الثورة الأخيرة التي أطلق عليها بالثورة التواصلية التي صنعها الحاسوب وبرامج الحاسوب.
فمن جانب ثمة تحد قائم أمام العربية يتمثل في مدى قدرة اللغة العربية في استيعاب الدفق المعلوماتي الذي يتعلق بعلم الحاسوب, وخاصة وأنّ البرامج تأخذ أسماء مرجعياتها اليونانية أو اللاتينية فـ Nero Burning و Delphi.
ولكن ذلك لن يؤثر في تعامل اللغة مع جهاز أساسه صيغ بعقلية كانت تتقن اللغة العربية وإذا ما ربطناه بالقاعدة العلمية لأن الأخيرة ترتكز على مفاهيم عربية رياضية ابتكرها العرب منذ قرون فالحاسوب إذ لا يفهم إلا لغة الأرقام العربية وهذا بالاعتماد على نموذج جبري محض وهذا يعني بكل بساطة أنّه لولا وجود المدرسة العربية لما وجد الحاسوب الرقمي أو على الأقل بالصفة التي هو عليها الآن.24
في الأنترنيت : لقد أصبح هذا المصطلح أكثر تداولا ليس فقط في المؤسسات الخاصة بل حتى في المدارس الحكومية والخاصة وحتى في البيوت ولم تستطع الترجمات أن تحل محله سواء في اللغة الفرنسية أو العربية أو في أي لغة من لغات العالم لقد ساهمت الأنترنيت في التواصل بين مختلف ثقافات العالم وقربت الأفكار واستطاعت برامجها المختلفة أن تخزن التاريخ العربي وتحتضن أهم القواميس العربية وبات من اليسير على الباحث وفي أي مكان أن يسمع القرآن ويقرأ ترجمته بلغات عديدة, ولازالت الشركات تعمل على حل إشكالية الحرف العربي بل استطاعت الشركة العالمية للإعلام الآلي التي لا تزال تبذل مساع لوضع برمجيات للتعرف على الحرف العربي في ميدان تخزين الوثائق والقراءة الآلية لكثير من الأعمال مثل قراءة الصكوك وعناوين الرسائل والطرود وثمة منهجية معاصرة ويعمل بها في هذا الميدان وهي منهجية طريقة التعرف على الحرف العربي بالطريقة الضوئية.25
ولكن تبقى هذه المجهودات التي بذلت في ميدان الأنترنيت قليلة مقارنة باللغات الأخرى وهذا من خلال السيطرة على المواقع وانتشارها وتغطيتها لمساحات كبيرة. فاللغة المستعملة في الأنترنت وبنسبة كبيرة هي اللغة الإنجليزية, فحسب الإحصاءات الأخيرة نجد أن 88 بالمائة من معطيات الأنترنيت تبث باللغة الإنجليزية مقابل 9 بالمائة بالألمانية و2 بالمائة بالفرنسية و7 بالمائة يوزع على باقي اللغات.26
في الترجمة الآلية : من بين التحديات القائمة اليوم ما يتعلق بالترجمة الآلية للخطابات المختلفة فالتواصل أضحى أكثر يسرا قرّب معاني اللغات واختصر الزمان والمكان وأعطى الفرصة للتقارب بين مختلف فئات ثقافات العالم, ولم تعد اللغة عائقا في حدوث ذلك حتى على المستوى الفكري والعاطفي أحيانا وخاصة اللغات اللاتينية والجرمانية فقد وصلت الترجمة الآلية من وإلى هذه اللغات أكثر من 90 بالمائة ويتوقع أن تصل في هذه اللغات كاملة وتامة بالإضافة إلى تصحيح الكلمات وضبط التهجئة, بينما يصل نصيب اللغة العربية في الترجمة الآلية حوالي 50 بالمائة وهي نسبة قليلة.27
ومن الإشكالات المطروحة على مستوى اللغة العربية كيف تتعامل برامج الترجمة الآلية مع قضايا النحو والصرف وكيف تستطيع تسهيل تواصل الناس في ظلها ؟ هذا ما يجب أن يعمل فيه أهل اللغة بالتعاون مع أهل البرمجيات لوضع قواعد تصلح لبرامج الحاسوب ؟ 28
بالإضافة إلى هذه التحديات فإنّ هناك عوائق أخرى تتعلق بصناعة المعاجم والتعليم العلمي والحضور في المحافل الدولية والإعلان والصحافة والمصطلح. وأمام هذه التحديات العنيفة وجب على المختصين النظر وبمسؤولية حضارية لما يتهدد اللغة العربية والذين دعوا دوما إلى تضميد جراح اللغة من الداخل والخارج ومما دعوا إليه ما يلي.
تقليص الفجوة بين العاميات والفصحى : وذلك بترقية العامية وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها, فما العامية إلا أسلوب أداء الكلمة إلى السامع مثل إطالة الفتحة والألف أو تفخيمها ومثل تسهيل الهمزة أو تحقيقها فهي محصورة في جرس الألفاظ وصوت الكلمات وكل ما يتعلق بالأصوات وطبيعتها وكيفية أدائها.29
ليست الظاهرة بالجديدة في اللغة العربية فقد سايرت اللغة منذ العصر الجاهلي فقد شهدت الحياة اللغوية مستويين لغويين أو عدة مستويات, وهو أمر بديهي في اللغة العربية وقد نشأت هذه الازدواجية في الجزيرة العربية قبل الإسلام بين اللغة الفصحى ولهجات القبائل وإن كانت الأولى لغة الأدب والعهود والمواثيق وكانت الثانية لغة التفاهم في الحياة اليومية, ولم يكن هناك فارق كبير بين هذين المستويين التعبيريين لأن اللهجات ليست لغات مستقلة وإنما هي اختلافات صوتية وصرفية بين القبائل تتعلق بمظاهر الإمالة والفتح والهمز والتسهيل والإدغام والوقف والتصحيح والإعلال والقصر والمد.30
تيسير النحو العربي :
لعل أول محاولة للتيسير كانت مع الأمام على كرم الله وجهه عندما أمر أبا الأسود الدؤلي بوضع قواعد للغة, ثم مع سيبويه عندما وضع الكتاب, فجمع القواعد ليحتكم إليها وعمله هذا بمثابة تيسير للنحو, وتأتي إلزامية النظر إلى النحو من أنّه لا مادة لغوية إلا به وهذا ما أكده ابن خلدون حين قال أركان علوم اللسان أربعة : هي اللغة والنحو والبيان والأدب وإنّ الأهم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة.
الاهتمام بالمعجم : للمعجم أثار كبيرة في حياة اللغة, فهو قد حفظ مادتها من الاندثار وألمّ بتراثها وعّرف به الناطقين وغير الناطقين به ,وكم كان للمعاجم العربية من دور ليس فقط على مستوى العربية فقط بل على مستوى اللغات الأخرى وخاصة الجانب الترتيبي لمواد المعجم, والاشتقاقي.
ولم يعد المعجم اليوم تلك الإضبارة كثيرة الورق بل أصبح المعجم قرصا مضغوطا وضمن برنامج على الأنترنات فمن التحديات القائمة إيجاد الصيغة التي تسمح بإدخال المعجم العربي الذي يساهم في الترجمة الفورية وتسهيل عملية الاتصال مع مختلف ثقافات العالم كما لا يعني الحفاظ على اللغة العربية تحنيطها وإغلاق أبوابها أمام الجديد من المصطلحات للدخول في معاجمها.
الترجمة : تدل الإحصاءات على أنّ ما ترجم منذ المأمون العباسي حتى اليوم لا يتجاوز عشرة آلاف كتابا وهذا أمر خطير بالنسبة تريد تدخل باب الحصارة من بابه الواسع.
منافذ التأثر ومصادر الثقافة العربية : بالإضافة إلى المدرسة التي تساهم بشكل كبير في تكوين ثقافة المواطن العربي ولغته يأتي التلفزيون والفيديو والسينما وغيرها.
ويتضح مما سبق إن هذه المتنفسات المذكورة آنفا تلعب دورا كبيرا في توجيه ثقافة الفرد خاصة اللغوية وإن لم ترشد يصبح ضرها أكثر من نفعها.

الهوامش :
1- محمد مسلم : الهوية والعولمة، دار الغرب للنشر والتوزيع، ص 13.
2- الحبيب الجنحاوي : ظاهرة العولمة الواقع والأفاق, مجلة الفكر, المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، أكتوبر- ديسمبر 1999، الكويت، ص 100.
3- أحمد عبد الرحمن أحمد : العولمة, مجلة العلوم الاجتماعية, ع 2، الجـزائـر 1999, ص 82.
4- صالح بلعيد : محاضرات في قضايا اللغة العربية, مطبوعات جامعة قسنطينة، ص 334.
5- محمد عابد الجايري : عن الشرق الأوسط، ليوم 04/02/1979، نقلا عن كتاب محاضرات في قضايا اللغة العربية لصالح بلعيد، ص 335.
6- طلال عتريس : العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية, يونيو 1929، بيروت، ص 44.
7- حلام الجيلالي : أثر العولمة في اللسان الرسمي (العربية نموذجا) مجلة اللغة العربية, المجلس الأعلى للغة العربية، ع 5 ، الجرائر 2001، ص 128.
8- صادق جلال العظم : ماهية العولمة, المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1996.
9- الحبيب الحنحاني : ظاهرة العولمة الواقع والأفاق، مجلة عالم الفكر، ص 11.
10- حيدر إبراهيم : العولمة وجدل الهوية الثقافية مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع 2، أكتوبر- ديسمبر 1999، الكويت، ص 107.
11- حيدر إبراهيم : م ن، ص 104.
12- دانييل دريزيز : يا عولمي العالم اتحدوا، ترجمة عبد السلام رضوان، مجلة الثقافة العالمية، ع 85، ديسمبر 1997، الكويت، ص 39.
13- زكريا بشير إمام : في مواجهة العولمة، عمان الأردن 2000، ج1، ص 4.
14- جيمس روزانو : ديناميكية العولمة نحو صياغة عملية قرارات إستراتيجية, مركز الدراسات السياسة والإستراتيجية بالأهرام، القاهرة 1997، ص 15.
15- محمد علي حوات, العرب والعولمة شجون الحاضر وغموض المستقبل، ص 68.
16- عبد الحميد : المحاصرة وسنة التدافع، جريدة البلاد اليومية 14 جانفي 2001، ص 13.
17- إبراهيم مبروك محمد وأخرون : الإسلام والعولمة، الدار القومية العربية، مصـر 1999، ص 38.
18- ميشال كلوغ : أربع أطروحات حول عولمة أمريكا، ترجمة محمد يوسف، مجلة الثقافة العالمية، ع 85، ديسمبر 1997، الكويت، ص 57.
19- حلام الجيلالي : أثر العولمة في اللسان الرسمي العربية نموذجا، مجلة اللغة العربية, المجلس الأعلى للغة العربية، ع 5، الجزائر 2001، ص 128.
20- المرجع نفسه، ص 12.
21- عبد الرؤوف فضل الله : اللغة العربية وعاء الوجدان القومي والركيزة التوحيدية للثقافة العربية، المجلس الأعلى للغة العربية، نوفمبر 2000، الجزائر، ص 165.
22- عبد الجليل مرتاض : في رحاب العربية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 2004، ص 180-181.
23- أليكسي جورافسكي : الإسلام والمسيحية، تر. د. خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة، ع 215، الكويت، ص 95.
24- محمد يطاز: المدرسة الرياضية العربية وعلوم الحاسوب حاضرا ومستقبلا، أعمال الندوة، المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر 2001، ص 361-362.
25- صالح بلعيد : اللغة العربية، دار هومة, الجزائر 2002، ص 103.
26- عبد المجيد عمراني : نحو منظور جديد لتدعيم وتطوير اللغة العربية في ظل العولمة، مجلة اللغة العربية، المجلس الأعلى للغة العربية، ع 2 ، الجزائر 1999، ص 75.
27- صالح بلعيد : اللغة العربية آلياتها الأساسية وقضاياها الراهنة، ص 55.
28- محمد يطاز: المرجع السابق، ص 361.
29- عمار الساسي : اللسان العربي وقضايا العصر، ص 98.
30- المرجع نفسه، ص 98.
المصدر: http://www.atida.org/forums/showthread.php?t=1982

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك