حوار مع الإرهاب
تقديم
تمتلئ دور النشر بمئات الكتب والمطبوعات عن ظاهرة الإرهاب، وتتصدّر عناوين الصحف سيلاً جارفاً من التحليلات الجادة والسطحية عنها.
ويأتي الأخ فهد بن عبد العزيز الغفيلي - بمنهجية جديدة يحاول من خلالها الدخول إلى عقول العناصر الإرهابية التي ات-خذت من قتل الأبرياء، وهدر الدماء التي حرم الله، وتدمير الحياة، ونشر الرعب في مجتمعٍ آمن، طريقاً منحرفاً لها.
يوظف الأخ فهد ثقافته الخاصة، وحسّه الوطني، وأدوات تحليله المتميّزة ليعبُر من خلالها إلى الحالة....حالة من باع نفسه، ودينه، وأهله، وقيمه الدينية والإنسانية، وواجبه الوطني للأفكار المضللة المدسوسة على الدين، التي تدعو للهدم وسفك الدماء بحثاً عن هدفٍ مجهول.
هذه المحاولة الجريئة، التي حاول الكاتب من خلالها أنْ يسبر أغوار نفوس الشباب المنحرف عن سواء السبيل، وهي وإنْ كانت افتراضية، لا تستند إلى واقع، إلا أنّها تقدم منهجاً روائياً جميلاً قد تستطيع في بعض الحالات الاقتراب من الصورة الصحيحة لما يدور في نفوس العناصر الإرهابية، التي باعت حياتها، وأمن وطنها، وأهلها للشيطان، لتخدم بذلك الأعداء الحقيقيين، الذين تدّعي تلك العناصر أنّها تقاتل، وترعب، وترهب، وتدمِّر لمحاربتهم.
إنّها ظاهرة قبيحة تستحق الإبحار في أعماق عناصرها المشوهة فكرياً وأخلاقياً، وإذا ما تعذر ذلك على الكاتب لأنّهم أشباحُ في الظلام، فإنّ توظيف قدراته، ومعرفته، وقراءاته، وتصوراته، وفكره لوضع مثل هذه المداخلات الافتراضية، يعتبر عملٌ إبداعي جميل، قد يسهم في اكتمال الصورة عمّا يجري فوق ساحة الوطن الغالي. والله من وراء القصد.
د. إبراهيم بن محمد العواجي
تمهيد
حين بدأت فكرة إعداد هذا الكتاب، قلت في نفسي إنّه من الواجب أنْ يكون فيه شيء من التميز، ليحظى باقتناء القارئ الكريم وثقته، لأنّ هدفي أنْ يشاركني القارئ العزيز ما تعيشه أمتنا الإسلامية والعربية وشعبنا السعودي النبيل من هموم، بسبب ما يجري في بلادنا من أحداث منافية لما تربى عليه جل أفراد هذا الشعب الكريم، فمهما حدث وإنْ كان صغيراً، يعد لافتاً للانتباه لكونه شاذاً ومستحدثاً على أعراف أهالي هذا البلد.
وفي زمن شحت فيه الرغبة في القراءة والاطلاع وانشغل الكثيرون بمتابعة أحداث ومناسبات وبرامج وعروض أكثر جاذبية لهم، رغم كثرة الخطوب التي تستحق المتابعة، والتي تصرف المهتمين منهم وتشدهم إلى وسائل إعلامية تقدم الحدث في حينه، كقنوات التلفزة الفضائية، والمحطات الإذاعية، والصحف اليومية.
ولكن تبقى هناك طريقة لمناقشة الحدث بشكل أكثر عمقاً وشمولية، وفيها من البحث والتقصي ما لا يفضله القائمون على تلك الوسائل، لأنّ طبيعة المتلقي لا تحتمل الصبر بل ترغب في مادة خفيفة، سريعة، موثقة.
ومن هنا يأتي دور الكتاب لتقديم مادة علمية متكاملة تتناول الموضوع المعني بالدراسة من جميع جوانبه.
ومن منطلق حرصي على تقديم المفيد والنافع والخفيف للمتلقي الكريم، فقد قمت بتناول موضوع الإرهاب بطريقة مختلفة عن ما هو معهود، رغبةً مني في جذب القارئ الكريم وإطلاعه على حقيقة وخطورة ما يدور، متناولاً جوانب عديدة متعلقة بالإرهاب بأسلوب قصصي حواري مبسط، معتمداً فيه على الخيال في تناول الأحداث وسردها وليس على الحقيقة.
ولرغبتي في معرفة ردود الأفعال والوصول إلى ما يفكر فيه كل قارئٍ على حدة وكيفية رؤيته للحدث، فقد عمدت إلى طرح بعض المواضيع والمحاور التي تناولتها في هذا الكتاب في جريدة الجزيرة قبل صدوره، وبالفعل كانت تلك الفكرة مجدية وفاعلة بشكل ممتاز، أثمرت العديد من التعديلات في الطرح والأسلوب، والأهم من ذلك لفتت نظري إلى أهمية تناول جوانب ما كانت لتخطر لي على بال لولا أنّي لمستها من خلال تصريح القارئ في بعضها أو تلميحه في بعضها الآخر.
وكان غرضي من إعداد هذا الكتاب إظهار بعض الصور والجوانب التي رأيت أنّ بعضها لم يُتطرق إليه، أو كُتب عنه ولكن ليس بشكل كاف.
فتحدثت عن الإرهابي المغرر به، والإرهابي العائد إلى طريق الصواب، والإرهابي الذي تشرب الغلو والتطرف، وحال زوجة الإرهابي وما تعانيه وتلقاه من مصاعب تتجدد بشكل يومي، بالإضافة إلى محاولتي دحض الآراء، والرد على المزاعم التي تحاول الربط بين الإسلام والإرهاب، ومن ثم تطرقت لنظرة الغرب للمسلمين بشكل عام، وأحكامهم الاستباقية عليهم، والزعم بأنّهم إرهابيون حتى لو كانوا أصدقاء - حسب زعمهم - وذلك من خلال ما يقرأون ويسمعون من وسائل إعلامهم، كما تداركت في اللحظات الأخيرة من مراحل تجهيز هذا الكتاب، وتطرّقت للمراكز الصيفية، والشريط الإسلامي، وتحدثت عن أهميتهما، ودورهما في إثراء حياة الشاب المسلم، ولم أنّسى أنْ أناقش أمرين رأيت أنّهما من الأهمية بمكان:
الأول:- متعلق بكيفية الوقاية من الإرهاب.
الثاني:- كيفية التعامل مع الإرهاب.
والحقيقةً أنّي قصدت من وراء إعداد هذا الكتاب وما تناولته فيه من مواضيع متفرقة مما له علاقة بالإرهاب، أنْ أجعل بين يدي القارئ الكريم أداةً مبسطةً، ووسيلةً معينة - بإذن الله - لمن يحاول التحاور في جوانب مختلفة، ربما يواجهها في حياته اليومية من خلال مناقشة بعض من لهم آراء مختلفة عمّـا أومن به ويؤمن به من يتفق معي، وهم كثير ولله الحمد، ولكن من أراد تناول موضوع الإرهاب بشكل أكثر توسعاً فهناك كثيرٌ من الكتب التي تناولته وفصلت فيه والتي لا يمكن حصرها.
فشكري وتقديري لوالديّ بعد الله وقبل كل أحدٍ سواه ثم لكل من أسدى إلي نصيحةً أو توجيهاً أو رأياً سديداً أو نقداً هادفاً.
ولا يفوتني أنْ أتقدم بوافر التحية والتقدير لمعالي الدكتور / إبراهيم بن محمد العواجي - على تفضله بتقديم هذا الكتاب، وتوجيهه لي بأنْ أعرض عليه الكتاب قبل طرحه في المكتبات، وهذا ما تم بالفعل، فلمعالي الدكتور إبراهيم منّي جزيل الشكر...والشكر قليلٌ حين يوجه لرجلٍ شهمٍ كريم، له أفضال عليّ لا أستطيع حصرها.
كما أتقدّم بجزيل الشكر إلى رئيس تحرير جريدة الجزيرة الأستاذ الفاضل خالد بن حمد المالك - على دعمه وتشجيعه، وإعطائي المساحة الكافية حين رغبت نشر بعض محاور الكتاب في تلك الجريدة الغراء، وهذا الفعل ليس بمستغربٍ من تلك النوعية من الرجال، ومن يعرف الأستاذ / خالد المالك - عن قرب لابد أنّه رأى الكثير من عطائه وأثره الملموس على الساحة الإعلامية السعودية والعربية، فله مني جزيل الشكر.
ولا أنسى القارئة والناقدة الأولى لكل موضوع تناولته - زوجتي الحبيبة أم عبد العزيز - بنقدها وتشجيعها، رغم مشاغلها العديدة بالوظيفة والبيت والأبناء، خاصة الابنة الصغيرة التي أسأل الله لها الشفاء والصلاح، كما أسأله سبحانه أنْ يكفي ولاة أمرنا، وأمتنا، وبلدنا كل مكروه، وأنْ يرزقنا القبول والإخلاص في العمل، وأنْ يكون هذا الإصدار نافعاً ومفيداً لكل من اقتناه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فهد بن عبد العزيز الغفيلي
من أنت ؟
في ظل هذه الطفرة المعلوماتية التي نعيشها، والتقدم المذهل لوسائل الاتصالات، ومع وجود وسائل الإعلام المختلفة والمتعددة التي أصبحت تنقل الحدث لحظة وقوعه، وتجعلك تعيشه وتتفاعل معه حتى لو كنت بعيداً عنه، وتفصل بينك وبينه آلاف الأميال.
في زمننا الذي نعيشه، صار الجميع يبحث عن المعلومة وعن الجديد، يريدون أن يسمعوا ويشاهدوا ويقرأوا كل شيء في سبيل الوصول إلى ما يسليهم، على الرغم من أنه ليس كل ما تسمعه الأذن أو تشاهده العين مسلياً، ولكنّ بني البشر جبلوا على المتابعة وحب الاطلاع والمعرفة.
وبما أنّ هناك شخصية طغت شهرتها على الجميع، وحظيت بالنصيب الأكبر من الاهتمام، وصارت أخبارها في كل مكان، وأحداثها تملأ وسائل الإعلام بأنواعها وإن اختلفت ميولها واهتماماتها.
وباتت كل مطبوعة أو محطة إذاعية أو قناة فضائية تسعى لنيل شرف إجراء حوارٍ مع تلك الشخصية لتستقطب أكبر حشد من الجماهير لمتابعتها واستقاء المعلومة منها.
وبما أنّ اللقاء حصري لا يتكرر ولا يُعرض في أي وسيلة أخرى، فقد تشرفت بعرضه بين أنظار قارئي الكتاب الأفاضل لعله يحوز على رضاهم واستحسانهم.
في البداية وكما جرت العادة طلبنا من تلك الشخصية أن تـُعرِّف بنفسها وتخبر القارئ الكريم من تكون؟
فقالت: لا يوجد لي مسمى محدد، وإن طغى بعض أسمائي على الآخر، حسب الفئة التي تتعامل معي، والوقت الذي أحضر فيه، فبعضهم يسميني إرهاباً وآخرون يطلقون علي جهاداً، وصنفٌ ثالثٌ يقول دفاعاً عن النفس‘ وفئة تدّعي أني أعمال وقائية.
فسألناه: وأيها تفضل أنت؟.
فقال لا تسألني أيها أفضل، بل قل أيها تبغض؟!.. فأنا لا أحب أياً منها، ولهذا لا يهمني أن يختلف الناس في تحديد مسمّى لي، ويعجزون عن الاتفاق على فهمي، ولكن ما يزعجني كثيراً هو أن هناك من يطلق عليّ إرهاباً، ثم في مرات يطلق علي جهاداً وهكذا، على الرغم من أن الفعل نفسه، والضحية بريئة كالمعتاد، بل إن ما يغيظني أكثر هو أن هناك فئة نصبت نفسها حكماً وأصبحت تصنفني حسبما تقتضيه مصالحها، فقبل فترة ليست بالبعيدة وقع اعتداءٌ من قبل إحدى الجهات في بلدٍ ما راح ضحيته مئات الأبرياء، فقالوا: إن ما وقع شأن داخلي تقتضيه الضرورة لإعادة تنظيم ذلك البلد، واليوم وقع نفس الفعل من الجهة ذاتها فهبّوا جميعاً يستنكرون ويشجبون ويمنعون ويقاطعون ويطلقون على ذلك الفعل أشنع وأبشع الألفاظ . لماذا؟!.. لأن المصالح غير موجودة الآن، ولأن دور تلك الجهة انتهى، لذا وجب شجبها ومقاطعتها، ومن ثم استبدال أخرى بها تناسب المخططات القادمة.
فسألناه: ولكن ماذا عنك أنت؟!... بمَ ت-عرِّف نفسك؟... وكيف تصفها؟
فقال: يجب أن يعلم الجميع من خلال هذا المنبر أنَّ لي الحق أن أقول عن نفسي ما أشاء، دون تدخل من أحد، لأنّ أي تدخل سيعيدنا مرة أخرى إلى دائرة الغموض والاحتيال في المسمّيات، بهدف تقييم كل فعل على حدة، وتصنيفه حسب الجهة التي قامت به، والأطراف المنتفعة منه، وأيضاً من وقع عليهم ذلك الفعل، ولكني حين أتحدث عن نفسي فأنّي أقول إن لي تعريفين أو نوعين من التعاريف كأي مصطلح أخر.
فهناك تعريف من حيث المفهوم اللفظي، فبالإمكان أن تطلق عليّ الخوف والخشية والرعب والوجل، وهناك لفظة عربية قريبة جداً من اللفظة المستخدمة في اللغة الإنجليزية وفي اللغات ذات الأصول اللاتينية وهي كلمة (ترويـع) وهي مشابهة من حيث اللفظ والمعنـى للكلمـة الإنجليـزيـة (TEROR) وتعني يخيف ، يرعب ، يرهب ، يروع والاسم منها (TERORISM) وتعني إرهاب أو ترويع.
فسألناه وماذا عن تعريفك الآخر من حيث المفهوم؟
فقال قبل أن أجيبك، دعني أطمئنك أنه لا يوجد أي اختلاف ولله الحمد فيما يتعلق بتعريفي اللغوي فالجميع متفقون عليه وإن اختلفت الألفاظ والتعابير، ولكنها جميعاً تدور حول التخويف والترويع، أما بالنسبة لتعريفي من حيث المفهوم فهو مختلف قليلاً، فهناك من يظن أني سيء دائماً، ولا يرى مني سوى وجهي البشع، ولكن في حقيقة الأمر لست كذلك، فأنا بقدر ما يظهره وجهي من قبح، إلا أن باطني به جمال ومنفعة وجوانب خيرة لا يعلمها ولا يدرك حقيقتها إلا من عرفني وفهمني وعمل على إنصافي.
فجانبي الطيب يظهر في قوله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (الأنفال:60) فهذه الآية الكريمة نص في أنّه يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في التسلح، وإعداد القوة، وتدريب الجيوش، حتى يَرهبهم العدو ويحسب لهم ألف حساب.
ويجدر بي أن أنبِّه هنا إلى أنَّ إعداد الجيوش وتجهيزها وتسليحها تكون بإذنٍ من ولي أمر المسلمين، لا كما يفعل بعض المخربين اليوم من قتل وترويع وخروج على ولي الأمر زاعمين أنه جهاد، فإن قاموا بالتجهيز والإعداد تحت راية الإسلام دون إخلال بأيٍ من الشروط المنظمة لذلك، فقد حققوا الجانب الإيجابي من الإرهاب وهو ذلك المتمثل في إعداد القوة وتجهيزها من أجل تخويف وبث الرعب في نفوس أعداء الإسلام، وفي ذلك تحقيق لوصف المؤمنين الذين امتدحهم الله في سورة الشورى حين ذكر من صفاتهم القدرة على الانتصار على من بغى عليهم في قوله : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (الشورى:39) . فهذا الإرهاب المتعلق بتخويف غير المسلمين يُعد إرهاباً مشروعاً شرعه الله لهذه الأمة بل وأمرها به.
أما وجهي القبيح فيظهر حين تقوم فئة باستخدامي في قتل الأبرياء وترويع الآمنين والمستأمنين دون رجوع لعالم أو سلطان، بل يعملون على تنفيذ ما يريدون بغض النظر عن النتائج وما سيترتب على أفعالهم من شرور ومفاسد.
فسألناه: ولكنك بهذه الطريقة وبتبنيك مفهومين أحدهما حسن والآخر قبيح، تشجع كل من تسول له نفسه الإقدام على عمل إجرامي وادِّعاء أنه من باب الترهيب المندوب.
فرد قائلاً: لا ليس الأمر كذلك، فهناك معايير وضوابط لكل عملٍ عند تصنيفهِ وإدراجهِ في قائمةِ الأعمالِ الإرهابيةِ أو الجهادية، ولن أستشهد فقط بالشريعة الإسلامية التي أعدها أول من أظهر الجانب الحسن مني، ولكني أقول لكل من التبس عليه الأمر أو بالأصح سعى في تلبيسه وإبهامه، ارجعوا إلى الأعراف الدولية، والأديان السماوية، والقوانين الوضعية، ستجدونها تعطي مفهوماً لا لبس فيه على من فعله يصنف جهاداً، ومن جرمه يدخل في دائرة الإرهاب، وستعلمون أيضاً من يمكن أن يحظى بشرف الاستشهاد ومن يوصم بالانتحاري.
إن من يعتدي على الآمنين فيرهبهم، ويقتلهم، ويسفك دماءهم معتد أثيم، أمّا من يدافع عن أرضِ أو عرضِ أو مالِ فهو مجاهدٌ وإن ق-ـتل فهو شهيد لأنّ خاتم المرسلين يقول: (من قتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد).
فسألناه: وما تقول في من يحاول استخدام وجهك الحسن لتسويغ أفعاله وتصرفاته؟.
فأجاب: لا تخافوا، فسينكشفون وستسقط أقنعتهم، لأن الناس يدركون الحق ويميزونه عن الباطل وإن صار هناك بعض الغموض في بادئ الأمر ولكن الغمّـة سرعان ما تنكشف وتتضح الأمور، فالقوي المتبجح الذي يمارس إرهابه بدعاوى المحافظة على الأمن والديمقراطية سوف يضعف وتخور قواه ويسقط، والمتخفي الذي يمارس إرهابه بدعاوى الإصلاح في جنح الظلام سوف يأتي فجر جديد تشرق شمسه فتحرق تلك الخفافيش التي لا يروق لها العمل في وضح النهار.
فسألناه: هل يزعجك لو سألناك عن عمرك الحقيقي؟!..
فأجاب: لا، بل على العكس من ذلك، فسؤالكم هذا يفسح لي المجال للحديث عن عراقتي وخبراتي المتراكمة مع بني البشر منذ الأزل، فأنا وإياهم صنوان لم نفترق منذ بدء الخليقة وحتى اليوم، فحين قام قابيل بتهديد أخيه هابيل وتخويفه بالقتل، بسبب نجاح الثاني وفشل الأول، وقيامه بتنفيذ تهديده، كنت موجوداً هناك. مروراً بتهديد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام بالإبعاد أو القتل كما يقول قوم شعيب لنبيهم في قول الله : قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88) .
ومن ذلك الاعتداء السافر على حرمات الله وآياته كما فعل قوم صالح حين قتلوا ناقة الله، حيث يقول الله : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (الأعراف:77). ثم إرهاب فرعون لبني إسرائيل في قوله : وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (الأعراف:127). بالإضافة لقتل أصحاب الأخدود دون وجه حق، إلا أنهم قالوا ربنا الله وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (البروج:8). وتعذيب وقتل بعض المؤمنين السابقين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام. وما فعله التتار حين دخلوا بغداد، وكذلك ما أحدثه الصليبيون عند دخول بيت المقدس.
وما نراه اليوم من إرهاب وانتهاكات في سائر بقاع الأرض، من فلسطين والعراق إلى الشيشان وكشمير ومن راوندا إلى البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا وأفغانستان، بل حتى أطهر البقاع وأكثرها أمناً لم تسلم من تلك الأيدي الحاقدة. إذاً فكما أخبرتك أنا مع البشرية في كل زمان ومكان.
فسألناه: وما الذي يدفع بعض الناس لاعتناقك واتخاذك منهجا ونبراساً مع وجود البدائل؟
فقال: دعني أجبك عن مسألة البديل، فأنا أتفق معك بوجود البديل ولكن المشكلة أنني أتميز عن سائر البدائل بالسرعة والسهولة، فأنا سلاح العاجزين المتهورين وما أكثرهم في كل زمان ومكان، فلو نظرت مثلاً إلى دعوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وكم استمرت، وكيف بدأت بدعوات فردية، ثم تطورت إلى اجتماعات سرية، ثم إلى دعوة علنية، لم يحدث فيها أي اعتداء على المعارضين والمخالفين، مع إمكانية ذلك، من باب الدفاع عن النفس، ثم تبع ذلك هجرة، وقامت أول معركة ومواجهة حقيقية بين الحق والباطل، بعد ما يقرب من خمس عشرة سنة من التأسيس، ونتج عن كل ذلك دولةٌ إسلامية هابتها الأرض كلها، في غضون ثلاثين سنة من تأسيسها، وسيطرت على مشارق الأرض ومغاربها، وهي لم تتجاوز بعد عمر رجل.
أما من يطلقون على أنفسهم مجاهدين في هذا العصر، وخذ على سبيل المثال في هذا البلد الحرام فهم يريدون أن يغيروا ويفرضوا أفكارهم ويعملوا وصاية على هذا البلد وأهله، ولا يريدون الانتظار، ولا يطيقون الصبر، بل إنّـهم وبمجرد معارضتهم ومواجهتهم وفتح باب النقاش معهم ينسلون ويتحصّـنون في ظلام دامسٍ - زائلٍ بإذن الله - ويبدأون بالتخريب والإفساد هنا وهناك.
فسألناه عن الأسباب التي تجعل أتباعه يلجأون للعنف والتخريب والتدمير والقتل وسفك الدماء.
فقال: هناك عدة أسباب: أقدمها على الإطلاق الغيرة من النجاح، فكثيراً ما حاول الفاشلون إفساد مشاريع الناجحين، إما بتدمير المشروع نفسه كما حاول أبرهة الحبشي حين أقدم على مخططه الإرهابي لهدم الكعبة، أو محاولة التخلص من الشخص نفسه، كما فعل قابيل حين قتل شقيقه.
ومن الأسباب أيضاً محاولة فرض الوصاية على الفكر الفردي أو المجتمعي بأسره، وهو الغالب، ومن ذلك ادِّعاء الإصلاح والتجديد وتحرير الشعوب وحمايتها. كما أن هناك سبباً ثالثاً يتعلق بعدم التعايش مع الجنس أو العرق أو اللون أو الديانة، فتنشأ عنها حركات إرهابية ينادي أصحابها بالقضاء على تلك الأقلية المختلفة.
فسألناه: هل من كلمة تود أن تختم بها قبل أن ننهي هذا اللقاء؟.
فأجاب: كل ما أود قوله وأرجوه أن يحذر الجميع من أولئك الذين ينادون بي ويحاولون إيهام الآخرين وخداعهم أنهم يقومون بأعمالهم التخريبية من باب الجهاد في سبيل الله، أو الدفاع عن النفس، فهذا غير صحيح، فليسوا هم من يحق له الحكم على الفعل وتصنيفه، بل يجب عليكم أنتم يا أبناء هذا البلد وعلماءه وقادته أن تقولوا وبكل أمانه إن هذا خطأ وذاك صواب، فتدعموا الحق وأهله وتحاربوا الباطل ومن يقف وراءه وتعرونهم.
أمّا إنْ تساهلتم معهم وتركتم يداً واحدة تعمل والأخرى حائرة مترددة، فسوف يأتي اليوم الذي يستيقظ فيه الغافل على دوي القنابل وأصوات البنادق ولن يجدي حينها ندم أو حسرة، بل بادروا لمحاربتهم، وكونوا يداً واحدة تربون وتعلمون وتنصحون وترشدون وتحاورون، فإن لم يُجدِ ذلك تبل-غون وتبحثون وتطاردون وتقبضون وتعتقلون، ومن لم يفلح معه كل ذلك فلا ضير أن نقول تقتلون وتصلبون وتقطعون من خلاف، وهذا آخر العلاج الذي بالتأكيد سيكون ناجعاً مع من لم تنفع معهم كل طرق التطبيب تلك؛ لأنهم ممن قال الله فيهم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة:33).
ابني في المركز الصيفي
كنت أهم بالخروج حين سمعت جرس باب منزلي يرن، ذهبت وفتحت الباب، وإذا به أحد الأصدقاء القدماء الذي لم أراه منذ بضعة أشهر.
رحبت به، واستأذنته بضع دقائق؛ كي أوصل ابني إلى المركز الصيفي غير البعيد عن منزلي، ثم أعود إليه؛ لنتناول فنجان من القهوة معاً، واستعادةِ بعض ذكريات الماضي، ومعرفة ما لدية من أخبار، خاصةً وهو يطوف منازل الأصدقاء واحداً تلو الآخر، كالنحلة أحياناً، ينقل الأخبار السّارة، وأحايين كالذباب، يغتاب هذا، ويسبّ ذاك، دون موعدٍ أو تنسيقٍ مسبق، وما قدومه لمنزلي هذه المرة إلا تصديقاً لكلامي عنه.
والحقيقة أنـّي كنت في غاية الشوق لأراه، وسرّني قدومه إليّ كثيراً؛ لأنّي كنت أفكر في الأصدقاء الذين لم أرهم منذ مدة بسبب ارتباطي مع الأبناء أثناء فترة امتحانات آخر السنة الدراسية، ووددت لو أن أحدهم طمأنني عليهم وأسمعني أخبارهم، وما هناك أحدٌ أفضلُ من صاحبي يعتمد عليه في تقديم كل ذلك لي.
إلا أنّه حين سمع مني تلك العبارات المتعلقة بتوصيل ابني إلى المركز الصيفي، تجهّم وجهه، وتغيّر لونه، وتورم شدقاه، وبدا لي أنه يكاد ينفجر من كثرة ما بفيه من كلامٍ وثرثرةٍ لم يقدر على كبتها أو أخفاء علاماتها.
لم أعرف في البداية سبب كل تلك التغيّرات التي طرأت عليه، وإن كنت ظننتها في البداية تعود لعدم دعوته للدخول إلى منزلي، وتحججي بإيصال ابني، إلا أني قلت في نفسي: لا... فهو متعود على الطرد من الجميع دون اعتذار، وأنا قابلته بكل حفاوةٍ، ورحبت به، واعتذرت منه بطريقة لبقة، فما أظن اعتذاري سبباً فيما طرأ عليه من تغيّر.
وبالطبع، فضوله وحماقته لم يتركا لي المزيد من الوقت لأخمِّـن، أو أفت-ش عن سببٍ آخر لما أصابه.
حيث بادرني قائلاً: إلى أين تريد أن تأخذ ابنك؟
قلت: ما الذي أصابك يا همّام؟ أو فقدت سمعك في الفترة الأخيرة؟ أما سمعتني حين قلت: أريد أن أوصل ابني إلى المركز الصيفي؟!
قال: لا لم أفقد سمعي، ولكني أتعجب من إنسانٍ متعلمٍ متفتحٍ مثلك، يأخذ ابنه إلى تلك الأماكن المشبوهة!.
قلت أي أماكن مشبوهة قصدت يا همّام؟
قال: المراكز الصيفية.
فقلت له: أخبرني ماذا تعرف عن تلك المراكز؟
قال أعرف عنها الكثير... خاصةً ما تجهله أنت وأمثالك السُذج!
قلت: همّام... ما الذي جرى لك؟!... أراك فقدت عقلك أيضاً، ويبدو لي أنه لحق ببصيرتك المسلوبة.... ولكن هات ما عندك، وأخبرني بما لديك من معلومات سريّة لا يعلمها الناس السُذج ممن هم على شاكلتي.
قال بصوتٍ خافت، وقد انتشى بعبارة (معلوماتٍ سرية): أما تعلم أن تلك المراكز تخرِّج أعداداً هائلة من الإرهابيين كل عام؟!... أما تدري أنها مفرخة للإرهاب؟!... وإن أُغلقت سوف يعود الأمن والأمان لبلادنا، ولن يكون هناك إرهابٌ بعد ذلك.
قلت له وبصوتٍ خافتٍ أيضاً مجارياً له في كلامه: ومن أين لك هذه المعلومات السرية الخطيرة؟
قال: أين تعيش يا رجل؟!... أما تعلم بما يدور في هذه البلاد ويحدث؟!...
قلت: بلى.... إنّي أعلم وأتابع جميع ما يحدث.
قال: إذاً بالتأكيد أنّك سمعت ما يقال عن تلك المراكز الملغومة؟
قلت: نعم سمعت اثنين أو ثلاثة يتحدثون ويكتبون عن بعض سلبياتها، ورأيتهم قد اجتهدوا - لعله بنيّة صافية، خالية من الشوائب - فعمّموا تلك السلبيات الصادرة من بعض المنتمين إليها على جميع منسوبي تلك المراكز، ومع حماسهم واندفاعهم، طالبوا بإغلاقها، متناسين إيجابياتها الكثيرة التي لا حصر لها، مقابل سلبيةٍ أو سلبيتين سمعوا عنها.
فقال: أي إيجابياتٍ تتحدث عنها؟ وليس لأولئك القائمين عليها همٌ سِوى توزيع أشرطة الكاسيت ذات المحتويات الفاسدة التي تدعو إلى العنف والتكفير؟
فسألته: هل سمعت أياً من تلك الأشرطة، وما تحويه؟
فردّ بعصبيةٍ: أعوذ بالله، فأنا لا يمكن أن أسمع مثل ذلك.
قلت: وعلى أي أساسٍ بنيت أفكارك، وأطلقت للسانك العنان، وسل-طته ليقول ما يشاء، ويحكم كيف يشاء، ويلقي الكلام جزافاً دون حسيبٍ أو رقيب ، في أمورٍ وأحداثٍ لم يهن عليك التحقق منها بنفسك، مكتفياً بما يردده الآخرون، مصيّراً نفسك بوقاً بأيديهم، ينفخون فيه ما شاؤوا، متى شاؤوا، دون اعتراضٍ منك. فقال: يا أخي أنا أساساً غير مقتنع بما تحويه تلك الأشرطة، وأطالب دائماً بإيقافها، والتصدي لها، ولمن يقف خلفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأنا لدي الكثير من تلك الأشرطة التي تتحدث عنها، والتي ت-هدى إليّ في مناسباتٍ شتـّى، فآخذها مجاملة، ثم أرمي بها، أو أتلفها، أو أحرقها مع أولادي في أقرب فرصة، متى صار عندي متسع من الوقت يكفي لفعل ذلك.
فسألته: ولمَ لا تتنازل قليلاً، وتسمع ما تحويه، وتسجّـل كل ما لا يتوافق مع مبادئ هذه البلاد الخيّرة، - بلاد الحرمين الشريفين - التي لا يرضى القائمون عليها بأي فعلٍ أو تصرفٍ يخل بأمنها أو معتقدات أهلها؟
قال: أراك صرت مثلهم، تتهرب من تسمية مملكتنا الحبيبة باسمها الذي عُـرفت به!
قلت: أليست بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، ومنبع الإسلام؟ فهل تنكر ذلك يا همّام؟ أم إنّه لا يروق لك رؤية ماء صافٍ، فلا تهنأ حتى تعك-ره ثم تصطاد فيه؟!... ثم إنّ مليكها - حفظه الله - شرّف نفسه بلقبٍ أحبه واعتز كثيراً بحمله، وتميّـز به عن سائر ملوك الأرض قاطبة، وهو (خادم الحرمين الشريفين)، وأسأل الله أن تكون خدمته تلك في موازين أعماله، وأن يجزل له الأجر والمثوبة.
فردّ عليّ قائلاً: ولكن ألا تلاحظ أن مرتادي تلك المراكز على هيئة واحدة، وينتمون لحزبٍ واحد؟
قلت: أظن الحديث معك سيطول، ولكن اركب معي؛ لنوصل الولد إلى المركز كي لا يتأخر، ونكمل حديثنا أثناء ذلك.
ثم استرسلت في كلامي وقلت له: أخبرني قبل كل شيء عن الأحزاب الجديدة في بلادنا، فأنا لا أعلم أنّ في بلادنا أي أحزابٍ سياسيّة؟
قال ساخراً: ذلك الحزب الذي يطلقون عليه حزب الصحوة!
فسألت: وأنت لأي الأحزاب تنتمي؟ هل لحزب الغفوة؟ أم لحزب النوم؟ أم لحزب الشخير؟
فأخذ يضحك مما قلت، ثم قال: والله لا أقصد إغاظتك، أو التندر عليك، ولكنّي سمعت بعض الناس يقول عن مرتادي تلك المراكز ومستمعي تلك الأشرطة: إنهم ينتمون لحزب الصحوة.
قلت: آه...عرفت الآن لأي حزبٍ تنتمي يا صاحبي، فأنت تنتمي لحزب الببغاوات، الذين يرددون ما يسمعون دون أن يفكروا، أو يتدبروا، أو يتحققوا مما سمعوا، فيلقون الكلام جزافاً، غير مبالين بردود أفعال الآخرين.
ثم دعني أوضح لك أمراً في غاية الأهمية، ويجدر بك وبمن هم على شاكلتك معرفته، وهو أن الإنسان الفطن اليقظ، خيرٌ من الإنسان الغافل النائم.
فالأول:- قارئ، مطّلعٌ، ملمٌ بما يدور في الساحة من أحداث، مدركٌُ لما يحاك ضد هذه الأمّة من مؤامراتٍ يُراد منها بث الفرقة والعداء بين شبابها، ومن ذلك، رمي مبادئها وثوابت دينها بالرجعية والتخل-ف، والقدح في رسولها ، والطعن في ولاتها، واتهام مؤسساتها الدينية والاجتماعية بدعم الإرهاب، والدعوة للعنف.
والثاني:- وهو ذلك الإنسان الغافل، الذي لا يعلم بما يدور في هذا العالم، ولا بما يخططه أعداء الأمة لإضعافها، بل تجده على العكس من ذلك، ما أن يسمع تهمة عامّة ت-جن-ـي بها على هذه الأمّة، إلا ويأخذها، ويبدأ يرددها ويفصّ-ل-ها، فيدّعي تارةً: أن المناهج فاسدة، ويجب تغييرها، ومرةً يقول: إن حلقات تحفيظ القرآن تربّي على العداء، والتشكيك في الآخرين، ثم يعرِّج على الشريط الإسلامي، فيقذفه بأقذع الأوصاف، ويطالب بإغلاق التسجيلات الإسلامية، متهماً إياها بنشر الفكر التكفيري الفاسد، ثم ينقلب حين تأتي الإجازة، ليبدأ التحريض ضد المراكز الصيفية، ويتهمها بأنها معسكرات إرهابية.
والحقيقة أنّي فكـّرت، وتأملت حالة أولئك الغافلين المردِّدين لما يقوله أعداء الإسلام، فوجدتها لا يمكن أن تكون سِوى واحدة من ثلاث حالات:
أولاها:- أنهم يعلمون أشياء لا نعلمها، ولا يعلمها المسؤولون في الجهات المعنية، الذين منحوا القائمين على تلك الأنشطة، من تسجيلات، وحلقات تحفيظ القرآن، ومراكز صيفية، وغيرها، الفسوحات والتراخيص اللازمة ، ليفسدوا عقول أبنائنا، ويهدموا مجتمعاتنا، في مختلف المدن والمحافظات، فالواجب عليهم في هذه الحالة تقديم كل ما لديهم لصاحب الصلاحية؛ لإيقاف أولئك عند حدّهم، قبل فوات الأوان.
ثانيتها:- أن يكون مردِّدو تلك العبارات، غير مستندين إلى دليل، بل اجتهدوا من تلقاء أنفسهم، وسمعوا الآخر - أياً كان الآخر وبغض النظر عن مأربه - فردّدوا عباراته، غير مدركين لما تحويه، فهؤلاء يجب أن ننبههم لحقيقة تلك الدعوات الهدّامة، وما يراد من ورائها، ثم نوضّـح لهم حقيقة الأنشطة التي نقوم بها، وندعوهم لزيارتها، والوقوف عليها؛ كي يشاهدوا ويقفوا بأنفسهم على الحقيقة، ومن ثم ينقلون ما شاهدوا، وسمعوا بتجرد ومصداقية، أما محاربتهم، والتهجم عليهم، فغير مجدية، بل ما تزيدهم إلا تعنتاً وانجرافا خلف ما يسمعون، ويسهم عدم احتوائهم في فتح ثغرةٍ ينفذ منها أعداء الإسلام.
ثالثتها:- محاولة بعض الناس الاصطياد في الماء العكر، والإساءة للآخر بالطعن بأنشطته، وكل ما يقوم به، واستغلال أي ظروفٍ تمر بها الأمّة؛ لبث سمومه، والمطالبة بإعاقة المجتمع، والتضييق على أهله، وحرمان شبابه من منافذ طيبةٍ وسُبلٍ خيرة، دون إيجاد بدائل، رغم صلاحية تلك الأنشطة التي يريدون استبدالها، وعدم الحاجة لإيجاد بديلٍ لها، بل كل ما يهمه تعطيل تلك الأنشطة، بقصد الانتصار لنفسه من بعض القائمين عليها، دون تفكيرٍ مسبقٍ بالعواقب المترتبة على حملته تلك، في حال حققت مبتغياتها، وما يمكن أن تجره قرارات المنع والإغلاق التي يطالب بها، من ويلات على هذه الأمة، التي لن يجد شبابها متنفساً، ولا وسيلة لقضاء أوقات فراغهم سِوى الاستراحات وما يحدث في بعضها من منكرات، أو السفر للخارج وما فيه من فتن، ومفاسد، وأمراض، أو التسكع في الشوارع والأسواق، وإيذاء المسلمين بالتفحيط والمعاكسات. ثم لا تنس المكاسب التي تتحقق لأعداء الأمة، فيما لو حدث إغلاق لتلك الأنشطة لا سمح الله.
فردّ عليّ قائلاً: يا أخي، كلامك فيه الكثير من الصحة، ولكن ما تجلبه تلك الأنشطة من وجع رأس، وما يمكن أن يقوم به بعض منسوبيها من تصرفات، يجعلني أطالب بمنعها وإغلاقها.
قلت: كأنك تريد أن تقول ما يردده بعض الناس: الباب اللي يجيك منه ريح، سدّه واستريح؟!...
قاطعني بحماس قائلاً: بالضبط...وصلت لمربط الفرس.
فسألته: هل تعتقد أنّ هذا المثل، أو هذا المبدأ صحيح؟
قال: بالطبع ....فهذا عين الصواب.
قلت: أتدري بمَ يذكرني قولك هذا؟
قال: بماذا؟...عساه خيرٌ إن شاء الله؟
قلت: ذك-رتني بحادثة دهس راح ضحيتها قريب أحد زملائي، حيث كان قريبه ذو الثلاث سنوات، يلعب خلف سيارة أهله، حين رجع سائقها - ينتمي لإحدى الدول الآسيوية - إلى الخلف ولم يشاهد الطفل فدهسه، أتدري ما هي بعض الحلول التي طرحت من بعض أفراد تلك المجموعة التي كنت أجلس معها حين سماع تلك القصة لمنع تكرار مثل تلك الحادثة؟
قال: لا... ولكن ما هي تلك الحلول؟
قلت: ط-رحت العديد من الحلول، ولكن هناك اقتراحين ما زلت أذكرهما، ولا يمكن أن أنساهما أبداً، فهما يندرجان تحت ذلك المثل الدارج (الباب اللي يجيك منه ريح سُدّه واستريح).
فكان الاقتراح الأول:- يتمثل بمنع استقدام العمالة الأجنبية التي تمتهن قيادة السيارات، منعاً لتكرار مثل تلك الحادثة، وكأن حوادث الدهس المشابهة لن تتكرر في حال عملنا باقتراحه، وأيضاً دون تفكيرٍ بالأضرار الناجمة عن مثل ذلك الاقتراح لو تم تطبيقه.
أمّا الاقتراح الآخر:- فكان طريفاً، وزاده طرافةً الحدة، والصرامة، والجدية الزائدة التي بدت على وجه صاحبه، حين طرح اقتراحه، حيث قال: إنّه من الواجب على هيئة المواصفات والمقاييس السعودية، أن تمنع دخول السيارات التي فيها تغيير حركة السيارة إلى الخلف - منع الريوس - من جميع السيارات، والاكتفاء بتحريك السيارة للأمام؛ تلافياً لتكرار مثل تلك الحادثة.
وما سمعني قلت ذلك، إلا خرّ مغشيّاً عليه من الضحك، وبدأ يتمتم بكلام لم أفهم منه - بسبب ضحكه - سوى تندره وتعجّبه ممّن يفكر بتلك الطريقة.
قلت له: لا تعجب يا صاحبي من ذلك الشخص، فأنت وأمثالك ممّن يطالبون بإغلاق تلك المراكز، أو إيقاف فسح الشريط الإسلامي، وغيرها، محل تندرٍ وسخريةٍ أيضاً، ويقولون: إنكم سوف تطالبون بإغلاق المدارس؛ بسبب نشوب بعض الخلافات بين الطلبة، خاصة تلك التي تتطور، فتصبح اعتداءات تسيل بسببها دماء بعض الأطفال الأبرياء، وأنهم سوف يغلقون الأسواق والمحلات التجارية؛ بسبب ما يقوم به بعض المراهقين من معاكسات، وما يبدر منهم من مضايقات للمتسوقات، ومن المحتمل أيضاً أن يمنع استيراد السيارات؛ بسبب استغلالها بعمليات تهريب المخدرات، وإساءة استخدامها من قبل المفحطين.
قال: لا تبالغ....فالأمور لن تصل لهذا المستوى، ولن يطالب أحدٌ بما ذكرت.
فسألته: ولماذا تفكر بطريقتك؟، ثم تتندر بمن يفكّر بطريقة لا تروق لك؟، وتحلل وتبيح لنفسك تعميم بعض الأخطاء الناجمةِ عن قلةٍ من المنتمين لتلك المناشط الخيرة وتطالب بإغلاقها؟
قال: إذاً لابد من إيجاد حلولٍ لكل تلك المشكلات.
قلت: الآن بدأت تفكر بطريقة صحيحة، وأنا أتفق معك على ضرورة إيجاد حلٍ لكل مشكلة، فالمنع ليس حلاً، وترك الحبل على الغارب، وعدم الرقابة، خطأ جسيمٌ يجدر بنا التنبّه إليه. فيجب أن نعمل وفق استراتيجيةٍ واضحةٍ للجميع، فلا إفراط ولا تفريط، ولا ضرر ولا ضرار، لا أن يأتي إلينا كل من قرأ أو اطّلع ظاناً نفسه عالماً، ويطالب بالمنع والإغلاق، دون إدراك منه بمصالح المسلمين، ومن غير أن يدرس السلبيات والإيجابيات لما يطالب بإيقافه من أنشطة، بل تراه يطالب بأيسر الحلول، وأقلها تكلفة، وأسهلها منالاً.
وعندما وصلنا إلى بوابة المركز قلت له: لمَ لا ننزل معاً، ونشاهد المركز، وما فيه من أنشطة، ونتعرف على القائمين عليه، ونرى ما لديهم وما يقومون به؟
قال: لا بأس....فكرة ليست سيئة.
قلت له على الفور: الله أكبر يا همّام....أنت الذي تجوب شوارع الرياض روحة وجيئة، تبحث عن من يؤويك، تقول عن زيارة أحد المراكز الصيفية: فكرة ليست سيئة....ولكن دعنا ندخل، ونقابل الأخوة العاملين فيه، ونتعرف عليهم.
وما أن دخلنا حتى رأينا المكان ممتلئاً بالشباب، وكأنة خلية نحل، بعضهم يلعب كرة القدم، وبعضهم يلعب كرة الطائرة، وآخرون يشتغلون في المسرح، قاسمهم المشترك الظاهر والبادي للعيان الهمّـةِ، والنشاطِ، والنورِ المشعِ من وجوههم، أم باطنهم، فلا أظنه سوى الن-ـية الصّادقة والإخلاص - ولا أزكي على الله أحداً -
التفت إليّ صاحبي وقال: أهذا هو المركز الصيفي ؟!...هل أنت متأكد أنك أدخلتنا أحد المراكز الصيفية؟! وليس أحد الأندية الرياضية؟!
قلت له: نعم ما الذي دهاك يا رجل؟ أصبحت تتلفت يمنة ويسرة دون توقفٍ وكأنك مروحة جدارية!
فأجابني قائلاً: لم يخطر على بالي أن المراكز الصيفية بهذا الشكل، فقد كنت أظنها تجمعات شبابية، لعشرة أو عشرين شاباً، يقرأ أحدهم كتاباً دينياً، ثم يبكون معاً وينصرفون، ولم أكن أتخيل أنّ المراكز تضم هذه الأعداد الهائلة من الشباب، بمختلف الأعمار والهيئات، فما ألاحظه أنّـها ليست لصنفٍ معيّنٍ من الناس، ولا لفئةٍ بعينها كما كنت أسمع وأظن.
وأثناء تجوالنا الذي لم يتجاوز الدقيقتين، قابلنا أحدُ الأشخاص مبتسماً، ورحّب بنا، ثم عرّفنا بنفسه قائلاً إنه نائب المشرف، وأخذنا في جولةٍ سريعةٍ على المركز ومرافقه، وبعد أن انتهت تلك الجولة، قام بإهدائنا بعض الأعمال الفنية، التي عُملت بأيدي شباب المركز، وقدّم لنا معها بعض المطويّات والأشرطة الإسلامية.
فقال صاحبي هامساً في أذني: آه.....من هذه الأشرطة التي لا مفر منها!...
فرغبت هذه المرة أن أسمع من ذلك الشاب ما لديه عن تلك الأشرطة، لعله يزيل ما بقي في ذهن صاحبي من شوائب.
فسألته: لماذا تحرصون على تقديم تلك الأشرطة، والمطويّات في كل مكان؟ وما هي الفائدة منها؟
فأجابني بكل أريحية، وقد غطت ابتسامةٌ عريضةٌ كامل محياة، وبدا لي أنّ لدية كلاماً مقنعاً أكسبه تلك الثقة الكبيرة التي أظهرتها ابتسامته، فقال: كما تعلم يا أخي إنّ هذه الحياة قائمة على الدعوة إلى شيءٍ، أو التحذيرِ منه، بأشكالٍ مختلفة، فمن أشكال الدعوة إلى الشيء، الإعلان عنه، وبيان محاسنه، ومحاولة ترغيب الناس وتحبيبهم فيه، ومن أشكال التنفير منه، والصدّ عنه، التهجّم عليه، وترهيب الناس وتحذيرهم منه.
وجميع الأشرطة الإسلامية المتوافقة مع شريعة هذا الدين، ومبادئ هذا البلد، تدعو إلى عبادة الله، وطاعة رسوله ، ومحبة دينه، والأخوّة والتسامح بين المسلمين، ومعاملة الآخرين بطريقة طيبة. وتنهى عن طاعة الشيطان، وتحذّر من أصدقاء السوء، ومن المنكرات، والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وليس الشريط الإسلامي خطباً ومواعظ فقط، بل هناك تسلية وترفيه، وفرح ومرح، أي مائدة شهية، فيها ما لذ وطاب من الأصناف الطيبة الخفيفة والدسمة.
ولكن لو نظرت إلى الأشرطة الغنائية، لوجدتها تدعو أصحابها ومستمعيها إلى التيه، والضيق، والكلام الفارغ الذي لا فائدة منه، فبعضهم يدعو إلى السهر، رغم معاناته منه، وبعضهم يعاني من الوحدة والفراق، ويتغنّى بهما، وآخرون محرمون من العيشة السوية، ويدعون إلى العلاقات المحرمة، والزنا ويزينونها وغيرها من الأفعال المنكرة. فلو سألتك أنت، أيها تود لابنك؟....أن يسمع ما يفيده، وينير طريقه، ويجعل نفسه طيبة مرتاحة في الدنيا والآخرة - بإذن الله -؟، أم من يدعوه إلى الفسق، والفجور، والضلال، والخسران بتزيين المعاصي، وتسهيل ارتكابها؟
فقال همّام بلا تردد: بالتأكيد إنّ الواحد منّا يفرح ويسرّ حين يرى ابنه طيباً مستقيماً، يخالط أناساً طيبين، يدلّونه على الخير ويعينونه عليه، ولا يريد أن يرى ابنه في المقاهي أو الاستراحات التي لا يعلم أحدٌ ما بداخلها إلا الله .
التفت إلى همّام وسألته: هل تنوي تسجيل ابنك في المركز؟
قال: بإذن الله، وسوف يكون ذلك بعد قليلٍ - إن شاء الله - وسوف لن أتكاسل عن إحضاره بنفسي، وأظن أنّني حققت مكسبين من هذا القرار
يتمث-ل أولهما:- بأنّي صرت أعرف مكان ابني، وإلى أين يذهب كل يوم.
وثانيهما:- أنّي تيقّنت أن ابني يجالس أناساً صالحين، ويتعلم ويتسلى في الوقت نفسه، فلا يضيع وقته في نوم أو سهر، بل في فائدة ومنفعة.
وأعتقد أن القائمين على شؤون هذه البلاد لا يخفى عليهم أنّ من المصلحة تجمّع الشباب في مكان واحد، فيسهّل ذلك معرفة ما يتعلمونه وما يتلقونه من علوم موثوق بها - بإذن الله - وحماية لهم من مخالطة ذوي الأفكار الفاسدة؛ كي لا يستغلونهم في حشو رؤوسهم بأفكار باطلة، تؤدي إلى ضلال الشاب وانحرافه، فتخسره أسرته ومجتمعه.
الفكر والإرهاب
في إحدى الحلقات العلمية التي عقدت لمناقشة الإرهاب وأثره على المجتمعات المدنية، قام أحد المشاركين بعرض أطروحته وكانت تتمحور حول الإرهاب الفكري.
حيث ذكر في معرض حديثه أن الفكر في وقتنا الراهن هو رأس المال وهو الأهم، فإن نحن استطعنا حماية فكر المجتمعات البشرية وعقول شبابها وخاصة المراهقين منهم، فقد حمينا أنفسنا من أخطار جسام تحدق بالمجتمع كله.
وأضاف: ولتعرفوا أهمية الفكر وما يمثله من قوة في شتى المجالات، يكفي أن تعلموا أن واحدة من كبريات الشركات العالمية اليوم، وأغنى شركة حاسوبية في وقتنا الراهن، رأسمالها الذي يفوق مئة مليار دولار، 95% منه فكرة وبرمجيات، أما الخمسة بالمائة الباقية، أو تقل، فهي ممتلكات مادية محسوسة، وهذا دليل كاف على أهمية الفكر، وأنّه المحرك الرئيسي لكل تجمع بشري، فإن صلح نهض المجتمع بأكمله، وإن تفشت فيه الآفات والفتن والقلاقل سقط ذلك المجتمع، واستحالت نهضته، حتى يتم إصلاح فكره.
وبعد أن انتهى ذلك المفكر من إلقاء كلمته، فتح المجال للأسئلة والنقاش.
فقام أحد الحضور وسأل: هل نحن معنيون بما يحدث من أعمال إرهابية سواء أفراداً في مجتمع أو بلداً يفصله عن البلدان المجاورة حدود، ومسافات شاسعة، ليس من السهولة تجاوزها؟.
فأجابه قائلاً: بالتأكيد.. نعم، وإنّي آمل من الجميع بذل كل ما يستطيعون لتفهم أبعاد هذه المشكلة، لأنه يا أخي وكما تعلم أن موضوع الإرهاب الفكري لا يقتصر خطره على شخص بعينه أو فئة من الناس فقط، بل يمتد ذلك ليشمل المجتمع كله، وقد يصل ضرره إلى الدول المجاورة أيضا، فوسائل نقله سهلة، وفي متناول الجميع، وأشدّها خطراً الإنترنت، لذا وجب علينا أن نركز كل حواسنا ونبذل قصارى جهودنا في سبيل الحد بل والقضاء على ما يسمى بالإرهاب الفكري، أو العنف، ومن يسانده ويدعمه معنوياً ومادياً، وما عقدت هذه الحلقة العلمية وغيرها من الحلقات والندوات إلا لمناقشة هذا الكابوس الفكري الدخيل، ومحاولة انتشاله قبل استفحاله في عقول الشباب.
ثم سأل أحد الحضور عن الكيفية التي يبدأ بها الإرهاب أو المسببات الرئيسة له؟
فأجابه المحاضر بالقول: إنه من المعلوم أن الإرهاب في الغالب يبدأ باختلاف وجهات النظر في معالجة موضوع معين، ثم يتطور الأمر إلى تطرف فكري - وهي الشرارة الأولى للإرهاب - ثم إلى محاربة الرأي الآخر، ومحاولة إظهار الجهة المخالفة بمظهر الضعيف أمام الآخرين، وعدم القدرة على إدارة وتسيير ما هو مطلوب منها، وكل ما تأمله تلك الفئة التي تعتمد الإرهاب والترويع منهجاً لها هو الحصول على تنازلات من الطرف الآخر، وت-عدّ هذه الوسيلة السبيل الوحيد لتحقيق مطالبها بعيداً عن الحوار والمواجهة المباشرة؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها لن تحصل على شيء من جراء مثل تلك المواجهات، لسبب وحيد هو أنّ مطالبها دائماً تكون صعبة التحقيق، وغير مقبولة من الطرف الأخر.
فسأل شخص ثالث ولكن ما هي المشكلة الحقيقية للتطرف؟
فأجابه المحاضر: على الرغم من بشاعة التطرف والإرهاب وما ينتج عنهما من مساوئ، وما يترتب عليهما من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع من جميع النواحي النفسية والفكرية والاقتصادية، إضافة إلى التعقيدات الناتجة عن الإجراءات الاحتياطية التي تتخذها الحكومات، وهي ضرورية جداً لمحاولة القضاء على من يحاولون المساس بأمن الأوطان، وتكون النظرة في مثل هذه الحالات واحدة لجميع أفراد المجتمع البريء والمذنب لأن الاحتياطات لابد أن تطبق على الجميع. أقول على الرغم من كل ذلك إلا أن هناك ما هو أشد خطراً من الجرم نفسه وما يترتب عليه من مخاطر، ألا وهو أن من يقومون بتنفيذ جرائم الإرهاب خاصة ما كان منها انتحارياً، يؤمنون إيماناً تاماً أنهم على حق، وأن ما يقومون به هو الصحيح، وأنه لا سبيل لمعالجة ما يرونها مشكلات كبيرة إلا بهذه الطريقة؛ لأنهم يكفرون أصحابها ويحكمون عليهم بالموت، وإن أشعرتهم أنهم بقيامهم بهذه العمليات لا يقتلون خصومهم فقط، بل يقتلون أبرياءً وأطفالاً لا ذنب لهم، أجابوا أن هؤلاء كفرة ومن يخالطهم ويتعامل معهم كافر أيضاً.
فسأل أحد الحضور: ما هو الفرق بين الإرهاب وغيره من الجرائم من الناحية الفكرية والشعور بالذنب، لا من حيث النتائج؟
فأجاب: في كل مكان وفي أي مجتمع المجرم أو الجاني قبل وأثناء وبعد ارتكابه لجريمته يعلم في قرارة نفسه أنه مذنب، أما الإرهابي فلا... حيث يظن الجميع مذنبين إلا هو.
وجميع الإرهابيين من ذوي الفكر المتطرف يؤمنون إيماناً تاما أنهم على حق، وجميع الحالات والأزمات التي ابتلي بها المسلمون كانت في الغالب ناتجة عن أشخاص تظهر عليهم علامات الصلاح، ولهم توجهات طيبة، ولكنها مغالية ورافضة لأي حلول أو تنازلات، ابتداءً بعبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علي بن أبي طالب وأظنكم تدرون من هو علي وما هي منزلته عند رسول الله وأعلم أن من ليس لديه دراية بخلفيات مقتله سيقول إن من قتل عليّاً من أعداء الإسلام، ولا يمكن أن يكون أحد المنتمين لهذا الدين، لأننا نعلم ما يكنه كل مسلم لعلي بن أبي طالب من محبة وإجلال، ولكن المفاجأة حين تعلم أن ذلك القاتل رجل مسلم تقي ورع، تعرف ذلك كله بمجرد رؤيتك لوجهه وما يظهر على جبينه من أثر السجود، والمصيبة التي لا يمكن لعقل بشر استيعابها حين تعلم أنه قتل عليّاً ؛ كي يخلص المسلمين من شره، ويتقرب إلى الله في ذلك، أية مصيبة وأي ابتلاء هذا؟!..
أن يقتل علي تقرباً لله وابتغاء مرضاته، فما بالك حين يقتل ذميون في بلاد الإسلام، جاؤوا لمساعدة المسلمين والوقوف معهم والتعايش معهم، دون أي ذنب اقترفوه إلا لانتمائهم إلى دولة كافرة، يرى أولئك الفئة من المتطرفين تحريم التعامل معهم وتحليل قتلهم، لذا فهم يتفقون مع عبد الرحمن بن ملجم في الغاية من القتل وهي التقرب إلى الله بتخليص المسلمين منهم ومن شرورهم.
ثم سأل أحد المهتمين بالموضوع وقال: إذا كان الإرهاب نتاجاً للتطرف الفكري فما هو سبب التطرف؟.
فأجابه إن هذا السؤال من أهم الأسئلة التي طرحت علي، والمشكلة أنه نادراً ما نسأل أنفسنا هذا السؤال، لأن الإجابة عنه هي المفتاح الرئيس للقضاء على الإرهاب من جذوره. حيث تبدأ علامات التطرف الفكري في سن المراهقة عن طريق العناد وعصيان الأوامر التي تصدر من البيت والمدرسة، وذلك بسبب طريقة تعامل الوالدين مع الطفل منذ سنواته الأولى، وسلبه حقه في التفكير واتخاذ بعض القرارات الخاصة، وإملاء الأوامر عليه، وطلب تنفيذها دون أي نقاش، وفي حال وجود احتجاج أو وجهة نظر، فإنّه لا يتم سماعها مطلقاً، بل تقابل بالتوبيخ والتأنيب، وقد يصل الأمر إلى الضرب لمجرد محاولة الطفل إبداء وجهة نظره في أمرٍ يخصه شخصياً. وهنا تبدأ المشكلة فيتعلم الطفل أن لغة الحوار معدومة، وأن النقاش لا يقابل بالنقاش، وأنه في حال ضعف الحجة فبالإمكان استخدام الطريقة التسلطية لمحاولة فرض الرأي، والحصول على ما تريد، فيكبر وتكبر معه هذه الخصلة، حتى يأتي لمرحلة سنية لا يؤمن فيها بغير القوة كوسيلة مُـثلى للإقناع والتغيير، خاصة وهو يعلم علم اليقين أنها كانت مجدية معه في صغره حين كانت وسيلة الأهل الوحيدة لجعله يرضخ لما يريدون، والأهل هم القدوة، والتعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
استأذن أحد الحضور في طرح سؤال حيث قال: يدّعي كثير من الناس أن البطالة سبب رئيسي للانحراف الفكري الذي ينتج عنه أعمال إرهابية، فهل تؤيد هذا القول؟.
فأجاب المحاضر: هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، وإلا لو كان صحيحاً لرأينا أعمالاً إرهابية في كل بقعة من العالم، فكما تعلم لا يوجد بلد في هذا الكون يخلو من البطالة، ثم إن كان في هذه البلاد بطالة لفئة معينة ولفترة مؤقتة، فهناك من يكفلهم، ويعيلهم، ويعينهم على مواجهة متطلبات الحياة إلا ما ندر، ولكن هذا التكافل غير موجود في أغلب بلدان العالم، ولا أنسى هنا أن أشير إلى أنّ بعض البلدان تعطي العاطلين عن العمل مرتبات لحين حصولهم على وظائف، إلا أنّ معظمها لا تعطيهم أية مساعدات، ولم يحدث فيها أي أفعال إرهابية، مما يتضح معه أن إرجاع الأعمال الإرهابية إلى البطالة ما هي إلا إشاعة مغرضة يرددها من يقفون خلف تلك الأعمال، ويهدفون من ورائها زعزعة الأمن ونزع ثقة الشعب بولاة أمره، والتستر على أهدافهم ومقاصدهم الحقيقية التي ليس من بينها البطالة.
ثم سأل أحد المشاركين قائلاً: هل هناك جوانب إيجابية لما يحدث من أعمال تخريبية؟. أقصد أن العمل التخريبي مرفوض من الجميع ولا يقبله أحد ولكن كيف يمكن أن نخلق جوانب مضيئة من أعمال كهذه؟
فأجابه المفكر: فهمت ما تقصد، وسؤالك في غاية الأهمية، ويجب أن يفكر الجميع بنفس الطريقة التي تفكر بها، فلابد أن نبقى متفائلين ولا نستكين ونتوقف عن العمل لمجرد حدوث أعمال تخريبية من أعداء الإنسانية، ولأجعل كلامي أكثر وضوحاً دعني أضرب لك مثالاً بما حدث من تفجيرات في مدينة الرياض مؤخراً، حيث لاحظ الجميع بعد التفجيرات التفاف الشعب والحكومة واتفاقهم على محاربة الإرهاب، والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه المساس بأمن هذا الوطن، وحقيقة لا أخفي إعجابي هنا بالطريقة التي اتبعها القائمون على أمن هذا البلد في التعامل مع الحدث وطريقة معالجته، والشفافية الواضحة، وإطلاع الجميع على كل ما يدور، دون أي تحفظات، وفي هذا منع لمن يستغلون مثل هذه الأحداث لإثارة البلبلة وترويج الإشاعات ومحاولة الاصطياد في الماء العكر، كما أن هناك جانباً إيجابياً في غاية الأهمية ويجدر بنا أن لا نغفل عنه، ويتعلق بالتجاوب والتفاعل اللافت للنظر، من قبل أفراد المجتمع منذ اللحظة الأولى لوقوع التفجيرات، بدءاً برفض ما حدث وتجريم الفعل، والوقوف إلى جانب ولي الأمر في محاربة الإرهاب والتصدي له، وهناك إيجابيات أخرى كثيرة يصعب حصرها، ومن أهمها التجاوب مع جميع الإجراءات الاحتياطية التي تم اتخاذها بعد تلك الأحداث وقبولها بصدرٍ رحب، بل وتشجيع ومؤازرة رجال الأمن أثناء قيامهم بأعمالهم، ليقين كل فرد من هذا المجتمع أن جميع تلك الإجراءات إنما وضعت ليتم التضييق على المشبوهين ومحاصرتهم ومن ثم القضاء عليهم بإذن الله، وأن هذه الإجراءات وإن استمرت لبعض الوقت، فإن نتائجها سوف تكون إيجابية ومثمرة لهذا الوطن ومواطنيه.
فسأل أحد الأشخاص ما هي الطريقة المثلى لمكافحة الانحراف الفكري؟.
فأجاب: كما أسلفنا أن الانحراف الفكري ليس وليد يوم وليلة، بل ناتج عن ترسب عدة أمور، منها ما هو تكفيري يعود لفساد عقدي، ومنها ما هو منحرف ناتج عن مذهب هدام باطل، وإصلاح ذلك لا يتم بين عشية وضحاها، وحيث أدرك أعداء الأمة ما للفكر من أهمية بالغة، خاصة في المجتمعات الإسلامية، لذا قاموا بتوجيه سهامهم إليه على مدى قرن من الزمن وعقدت العديد من المؤتمرات التي تبحث بخاصة في كيفية إفساد معتقدات المسلمين وإدخال الشكوك والشبه فيها، فينتج عن ذلك فرقة وتناحر يستغلها أعداء الأمة ليسيطروا من خلالها على المجتمعات الإسلامية ويستولوا على خيراتها، بعد أن عجزوا عن ذلك بواسطة السلاح. ومن خلال معرفة ذلك وجب علينا أن نقف صفاً واحداً أمام أولئك المغرضين، وأن لا نلتفت إلى ما يحاولون بثه من شبه في مسائل أقل من أن توصف بالفروع من هذا الدين العظيم؛ لأن الأركان والواجبات واضحة، ولم ولن يستطيعوا تغييرها، فالجميع متمسك بها، كما أن كل فرد من أفراد المجتمع مسؤول عن تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة لدى من يراهم من أفراد عائلته أو أقاربه أو أصدقائه، ومحاولة إرشادهم إلى الطريق المستقيم، وبالإمكان الاستعانة بمن هو أقدر منه على التوجيه والإرشاد في حال عدم قدرته عليه، ولا ننس أنّ تربية النشء على الحوار هي الوسيلة الأهم لخلق مجتمع متفاهم متجانس قادر على التعايش مع بعضه دون أية مشكلات.
المال والإرهاب
ليس للمجتمعات البشرية في كل أنحاء المعمورة إلا ما ندر حديث أهم من حديثهم عن المال والإرهاب.
حيث يحاول القائمون على تلك المجتمعات ومن خلفهم المنتمون لها بشت-ى الوسائل والسبل وبكل ما أوتوا من قوة لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه وعلى أنصاره وتجفيف منابعه ومنعه من التغلغل إلى مجتمعاتهم، وإفساد عقول شبابهم، وتدمير ثرواتهم، وإذهاب خيراتهم.
وعلى الجانب الأخر يعملون جاهدين من أجل الحصول على المال وجلب رؤوس الأموال لبلدانهم، محاولين الاستفادة منها والانتفاع بها.
وبما أن هناك طرفاً محبوباً مرغوباً يدعى المال، وآخر ممنوعاً منبوذاً يعرف بالإرهاب الذي لا يرى شيئاً ساراً نافعاً إلا حاول تغييره وقلب حاله رأساً على عقب، فهو هذه المرة على ديدنه لم يتبدل، وقد حاول مجادلة المال وإفهامه أنه أكثر خطراً على البشرية منه.
وقال له: إن الناس يعتقدون أنك نعمة، وبوجودك تنتهي المشكلات وتحل العقد وتهون الصعاب، ولكن في حقيقة الأمر أنت السبب الرئيس لكل فساد ودمار في هذا الكون، وبسببك تقوم الحروب، وتتنازع الدول، ويتخاصم الجيران، ويتقاتل الأخوة.
فقال المال: يجب أن تعلم قبل كل شيء من أنا، فأنا إحدى زينتي هذه الحياة حيث يقول الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. إلى آخر الآية (الكهف:46).
فبي يشبع الجائع، ويكسى العاري، وتعمر الديار وتعز الأوطان.
أما أنت فأقل ما يمكن أن يقال عنك أنك مصدر الخوف والرهبة والهلع والفزع، واسمك يحمل المعنى ذاته، شعارك قتل الأبرياء، والانتقام من الجميع في سبيل تحقيق مطامع أنصارك وأتباعك.
فرد عليه الإرهاب قائلاً: إنك حين تصفني بأني مصدر الخوف والرهبة إنما تثني عليّ من حيث لا تدري، فأنا شكل من أشكال الجهاد، فبي وحدي تلبى المطالب وتنال المصاعب، من قتل في سبيلي فهو بمنزلة الصديقين والشهداء.
أما عن قولك إن-ك إحدى زينتي الحياة الدنيا، فليس لدي اعتراض عليه ولكن لا تنس أنك من فتن هذه الدنيا كما يقول الله في محكم تنزيله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (التغابن:15)
فمن يتمعن فيك ويعرفك حق المعرفة لن يكون شغوفاً بك؛ لأنك امتحان وابتلاء لمن يقتنيك.
ثم لا تنس أنك ألدّ الأعداء وقد قال ذلك عنك رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: (ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزاً لك وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن الذي لعله عدوك ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك).
فقال المال: ولكني مرغوب محبوب من الجميع، الكل يسعى في طلبي ويهوى امتلاكي.
أما أنت فمنبوذ من الجميع، وكل يحاول أن ينعت خصمه بك وبالانتساب إليك.
فقال الإرهاب: على الرغم من عدم موافقتي لك بما تصفني به من عنف وكراهية، إلا أني واضح والناس بمختلف فئاتها وأصنافها وأجناسها تتعامل معي بإحدى طريقتين، إما معي أو ضدي، فمن كان معي فهو في الغالب يبذل الغالي والنفيس من أجلي حتى نفسه يرخصها في سبيلي. أما أولئك الذين هم ضدي فهم يمقتونني ويحاربون أتباعي.
ولكن بالنسبة لك فأمرك غير واضح على الإطلاق، فأنت في الظاهر متعة وهبة وزينة، وفي الباطن قد تكون ابتلاء وبلاء وفساداً، وقد تدمر وتخرب في ساعات ما يفوق أفعالي منذ بدء الخليقة، فأنت حين تكشر عن أنيابك، وتعثو في الأرض فساداً يروح ضحيتك مجتمعات بأكملها، ويصاب ضحاياك بالحسرات التي لا تتركهم حتى تسلبهم أرواحهم، وتنقلب حال بلدان من قمة الغنى إلى قاع الفقر. هذا بالنسبة لأفعالك الإجرامية غير محمودةِ العواقب بالطبع.
ولكن ماذا عن أتباعك وأنصارك؟ هل يلحقون ويُشهّر بهم ويُلقى القبض عليهم؟!... بالطبع لا... فهم من ذوي ربطات العنق الباهظة الثمن الذين بعد أن يرتكبوا جريمتهم يأتون مهرولين إلى المجني عليهم مسدين النصائح المدفوعة الثمن، التي في ظاهرها النجاة والخلاص، وفي باطنها الخراب والدمار، ليجهزوا على ما بقي من بصيص أمل في النجاة والعودة إلى الحياة مرة أخرى، ثم بعد ذلك يذهب أتباعك مرفوعي الرأس دون أن يتهموا بشيء.
أي أن إرهابك قائم على المكر والخداع، وشعارك المال يبقى للأغنياء فقط، وضحاياك الفقراء والبلدان النامية الفقيرة، فأنت تأتي بأفكارك وخططك الإنمائية لإنقاذهم من الفقر المدقع الذي يعيشون فيه؛ لتحاصرهم وتضرب أطنابك عليهم، فتمتص خيراتهم، وتبقيهم في فقر دائم يزداد عاماً بعد آخر.
فرد عليه المال قائلاً: إنك تحاول تغطية جرائمك وفضائحك بمحاولة رميي بأبشع الصفات، رامياً عليّ التهم جزافاً دون أي دليل.
فقال الإرهاب: مهلاً سوف أورد لك بعض الأمثلة التي تثبت لك صحة ما أقول، وخذ على سبيل المثال لا الحصر كيف هي الدول الغنية أو ما تسمى بدول العالم الأول تستغلك لإرهاب الدول الفقيرة، وذلك بطرق شت-ـى، كإغراق أسواق العالم الثالث بالسلع الاستهلاكية، ورفع أسعار المواد الخام، أو تلك المستعملة في إنتاج السلع، بهدف رفع تكلفة الإنتاج في الدول النامية، بالإضافة لمحاولة منع دخول منتجات الدول الفقيرة إلى أسواق الدول الغنية، وأسوأها على الإطلاق محاولة زرع الفتن والقلاقل لمنع حدوث الاستقرار في البلدان الفقيرة، مما يطيل أمد سيطرة الدول الغنية عليها.
ولا يتوقف إرهاب المال عند حد معيّن، ولا نوع بعينه، بل يتعدد ويتشكل ويتلوّن بمختلف الأشكال والألوان، فمن غسيل الأموال في بنوك الدول الفقيرة ومن ثم معاقبتها على ذلك، إلى تجميد أصول الأموال والتحكم بالأسعار.
ثم هل يجد العالم الغني من يحاسبه على إرهابه؟!... بالطبع لا... فهم أوجدوا المنظمات والهيئات الدولية التي تسُنّ القوانين، وتخضع الدول الفقيرة لها، حسب رغبة الدول الغنية، والويل كل الويل لمن يحاول التجرأ والتطاول على أصحاب الأموال، أو رفع رأسه، أو الهمس بالمعارضة والتذمر، فهذا الفعل سيؤدي لا محالة لمعاقبته بالمقاطعة الاقتصادية، ونعته بأقبح الأوصاف، ورميه بأسوأ التهم.
ثم إن تلك المنظمات تعمل لما يخدم مصلحة الدول الغنية فقط، حتى لو أدّى الأمر إلى إلحاق أشد الضرر بالدول الفقيرة، وزعزعة اقتصادياتها، وزيادة فقرها، وتفشي البطالة فيها، مما ينتج عنه ردود أفعال عكسية ناتجة عن بعض أفراد تلك المجتمعات نتيجة البطالة والجهل، تكون عواقبه وخيمة على تلك البلدان، وغالبا ما تتصف ردود الأفعال تلك بالعنف والأعمال التخريبية.
ويضيف الإرهاب: أي أنني في الغالب نتاج طبيعي للوجه القبيح منك، وهو الإرهاب الاقتصادي، فعندما يأتي أناس مصلحون يعرفون كيف يتعاملون معك ويوجهونك بطريقة مثالية بعيدة عن حب الذات، وإلحاق الضرر بالآخر، فإني أختفي تماماً، ولا أظهر أبداً.
فرد عليه المال قائلاً: إنه يستحيل أن أكون سبباً لوجودك، فأنا وأنت مختلفان تماماً ولا يمكن أن نلتقي في مكان واحد، فالبيئة التي أعيش فيها تتطلب توفر مناخٍ ملائمٍ خالٍ من كل ما ينغص عليّ ويعكر صفوي، ويتسبب في هروبي، فأنا في حقيقة الأمر جبان جداً، أهرب لأتفه الأسباب، فإذا لم يكن هناك بيئة آمنة مطمئنة تشجعني على القدوم، فإني أفر بسرعة، حيث لا يمكن أن أعيش في بيئة مملوءة بأصناف المنغصات الأمنية، من رشاوى، وضرائب، وغش، وتدليس، فما بالك بالعنف والترويع والقتل والإرهاب بشتى أصنافه وأنواعه. فعلاقتي بالأمن علاقة مطردة متلازمة ولا يمكن لي أن أعيش بدونه.
فقال الإرهاب: أنت تدعي المثالية وارتباطك بالأمن والتنمية وعزة وشموخ المجتمعات البشرية. وليس لدي اعتراض على ذلك، ولكن ألا تعلم بأنك أنت السبب الرئيس في وجودي؟!... فسأله الأمن كيف أكون سبباً في وجودك!... وأنا أخافك وأخشاك كما تخشى النارُ الماء.
فقال الإرهاب: بالطبع... فمحاولة بعض الدول الغنية الاستيلاء على خيرات الدول الفقيرة بمختلف الأساليب والطرق، ودأبهم على ذلك بطرق غير مشروعة مدعومة بنظريات وآراء وأفكار تصب في مصلحة تلك الدول، دون إعطاء أي اعتبار للدول المتضررة.
بل محاولة فرض تلك النظريات بأشكالها المختلفة وبمسمياتها المتعددة كالعولمة، والرأسمالية، والديمقراطية، والعمل على فرضها بالقوة على الطرف الأضعف، دون مناقشته أو المفاهمة معه، وبغض النظر عن ثقافة ذلك المجتمع وعاداته وتقاليده، يعد شكلاً من أشكال الاستبداد في فرض الديمقراطية، أو ما يمكن أن يسمى تجاوزاً إزالة النجاسة بالماء النجس.
وكذلك الحال مع العولمة التي ترمي إلى التقارب والانفتاح التام بين الشعوب، وجعلها في قرية واحدة تتعامل مع بعضها، ولكون الدول الغنية مهيأة بشكل كامل يفوق بأضعاف الدول الفقيرة التي تجبر في مثل هذه الحالة على خوض منازلة غير متكافئة معها، محسومة ومعروفة النتائج قبل أن تبدأ، فيتسبب كل ذلك في إثارة بعض الشعوب العاجزة، وتعبر عن رفضها التام لذلك بتصرفات تتسم بالعنف في أغلب الأحيان.
فقاطعه المال قائلاً: ولكن كل تلك الأنظمة العالمية التي ذكرت جيدة وتؤدي إلى رفعة الدول الفقيرة وانتشالها من فقرها.
فقال الإرهاب: يبدو لك ذلك، أما أنا وأتباعي وكثيرٌ من المنصفين - وهي من المرات النادرة التي أتفق وإياهم على وجهة نظر واحدة - فنرى خلاف ذلك إذ إنّ تلك الأنظمة العالمية المستحدثة وبالذات العولمة بدأت تظهر نتائجها بادية للعيان، حيث زادت الغني غنى والفقير فقراً، وجعلت نصف ثروات العالم في أيدي أشخاص لا يتجاوز عددهم الخمسمائة في أنحاء المعمورة، حيث أخذوا يغالون في الأسعار، ويقلصون الوظائف، ويخفضون المرتبات، مما ينتج عنه استياء شعبي، لا يقره العالم بأسره، فهناك من يتعامل معه بتبعية ويستكين لذلك. وهناك فئة المتعقلين الذين يحاولون التعايش معه بعقلانية والاستفادة منه دون تعريض شعوبهم وبلدانهم لأخطاره. أما أنا وأنصاري فنتعامل معه بكل عنف، محاولين القضاء عليه، وتعطيل مصالح القائمين عليه.
فقال المال: أنا وإن كنت لا أقر من يتعامل بمثل هذه الطريقة، ويحاول استغلالي للسيطرة على العالم بأسره، والتحكم بمقدراته وخيراته، وحرمان البشرية مني ومن الانتفاع بي لقضاء مصالحهم وتلبية احتياجاتهم.
فإني على الجانب الآخر لا أقر الطريقة التي يتعامل بها أنصارك ويحاولون من خلالها إسماع آرائهم وإيصال كلماتهم إلى العالم، فهذه الطريقة لا تزيد أولئك إلا جشعاً، ولا تكسبهم إلا مزيداً من الفقر، وتسلبهم احترام المجتمعات في كل مكان، بل وتشجع أصحاب رؤوس الأموال والمتحكمين فيها على سحبها من بلدانهم، وحرمانهم من الانتفاع بالجزء اليسير الذي قدروا لهم أن يحصلوا عليه، وكان بإمكانهم التعايش مع الوضع بهدوء ورويّـة، والتفكير بشكل جدي عملي بن-ـاء، لإيجاد طريقة تخرجهم من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، عن طريق العمل الجاد والدائم، ومحالة الاستفادة ممن سبقهم، والتعلم منهم، ومعرفة الطرق التي من خلالها سيطروا على العالم وخيراته، وأخذ النافع منها، وما يتواكب مع معتقدهم ودينهم والعمل به، ونبذ الضار، والتحذير منه.
وتلك أفضل كثيراً من الحيلة المستخدمة في الرد بإراقة دماء الأبرياء، والانتقام منهم دون ذنب اقترفوه، ودون القدرة الحقيقية على الوصول إلى المتنفذين وأصحاب القرار والمسيطرين الحقيقيين، الذين لا يرعبهم صوت الرصاص إطلاقاً بقدر ما تخيفهم فكرة اقتصادية تسحب البساط من تحت أرجلهم.
حوار مع إرهابي
التقيت به بعد فراق دام عدة سنوات، فعرفني ولم أعرفه، كان وجهه شاحباً وجسمه ناحلاً، وعيناه زائغتين كأنهما تريان الموت قريباً منهما، يداه ترتجفان، ورجلاه تحملانه بكل كلفة ومشقة.
أقبل علي ببطء وتثاقل، وكان يتلفت يمنة ويسرة، مشتت الذهن، وفي خاطره من الأفكار والهواجس ما تنوء بحمله رؤوس عصبة من الرجال ذوي حلم وسعة بال.
بادرته بالسلام والسؤال عن الحال.
ردّ علي: بإجابات مقتضبة وسريعة، كان يريد الخلاص مني بأقصى سرعة ممكنة، ولكن كان هناك شيء يمنعه من ذلك - ويبدو أنه نفس الشيء الذي دعاه للتعرف علي والحديث معي - فكلّـما همّ بالانصراف تراجع عنه وعاد يسأل ويكرر نفس أسئلته وعباراته السابقة، كان يريد أن يقول شيئاً، وفهمت من حاله أن ذلك الشيء خاص جداً، ولم يجد إنساناً يبوح له به، ويخلصه من بعض الحمل الذي في رأسه، حاولت أن أظهر له أني ذلك الشخص، أريته مني ما يبعث الطمأنينة في نفسه، ويدخل الراحة إلى جوفه، ويزيل علامات التوتر البادية على وجهه، ويخفف التشنج المسيطر على أطرافه.
عندما رأى مني التفاعل والتجاوب والإصغاء بدت علامات الراحة والرضا ترتسم على محياه، ومع أنها كانت ما تزال ممزوجة بالكثير من القلق والتوتر إلا أني بادرته بالسؤال محاولاً القضاء علي ما تبقى من قلقٍ وتوترٍ في داخله وتخليصه منهما قبل أن يقضيا عليه.
فسألته عن مجموعة من الأصدقاء وزملاء الدراسة، وهل ما يزال يتواصل معهم، حاولت تذكيره بتلك الأيام، وببعض المواقف الطريفة التي كانت تحدث في تلك الفترة، وببعض التعليقات الساخرة منه، حيث كان ماهراً في إلقاء النكات والمزاح مع الجميع، وإطلاق الألقاب الساخرة عليهم، دون أن ينزعجوا منه، بل كانوا يتقبلون ذلك بصدور رحبة ويبادلونه الألقاب والتعليقات.
بالطبع قصدت من ذلك إخراجه مما هو فيه من حياة بائسة محبطة إلى حياة ملؤها الفرح والسرور كان يعيشها إلى وقت قريب، حتى إنّه وعندما كنت أذكره بذلك كان كمن يتذوق طعم تلك اللحظات بلسانه، ويستنشق عبيرها بأنفه، وهذه الطريقة مهمة في التعامل مع تلك الفئة من الناس التي تعيش الإحباط والملل ويبدو عليها القلق، فتظن أنها خلقت له، حيث يجب على من يتعامل معهم أن يذكرهم بلحظاتهم السعيدة، وذكرياتهم الجميلة؛ ليشعرهم أنهم ليسوا مخلوقين للهم والغم فقط، بل إن للفرح والسرور نصيبهما في حياتهم أيضاً، وأنهما يشغلان الجانب الأكبر من حياتهم، ولكن الواحد منّا لا يشعر بذلك لأن أوقات الفرح تمر بسرعة فيظنها قصيرة، وأوقات الحزن تمر بطيئة فيظنها طويلة.
عندما رأيت أن مزاجه تغير تماماً، وبوادر القلق زالت من وجهه، وعلامات الرضا بدت على محياه، وأحسست أني تمكنت منه وسيطرت على نفسيته، ألقيت عليه السؤال المهم الذي أج-لته طويلاً، وكنت أرغب في مبادرته به، ولكني كنت أعلم علم اليقين أنه سوف لن يجيبني عنه، بل سوف ينفر مني وينصرف ويتركني، فأكون بذلك كمن صب الزيت على النار.
فقلت مبتسماً ومتصنعاً الدهشة: ما الذي غير حالك؟!.. وقد كنت بشوشاً مرتاح البال، والضحكة لا تفارق محياك، والآن أنتزع البسمة منك بالقوة.
قال: أبداً لا شيء.
وحاول التهرب من سؤالي.
فقلت له: نحن أصدقاء وإن ابتعدنا عن بعضنا فترة من الزمن، فيجب أن ن-بقي على صداقتنا التي بُـنيت على أسسٍ من البراءة والصدق والمحبة والمودة، ويجدر بنا أن نتعاون ونتكاتف لحل كل مشكلة تواجه أياً منا، فإذا لم أبث شكواي إليك، وتبث شكواك إلي، فلمن نبثها إذاً!..
أردت أن المِّح إلى حاله ولو من بعيد، لعلي استفز مشاعره فيخبرني بما يجول في خاطره بنفسه، فأكون عوناً له، لا أن أصارحه بما أسمع عنه من بعض الأصدقاء فينفر مني وينزع الثقة التي منحني.
فاسترسلت قائلاً : إن كل إنسان لديه مشكلاته وأسراره الخاصة التي لا يريد أن يبوح بها لأحد، ولكن هناك نوعية من المشكلات لا يمكن للإنسان أن يحلها وحده، خاصة تلك التي تجول في خاطره، وتتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه، فبعض الأشخاص يحاول تعديل كل شيء يراه بيده، سواء كان بمقدوره ذلك أم لا، وينتقد من يعارضه ويجهّ-ل من يخالفه، بل قد يصل به الأمر إلى تكفير من لا يقول بقوله، لا تعجبوا من تعمقي السريع في الخوض معه في هذا الأمر حيث شجّعتني بوادر الإصغاء والاهتمام التي كانت بادية على وجهه، حين ذكرت له مشكلات المجتمع ومسألة تغييره.
فبادرني بحماس قائلاً: إنّ تغيير المنكر واجب على كل مسلم لقوله : ( من رأى منكم منكراً فليغيره).
ثم سكت...
فقلت له: ولما لا تكمل الحديث؟!..
فقال: أنا يهمني الأمر بإزالة المنكر، أما الكيفية فنحن من يحددها، ولا تنس أن الله يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:110).
قلت له: قبل أن نذهب عن هذه الآية الكريمة، هل تأملتها وفهمتها كما يجب؟
قال: بالتأكيد.
فقلت: وماذا فهمت منها؟
قال: فهمت أنه يتوجب على كل مسلم ينتسب لهذه الأمة أن يغير كل ما يراه من منكرات.
فسألته: وهل الأمر هنا يقتضي التغيير في كل الأحوال؟
قال: بالطبع لا.
قلت: وكيف نعرف متى نكتفي بالتغيير بالقلب أو باللسان فقط ومتى يجب علينا أن نغيّر بالبيد؟.
قال: لا أدري بالضبط، ولكني حسبما فهمته وعرفته من بعض الأصدقاء أنه يجب علينا إزالة المنكر.
قلت: ومَن هُم أولئك الأصدقاء الذين تتحدث عنهم؟!.. أقصد ما هي مؤهلاتهم الدينية؟.
فقال: حقيقة لا يحملون أي مؤهلات دينية، ولكنهم درسوا على بعض المشايخ لفترات متقطعة من الزمن.
فقلت: وهل يليق بنا نحن المسلمين الذين شرفنا الله بالأفضلية على سائر الأمم أن نأخذ ديننا عن أشخاص ليس لديهم من أمور الدين إلا القشور؟!.. ولا يتعاملون إلا بكلمات تتعلق بالتكفير، والخروج على ولي الأمر، والقتل والتخريب والتدمير. ثم والله لو سألت أحدهم عن مسألة تتعلق بأحكام المسح على الخفين، لما وجدت لديه إجابة شافية. ثم عدت به إلى أمر النهي عن المنكر وكيفيته وأنه بإمكاننا القطع في زمننا هذا على أنه لا يحق لأي واحد منا تغيير المنكر إلا في حدود حددها ولي الأمر، وألزم كل واحد منا بها، ويجب علينا السمع لها والطاعة، وهي داخلة في قوله : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). فكل من رأى منكراً وجب عليه النهي عنه، فإن لم يُـنته عنه فعليه الذهاب وإبلاغ الجهات المختصة لإزالته، ويكون قد أدّى ما هو مطلوب منه، إن كان يبحث عمّـا يرضي الله ورسوله ، أما إن كان يبحث عن خلاف ذلك فهذا أمرٌ آخر.
أكملت كلامي محاولاً شحذ همته وإشعاره بفداحة الخطأ الذي يقع فيه.
فقلت له: هل تحب دينك وترغب في نشره والدعوة إليه؟.
قال: بالتأكيد نعم.
فقلت: وهل ترضى أنْ يقوم أحد الأشخاص بسب دينك أمام مجموعة من الناس حتى لو كانت صغيرة ؟!..
قال: بالتأكيد لا.
قلت: إذاً ما رأيك حين يقوم شخصٌ فيقتل شخصاً أخر بدون أي ذنب أقترفه سوى أنّه كان في ذلك المكان مصادفةً، ويقول إنّي اقتله من أجل الإسلام هل تؤيده؟
قال: بالتأكيد لا.
قلت: إذاً ما تقول في من يفجر المباني ويهدم المنازل فتنهار على أهلها، فتقتل الطفل والمرآة والشيخ الكبير، المخطئ والمصيب، المذنب وغير المذنب، ثم يعلن أمام العالم أجمع أنه فعل ذلك من أجل الإسلام، فهل تؤيده ؟
قال: هاه هاه ... بالتأكيد لا...
قلت: يجب إذاً أن نتفق أنا وأنت قبل كل شيء، ثم نعلن ذلك لكل صديق أو رفيق، قريب أو بعيد، أنّ من يقتل باسم الإسلام، دون وجه حق، فهو ليس من الإسلام في شيء، وأنّه أبعد ما يكون عن الإسلام، بل على العكس تماماً فهو بفعله هذا يعطي صورة غير حقيقية عن ديننا الحنيف، ويصرف الجميع عن رؤية الوجه الحقيقي للإسلام، ويعين أعداء الإسلام على النيل منه، ويدعمهم في سعيهم الحثيث لإطفاء نوره، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وتعلم أن الله يقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (الصف:8). وأظنك تحفظ هذه الآية عن ظهر قلب؟!..
وما أن سمعني أقول ذلك حتى خارت قواه، وبدأ يلهج بالذكر والاستغفار ثم عانقني.
وقال: أحمد الله الذي سيَّرك في طريقي، فقد كنت قادماً مع مجموعة من الأخوة - بل اسميهم المفسدين الآن - لتفجير أحد المجمعات السكنية القريبة من هنا، والتي يقطنها أعدادٌ من رعايا الدول الغربية. وكنت أنا أحد المنف-ذين ممن غـُسلت أدمغتهم من قبل بعض المدبرين والمستنفعين من تلك العمليات.
ثم بادر بسؤالي على الفور: ولكن ما العمل الآن وكيف نمنع هذه الجريمة؟
قلت: أذهب إليهم وحاول تأخيرهم وتعطيلهم عن تنفيذ عملهم التخريبي، بينما أقوم أنا بإبلاغ الجهات المختصة لتقوم بمنعهم من القيام بجريمتهم.
وما أن ذهب مسرعاً باتجاههم وذهبت بالاتجاه المعاكس له، حتى سمعت ذلك الدّوي الهائل والدخان يتصاعد من أحد المجمعات السكنية القريبة، فعرفت أنهم قد نفذوا مخططهم قبل أن يصل إليهم.
فعاد إليّ مسرعاً باكياً لم أفهم ما كان يقوله سِوى أنّ فيهم أعز صديق له وبعد أنْ هدأ.
قال: يا ليتني قابلتك قبل ذلك وتداركنا الأمر قبل حدوثه.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون...
ثم همست في أذنه معزياً ومذكراً في نفس الوقت: أنّ هناك العديد من أصدقائنا وأحبائنا ما زالوا تحت وطأة تلك الفئة الضالة، وأنّ من واجبنا تداركهم قبل فوات الأوان.
وقبل أن نفترق تعاهدنا على أن نعمل معاً على إنقاذ كل شخص ينزلق في مثل تلك المستنقعات، ويروج لأفكار أشخاصٍ يبحثون عن مصالح شخصية، ومكاسب ذاتية، لا يردعهم دينٌ ولا مبدأ، همهم الأوحد تحقيق مبتغاهم، بغض النظر عن أي شيء آخر.
كذلك أنت أخي الحبيب يجدر بك أن تضع يدك بأيدينا، فنكون يداً واحدة، ننافح عن ديننا ونذود عن حياضه، ونحمي وطننا من كل الأخطار المحدقة به، ونقف معاً في وجه كل من تسول له نفسه المساس بأمننا، أو الإضرار بمجتمعنا، أو الإساءة لديننا.
وليرى العالم أجمع أننا قومٌ محترفون في تحويل المحن إلى منح، وقلب الأحزان إلى أفراح، وتطويع الأوقات العصيبة، ولحظات الأزمات، لتصبح عصور نماءٍ ورخاءٍ وازدهار، والخروج من كل معركةٍ بقلوبٍ أقوى وبأسٍ أشد.
زوجـي إرهـابـي
أتت بثيابها الرثة، وخلفها أبناؤها الخمسة، وحالها يدل على أن خطباً جللاً ألمّ بها، فالوجه شاحب، والجسم ناحل، والعين غائرة، والجبين قاطب، والشعر منفوش.
من الوهلة الأولى بدت لي شبح امرأة أو إنسان خرج الآن من مجاعة لم تتذوق فيها الطعام ولا حتى الماء، وكأنها قدمت من أحد البلدان الفقيرة، ولكني حين أمعنت النظر شعرت أن ظني ليس في محله، فالثياب التي تبدو رثة ليست كذلك في حقيقتها، فهي فاخرة حين تدقق فيها وفي طريقة حياكتها.
ولكن لأن المرآة - حسبما ظهر لي - كانت مشغولة بما هو أهم، لذا فهي لم تهتم بمظهرها الخارجي كثيراً، أتت دون أن تحاول إخفاء ما بداخلها من هموم وأحزان، حيث انعكست على جسدها وملبسها.
اقتربت مني أكثر وأنا أقرأ في وجهها العديد من الأسئلة.
سلمت علي بصوت منخفض مبحوح يشوبه الحزن.
وسألتني: هل أنتِ المسؤولة عن استقبال الزائرات؟
فأجبتها: نعم، أنا هي... وبادرتها: هل يمكنني مساعدتك؟
قالت: أريد أن أزور زوجي الذي أخبرت أنه موقوف لديكم.
قلت لها بعد أن تحققت من الاسم: إنّه موجود بالفعل، ولكنّ وقت الزيارة لم يحن بعد، عليك أن تنتظري قليلاً لحين يسمح بدخول الزوار، وأكملت: تفضلي بالجلوس هنا، وأجلستها في مكان قريب منّي، ليس مخصصاً حقيقة للانتظار ولكني تعمدت ذلك لتكون قريبة فأشبع فضولي وأروي عطشي لمعرفة المزيد من التفاصيل المتعلقة بهذه الجريمة اللعينة المسماة الإرهاب.
إذ أنّي قرأت الكثير عنها، وعن أهدافها، ومخاطرها على الفرد والمجتمع، وأظنكم مثلي قرأتم الكثير، ولكنْ هناك جوانب خفية تهمنا ونريد أن نعرفها وهي متعلقة بمشاعر تلك النوعية من الزوجات، والطريقة التي يفكرن بها، وكيفية تعامل أزواجهن معهن، وهل هم مثل سائر الأزواج أم إنّهم مختلفون عن الآخرين في داخل البيت وخارجه.
سألتها: منذ متى وزجك موقوف لدينا؟
أجابت: بأن له ثلاثة أشهر وخمسة أيام.
قلت لها: أراك تذكرين المدة بشكل دقيق؟
قالت: بالتأكيد فأنا أحسب كل يوم وكل ساعة بل وكل دقيقة تمر علينا وهو بعيد عنا وعن الأولاد.
فقلت لها: موقوف طوال تلك المدة وهذه المرة الأولى التي تأتين لزيارته؟
قالت: لا... كنا نزوره حينما كان موقوفاً في غير هذا المكان، وقد أخبرنا أنه تم نقله هنا لاستكمال التحقيقات معه.
فسألتها: ما هي مشاعرك وزوجك موقوف الآن في مثل هذه التهمة؟ وهل تظنين أنها مختلفة عن أي تهمة أخرى؟
قالت: أصدقك القول أني في غاية الطمأنينة الآن لوجوده هنا في هذا المكان بالذات!...
قاطعتها كيف ذلك؟
قالت: لا تندهشي فسأخبرك عن ذلك، واسترسلت بقولها: كما تعلمين أن ما يحاك الآن من مؤامرات ومخططات شيطانية تهدف إلى زعزعة الأمن في جميع البلدان الإسلامية، وخاصة هذه البلاد، ما هي إلا من فتن آخر الزمان، والمدبرون لها يحاولون استغلال كل إنسان يرون فيه من السذاجة ما يكفي لتسخيره للعمل تحت مظل-تهم، وتنفيذ مخططاتهم، وقد وجدوا في زوجي ضالتهم، فهو من تلك النوعية من الناس، وحين تم القبض عليه من قبل السلطات الأمنية فرحت فرحاً شديداً يفوق حزني على فراقه وبعده عنا وعن بيته وأولاده، وإن كان بعيداً في حقيقة الأمر، ولكن توقيفه هنا حماية له من رفقاء السوء الذين لم يدعوه أبداً وهم على اتصال دائم به، وما أن يجلس معنا في البيت إلا وتنهمر الاتصالات بضرورة حضوره لهم أو هم يحضرون إليه، ولا يعنيهم في أي وقت يتصلون ليلاً أو نهارا، فهذا غير مهم بالنسبة لهم.
إضافة لهذا كان يغيب عنّا مدة يوم أو يومين أو أسبوع وحتى شهر دون أن يسأل عنا، وحين نسأله أين كان طوال تلك المدة يدعي أنه كان في عمل.... مرة يقول إنه مهم، وأخرى ضروري، ومرات خاص.
وما كان يقلقني كثيراً ويقض مضجعي هو تلك التفجيرات التي تحدث في بلادنا، أو في أي مكان آخر، حيث أظل خائفة وجلة حتى يتصل بنا بعدها بيومين أو ثلاثة ليخبرنا أنه بخير ثم ينهي المكالمة.
والحقيقة أنّنا من دون ذلك الاتصال كنا نظنه في عداد الموتى في كل عملية إرهابية تحدث. أما وجوده هنا فيعني الأمان بالنسبة لنا وله، فهو بعيد عن شبح الاتهام وقريب منا نستطيع رؤيته متى رغبنا ذلك، والأهم من هذا كله نعلم أنه سوف لن يتعرض لأية مضايقات في سجنه مقارنة بتوقيفه في أي بلد آخر من تلك البلدان التي كان يسافر إليها.
سألتها: وماذا عن الشق الثاني من سؤالي؟ هل جريمته هذه مختلفة عن أية جريمة أخرى، فأنتِ لم تجيبي عنه؟
قالت: الحقيقة أنّ زوجي لم يكن ذا سوابق، وليس هناك أيّ من معارفي سبق أن أتهم بأية قضية، فأنا في الواقع من أسرة محافظة معروفة بالصلاح، لذا يصعب علي معرفة الفرق بين هذه الجريمة وغيرها من الجرائم الأخرى، ولكني أظن أن جميع الجرائم فردية، أي أن ضررها موجه إلى شخص أو مجموعة أشخاص، أما هذه الجريمة فهي موجهة إلى المجتمع كله وضررها يطال الجميع، وأحمد الله أني أعيش في مجتمع مسلم متراحم متعاطف يستمد تصرفاته وردود أفعاله من كتاب الله وسنة رسوله ، وكلهم يعلمون ويعملون بقوله : وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ...ُ إلى آخر الآية (فاطر:18). وإلا لأصبح موقفي صعباً ولا يمكن احتماله ولصرت منبوذة أنا وجميع أطفالي وحتى أهلي وأهل زوجي.
ولكن ما يحدث يعجز اللسان عن وصفه، فجيراني يتصلون ليسألوا عنا وعن أحوالنا، وكذلك بعض أصدقاء زوجي السابقين، وحتى معاملة السلطات الأمنية لنا في غاية الاحترام والتقدير وكذلك يفعلون مع زوجي.
فسألتها: ولكن كيف كانت علاقتك مع زوجك قبل أن يتم توقيفه، وهل كان يحدثك عما يجري أو ينوي فعله؟
قالت: علاقتي مع زوجي مختلفة كثيراً عن مثيلاتها من العلاقات الزوجية، فنحن كما أخبرتك لم نكن نراه إلا نادراً، فأغلب وقته يقضيه مع أصحابه، وحين يجلس لا يتحدث معنا كثيراً، فهو إما يجري مكالمة هاتفية أو يقرأ بعض الأوراق التي يحضرها معه والتي لا نعرف ما تحويه بالضبط، ولكني لا أظنها سوى تلك المنشورات التحريضية التي تريد إثارة الفتنة وزعزعة الأمن في هذه البلاد، أو يستمع لأشرطة تحوي نفس المضمون، ويتداولونها بينهم بطريقة سرية جداً؛ لأنّها غير مصرحة ويحظر بيعها.
فسألتها: هل يعني هذا أنكم لا تتكلمون مع بعضكم مطلقاً؟
قالت: لا، فأنا أخبرك عن وضعه في البيت، ولكننا نتكلم أحيانا في أمور مختلفة كأي زوجين، وإن كان ميالاً للحديث عن ما يدور في هذا العالم من مشكلات ويناقشها بطريقته الخاصة، ويجرِّم ويسب ويلعن ويكفر من لا يتفق معه، وحين أذكره بعدم جواز ذلك، وأنّ علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين نهوا عنه، يغضب مني، وينهي الحديث بالقول: هؤلاء علماء السلاطين، فلا تسمعي لهم، ثم يغادر المكان دون أن يترك لي مجالاً لمناقشته، فكأن دماغه مغسول ومبرمج بطريقة معينة لا يمكنني التوافق معها.
فسألتها وماذا عن الأولاد؟.
فقالت وقد تنهدت بطريقة أشعرتني أن بها من الهم ما لا تطيق حمله الجبال: الأولاد .... وما الذي يجعلني أصبر على الحال الذي أعيشه سواهم، وإلا لجعلت حداً لهذه الحياة البائسة منذ خمس سنوات، ولكن إن طلبت الانفصال فسوف يضيعون ويتشردون.
فقاطعتها: ولمَ لا تطالبين بحق رعايتهم خاصة أنه ليس لديه الوقت الكافي للعناية بهم؟
فقالت أنت لا تعرفين كيف يفكر هذا الصنف من الناس!... فهم يحبون الجدل والتحدي والتصادم مع الآخرين، حتى لو أدى الأمر إلى إلحاق الضرر بالجميع، فهذا غير مهم بالنسبة لهم، فما هو مهم بالنسبة لهم هو أن يوافقهم الناس على أرائهم، وما يريدون تحقيقه، بغض النظر عما يترتب عليها من مفاسد حتى لو كان الأمر متعلقاً بأبنائهم وإلحاق الضرر بهم فهذا لا يهم.
فسألتها: ولكن من يرعاهم ويلبي احتياجاتهم؟
فقالت: أنا أقوم بعمل كل شيء في البيت، فأنا الأب، والأم، والأخ، والصديق لهم، وأنا من يقوم بنصحهم وإرشادهم وتعليمهم وتوجيههم، وعزائي أن الله لم يذهب جهدي سدى، فهم جميعاً طيبون وعلى درجة عالية من الخلق والتفوق الدراسي، على الرغم من أني بدأت أعاني بعض الشيء مع أكبرهم الذي بلغ سن المراهقة، وعمره الآن أربع عشرة سنة، وأشعر أنه بحاجة شديدة لوالده أو لمن يقف معه.
فقلت لها: ولما لا تستعينين بوالدك أو أحد إخوتك أو أقاربك ليقوم برعايته والاهتمام به؟
فقالت: هناك مشكلة قد تخفى على الكثيرين، وهي أن الناس وخاصة الأقارب منهم يقفون ويتعاطفون مع الأسرة التي تفقد معيلها بالموت أو المرض مثلاً؛ لأن الجميع يعلم عن ذلك ويعرف حاجة الأبناء للرعاية والاهتمام، فتجدينهم يبادرون ويسألون ويطمئنّون.
أما بالنسبة لمن هم في مثل وضعي فمع الأسف لا أحد يقف معهم ـ ليس تقصيراً، ولكن لأنهم لا يعلمون ما يجري، فالناس غافلون وكل منشغل بشؤونه، والبيوت أسرار، لا أحد يعلم ما بداخلها ـ ولكن بعد أن تم توقيفه قبل ثلاثة أشهر التف الجميع حولنا وبدأوا يسألون ويعرضون خدماتهم، كل حسب استطاعته. أي أن الناس لا يعلمون بفقد الأسرة معيلها إلا في حال الوفاة أو المرض أو السفر الطويل أو السجن، أما في مثل حالتي طوال الخمس سنوات الماضية فلم يعلم بحالي سوى الله وحده، ولذا كنت أعاني الأمرين، أما الآن فالوضع أفضل كما أخبرتك، وله العديد من الجوانب الإيجابية بالنسبة لي وللأولاد.
فسألتها: ألم تسألوا عن الرجل قبل الارتباط به؟
فتبسمت ثم قالت: بلى قد سألنا عنه، وهو من خيرة الناس، ومن عائلة محترمة جداً، وقد عشنا معاً قرابة الإحدى عشرة سنة دون أية مشكلات أو منغصات، ولكن في الخمس سنوات الأخيرة تعرف إلى أحد الأشخاص فغير مجرى حياته وورطه في أمور كثيرة، وعرفه إلى العديد من الأشخاص ممن يحملون أفكاراً هدامة، فأهمل مؤسسته التي كانت مصدر دخله الوحيد، وبدأ يختلف مع العمالة الذين رحلوا واحداً تلو الآخر، ولم يبق منهم سوى اثنين لا نعلم عنهم شيئاً، بالإضافة لانقطاعه عن والديه وأهله مدد طويلة، وعند سؤالهم عنه يخبرهم أنه في شغل دائم، وطبيعة عمله تفرض عليه السفر لجلب عمالة وغيرها، وكانوا يصدقونه بالطبع، ويلتمسون له العذر، ولم أكن أجرؤ على إخبار والديه بحقيقة الأمر، وهذا من أكثر الأشياء التي ندمت على عدم فعلها، وأجدني مذنبة دائماً بسببه، وأشعر أني لو أخبرتهم لتمكنوا من إقناعه وتغيير سلوكه، أو على الأقل الحد من تلك التصرفات الطائشة التي كان يقوم بها.
فسألتها: ولكن ماذا عن أصحابه الذين كانوا معه؟ هل يتصلون ويطمأنون عليكم؟
فقالت: بالطبع لا .... فكما أخبرتك أن لهم أهدافاً وهموماً ليس من ضمنها زوجي وعائلته، ولكنهم استغلوه وحين سقط في أيدي رجال الأمن ذهبوا وتركوه، فهو بالنسبة لهم منتهي الصلاحية.
ولا أبالغ حين أقول إنّهم على العكس من ذلك تماماً، فلو تمكنوا منه لقضوا عليه؛ لأنهم يخشون أن يبلغ عنهم أو يرشد إلى مواقعهم وأوكارهم، لذا فأنا أتمنى أن لا يطلق سراحه حتى يتم اعتقال جميع أصحابه من ذوي الفكر الهدام، وهم ولله الحمد قلة ومعروفون لدى الجهات المختصة، وأسأل الله أن يعين القائمين على هذه البلاد للسيطرة عليهم وتخليص الناس من شرورهم.
نظرت إلى الساعة فوجدت عقاربها تشير إلى الرابعة وهو موعد بداية الزيارة، والإعلان عن ساعة الوداع وانتهاء المقابلة الممتعة مع تلك المرآة العظيمة الرائعة، وأسئلتي لم تنته بعد، فلدي الكثير، والذي يحتاج كل واحد منها إلى إجابة وتوضيح، ولكن لعلي أقابلها مرة أخرى. ودعتها وأبناءها متمنية لهم التوفيق والثبات والصبر.
كنت إرهابياً
كنت مع مجموعة من الأصدقاء، وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، إذ دخل علينا أحد الأشخاص الذين أعرفهم معرفةً تامةً، ولا يمكن أن أنساهم، إلا أنه في طلّـته تلك لم يكن ذلك الإنسان الذي عرفت، حيث كان في الماضي القريب عابس الوجه، صلف الطباع، قليل الكلام، وإن تكلم رفع صوته مخاصماً ومجادلاً لأتفه الأسباب وفي قضايا أقل من أن يطلق عليها من فروع الدين؛ نظراً لعدم أهميتها، أو ضرورة معرفتها، وكان لا يمكن أن يتراجع عن قوله ولا يغيره بل يصر عليه حتى لو خطـّأه وخالفه الجميع.
أما هذه المرة فقد أثارني تغير ذلك الرجل وإقباله علينا بطلاقه محيّا وابتسامة مشرقة، تبعث في نفس من يراها الأمل والتفاؤل، وما سرّني أكثر وزاد من دهشتي وإعجابي في نفس الوقت ما لمسته منه من حرارة المصافحة والترحيب، وسؤاله الجميع عن أحوالهم دون تفريق، وهذا ما لم أعهده منه، وشيء كنت أظنه في حكم المستحيل، حيث كان ينتقي بعناية فائقة من يسلم عليهم ويلاطفهم، أما أولئك الذين على هيئة خارجية معينة فلم يكن يلتفت إليهم، أو يعيرهم اهتماماً، بل يسلِّم عليهم مطرق الرأس، أو مصوباً نظره نحو شخص آخر، غير عابئٍ بمن أمامه، لأنّ هيئته ليست على الشكل الذي يتوافق مع رؤيته.
حقيقة، ورغم أنّي أظن نفسي إنساناً متحفظاً إلى أبعد الحدود، وأتجنب التدخل في شؤون الآخرين، أو سؤالهم عن أمور شخصية تخصهم، أو عن أسباب تغيير مظهرهم الخارجي وتبديله، إلا أن نشوتي وابتهاجي وإعجابي وسروري ودهشتي وكل ما مر بي تلك اللحظات بسبب مظهره وسلوكه وطريقته في التعامل غش-ـت دماغي وجعلتني أتصرف وكأني لست أنا.
قمت من مكاني سريعاً وجلست بجانبه، وأظن أني سبقت كل من يعرفه على فعل ذلك، لأني اعتقدت لحظتها أني إن لم أبادر فسوف يسبقني أحدهم، لذا كنت أنا السبـّاق، وفزت على الأقل قبل كل شيء بالإقدام على إشباع الفضول، ومتعةٌ الإقدام والإقبال على الشيء، أحلى وأمتع من متعة الوصول أو الحصول عليه.
بعد أن جلست بجانبه وسألته عن الحال والأهل والزملاء، بادرته مداعباً ومتسائلاً في الوقت نفسه: أراك مبتسماً طلق المحـيّـا منذ دخولك علينا، ما الأمر؟ هل هناك أخبار سارة؟ أو جديد يدعو لكل هذا السرور؟
قال: لا أبداً والله ليس هناك جديد ولا خلافه.
فسألته مداعباً: أعرفك يا رجل منذ عدة سنوات ولم أرك تدخل مبتسماً ومنتشياً إلا هذه المرة، فلابد أن في الأمر سراً؟
قال: أخبرتك وأقسمت لك، وها أنا أكرر القسم... والله العظيم ليس هناك سرٌ ولا خلافه، ولكني كنت مخطئاً بتقمصي تلك الهيئة التي لم تكن مناسبة لي ولا لطباعي، ولا تليق بشخص يقول إني أنتمي لهذه الأمة.
فسألته: وما الذي غيّـر وبدل تصوراتك تلك؟
قال: قبل ثلاثة أشهر تقريباً كنت في أحد المخيمات الدعوية، وكان هناك توزيع أشرطة وكتب ومطويّـات دينية كما تعلم، وأظن أمثالك لا يعلمون ما يدور هناك.
فقاطعته قائلاً: هاه.... أبا سعود عدنا لماضينا...
فقاطعني قبل أن أكمل كلامي وقال: أستغفر الله أن أعود لمثل ذلك ولكني قصدت مداعبتك فقط.
فقلت له: هيا أخبرني بما عندك واترك المداعبات لوقت آخر.
قال: كما تريد، ثم استرسل قائلاً: ومن بين تلك الكتب أخذت كتاباً صغيراً في حجمه، كبيراً وعظيماً في محتواه أسمه: مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة للدكتور / عبد الله بن محمد الرفاعي - وأنصح كل مسلم صغيراً أو كبيراً، رجلاً أو امرأةً بقراءته، لأن فيه كشفاً وتوضيحاً لكل ما يدور في هذا الزمان، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم، وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فسألته: وهل كان بالفعل سبباً في تغييرك وتبديل طريقة تفكيرك ورؤيتك للحياة ونظرتك للآخرين؟
فقال: بعد فضل الله الواسع، نعم له الأثر الأكبر علي، فما قرأته فيه من إجابات لثلاثة من كبار علماء المسلمين أعطاني انطباعاً فجائياً ويقيناً راسخاً أن الطريق الذي سِرت فيه والمنهج الذي سلكته كانا خاطئين تماماً، ولا يستندان إلى مسوغ شرعي، بل لأفكار مظللة نابعة من أشخاص يطلقون أحكاماً وفتاوى متوافقة مع أهوائهم فقط، بعيدة كل البعد عن منهج أهل السنة والجماعة، وليست من الدين في شيء.
فسألته: وهل تغيّـرت نظرتك تجاه ولي أمر المسلمين؟ حيث كنت تكفره وتدعو للخروج عليه!...
فقال: حين قرأت إجابة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن كيفية التعامل مع الحاكم، وهل يجوز الخروج عليه، حيث ورد فيها: أنه يجب على جميع المسلمين طاعة ولي الأمر استناداً لقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء:59).
والطاعة تكون بالمعروف لا بالمعصية، فلا تجب طاعة ولي الأمر حين يأمر بمعصية، كما لا يصح الخروج عليه بسبب تلك المعصية، لقوله : (من رأى من أميره شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية).
فسألته: وكيف تخليت عن مغالاتك وتطرفك - أعذرني أن أسألك هذا السؤال وبهذه الطريقة - ولكنها حقيقة حيث كنت متشدداً ومغالياً في كل شيء، ولا تقبل الحوار أو وجهة النظر الأخرى؟
فأجابني: حين سُـئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - عن ذلك أجاب: أن النبي حذّر أمته من الغلو حيث يقول: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو). ويقول : (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً، والمتنطعـون هـم المتشددون المغال-ون في دينهم، وف-ي ذلك يقـول الله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً. (النساء:171) فالاستقامة هي المطلوبة من غير غلو أو تساهل كما أمرنا الله مخاطباً نبيه وأتباعه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (هود:112)
فسألته: وماذا عن نظرتك للمجتمعات الإسلامية وأنها مجتمعات جاهلية بسبب ما هو موجود فيها من معاصي ومنكرات؟
فقال: وهذه - ولله الحمد - عدلت عنها بعد أن قرأت إجابة فضيلة الشيخ صالح السدلان - عن أحد الأسئلة المتعلقة بذلك حيث يقول: إن من يعتقد أن بالإمكان وجود مجتمع مسلم خالٍ من المنكرات والمعاصي ووجود حق واحد لا يقاومه باطل فهو واهم. فهذه سنة الله التي لن تتحقق إلا بهذا الصراع، ليعلم الله من ينافح لدينه، وليحيا من حيّ عن بينة.
كما أن المجتمع الإسلامي ومنذ العصر الأول وُجدت فيه المخالفات وأقيمت الحدود في عصره وفي عصر الخلفاء الراشدين وفي سائر الخلافات الإسلامية إلى يومنا هذا.
كما أن من عقيدة السلف أنهم يحبون المؤمن بما عنده من الإيمان ويكرهونه بما عنده من المعصية، ويكون الناس على منازل، وبقدر تمسكهم بالدين والاستقامة تكون لهم المنزلة والمحبة، وبقدر ما يخلـّون به من الأوامر ويرتكبون من النواهي يكون لهم شيء من الكراهية، غير أن هذا لا يصل إلى درجة التكفير أو النفرة أو مقاطعتهم وعدم نصحهم والإشفاق عليهم.
كما أكد فضيلته على عدم جواز وصف المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات جاهلية، حيث يقول : ( أربع في أمتي من الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، وإتيان الكهان). وفي هذا الحديث يبين أن هذه أمور الجاهلية، ولكنه لم يصف عموم الأمة بالجاهلية، فالمجتمع قد يكون فيه شيء من أمور الجاهلية لكن أن يوصف بأنه مجتمع جاهلي بعيد عن الإسلام، فلا شك أن هذا خطأ في التقدير، وعدم وضع الشيء في موضعه، وفيه تجاوز للحد الشرعي.
أما المجتمعات التي انحلـّت، واختفت منها شعائر الإسلام، وظهرت فيها شعائر الكفر والإلحاد والوثنية، فلا مانع أن يطلق عليها وصف مجتمعات جاهلية.
فسألته: وماذا عن ترديدك باستحلال دماء الكفار من المقيمين في بـُلدان المسلمين؟
فقال: وهذه الأخرى تراجعت عنها، وأرى الآن عدم جواز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمناً، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم، بل يحالون للشرع، كما يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -.
فقلت له: أراك أقلعت عن كثيرٍ مما كنت تؤمن به وتعتقده!... فهل توقفت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقال: تعلم كيف كنت أنظر سابقاً للمنكرات، وكيف كنت أتعامل مع العصاة، وأنهاهم وأزجرهم بل وأعتدي عليهم أحياناً متى رأيت أن الأمر يتطلب ذلك. أما الآن فالأمر مختلف... فنظرتي للمنكرات وإبغاضها لم تتغير ولله الحمد، ولكن طريقتي في التعامل مع العصاة، وكيفية نهيهم هي التي تغيرت جذرياً. حيث استبدلت اللين بالغلظة والرفق بالقسوة انطلاقا من قوله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. (النحل:125)
كما أن كلام فضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - قد أثـّر فيّ كثيراً حين سُئل عن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجاب: إن كان في بلد مسلم كبلدنا فإن الأمور منضبطة ولله الحمد بأن يقوم الإنسان بالمناصحة والتذكير والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى تبليغ السلطة من أجل الأخذ على يد العاصي فإنه يرجع إليها ويبلـّغها، وإذا لم يحتجْ إلى الرفع إلى السلطة فإن المطلوب الستر على أصحاب المعاصي إذا رأى منهم تجاوباً نحو الإنكار، وقبولاً للدعوة، وتركاً لما هم عليه من الخطأ، فهؤلاء يستر عليهم ويكتفى بأن يغيروا هم من أنفسهم من الفساد إلى الصلاح ما أمكن، وإذا وجد أن العاصي لا يستجيب ولا يقبل النصيحة فإنه يرفع الأمر إلى ولي الأمر، فإذا بلغ هذا الأمر ولي الأمر برئت ذمة الناصح لأنه أنهى الأمر إلى منتهاه.
أما إذا كانوا في غير مجتمع مسلم فعليهم الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ودرء الفتنة الكبيرة التي قد تعود على المسلمين بالضرر.
فسألته: وماذا عن استشهادك الدائم بقوله : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). على إمكانية استخدام اليد في التغيير في حال لم تنفع معها المناصحة باللسان؟
فقال: من أكثر الأشياء التي أعجبتني في ذلك الكتاب أقسام المسلمين في إنكار المنكر حيث قـّسـِّمت ثلاثة أقسام:
1) من عنده العلم والسلطة، فهذا يغير المنكر بيده، مثل ولاة الأمور أو من نصّبه الإمام للحسبة.
2) من عنده علم وليس عنده سُلطة، فهذا يغير بلسانه.
3) من ليس عنده علم وليس عنده سُلطة ولكنه مسلم، فهذا عليه أن ينكر المنكر بقلبه.
فمن خلال ذلك التقسيم اتضحت الأمور بالنسبة لي، وعلمت أنه ليس لي الحق في التغيير بيدي؛ لأنّي لست ممن أوكل إليهم ولي الأمر مثل تلك المهام، وصدق الله القائل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. (النحل:43) فأنا من خلال إط-لاعي وقراءتي وسؤالي توصلت لكثير من الحقائق التي كانت سبباً في عودتي إلى جادة الحق.
فقلت له: وهل تنازلت عن جميع أفكارك بهذه السهولة، على الرغم من أنك كنت تردد أن سماع أقوال من يدعون إلى الرفق واللين مع المخالفين من العصاة وأعداء الإسلام فكر انهزامي، وفيه من التخاذل الشيء الكثير، فكيف تراجعت من خلال قراءتك لكتاب واحد لا تتجاوز صفحاته المئة؟
فقال: يا أخي الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الخطأ والإصرار عليه فضيلة، ثم إني قرأت كلاماً لعلماء أفاضل بي-نوا لي أن هناك فئة من الناس لم يفهموا الدين كما ينبغي وإنما حملهم الحماس والغيرة على أن يقعوا في ما يخالف الشرع.
وعرفت أيضاً أن تلك النظرة وذلك الأسلوب والاندفاع في معالجة الأمور من أفعال الخوارج والمعتزلة، وليس مذهب أهل السنة والجماعة، وأنا ولله الحمد أسمو بنفسي أن أجاري تلك الفرق الضالة واحذوا حذوهم، أو أن أحيد عن طريق الفرقة التي وصفت بالناجية، وإني أشعر برضا وسعادة وقناعة لم أشعر بأيٍ منها قبل عودتي إلى الحق ولزومي الطريق القويم، وكل ذلك بفضل الله وهدايته وعدم إصراري على الفكر الخطأ بعد أن قرأت كلام الراسخين في العلم.
وإني أسأل الله أن يهدي الجميع لما فيه خيرا الدنيا والآخرة، وأدعوا أخواني ممن انجرفوا خلف آراء المضللين وما يتوافق مع أهوائهم الباطلة، أن يقرأوا ويسمعوا آراء العلماء الربانيين، وطلبة العلم المتمكنين فيما يجري الآن من خلافات وخطوب، وحوادث وفتن، يقف عندها الحليم حائراً.
وإني أعيد وأكرر وأشدد في تحريضي جميع الأخوة والأخوات، صغاراً وكباراً على قراءة ذلك الكتاب، أو غيره من الكتب المسط-ـرة بأيدي أناسٍ ثقات بلغوا منزلة عالية من العلم والحكمة في النظر إلى الأمور، وكيفية معالجتها بما يتوافق مع الشرع الإسلامي الحنيف.
كيف نتعامل مع الإرهاب
في إحدى المناسبات العامة، وبينما كان الحضور يتسامرون ويتهامسون كل اثنين أو ثلاثة على حدة، بعضهم يتحدث عن الأسهم، وآخرون عن العقار وجماعة ثالثة تتجادل في أمور تخص كرة القدم والتعصب الرياضي.
فجأة وبلا مقدمات انفضّ كل رفيق عن رفيقه، واتّجهت أنظارهم إلى اثنين من الحضور كانا يتهامسان ويتجادلان في أمرٍ ذي أهمية بالنسبة لهم جميعاً، ومع احتدام النقاش وحرارته. ثار أحدهما على صاحبه قائلاً: بل يجب أن نطاردهم ونقاتلهم فلا نبقي منهم أحداً على وجه الأرض، دون أن نسمع منهم أو نلبي لهم مطلباً.
بالطبع كان ذلك بصوت منفعل أثار فضول الحاضرين وأجبرهم على الإنصات والاستماع لما يتحدث به هؤلاء الاشخاص، وما يتوصلان إليه من نتيجة، خاصة وأن هذا الموضوع هو حديث الساعة، ويهم الجميع صغاراً وكبارا، وكل يود لو أدلى بدلوه في هذا الموضوع، وأظهر شيئاً من الولاء والتعاطف لهذا البلد وأهله، وفضفض عن بعض ما يكنه من كراهية وحقد لتلك الأعمال البشعة ومن يقوم بها.
وعلى الرغم من أن تلك المشاعر موجودة في صدر كل واحدٍ منهم إلا أنهم حين طرح ذلك الموضوع المتعلق بكيفية التعامل مع الإرهابيين، وإمكانية التفاوض معهم، وتلبية مطالبهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام.
قسم فضّل الصمت وعدم الخوض في هذا الموضوع، ولكنه في قرارة نفسه لن يختلف مع ما يتم التوصل إليه، وسوف يقوم باتّباع رأي أقوى الفريقين حجة وأبلغهم خطاباً وأفضلهم منطقاً.
وقسم آخر كان يرى أنه لابد من التحاور وتلبية المطالب، مهما كانت؛ درءاً للمفسدة وحقناً لدماء المسلمين.
وقسم ثالث يصر على أن هذه المعركة لن تحسم إلا بالقوة.
تكلم أحد الأخوة من القسم المحايد وقال: أنا أتكلم عن نفسي ولا أمثل أحداً، وإن كان هناك من يوافقني الرأي، ولكن المجال مفتوح، وكل يدلي بدلوه، وها أنا أناشدكم أن نتكلم بموضوعية قبل كل شيء، بعيداً عن الانفعال، لعل الجميع يستفيد، ونريد أن نبتعد عن العاطفة والمزايدة غير المجدية في الكلام بل نود أن نسمع من كل فريق وجهة نظره، وأنْ يبين لنا الكيفية التي يرى أنها الأنسب في التعامل مع الحدث، بشرط أن تكون مدعَّـمة بالأدلة والبراهين، وإن سمحتم لي أن نبدأ بالفريق الذي يرى ضرورة الحوار وتلبية المطالب، فهل بالإمكان أن يتفضل أحد الإخوة ويحدثنا عن وجهة نظره في هذا الموضوع، شريطة أن يصغي الجميع دون مقاطعة أو تعليق، حتى يفرغ الأخ المتحدث من مداخلته، ثم نفسح المجال لمن يريد أن يعلق أو يدلي برأي مختلف.
قام أحد الإخوة ويدعى أبا إبراهيم وقال: أولاً وقبل كل شيء أحمد الله وأشكره على نعمة الأمن والرخاء اللتين ينعم بهما جميع القاطنين في هذا البلد من مواطنين ومقيمين، ثم إن ما يحدث في بلادنا أمر طبيعي، ولا يجب أن نعطيه أكبر مما يستحق من اهتمام، ونفرغ أنفسنا، ونترك مشاغلنا، ونضيع أوقاتنا، ونستنزف طاقتنا لمناقشته، ومحاولة القضاء عليه بطريقة عنيفة، والانسياق خلف من يقومون بأعمال العنف، ومبادلتهم الأسلوب وجعلهم يتحكمون بنا وبالطريقة التي نعالج بها أمورنا.
فنحن مجتمع جبلنا على استخدام اللين في معالجة جل أمورنا ولا نلجأ للعنف أبداً إلا في أضيق الحدود، متى أجبرنا على ذلك وفي أمورٍ تستحق منا استخدام العنف في المعالجة.
أما مع مثل أولئك المغرر بهم من المراهقين والجهلة فواجبنا أن نمد لهم أكفنا، ونفتح لهم صدورنا وآذاننا لنسمع ما يقولون، فربما كانت لهم مطالب لم تلبَ، ومشكلات لم تحل، وشكاوى لم تسمع، ولولا ذلك لما قاموا بما أقدموا عليه من قتل وتدمير، وأخشى ما أخشاه أن يكون في جعبتهم المزيد، وفي أذهانهم العديد من الأهداف التي ينوون مهاجمتها، إن لم نسمع منهم ونستجيب لمطالبهم، ومهما تكن تلك المطالب، فلن يضيرنا تلبيتها، وبالتأكيد ستكون استجابتنا أخف وطأة من ردود أفعالهم في حال امتنعنا عن الإصغاء والإذعان.
وإن سماه بعض الناس إذعاناً وخضوعاً ورضوخاً للمطالب، فيجب علينا أن نقول إنها نوع من الديمقراطية أو الاعتراف بالمعارضة والسماع لها. وهذه كما أسلفت وجهة نظري وأظن بعضكم يتفق معي، وبالتأكيد أن بعضكم لديه المزيد من الإيضاح حول موضوع الحوار، ولكن دعونا نسمع رأي الإخوة الذين يفضلون مبدأ القوة وسيلة أساسية في القضاء على تلك الفئة الضالة، وردع من تسول له نفسه سلوك منهجهم، واتّباع طريقتهم في المطالبة والتظلم.
تقدم أحد الحضور، ويكنى بأبي صالح، وقال: في الحقيقة أنا أتفق مع الأخ أبي إبراهيم في بعض ما قاله، ولكني أختلف معه في جوانب أخرى.
أولها أنه حين تحدث عن المطالب والمظالم لم يذكر أي مطلب من مطالبهم، وإن ردد بعضهم مواضيع كالبطالة، والغلاء بأصنافه، وانتهاك حرمات الله في بعض مجالات الحياة في مجتمعنا، ولكن كل تلك المطالب غير صحيحة، ولا يجدر بمن يقتل أخاه المسلم، ويهدم منزله، ويهدر دمه، ويكفّره وييتم طفله، ويرمّل زوجته، ويثكل أمه، أن يدافع عن أيٍ من تلك الأمور آنفة الذكر، وإن وجدت ولا ندعي عدم وجودها، ولكن لا ننس أن جميع المجتمعات في مختلف الأزمنة والعصور والأماكن لم تتحقق بها مثالية مطلقة تنتفي معها الجريمة والتعدي على حق الآخرين وعدم انتهاك حرمات الله، وإن شئتم فعودوا لأمثلها خير القرون العهد الذي عاش فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، زمن عاش فيه صبي مات حسرة بسبب ارتكابه معصية، ذلك العصر الذي كان فيه الوحي يتنزل على زعيم الأمة وقائدها ومرشدها ودليلها ، فيخبره عن كل ما يحدث. وعلى الرغم من ذلك كله، ففي ذلك الزمان الفاضل، والبقعة المباركة، والصحبة الخيرة، كان هناك المنافق والزاني والسارق، بل وحتى مدّعي النبوة، في عهدٍ نزل فيه الوحي بقوله : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب:40)
أظننا نتفق على عدم وجود مجتمع مثالي يخلو من الجريمة والمخالفة بشتى أشكالها وأصنافها، إذاً والحالة تلك دعونا نتفق أولاً وقبل كل شيء على أن من يحاول أو يدعي الإصلاح بالعنف والإرهاب والإرجاف والغلو والتطرف والتخريب والتدمير ليس مصلحاً، ولا يجدر بنا أن نطلق عليه أي صفة تحمل الخيرية، فإذا كان الله يأمر نبيه بالدعوة والمجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة بقوله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125). فإن رفض العنف والقوة من باب أولى.
ولكي أزيدكم إقناعاً اسمحوا لي أن أتطرق لمبدأ قاله وعمل به صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز - وزير الداخلية ورأس الهرم الأمني في بلد الحرمين الشريفين - حين يقول: ( ليس لدينا سوى البندقية والسيف لتلك الفئة الباغية) ومبدأ آخر مكمل للأول ( أبوابنا مفتوحة لكل تائب من تلك الفئة الباغية) أنا على يقين أن الجميع يرحب بالمبدأ الثاني، وهناك فئة لا تحب العمل بالمبدأ الأول، ولكن دعونا وبكل حيادية وتجرد نلقي نظرة سريعة على الإرهاب والتطرف بإشكاله على مر العصور، ومن مختلف الفئات، ونرى كيف تمت معالجته والتعامل مع أهله، ومن ثم يعطي كل واحد منا رأيه حول الطريقة المثلى في التعامل مع الإرهاب وأهله.
فأقول مستعيناً بالله : إنه من المعلوم أن الإرهاب موجود منذ الأزل وليست البشرية حديثة عهدٍ به وهو يصدر من كلا طرفي التجمع البشري الحاكم والمحكوم، فإن صدر من الحاكم سمي استبداداً، وإن صدر من المحكوم سمي تطرفاً، وإرهابٌ ويصدر من الحاشية أو البطانة القريبة من الحاكم كما أحدثه البرامكة في العصر العباسي، ولكن دعونا نركز على الحاكم والمحكوم ونلقي الضوء على الجانب الأهم في حديثنا، وهو الطريقة التي تعامل بها الطرفان مع بعضهما ـ وأقصد بالطرفين هنا طرفي الفكر المستبد أو المتطرف والفكر الوسط أو المنافح عن الحق ـ والجانب الثاني يتعلق بالنتيجة التي حسمت الصراع.
ولنبدأ بأهم الأحداث وأكثرها ذكراً في القرآن الكريم، تلك الرسالة المليئة بالأحداث والمتغيرات، حين بعث الله نبيه موسى ، وأرسله إلى فرعون، وفي هذه الحادثة جانب مما نراه صراعاً بين الحق والباطل، بين صاحب الفكر المنحرف وهو الحاكم المستبد هنا الذي لا يرى الأمر كما نراه وكما يصفه الله ، بل يقلب المفاهيم فيحول المعروف منكراً والإصلاح فساداً، وفي ذات الوقت يدعو للحوار ومقارعة الحجة بالحجة، ولكنه حين يخسر لا يرضخ للمطالب وينفذ ما تعهد به.
ولنذكر سرداً لتلك الحادثة من كتاب الله ونرى كيف كان النقاش والجدال بين الفكرين حيث يقول الله : وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ (الأعراف:104-ـ105) أراد فرعون أن يرى ما لدى موسى في قوله : قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (الأعراف:106-107-108) وبعد أن شاهد فرعون بنفسه حقيقة ذلك الرجل وصحة وصدق ما يدعو إليه هل اقتنع؟... لا بل زعم فرعون وملؤه أن ما جاء به سحر مبين، وأن هدفه من ذلك السحر هو إخراج أهل المدينة منها والاستيلاء على الأرض.
فرأوا ضرورة مقارعته بحجة أقوى من حجته، وتحديه بنفس الوسيلة التي يستخدمها، حيث يقول : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَ--وْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (الأعراف:109-110ـ111ـ112ـ113ـ114).
حتى انتهت تلك المناظرة بهزيمة فرعون وإيمان السحرة، وهذه بحد ذاتها حجة دامغة، فهم أعرف الناس بما جاء به نبي الله موسى ، وما إيمانهم ورجوعهم عن غيهم إلا لما رأوا من صدق موسى وما جاء به، ولكن هل يستجيب صاحب الفكر المتطرف المستبد؟... بالطبع لا ...إلا من رحم ربك.
ولكن ماهي حجتهم هذه المرة؟ حيث يقول : وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ ابناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (الأعراف:127) إذاً بعد كل ما رأوا ما زالوا يكابرون ويتهمون موسى بالإفساد في الأرض. ويبدأ الإرهاب الحقيقي بقول فرعون: سنقتّل أبناءهم.. كما يقول في الآية السابقة، ثم يبدأ التخويف والتهديد من الله بمنع القطر وقلة المؤونة لعلهم يعودون حيث يقول : وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأعراف:130) ولكن دون استجابة، ثم تجيء عقوبات أشد فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (الأعراف:133)
كل ذلك على فترات متفاوتة لعلهم يرجعون، وفي كل مرة يتعهدون بالإيمان والاتّباع، فضلاً عن إرسال بني إسرائيل، وإخلاء سبيلهم، والكف عن استعبادهم، وعند تلبية مطالبهم، وكشف ما بهم من ضر إذا هم ينكثون، حتى كانت النتيجة النهائية والحل الأمثل من لدن حكيم عليم بالقضاء عليهم وإغراقهم فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (الأعراف:136) .
إذا اتضحت لنا طريقة الحسم في واحدة من أعظم ملاحم الحرب الفكري والصراع بين الحق والباطل، ولم تكن نتيجة الإهلاك والتدمير لأولئك المستبدين، بل كانت أيضاً لمن سبقهم كقوم نوح وعاد وثمود، وإن اختلفت طريقة التنفيذ ولكن النتيجة كانت واحدة.
بل إن إرهاب قريش ومحاولاتهم العديدة الاعتداء على رسول الله والتضييق عليه والتخطيط لقتله حتى هاجر وترك أرضه وأعز البقاع إلى نفسه، ولم يمكنه الله منها إلا بعد أن مك-ن رسوله ، وأهلك طغاة قومه في غزواته المتتابعة، حتى دخلها فاتحاً قوياً عزيزاً، وعندها بسط يديه بالعفو وقال كلمته الشهيرة اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهو تمكين من لدن عزيز حكيم، وحال يحبه الله لعباده المؤمنين، ويصفهم بعدة أوصاف، من نبذ للفواحش، واستجابة، وصلاة وزكاة حتى يقول : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (الشورى:39). فالأمة المؤمنة هي تلك القادرة على دفع الظلم عنها والقضاء على من يريد بها سوءا، وفي المقابل فإنه سبحانه ينهى عن الهوان والدعوة إلى السلم مع الكفار، وهؤلاء المرجفون أشد خطراً منهم، وذلك حين يقول : فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (محمد:35) .
هذا فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الحاكم المستبد، ولكن ماذا عن خروج الرعية وتطرفهم وبغيهم؟ وكيف ينبغي التعامل مع مثل تلك الحالات؟ سأورد بعض الأمثلة على الخروج وكيف كان الحوار غير مجدٍ على الإطلاق.
ودعوني أذكر على عجل مقتل خليفة المؤمنين عثمان بن عفان على يد الخوارج في عصره، حين لم يتم التعامل مع تلك الفتنة كما ينبغي، ولم ينته ذلك الفكر عند هذا الحد، بل تعداه إلى مقتل علي بن أبي طالب ، مروراً بمقتل الحسين بن علي . وفي كل تلك الأحداث كان باب الحوار مفتوحاً على مصراعيه، ولم يغلق حتى بإراقة دماء المسلمين.
ولكن دعونا نتطرق لحادثة من أعظم الحوادث والفتن التي حدثت للأمة الإسلامية على مر عصورها وأزمنتها، حادثة بدأت بالحوار الذي لم يكن مجدياً وانتهت إلى ما لا تحمد عقباه.
ففي عهد عبد الملك بن مروان أخذت فئة تطالب بإعادة النظر في الطريقة التي يسير بها الحجاج بن يوسف الثقفي ـ العراق وأخذوا ينادون بتنحيته وعزله، وكان على رأس تلك الفرقة شخص يدعى عبد الرحمن بن الأشعث ـ وحين كثر أتباعه وقوي صوته خشي الخليفة عبد الملك بن مروان أن تكون فتنة، خاصة وأن ذلك الشخص مدعومٌ بنخبة من العلماء في ذلك الزمان، وعلى رأسهم التابعي الجليل سعيد بن جبير، و الشعبي، فحاول عبد الملك في ذلك الحين محاورتهم وتلبية مطالبهم، شريطة أن يعودوا لرشدهم، وكان من أهم ما وعد بتنفيذه تحقيق مطلبهم الرئيس وهو عزل الحجاج. لكنهم عندما أحسوا الخليفة استجاب لمطالبهم، حسبوه ضعفاً منه وطالبوا بالمزيد حتى وصلوا إلى مطالبته بالتنحي عن الخلافة لزعمهم أن الفساد قد تفشى في عهده، حينها أحس عبد الملك بن مروان أن الحوار غير مجدٍ معهم، وأمر الحجاج بمقاتلتهم فوقعت معركة عظيمة بينهم، راح فيها خلق كثير، حتى قيل إن عدد القتلى بلغ مئة وخمسين ألف مسلم، وانتهت تلك الموقعة بهزيمة جيش عبد الرحمن بن الأشعث وإخماد الفتنة.
هذه إحدى الحالات، وزمننا المعاصر لا يخلو من الفتن والحوادث التي أشعلها الخوارج والمارقون، ومنها احتلال الحرم المكي الشريف في مطلع القرن الهجري الحالي، ولم تخمد تلك الفتنة بالحوار بل بالبندقية.
هذه الحادثة وغيرها الكثير من الحوادث التي لم تحسم إلا بالقوة؛ لأن من يتخذ العنف منهجه ووسيلته في المطالبة لا ينفع معه غير القوة أما التسامح واللين فغير مجدٍ، ولا يزيده إلا طغياناً واستكباراً.
ولتقريب الصورة وطرح الموضوع بشكل أكثر واقعية نضرب مثلاً: فنقول: لو أن شخصاً أخذ مشرطاً وشق به صدر شخصٍ آخر، وعند سؤاله لمَ فعلت هذا قال: أنا أمتهن الطب، وأردت إزالة ورم خبيث من داخل جسد ذلك المريض، لقلنا إنه فعل صادر من شخص ذي علم، له الحق فيما أقدم عليه ويستحق الشكر على صنيعه، ولكن لو أن أحد الأشخاص قام بضرب طفل صغير ـ وليكن ابن أحدنا ـ على رأسه فأفقده، الوعي وعند سؤاله إن كان هناك مجال للسؤال قال: رأيته عمل خطأ أو تصرف بطريقة غير مناسبة فأردت نهره وتأديبه، ولم أقصد إيذاءه، فهل نقتنع بقوله؟!. وأنا على يقين، ومدرك تماماً لردة فعل المعني بالأمر. بل وحتى غير المعنيين به، فكلّهم سوف يطالب بالعقاب والاقتصاص من ذلك الفاعل.
فإذا كان الجميع يرفض مثل ذلك الفعل، ويجرّمه ويطالب بمعاقبة من قام به، ولا يقبل له حجة أبداً، فكيف بنا نرضى بمن يريد تدمير مجتمع بأكمله، وإشاعة الفوضى في كل أرجائه، وسفك دماء من يخالفه، أنرضى عنه ونكافئه بالحوار؟!... هل نشجعه ونتعاطف معه؟!... إن كنا جرمنا من اعتدى على صبي أخطأ فكيف بنا نقف حيارى مترددين أمام تلك النوعية من البشر، المتعطشة للدماء، المتلبسة رداء الفضيلة، العاكسة صورة سيئة عنا وعن ديننا أمام العالمين!...
هل ما زال منا من يتعاطف معهم، وقد فاحت رائحتهم النتنة وأفسدت أمزجة من سمع باعتداءاتهم على الآمنين والمستأمنين في هذا البلد!...
هل ما زلنا نعدّهم جزءاً منّا؟ ورائحة متفجراتهم وبارودهم وآلاتهم التدميرية تزكم أنوفنا، وأحد اعتداءاتهم الآثمة على مبنى أحد المؤسسات الخدمية المدنية، وقتلهم من كان يقول ربي الله، رغم علمهم أن جميع من في ذلك المبنى موحدون.
هل سنظل مترددين ولا ندينهم، ونطالب بالحوار معهم، حتى يقال مات ابنك أو بنتك أو أحد أقاربك حين كان يمر مصادفة بأحد المواقع التي انتقاها أولئك المخربون ليصلحوا بها البلاد!...
هل ستطالب حينها بمحاورتهم وسماع مطالبهم؟!... فأنت حينها أحد اثنين: إما أن تمد يدك لتصافح من قتل ابنك وتطالب بالعفو عنه ومكافئته على فعلته التي لم تكن الأولى، مخالفاً في ذلك قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة:178). فالله توعد من عاد بالعذاب وشدة العقاب، وأنت تطالب بالصفح والمغفرة، رغم علمك أنها ليست السابقة الأولى لهم، ولن تكن الأخيرة إن تركوا يسرحون ويمرحون.
والحالة الثانية بالنسبة لك أن تشجب وتستنكر وتطالب بمعاقبتهم، وعدم التسامح معهم، وإيصاد جميع أبواب الحوار في وجوه أولئك القتلة، فنقول حينها إنك رجل لا تهتم بأمور المسلمين، ولا تشعر بمصابهم، وتتعامل مع ما يلم بهم من حوادث بمنطق أناني بحت، فحين كانت دماء المسلمين تراق لم تبال، وإن أظهرت تأثرك وعدم رضاك، ولكنك في حقيقة الأمر كنت تبارك الفعل بمطالبتك فتح باب الحوار معهم.
أما حين وقع الفعل بشكل مباشر عليك، اختلفت نظرتك وتبدّلت آراؤك، وتحوّلت وجهتك، وأصبحت تنادي بإدانتهم، بل وتطالب بمعاقبة من يتعاطف معهم ويسوّغ أفعالهم.
إذا كان الحال كما ترى، والأمر قابل للتطور ما لم يحسم بسرعة ويقضى عليهم، فإننا بانتظار المزيد من الضحايا والإفساد، ومن يدري فربما تكون الضحية القادمة هي أنت يا من تنافح عنهم.
أقول هذا الكلام لأوضح وجهة نظر قابلة للخطأ والصواب استقيتها مما فهمته من خلال قراءتي لكتاب الله ، ومما درسته من الأحداث التي وردت في الأزمنة السابقة وهي لنا عبرة، ونسأل الله أن نعتبر بغيرنا، لا أن يعتبر غيرنا بنا، وأن نكون قدوة لمن يسمع عنا ومن يأتي بعدنا، فقد قال حكيمنا: إن باب التوبة مفتوح لمن أناب، وهذا كاف لرجوع الصادقين منهم والمغرر بهم، أما البغاة المتعطشون للدماء ومريدو الفساد فليس لهم إلا السيف والبندقية. والله أسأل أن نكون قلباً ويداً واحدة، نقف خلف ولاة أمرنا، وندعمهم، ونساندهم، فنستقبل التائب وندله ونساعده، ونمقت الباغي ونقضي عليه.
كيف نتقي الإرهاب؟
في صلاة العشاء وبينما كنا في التشهد الأخير، والإمام يهم بالتسليم معلناً لعموم المصلين انتهاء لحظات كنا منقطعين فيها عن الدنيا مقبلين على الآخرة، كل يناجي ربه ويسأله حاجته، إذا بصوت موسيقى صاخبة ظننتها في البداية منبعثةً من إحدى السيارات المارة بجوار المسجد، مع أن هذه العادة الشائنة اندثرت ولله الحمد فلم تعد تزعجنا، إلا أن ظني لم يكن في محله، واستمر ذلك الصوت النشاز بضع ثوان أظنها أطول من الصلاة بأكملها لما سببته من إزعاج وانتشال المصلي عنوة من دار إلى دار، فمن خشوع ووقوف بين يدي الرحمن إلى عالم صاخب مزعج دون مقدمات أو تمهيد، وحيث ثبت علمياً أن إنهاء الصلاة بالسلام عن طريق الالتفات يميناً وشمالاً أفضل طريقة لإخراج دماغ الإنسان وأحاسيسه من حال إلى حال - لا أود الإسهاب في هذا الموضوع - ولكني رغبت أن أبين للقارئ الكريم أهمية السلام في الصلاة ومقدار الإزعاج الذي يحدثه أي منغص أثناءها.
وبعد أن سلم الإمام والموسيقى ما زالت تعزف لأن المصلي - كما يبدو لي - كان ينتظر مكالمة هامة بالنسبة له فلم يشأ أن يغلق الجوال ولم يتبق من الصلاة إلا لحظات قليلة جداً، لذا فقد فضل أن يترك الموسيقى ترن على أن يخسر المكالمة. وبعد أن سلم الإمام قام بسرعة ولم يرد على الاتصال فهو خشي أن يزعج المصلين في حال قيامه بالرد على المتصل، متناسياً الإزعاج الذي يحدثه جواله لهم.
وقبل أن يخرج من المسجد لحقه أحد الأخوة المصلين وبصوت عالٍ أفزعنا وأنسانا صوت الموسيقى.
قال لصاحب الجوال: قف مكانك وسلم الجوال في الحال ـ كما يحدث في الأفلام الشرطية ـ وأخذ الجوال منه ورماه بقوة شديدة جدا فاصطدم بجدار المسجد الخلفي وتكسر عدة قطع سقطت بعضها على المصلين في الصفوف الخلفية. ثم تركه وانصرف.
فقال أحد المصلين وبصوت منفعل جداً: إنه ليس من حقك التصرف بهذه الطريقة.
فرد عليه وهو يهم بالخروج من المسجد: إنه أزعجنا في صلاتنا وأفسد علينا خشوعنا.
فرد عليه ذلك المصلي بالقول: إن النهي عن المنكر بهذا الأسلوب وعن طريق التعدي على ممتلكات الآخرين ليس من الدين في شي.
فرد عليه بكلمة أظنها أسوأ ما في الحدث حين قال: إيه ... ليبقى دينكم لكم.
ولسان حاله يقول: وأنا أعالج الموضوع بطريقتي الخاصة. حيث لم يعجبه رفض المصلين لما قام به لكونه مخالفاً لتعاليم الإسلام، فرد بتلك العبارات التي تنم على عدم قبوله فكرة أن فعله مخالف للدين.
والحقيقة أنّ لي وقفة عند هذه المقولة بالذات، وهي أن الغيرة على الدين قادته إلى ردة فعل أشد وأقسى من الفعل نفسه، وإن كان للفعل سلبية واحدة وهي إزعاج المصلين بالمعازف المحرمة، فإن ردة الفعل لها عدة سلبيات أذكر منها:
إتلاف مال الآخرين.
والمشاحنة والمجادلة مع أحد المصلين في المسجد وبعد الصلاة مباشرة.
وأيضاً إفزاع المصلين ومضايقتهم بردة الفعل العنيفة.
وأخيراً وليس آخراً التلفظ بكلمات وإن كانت غير مقصودة إلا أنه يخشى على صاحبها من عواقبها حين يقول: دينكم لكم، وأقلها عدم الالتزام بتعاليم الدين حين توجيه النصيحة.
وإن كنت على الرغم من كلامي هذا لست ضد ذلك الشخص، بل أنا معه وأؤيده تماماً في الجانب المتعلق بغيرته وحميّـته ورفضه مثل تلك النغمات الصادرة من جوال ذلك المصلي أثناء الصلاة.
ولكني على الجانب الآخر أخالفه تماماً في ردة فعله وأسلوبه في معالجة الموقف، وكان من الأجدى لو استخدم أسلوب سيد الخلق محمد في كثير من المواقف المشابهة ومنها طريقة معالجته للموقف حين بال الأعرابي في المسجد. ولنقارن بينها وبين ردة فعل بعض الصحابة ممن شهدوا الحدث. كما أنه يتوجب علينا وعند معالجة أي موضوع كهذا أن نراعي عدة أمور مهمة ونتأكد من تحققها وتوافرها في نفس الوقت لا توافر بعضها فقط وهي:
أولاً: فعل ما ينبغي.
ثانيا: كما ينبغي.
ثالثاً: في الوقت الذي ينبغي.
كما أن هناك قاعدة شرعية تقول: إن الضرر الأصغر لا يدفع بضرر أكبر منه. فإن ترتب على إزالة منكر حدوث منكر أعظم منه وجب عدم إزالة ذلك المنكر.
أعود لحادثة المسجد التي لم تنتهِ داخله فقط بل امتدت لنقاشات ساخنة بين بعض المؤيدين والمعارضين.
حيث قال أحد المؤيدين: إن تصرف ذلك الأخ الفاضل هو التصرف الأمثل الرادع لكل من تسول له نفسه المساس بحرمة بيوت الله وسوف يترتب عليه إقفال جميع مرتادي المسجد لجوالاتهم أثناء الصلاة أو تغيير نغماتها، وإني لأتمنى أن تكون ردود الأفعال بنفس القوة دائماً وأبداً وفي جميع المواقف، لأن ذلك سوف يعيد لديننا هيبته وكرامته.
فرد عليه أحد الأشخاص المعارضين لتصرف ذلك الأخ بالقول: إنه كان من الأجدى عدم التصرف بتلك الطريقة، لأنها تنم على جهل بمقاصد الكتاب والسنة وطريقتهما في إنكار المنكر، كما أن ذلك الشخص جاهل بوقائع الأمور وملابساتها؛ لأنّي أعرف صاحب الجوال وأعلم أنه مختل عقلياً فلو تثبت صاحبنا لما قام بذلك التصرف، ثم إن ردة فعله تلك تنم على إتّباع هوى ورأي شخصي غير مدعم بنصوص شرعية، ثم أتبع تصرفه باستعلائه واحتقاره للآخرين حين رفض نصحهم له، أي أنه أجبر غيره على إتّباع نصحه وإرشاده، بينما رفض مناصحة الآخرين حين أتت في غير ما يهوى، كما أن الدين يرفض الأعمال المتطرفة وذاك العمل أحدها، وهو نواة لما هو أكبر إن لم يتم تثقيف المجتمع وتوعيته بما يصح وما لا يصح.
فرد عليه أحد المؤيدين قائلاً: إن تلك الأعمال - وأقصد ترك الجوال بموسيقاه الصاخبة - تسيء لديننا الحنيف، ويجب علينا التعامل معها بحزم، لا بتودد وخنوع، وإظهارنا وديننا بموقف الضعيف الذي لا يستطيع دفع الضرر عن نفسه، وهذا بالضبط ما يريده أعداء هذا الدين.
فقال أحد المعارضين: إن أعداء الدين كما تفضلت يريدون الضعف والهوان والإساءة لهذا الدين بشتّى الوسائل والسبل، ولكن ليس بالمهادنة وضبط النفس، بل هم يريدون أن يكون المسلمون متطرفين متشددين في معالجة قضاياهم، بل ويتبنون أعمالاً تهدف إلى نشر الفرقة والتناحر بين أبناء المسلمين، لا يريدونهم أن يكونوا كما قال الله : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الفتح:29) فأعداء المسلمين لا يريدونهم كذلك بل يريدون أن يجعلوهم متناحرين ضعفاء أذلة أمام أعدائهم، ولا يتحقق ذلك إلا بفرقتهم وتناحرهم، لذا فهم يسعون جاهدين لإشغالهم بالمسائل الجزئية وتشتيت أفكارهم عن الأهداف والمقاصد الرئيسة كنشر الدين، والقضاء على البدع والخرافات، والاهتمام بالجوانب التنموية والاقتصادية والصناعية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير.
فقال أحد الأشخاص وقد رغب أن يكون الحديث أكثر فاعلية وشمولية بدلاً من التقوقع على تلك الحادثة وتحميلها ما لا تحتمل: ولكن كيف يمكن لنا أن نحمي أنفسنا وديننا من كل ما يمكن أن يسيء له، وأن نوقف مخططات الأعداء الهادفة إلى الإساءة إلى هذا الدين، وتشويه سمعته وتنفير الناس منه؟.
فرد عليه أحدهم قائلاً: يجب أن تعلم أولاً أننا لو تكاتفنا وأخلصنا في عملنا وأدى كل منا ما هو مطلوب منه فلن تستطيع أي قوة في هذه الدنيا التغلب علينا؛ لأنه ما شادّ أحدٌ هذا الدين إلا غلبه، وهذه مقولة من لا ينطق عن الهوى . أما كيف يتحقق ذلك فبكل بساطة أقول: إن ذلك يكمن بالأخذ بالوسطية: فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو وتطرف ولا انحلال وتفسخ، بل الوسطية كما أرادها لنا ربنا عز وجل، وأثنى علينا بسببها حيث يقول : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.. إلى آخر الآية (البقرة:143)
ثم التيسير على الناس وترغيبهم في الدين لا التشديد عليهم وتنفيرهم منه، كما يأمر بذلك حين يقول: ( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) ثم لا ننسَ أمراً في غاية الأهمية وهو الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، ولا يقتصر ذلك على الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والنهي عن شرب الخمر والربا والكذب فقط، بل يجب أن يتعداه إلى ما لا يقل عنه أهمية وهو أمر الناس وخاصة المغالين والمتطرفين أو المنحلين بوجوب لزوم جماعة المسلمين والأخذ بالوسطية في جميع أمورهم وردهم عن تطرفهم بالتي هي أحسن وعدم تركهم ومجاملتهم أو الخوف منهم.
وأخيراً لا ننسَ أن أهم تلك العناصر السالفة الذكر رابعها وهو: الالتفاف حول إمام المسلمين، وطاعته والدعاء له ومناصحته، وعدم الخروج عليه مهما بدر منه، كما يقول محمد : حتى لو ضرب ظهوركم بالسياط إلا أن يبدر منه كفر بواح.
والحمد لله أننا لم نر هذا ولن نراه بإذن الله في إمامنا، بل على العكس تماماً فما نراه هو الدعوة إلى التمسك الدين، ودعم الأعمال الخيرية وتشجيعها، وهذا بحد ذاته كاف.
أما الانسياق خلف أصحاب المصالح الخاصة فلا أراه إلا سبباً رئيسياً لفرقة المسلمين وهوانهم، وإن كان من ينادون بالإصلاح ينشدونه فعلاً، فأقول لهم: إن الإصلاح لا يأتي عن طريق الفرقة والتناحر، والخروج على ولي الأمر، بل بمؤازرته ومناصحته والوقوف معه، والله أسأل أن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الحق وتعينهم عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لا تكن إرهابياً يا بني
يهوى ذلك الشيخ الوقور مجالسة ابنه ذي الثمانية عشر ربيعاً، فيمازحه ويلاطفه حيناً، ويناصحه ويصارحه حيناً آخر، ومرات يغلظ ويشتدُّ عليه بالقول حتى يكاد يقطع أنفاسه.
وبالطبع فالشّاب يتقبل جميع المواقف ويأنس بجميع اللحظات التي يقضيها مع والده، حتى وإن قسا عليه وعن-ـفه في بعضها، فهو يعرف والده تماماً، ويعلم علم اليقين أن غضبه وقسوته نتاج محبة ومودة وليس كرهاً وعداء.
وبالطبع شعوره وتفكيره بهذه الطريقة ليس شيئاً ف-طر الشّاب عليه، بل هو أمرٌ اكتسبه وتشرّبه منذ صغره، وحفظه كما يحفظ اسمه، وأتقنه كما يتقن أحدنا فن صناعة التشكي والتظلم والمخاصمة لأتفه الأسباب، وكما يجيد بعضنا فن السب والشتم والغيبة والقطيعة.
عذراً إخواني الأفاضل وأخواتي الفاضلات أن تقرأوا هذا، ولكنها بعض الحقيقة، فنحن تعودنا على ذلك حتى أصبحت جميع تلك الفنون القبيحة جزءاً من التركيبة الشخصية للسواد الأعظم منا، وإن اختلفت من شخص لآخر، في طريقة إخراجها واستخدامها في التعبير عمّا تكنّه مشاعره، فبعضنا بفضل الله ، يمكنه السيطرة عليها، ولكنّـها مع الأسف مسيطرة على الكثيرين. أعود لذلك الشيخ الذي كان ينصح ابنه في إحدى المناسبات. حيث قال له: اعلم يا بني أن أهم ما في الإنسان ردود أفعاله وتصرفاته تجاه الآخرين، والناس يختلفون في التعبير عن ردة الفعل، فمنهم من يحاول كبتها، لكنه لا يستطيع لذلك سبيلا، وهي لا تطيق ولا تصبر على البقاء في أجساد الكثيرين، فتجدها تجاهد من أجل الظهور، فتراها تبدو من خلال تقطيبات الجبين، واحمرار الوجه، وتصبب العرق، وارتعاش الأطراف، وتلعثم اللسان. وهي تكاد تقتله بعد أن خنقته وشلت تفكيره وفجرت الدماء في أطرافه وأجبرت مضخته على دفع الدماء بقوة إلى جميع أجزاء جسده بكميات لا يقوى على استيعابها، فتصيبه في مهلك، وتسبب له من العاهات والأمراض ما الله به عليم.
فقال الشاب: يا إلهي هذه حال تلك الفئة التي آثرت الصمت وعدم الرد على الإساءة بمثلها، فكيف هي ردود أفعال الأصناف الأخرى؟.
فقال الوالد: هناك فئة من الناس تحاول الرد مباشرة على الإساءة بمثلها، أو بما هو أشدّ وأقسى من الاعتداء نفسه، آخذة مبادئها في التعامل مع الآخرين وطريقتها في الرد على جهالتهم من قول الشاعر زهير بن أبي سلمى المزني:
(ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه .... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم).
فقال الابن: أليس من حقهم الانتصار لأنفسهم عملاً بقوله : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل:126).
فردّ الأب: بالطبع يا بني!... فالله لم ينههم عن ذلك، ولكن يجب أن يكون الرد بالمثل فلا يزيد عنه من باب الانتقام، كما هو حال الكثيرين، ثم إن الله بيّن أن العفو والصبر خير، كما قال في تتمة الآية التي ذكرت: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وقوله : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (الشورى:43). وقوله : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى:40). وأيضا يقول واصفاً المؤمنين: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (الشورى:37). وهو وصفٌ ينطبق على حال الفئة الأولى التي تكتم غيظها ولا تظهره، وإن بدت ردود الأفعال على الوجه والأطراف فلا بأس، لأن هذا خارج عن الإرادة في معظم الأحيان.
ثم إن الله يقول: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى:41-42). وهم أولئك المعتدون على أموال المسلنين وأعراضهم ودمائهم المسلمين بغير حق، وتلك هي الفئة الثالثة. ولكن قبل أن أحدِّثك عنهم، دعني أخبرك بما روي عن أحد السلف، ويقال له محمد بن واسع، حيث سأله مروان بن المهلب - وكان أميراً على البصرة في ذلك الوقت - عن حاجته..
يقول محمدٌ قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي،
قال: ومن أخو بني عدي؟
قال: العلاء بن زياد - استعمل صديقاً له مرة على عمل فكتب إليه: أما بعد، فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك، لم يكن عليك سبيل. ثم تلا قوله : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى:42).
ثم انظر يا بني وتأمل كيف كان سلفنا يوصي بعضه بعضاً ويشدّد على أهمية عدم المساس بأموال المسلمين وأعراضهم ودمائهم. وتذكّر قول الفضيل بن عياض: (إذا أتاك رجلٌ يشكو رجلاً فقل: يا أخي أعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله ، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه بابٌ واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وليكن لك في الحديث الذي رواه أبو هريرة خير عبرة وموعظة.
حيث قال: إن رجلاً شتم أبا بكر والنبي جالس، فجعل النبي يعجب ويبتسم، فلما أكثر ردّ عليه بعض قوله، فغضب النبي وقام، فلحقه أبو بكر
فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت!..
قال: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان.
ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله، إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجلٌ باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة. رواه الإمام أحمد.
فقال الابن: ولكن يا أبي كيف يمكننا السكوت والتغاضي وعدم الردّ على من يسيء إلينا؟. فإن كان أبو بكر - وأنت تعلم من هو أبو بكر - لم يصبر في حضرة رسول الله ، فكيف بنا نحن أبناء هذا الزمن الفقير للقيم والمبادئ والسلوكيات الحسنة، مقارنة بذلك الرعيل الذي عاش فيه رسول الله وصحبه وهم خير القرون.
فقال الأب: ولكن يجب عليك يا بني أن تعلم أنك وجميع من قرأ أو سمع عن ذلك الموقف الذي حدث لأبي بكر في وضعية أفضل من الوضعية التي عاشها أبو بكر تلك الساعة.
فقال الابن مقاطعاً: كيف يا والدي نكون أفضل من أبي بكر؟!!.
فردّ عليه الأب بسرعة موضحاً اللبس الذي حصل: يا بني لم أقل إننا أفضل من أبي بكر ، فهو صاحب رسول الله ومصدقه ورفيقه في الغار. ولكن قصدت الحالة، فقد حدث ذلك الموقف لأبي بكرٍ دون علمه بوجود ملكٍ يدافع عنه. فلم يصبر ودافع عن نفسه، ولو علم أبو بكر بوجود ذلك الملك لما تفوه بكلمة واحدة. ونحن حين يُجهل علينا يجب أن لا نرد، لأن هناك من يدافع عنا. ومن هذا المنطلق أقول إنّ وضعيتنا أفضل لأننا نواجه الموقف فنعلم الحالة كاملة، أما أبو بكر فلم يكن يعلمها مثلنا حين وقعت، ولكنه أدرك كل شيء بعد انتهاء الموقف وتنبيه المصطفى ، وتوضيحه لملابسات ما حدث.
فقال الابن: صدقت يا أبتي، فمن يعلم عن هذا الحديث لا يمكن أن ينتصر لنفسه، فيستبدل شيطاناً يجره إلى الخطيئة بملكٍ يدافع عنه ويناصره.
فقال الأب: اعلم يا بني حفظك الله ورعاك ووفّقك وجميع أبناء المسلمين أن هناك فئة ثالثة مختلفة تماماً عن صاحبتيها السالفتين، وهي ثلة أحمد الله قبل كل شيء أنها قليلة في مجتمعنا، ولكن صوتها مسموع وصداه يقرع الآذان في كل مكان، أفعالها شائنة منبوذة من الجميع، وجرائمها بشعة تفتك بالبريء قبل المذنب، وبالصغير قبل الكبير، وتصيب فتفتك خطأ أكثر من فتكها عمداً، وتتخبط بعماها فتخرب هنا، وتدمر هناك، قبل أن تصل لمرادها، وهو بعيد بل محال التحقيق صعب المنال.
فقال الابن: أتقصد من يطلق عليهم الإرهابيون؟!..
قال الأب: بالضبط، هم تلك الفئة التي تؤمن برأي واحد، وتعتقد وتجزم به، ولا ترى سواه، وتريد الجميع أن يقره وينصاع ويرضخ له، ولا ترى مناصاً أو مفراً من تحقيقه على المجتمع بأسره، بغض النظر عن أجناسه وثقافاته ورغباته وتوجهاته. فإن تحقق ذلك الشيء فذلك عائد لهم وحدهم ولجدارتهم ومهارتهم ومقدرتهم على الإقناع، وإن لم يتحقق، لأي سبب كان، فالويل كل الويل لمن عارض، حتى لو كان المجتمع بأسره، فلابد من تحقيق المطلب حتى ولو بالقوة، فإن كان مصدر المعارضة حاكماً كفروه وطالبوا بالخروج عليه، وإن وافقه عالمٌ سف-هوه، وقالوا باع دينه بعرض من الدنيا، وإن أيده مفكر ومثقف جهّلوه، وقالوا علماني أو ماركسي يتآمر على الأمة ويريد لها أن تهوي في مستنقعات الرذيلة، وتسلك دروب الردى والانحلال، أما إن كان المجتمع معارضاً لأفكارهم ومخططاتهم، قالوا عنهم عوام جهلة، يساقون إلى مذابحهم وهم لا يشعرون، ولا بد من إنقاذهم من الأخطار التي تحدق بهم، فهم لا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم، غير مدركين للكيفية التي يحققون بها مصالحهم، وينالون من خلالها حرياتهم.
فقال الابن: أليس لهم الحق في المطالبة بحقوقهم، وعلينا جميعاً سماع كلامهم وتفهم أرائهم؟.
فردّ الأب قائلاً: بالتأكيد، فلكل فرد في أسرة وعضو في جماعة رأيٌ لابد من سماعه، ومطلبٌ يجب تحقيقه، بشرط أن يدخل في حدود المعقول والقابلية للتنفيذ، وهو ما لا ينطبق على مطالب تلك الفئة.
فقال الابن: ولمَ لا نناقشهم ونعلمهم باستحالة القبول بمطالبهم؛ لأنها غير قابلة للتنفيذ؟.
فقال الأب: هم يعلمون ذلك، ولكن نظراً لهشاشة موقفهم وضعفه فهم يتهربون من المواجهة، ولا يرغبون في النقاش.
فقال الابن: إذا كانوا كذلك فكيف يكون لهم أتباعٌ ومناصرون يشاطرونهم نفس الاهتمامات والأفكار والآراء، بل يزيدون عنهم بالتضحية بأنفسهم في سبيل الوصول لمبتغياتهم؟!!..
فقال الأب: إنهم يعملون في الظلام، فهم كالخفافيش، لا يظهرون في وضح النهار، ولا يقتربون من العقلاء والمتعلمين، بل تجدهم يختارون ضحاياهم بعناية، ليكونوا لهم أتباعاً ومنفذين، فيشترطون فيهم ثلاثة شروط ليسـت صعبة المنال:
أولها : أن يكـون التابع في سن المراهقة ما بين خمسة عشر وخمسـة وعشرين عاماً تقريباً، فهو متحمس وقابل للانصياع والتطويع ويخاطر بكل شيء حتى حياته.
وثانيها: الجهل وقلة العلم، لحشو رأسه بما يشاءون من أفكار خاطئة ومعتقدات فاسدة ومبادئ هدّامة.
وثالثها: السذاجة والسطحية، وعدم وجود هدف يسعى إليه، أو مطلب يريد تحقيقه.
وبهذا يكون قد تشكل لديهم شخص يحمل بين أذنيه أرضية خصبة يمكن زرعها بما يريدون، وعقلية ساذجة يمكن حشوها بما يشاءون، قبل أن يقوم هو بنفسه وبكل طواعية بوضع الحزام الخاص بالمتفجرات حول خاصرته، أو قيادة السيارة المفخخة إلى المكان المراد.
فقال الابن: إذاً يبدو أننا أغفلنا جانباً مهما في حديثنا عن الإرهاب وهو ذلك الشاب الساذج ذو المستوى الدراسي المتدني العاطل عن العمل؟
فقال الأب: هذا صحيح، والقصور موجود في هذه الناحية، ويجب على الجميع التكاتف للأخذ بيد ذلك الشاب وعدم تركه لقمة سائغة في أفواه أولئك المستنفعين، الذين يريدون استخدامه في الوصول لمبتغياتهم، وتحقيق أهدافهم.
فقال الابن: لي ملاحظة مهمة يا أبي، وكلي أمل أن لا تغفلها، وهي أني ولكثرة مجالستي لك، وحديثك لي عن طفولتك وشبابك، وكيفية تعامل والديك معك، أرى أن البون شاسع في أساليب وطرق معاملة الأبناء في زمننا الذي نعيشه مقارنة بالأزمنة الماضية، ومنها زمنكم في كلتا مرحلتيه الطفولة والشباب، حيث تعامل الوالدين مختلف تماماً، وكذلك العلاقة بين المدرس والطالب في المدرسة، ونظرة المجتمع كذلك، وأظن أقراني جميعهم يحظون بنفس المعاملة، ويلحظون التغيير الحاصل، ويتفاعلون معه، ويطالبون بالمزيد منه، ولكن الإشكال يكمن في أن بعضهم لم يتنبه لذلك، ولم يلحظه بعد، فتجده يتعامل مع الجيل الحالي من الشباب بنفس الطريقة التي كان ينتهجها قبل عشر سنوات، وينظر إليهم بنفس النظرة الدونية، ويصادر آراءهم، ويسلب حرياتهم في التعبير عن أفكارهم وتحقيق
طموحاتهم وأحلامهم، متناسياً أنهم جيل الإنترنت والفضائيات والاتصالات بأنواعها، فهم مختلفون تماماً عن تلك الأجيال التي سبقتهم، فوصولهم للمعلومة والحقيقة سهل، وأسهل منه إيصال كلمتهم للجميع بعدة وسائل وطرق، مع سهولة التواصل بينهم.
فقال الأب: صدقت يا بني، لذا أرى أن على الجميع دراسة هذا الجانب الذي ذكرت وفهمه ومحاولة التعايش معه، واحتواء جميع الشباب وكسبهم، بدلاً من تجاهل ذلك، وتركهم بلا موجّ-هٍ أو قدوةٍ حسنة، فيتخبطون ويضيعون في طريق البحث عن الذات والغاية، دون وجود من يدلهم ويرشدهم إلى الطريق القويم، فيسعون لذلك بأنفسهم مما يؤدي لانقسامات ينتج عنها آثار سلبية على المجتمع، ربما تتسبب في تعطيل عجلة نموه وتطوره وتقدمه، وتعيق مسيرته، وكل ذلك يعود لأسباب كانت واضحة سهلة الحل لو تم الالتفات إليها في حينها واحتواؤها وعمل الحلول اللازمة لها.
فقال الابن: أتمنى ذلك فعلاً يا أبتي، وأرجو أن يُـلتفت إلينا معشر الشباب، فنحن وقود كل عمل، سواءً كان نافعاً صالحاً للأمة والمجتمع، أم كان فاسداً مدمراً يضر بالجميع. والكاسب الحقيقي من فاز وظفر بنا، فسيسهل عليه الوصول لأهدافه ونيل مبتغياته وتحقيق مآربه.
لستُ إرهابيا
لاحظت أن تصرفات أحد عملاء شركتنا ممن يحملون الهوية الغربية بدأت تتغير تجاهي، فلم يعد يبادلني نفس القدر من الاهتمام والاحترام السابقين، وأصبح يتهرب مني، ويحاول قدر استطاعته اختلاق الأعذار لتفادي مواجهتي، شعرت أن في الأمر سراً، وأن هناك شيئاً قد غيره.
فكرت ملياً كيف لي أن أعرف ذلك وأنا غير قادر على الالتقاء به، فقد أصبحت لا أراه إلا أوقات الضرورة، وعندما يكون في حاجة ماسة إليّ، حيث يأتي على عجل للتشاور في مصلحة أو عمل ثم يولي سريعاً مدعياً أنه لا يملك الوقت الكافي للحديث معي، ويعدني أنه سوف يكون أقل انشغالاً في المرة القادمة ليجلس معي ويحدثني بما لديه، وهكذا مضت الأيام والشهور دون أن يخبرني بأي شيء.
وفي إحدى المرات وبينما كنت جالساً أفكر بما يمكنني أن أفعله لمعرفة السبب الحقيقي وراء تصرفاته معي، ومحاولته تجنب لقائي والحديث معي، وبعد تفكير عميق قررت أن اتصل به - فقد عودت نفسي على انتظاره ليأتي إلي ويخبرني بما لديه فلمَ لا أكون صاحب المبادرة هذه المرة!..
وبالفعل رفعت سماعة الهاتف على الفور، دون أن أرتب أو أخطط لما سأقول، وطلبت رقمه، فرد علي ورحب بي ولكن ببرود، ودون أن أطيل في الكلام.
قلت له: إني أرغب زيارتك في منزلك.
رحب مجاملة لي واتفقنا على موعد الزيارة. حضرت إليه في الموعد المحدد، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث.
ثم قلت له: أرى مشاعرك تجاهي تغيرت، وتعاملك معي ليس كما كان، فلم تعد ترغب في لقائي أو الحديث معي؟!..
قال: بل على العكس من ذلك، ولكن كما تعلم فأنا مشغول، ولا أملك الوقت الكافي لإنجاز أعمالي، وإنهاء مشاغلي، فكيف بالحديث مع الأصدقاء.
قلت له: ولكني أعرفك منذ زمن بعيد، وارتباطاتك ومشاغلك كانت أكثر مما هي عليه الآن، ومع ذلك لم تكن تمنعك من قضاء بعض الوقت معي.
قال: كما تعلم أن الزمن قد تغير.
فقاطعته على الفور متسائلاً: وما الذي غير الزمن؟!.. فالزمن هو نفسه لم يتغير، ولكنّـا الذين تغيرنا وأصبحنا نخفي أحاسيسنا ومشاعرنا الحقيقية تجاه بعضنا، ومن هذا المنطلق يبدأ الواحد منا بالتهرب من الآخر، خوفاً من المواجهة والمصارحة، وتلافياً لذلك فقد اتصلت بك وطلبت لقاءك، لا لتجاملني وأجاملك، بل لتخبرني بمشاعرك الحقيقية تجاهي، وما الذي غيرك.
قال: حقيقة أنت الذي تغيرت وليس أنا، ولهذا فقد فضلت الابتعاد عنك.
قلت له: كيف عرفت ذلك؟.
قال: ببساطة أفعالكم وما تقومون به من أعمال تخريبية تستهدفنا ومواطني بلدنا في كل مكان تدل على ما تكنونه لنا من حقد وكراهية، لذا فقد فضلت أن أتجنبك، خاصة أنك تنتمي لنفس المعتقد الذي يدين به أولئك المخربون ويستمدون منه أفكارهم ومبادئهم.
قلت له: ولكن من يقومون بكل تلك الأعمال التخريبية لا يستمدون أفكارهم من ديني، بل هم يحاولون التستر تحت مظلة الإسلام، محاولة منهم لتبرير تصرفاتهم، ولكسب تعاطف الجهلة من الناس، ولإيجاد مسوغ يستندون إليه للقيام بأفعالهم، فيضلون به ضعاف النفوس والمراهقين والجهال من أتباعهم. وإلا فديني لا يأمر بالقتل والعنف والتدمير، بل على العكس من ذلك، يأمرنا ديننا بالإحسان واستخدام اللين واللطف عند التعامل مع أصحاب الملل الأخرى، حيث يقول ربنا : وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت:46) ثم يا صاحبي إن من يقومون بأعمال العنف والإرهاب هم ثلة لا تتجاوز نسبتهم الواحد بالألف من المسلمين، فلماذا تصفون الإسلام وأهله جميعاً بالإرهاب وأنتم تعلمون ذلك؟!.. مع العلم أن هذا الدين هو أكثر الأديان دعوة للسلام والمحبة والإخاء، والدليل على ذلك أنك تعيش في بلادنا منذ مدة طويلة دون أن تتعرض لأي مضايقة أو إساءة من أحد.
قال: ما تقوله صحيح فأنا أحظى بكل مودةٍ واحترامٍ من الجميع منذ أول يوم وطأت قدماي أرض بلادكم، وسوف تسمع نفس الإجابة من جميع أصدقائي المقيمين هنا، بل إن بعضهم يفضل البقاء والعيش في بلادكم إلى الأبد، لما يجده من وفرة في جميع الخدمات التي ينشدها أي إنسان في هذا العالم، وكل ذلك مقرون بالأمن والاستقرار وراحة البال.
قلت له: إذاً لماذا ومن حادث أو حادثين تنقلبون علينا وتتهموننا وديننا بالإرهاب دون أن تفكروا أو تحللوا ما يحدث؟!.. حتى إن وسائل إعلامكم لتحاول وبشت-ى الصور أن ترسم صورةً بشعةً عنّا وعن ديننا، فتنفركم منّا ومنه، وتحاول بشت-ى الطرق والأساليب أن تصفنا بالمتشددين والأصوليين، مع أن ديننا ينهانا عن الإساءة للآخرين.
قال: ولكن لا تنس أن دينكم أنتشر باستخدام القوة والعنف، وهذا نوع من الإرهاب.
قلت له: أنت تأخذنا إلى موضوع آخر ليس هو موضوعنا، ولكن دعني أخبرك ببعض الحقائق التي يحاول أعلامكم أن يخفيها ويعمل جاهداً لحجبها عنكم.
قال: وما هي؟
قلت: أتدري كم مكث المسلمون في الأندلس؟
قال: أعلم أنهم مكثوا مدة طويلة ولكن بالتحديد لا أعلم.
قلت له: مكثوا ما يزيد عن ثمانية قرون، كانوا خلالها مسيطرين عليها وعلى أهلها، ولكنهم عاملوهم بكل احترام، فلم يرغموهم على اعتناق الإسلام، ولم يغيروا لغتهم، ولم يطمسوا ثقافتهم، بل عرضوا عليهم الدين فمن شاء منهم دخله ومن أراد بقي متمسكاً بدينه.
ثمّ إنهم عندما غادروا الأندلس تركوا لأهلها من الآثار الشيء الكثير، حتى إن أسبانيا تعد اليوم واحدة من كبريات البلدان السياحية في العالم بسبب ما خلفه المسلمون هناك. هذا من جانب المسلمين الذين تصفونهم بالإرهابيين المغتصبين.
ولكنكم تغضون الطرف عن الكيفية التي دخل بها نابليون بونابرت مصر وبلدان المغرب العربي، وكيف حاول طمس هويتها، وتغيير لغة أهلها وثقافتهم، وسلخهم من دينهم، ثم إنه لم يكتفِ بذلك، بل قام بسرقة كميات كبيرة من آثارها وإرثها الثقافي، وشحنه إلى بلاده قبل خروجه منها، وأظنك زرت باريس ورأيت بنفسك بعض الآثار المصرية المسروقة هناك.
فبالله عليك من يستحق أن يوصم بالإرهاب والتدمير والتخريب، الإسلام وأهله، أم من قاموا بالحملات الصليبية التي توالت على بلدان المسلمين منذ مدة طويلة وما زالت، هدفها الوحيد سرقة أراضي المسلمين والاستيلاء على خيراتهم، شعارهم يختلف بين حملة وأخرى من إنقاذ المضطهدين في بلاد الشرق، إلى حماية بيت المقدس، وأخيراً غرس الديمقراطية في البلدان العربية.
قال: حقيقة رأيت كل ما تحدثت عنه في أوروبا، حيث لا يخلو بلد أوروبي من آثار إسلامية، وزرت أسبانيا بنفسي وشاهدت الكم الهائل من الآثار والمتاحف التي خلفها المسلمون هناك، ولكني كنت غافلاً، أو إن شئت قل متجاهل للحضارة العظيمة التي بنت كل ذلك، ولا أعزو أسباب تجاهلي سوى لما غرسه فينا إعلامنا عنكم، وعن دينكم وحضارتكم، كما أنكم أيضا مقصرون جداً في هذا الجانب، حيث لم تقوموا بأي عمل لتوعية شعوبنا بمفاهيم دينكم ومعتقداتكم الحقيقية، بل تركتم المجال لفئة منكم تعمل ما تشاء باسمكم واسم دينكم، فتقتل وتخرب وتدمّر، ثم تأتي وسائل إعلامنا وحتى بعض وسائل إعلامكم فتنسب ذلك لكم ولدينكم، وكان من الأجدر بكم أن تقوموا بتوعية شعوبنا، وإعطائهم الصورة الحقيقية عنكم وعن دينكم، بدلاً من القدوم لبلادنا لأغراض السياحة والترفيه فقط، فلمَ لا تعملون من أجل ذلك؟. وتظهرون صورة دينكم الحقيقية لكل فرد منا، وأجزم أن-كم سوف تحصدون نتائج جبارة تغير نظرتنا عنكم وعن دينكم، مثلما قمت أنت بالتأثير عليّ، وتغيير ما رسمته عنكم، بعد أن مكثت في بلادكم مدة طويلة جداً، لم أجد من يبصرني بالحقيقة، فحتى أنت لم تتجرأ على محادثتي إلا بعد أن أوشكت علاقتنا على الوصول إلى طريق مسدود، وإلى نهاية مؤسفة، بسبب تقصيري في البحث عن الحقيقة وتقاعسك عن إيصالها إلي.
سألته عن الطريقة المثلى لإيصال الصورة الحقيقية عن الإسلام إلى شعبهم بشكل خاص، والشعوب الغربية بشكل عام.
فأجابني قائلاً: إن معظم الشعوب الغربية تحرص كل الحرص على معرفة الحقيقة، وتحاول الوصول إليها، والغالبية منهم ترى أن وسائل الإعلام هي الطريقة الأنسب، فهم يستقون معلوماتهم منها ويصدقونها ويجزمون بصحتها.
لذا أرى أن أفضل طريقة للوصول إلى شعوبنا هي وسائل الإعلام، فنشر المعلومات الحقيقية بطريقة مدروسة ومؤثرة تغير نظرة الشارع لدينا بشكل عام، وتساعد على فهم الآخر وتقب-ـله وفتح حوارات جادة معه، وهذه سوف تسفر عن نتائج سارة وغير متوقعة بالنسبة لكم.
فقلت له: ولكن إعلامكم محتكر من قبل فئة لا ترغب في نشر إي شيء يصب في مصلحة الإسلام.
قال: هذا صحيح، ولكن لا تنس أنه إعلام قائم على المال، فبقدر ما تدفع تحصل على ما تريد. ثم إن هناك قنوات تلفزيونية وصحفاً ومجلات غير محتكرة، وبالإمكان النشر عن طريقها، وبأسعار زهيدة، صحيح أنها صغيرة ولا تحظى بنفس حجم الانتشار الذي تحظى به الصحف الكبرى، ولكن عملية النشر والتوعية من خلالها ستؤدي لنتائج طيبة، والبداية بها خير من الوقوف مكتوفي الأيدي والاكتفاء بالفرجة على ما يجري وما يقال عن دينكم وما يحاك ضده من مؤامرات يتم تنفيذها في شتى بقاع الأرض.
ثم لا تنس الإنترنت وتأثيرها الفعال في مجتمعاتنا، كل هذه قادرة على عرض الصورة وإظهارها بالشكل الذي ترغبون فيه، ولكن يجب عليكم أن تعملوا وتبذلوا كل ما تملكون في سبيل دينكم ومعتقداتكم، كما يجب أن تتخلوا عن الشعارات الزائفة والبراقة التي لا تقدم ولا تؤخر في هذا العالم المادي الذي يريد أن يرى أفعالا،ً لا أقوالاً وشعارات.
شكرته على مشاعره الطيبة وتفاعله وتفهمه لأبعاد القضية، ومحاولته المساعدة في إبداء النصح والمشورة، والإسهام في إيجاد بعض الحلول المناسبة لتغيير المفاهيم الغربية عن الإسلام، ثم غادرت منزله وأنا أفكر بما سمعت منه، وما سوف نحصل عليه من نتائج لو تكاتفنا معاً أفراداً ومجتمعات وحكومات، وعملنا ما بوسعنا، وقدم كل منا ما يستطيع لخدمة هذا الدين العظيم، حتى لو على الأقل بالتحلي بسلوك حسن، والتعامل مع الآخرين باحترام ولطف، لا كما يفعل الجهّـال عند ذهابهم إلى بعض البلدان الغربية فيتشبهون بسفهائهم، ويحاكون أفعالهم ويتخلقّـون بأخلاقهم، فلا تجدهم إلا في الأماكن المشبوهة ومستنقعات الرذيلة، أعاذنا الله وإياكم منها.
فليت أولئك يعلمون أن جميع تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم وخطواتهم ليست محسوبة عليهم فقط، بل على دينهم وأوطانهم ومجتمعاتهم، لذا وجب علينا الأخذ بأيديهم، وتوجيههم وإفهامهم أنهم سفراء لبلدانهم فينبغي عليهم أن يمثلوه بطريقة لائقة، لا أن يسيئوا إليه.
كما أن هناك دور مهماً مناط وملقى على عواتق علمائنا وأدبائنا ومثقفينا للتفكير الجاد بالكيفية التي يمكن من خلاها التعامل مع الأوضاع الراهنة، والبحث عن أفضل السبل التي تساعد على مسح الصورة المزيفة عن الإسلام، والتي تظهره قريناً للإرهاب في أعين الشعوب الغربية، مع استخدام جميع الوسائل التي توصل إلى الشارع الغربي وتعطي صورة حقيقة عن ديننا وثقافتنا وحضارتنا.
الملتزم والإرهابي
في أحد اللقاءات الشبابية، وبينما كان الجميع منشغلين بمتابعة البرنامج المسرحي المعد خصيصاً للتسلية والتثقيف واللهو البريء، ووسط ضحكات الحضور وتعليقات مقدم الحفل الساخرة، كان هناك اثنان من الشباب، لا يتجاوز عمر الواحد منهما الثلاثين سنة، يتحدثان بصوت خافت، لا يكاد يسمع أحدهما الأخر، بسبب الضجيج، فيضطران أحيانا لرفع صوتيهما حتى يكاد يعلو على صوت مقدم الحفل، ولكن لا أحد يشعر بهما أو يدري عمّ يتحدثان.
وبعد طول كلام وحديث لا ينتهي قال أحدهما للآخر: دعنا نكمل مشاهدة البرنامج الثقافي وبعده نواصل الحديث.
فرد عليه الآخر قائلاً: لا يا خالد... لا تنجرف وراء هؤلاء المفرطين الذين لا هم لهم سوى اللهو واللعب، يضيعون أوقاتهم بما لا ينفعهم، رغم علمهم أنهم محاسبون عن كل لحظة منها.
فرد عليه خالد قائلاً: وما المشكلة في ذلك يا طارق!.. فالشباب يروحون عن أنفسهم، ولم يقولوا محظوراً أو يفعلوا محرماً.
فقال طارق: كف عن الدفاع عن هؤلاء العصاة، وإلا أصبحت في عداد الضالين الخاسرين، فإن مت مُتّ على الفسق والمعصية - والعياذ بالله - كأي واحدٍ منهم، وأنت بإذن الله لست كذلك فأنت من الطيبين الأخيار.
فقال خالد: ما الذي تقوله!... أهؤلاء وفيهم أخي وأخوك ضالون!... فمن المهتدي إذاً؟!...
فرد طارق وقد ضاق ذرعاً بما يسمع: لا تطل الكلام عن هؤلاء العصاة الفسقة، ودعنا نتحدث بما هو أهم.
فقال خالد: وما هو الأهم في نظرك؟
فرد طارق: ما رأيك بما يجري الآن من تغييرات في بلادنا، وما تقوم به الدولة من أعمال تدعي أنها تحسينات وإصلاحات، وهي في حقيقتها إفساد وتغيير عن النهج القويم الذي كانت تسلكه هذه البلاد، حتى بدأت أيدي الحاقدين تعبث بها.
فقال خالد متسائلاً: ولم تسم الأمور بغير مسمياتها؟ فتقول عن الإصلاح إفساد، وعن التغيير عبث، وجميع الإجراءات والتغييرات التي تحدث يتم إقرارها من قبل لجان وهيئات شرعية مختصة عالمة بشؤون المسلمين وما يصلح لهم ويناسبهم!... فأنت إن كنت تتكلم باسم الشرع وتستقي مبادئك ورؤيتك منه، فأنا شخصياً لم أرَ شيئاً يتعارض معه، أما إن كانت لديك ميول وأهداف أخرى فهذا شأن آخر.
فقال طارق: لا تكن ساذجاً يا خالد وتدع تلك الزمرة الفاسقة تمرر عليك أهدافها وما تصبوا إليه بتلبيسه حلة شرعية تغطي ما وراءه من شرور.
فسأله خالد: إن لم تكن مقتنعاً بما يقولون، ولم تقتنع بما أقوله لك، وأنا من أقرب الناس إليك، وأكثرهم فهماً لك، فما الذي تريده بالضبط؟
فأجابه طارق وقد اعتدل في جلسته: أريد أن نوقف تلك التغييرات بأي وسيلة كانت.
فقال خالد: وبأي حق توقف تلك التغييرات؟ وما هي الكيفية التي ستتبعها لتصل لما تريد؟ هل ستناقش ولي الأمر فيها؟ وتقول له: لا نريد أن تغيروا أي شيء فنحن نريد أن يبقى كل شيء على ما كان عليه، فالتغيير ابتداع، ومن ثم ضلال عن الطريق القويم، وبعد ذلك غضب وعقوبة. هل ستقول له ذلك أم إنّ لديك مبرراتك التي ستقنع بها ولي الأمر، وتثنيه عن اتخاذ قرار التجديد والإصلاح؟ وإن كنت أشك أن لديك حجة مقنعة في ذلك، فكل ما ستقول أن هذا التغيير أمر لا ينبغي لأنه سيقود إلى أمور لا تحمد عقباها، وسوف تقوم بتحميل الأمور والمسائل ما لا تحتمل.
فقال طارق: اسمع يا خالد نحن نعيش في مجتمع واحد، وهذا البلد ليس ملكاً لأحدٍ بعينه، لذا يجب عليهم أن يسمعوا كلامنا، ويقوموا بتنفيذ ما نطلبه منهم، وإلا سنقوم بإجبارهم على فعل ذلك بطريقتنا الخاصة.
فقال خالد: وقد بدأ ينفعل وما الذي ستفعله؟!... هاه!... هل ستقوم بالتخريب والتدمير لتصل إلى ما تصبو إليه!... ثم لا تنس أنك تقول إن هذا البلد ليس ملكاً لأحد. فلمَ تهمش هذه العبارة حين تريد أن يصدر التغيير منك أنت وتفرض وصايتك على الجميع وكأنه لا يفهم ولا يعلم إلا أنت ومن هم على شاكلتك؟ ثم إن هم قاموا بالتغيير والتجديد فقد فعلوه بوصفهم ولاة أمر ولا يجوز الخروج عليهم، وقاموا بذلك بطريقة سلمية لم تصب أحداً بأذى، وفعلوا ما رأوا أن فيه مصلحة للأمة بعد أن اجتهدوا، فإنْ أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر اجتهادهم. أما أنت فبصفتك من يريد تجميد المشاريع التي يقرها ولي أمر المسلمين، وتعمل على إيقافها ولو بالقوة، قل لي بربك من تظن نفسك؟
علا صوتاهم-ا، وبدأ يلحـظ نقاشهمـا بعض من هـم بالقرب منهما، ثم ما لبث أن ذهب الجميع تجاه ذلك النقاش الحاد، الذي زادت حدته حين قال طارق: يا خالد إنّنا يجب أن لا نسكت لهم ولا على تصرفاتهم، لأننا إن تركناهم يفعلون ما يريدون فسنجد مجتمعنا وقد تغير إلى مجتمع لا نقدر على العيش فيه، ولهذا فواجبنا أن نفعل ما بوسعنا لإيقاف مخططاتهم، وصدِّهم عن المساس ببلادنا وبيعها، وأنت تعلم أن بإمكاننا زعزعة أمنهم عن طريق القيام ببعض الأعمال الجهادية التي تألب الناس عليهم، وتجعلهم ينزعون ثقتهم منهم، ويجبرونهم على اتّباعنا والخضوع لقولنا.
فرد خالد غاضباً: في البداية لا تنسَ أن تسمِ الأشياء بأسمائها، فلا تقل لما تنوي القيام به من أعمالٍ تخريبيةٍ إرهابية، إنّها أعمال جهادية، فالإسلام والجهاد براءٌ مما تقوم به أنت ومن هم على شاكلتك، ثم تحدث عن نفسك ولا تشركني معك في أعمالك الإجرامية وقل ـ إن استطعت إلى ذلك سبيلا ـ سأفعل وسأقوم ولا تقل سنفعل وسنقوم، فأنا لست شريكك بل أنا ضدك على طول الطريق ما دامت تلك الأفكار المنحرفة في رأسك.
فقال طارق: كيف ذلك يا خالد فكلانا يحمل نفس التوجه، والفكر، ومبدؤنا واحد، وواجبنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فرد عليه خالد: نعم من واجباتنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة، والقول الحسن، مع الاستعانة بالصبر، أما أن نقوم بإرهاب الناس وترويعهم ليتبعوا منهجنا، فهذا غير صحيح، ولا أتفق معك فيه، إضافة إلى أننا مختلفون تماماً فيما يتعلق بالفكر، فأنت تحمل فكراً متطرفاً متشدّداً لا يمت للإسلام بصلة، أما أنا فأحمل فكراً متسامحاً يسمع ويناقش ويحاور ويُـقنع ويقتنع بوجهة النظر المخالفة.
فقال طارق: ولكن يا خالد المجتمع كله ينظر لنا نظرة واحدة، ومن هذا المنطلق يتوجب علينا أن نضع أيدينا معاً ونعمل معاً كي ننتصر على من عادانا ونقهرهم ونبيدهم.
فقال خالد: يا طارق شت-ـان بيني وبينك، وإن اتفقنا بالمظهر الخارجي، ولكن مخابرنا مختلفة تماماً، فأنت تتحدث بلغة القوة والقهر والإبادة، أما أنا فأتحدث بلغة مختلفة تماماً عن لغتك، ومنهجي ومبادئي أستمدها قولاً وعملاً من شريعتي السمحة التي تحاول أنت وأمثالك تشويهها والإساءة إليها، فكما أسأتم لكل مسلم في أنحاء المعمورة، وربطتم بأفعالكم بينه وبين الإرهاب، واستغل ذلك أعداء الأمة، وروجوا له، وسقوا زرعكم الذي غرستم، حتى بات يراه من هم في أقاصي المشرق ومغاربها، ها أنتم مرة ثانية تحاولون إيهام مجتمعنا أننا وإياكم في خندق واحد، ولكن في حقيقة الأمر نحن براء منكم ومن أفعالكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تعودوا لرشدكم، وتكفّوا عن الإساءة لنا، وعن وتشويه سمعة الإسلام وأهله أمام العالم.
فقال طارق: إن موقفي ثابت ولن أحيد عنه، وسوف أبذل كل جهدي في سبيل إجبار الجميع على سماعي واتّباع منهجي.
عندها لم يتحمل الجميع ما قاله طارق، وطفح بهم الكيل، وعلموا أن الرجل متشرب للفكر المنحرف، ولن يجعله يتنازل أو يتراجع عنه إلا وقفة حازمة من ولي الأمر، تردّ إليه صوابه، أو تخرجه عن هذا المجتمع قبل تدنيسه ونقل العدوى إليه واحداً تلو الآخر.
وصاح الجميع بصوت واحد: أخرجوا هذا المفسد من مجلسكم!...لا تدعوا له الفرصة ليستغل مظهره الطيب ليبث ما به من سم زعاف، دعوه يتعرى خارج معسكركم، اكشفوا سوأته، واجعلوا الجميع يراه ويعرفه ويحترس منه وينبذه فلا يخالطه فيستره ولا يتعاطف معه فيشجعه.
إنّ هذا النوع من البشر لا يلتفت لمبدأ، ولا يردعه دين ولا يزعه سلطان، وإنهم بمظهرهم الخارجي، وتلـّبسهم ثياب الملتزمين الطيبين أوهموا الناس وجعلوهم يخلطون بين أولئك الأخيار وتلك الحفنة من الأشرار، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى أن ظن بعض الطيبين أن ما يقوم به أولئك المفسدون هو التصرف الصحيح، وهو والواجب عمله؛ لوقف أي فعل لا يتوافق مع آرائهم ومعتقداتهم، ثم إن فئة أخرى من الأخيار ظنت أن من يتعرض لأولئك الأشرار ويفضحهم ويبين للناس خطرهم ويحذر منهم إنما يتعرض للملتزمين الطيبين.
وهنا يجب أن يعلم الجميع أن أولئك مختلفون تماماً وإن بدا أن مظهرهم متشابه فباطنهم على النقيض، ففئة مصلحة وأخرى مفسدة، فاحذروا ولا تخلطوا، فإنكم إن خلطتم ولم تفرقوا بين الفئتين تكونوا قدمتم خدمة جليلة لتلك الفئة الضالة وجعلتم لها ملاذاً وملجأً تنزوي وتدس رأسها فيه حين تريد الراحة أو استغلال بعض السذج وتسخيرهم لتنفيذ مخططاتهم، ولكن إن تركناهم يسرحون ويمرحون كما يشاؤون فسوف يكثر أتباعهم، ويختلط علينا الصالح بالطالح، فلا نعود نميز بين الغث والسمين، وستقوى شوكتهم، ويعلو شأنهم، ويعظم نفوذهم، ويعودون يتسلطون علينا، ويفرضون وصايتهم، ويسيّروننا كما يشاؤون ويشتهون، وكل ذلك بسبب تساهلنا وتسامحنا معهم. ونسأل الله أن لا يتم لهم ذلك.
الإسلام والإرهاب
بعد أن نما غرسه، واشت-د عوده، وكثر أنصاره، وذاع صيته، وأصبح حديث المجالس، وأخباره القاسم المشترك لجميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية، جاء الإرهاب فاغر الفم، بشع الوجه، رث الثياب، قاطب الجبين، كريه الرائحة، قبيح الهيئة.
ليقول مخاطباً الإسلام بكل وقاحة وجُـرأة: أنا وأنت وجهان لعملة واحدة.
فلم يرد عليه الإسلام ولم يعره اهتماماً أو يلقِ له بالاً.
فقال الإرهاب: لِم تحاول التهرب والتنصل مني والترفع عن-ي؟. وكلانا يحمل نفس المبدأ التخريبي، ونطمح لهدف مشترك، وهو قتل الأعداء، والقضاء على مخالفينا وتصفيتهم بأية طريقة كانت.
فألتفت إليه الإسلام وقد ضاق ذرعاً بصمت أتباعه، وضعف أنصاره، وخنوعهم وتقاعسهم عن الدفاع عنه، أكثر من ضيقه بما سمعه من الإرهاب، وما يدّعيه أهله من اتهامات وادعاءات باطلة، تحاول وضعهما في خندقٍ واحد، وتلقي باللائمة عليه، وتتهمه بأنه منبع الإرهاب، مدعين أنهما شيء واحد، فما يقال عن هذا ينطبق على ذاك.
فقال: إنّني دين الله، اختارني لأكون خاتم أديانه السماوية، وأرسل أفضل رسله وصفوة خلقه إلى الناس كافة؛ للتبليغ بي، ونشري في جميع أنحاء المعمورة، وليس كالأديان السالفة التي كانت محصورة في أقوامها فقط وليست لجميع الناس.
ثم إني بعد بعثة محمد نقضت جميع الأديان التي سبقتني، فمن سمع بي ولم يعتنقني فقد خسر الدنيا والآخرة، وربي يقول في محكم تنزيله: وَمَـنْ يَبْتَـغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْـهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85) .
ثم إن الله حفظني ومنهجي وأحكامي بكتابٍ تعهد أن يحفظه بنفسه، حيث يقول : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9) . كما أن اسمي مشتقٌ من معنى عظيم، ونعمة ينشدها العالم بأسره، وتسعى إليها البشرية جمعاء، وهي السلام، فأنا وإياه صنوان لا نفترق، فمن اتخذني منهجاً، عليه أن يتمسك بصاحبي أيضاً، ويلزمه ويعمل على نشره في نفسه قبل كل شيء، فيكون مسالماً، منصفاً، عادلاً، محباً للخير، ثم يسعى لتعميم كل ذلك ونشره في أسرته وحيه ومجتمعه والعالم أجمع.
فأتباعي يعرفون باسم المسلمين، ونبيي محمد يقول عنهم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وحين ين-صُ الحديث هنا على المسلمين فليسوا هم المقصودين حصراً، بل يندرج في حكمهم المعاهدون الذين يعيشون في بلاد المسلمين.
ثم تدبر وتأمل مدى أهمية السلام في منهجي فقد بدأ رسولي باللسان قبل اليد، ثم ثن-ى بها من باب التأكيد، فالمسلم هو ذلك الإنسان الذي علم أركاني الخمسة كاملة، وعمل بها على الوجه الذي شرعه وأمر به رب العالمين ، ولم يزد ولم ينقص، فمن زاد من دون مسوغٍ شرعيٍ فقد ابتدع، ومن نقص شيئاً فقد أخل، وقد يصل به الأمر إلى الكفر والعياذ بالله.
ثم لا تنس أن السلام ونشره وتعميمه جزء من منهجي، لذا وجب على من قال: إني أسلمت وجهي لله رب العالمين أن يحرص على سلامة نفسه قبل كل شيء، فمن يهلك نفسه ويزهقها دون الرجوع لمستند شرعي حقيقي، فلا يُعدّ مسلماً، وإن سمّـى نفسه شهيدا، فهو ليس كذلك، لأن قتل النفس التي حرم الله بغير حق عملٌ يسمى انتحاراً، والمنتحر يقتل نفسه بغير حق، وحكمه أنه مخلّد في نار جهنم.
ولا تنس أن هناك من يقتل نفسه في سبيلي، وابتغاء مرضاة ربي، فهذا مختلف تماماً، ويصنّـف على أنه شهيد، ولكن لا بد من التحقق من أن عمله هذا موافقاً لشرعي ومنهاجي، وأن يقرّ من قبل علماء ربانيين مدركين لما يحدث ملمين بفقه الواقع إلماماً تاماً.
هذا فيما يتعلق بصيانة النفس أو الذات التي أودعها الله أمانة لدى كل فرد من بني البشر، حتى يحين استردادها، فلا يحق لأي كان التفريط بها وإزهاقها من غير وجه حق.
أما بالنسبة للمحافظة على أرواح الآخرين، وعدم التعرض لها، فمن باب أولى، فشريعتي تقرر أن المعتدي يجب أن يجازى على فعلته بمثلها، فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، إلا أن يعفو المعتدى عليه فله ذلك، ومن عاد إلى فعلته مرة أخرى فجزاؤه وحسابه عند الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو اللطيف الخبير.
وبالطبع فلا يغيب عني صيانة الحقوق الأخرى، من ممتلكات وأعراض وغيرها، فهي محفوظة ومحترمة، ويحرم لدي الاعتداء عليها لأي سبب ليس في منهجي.
أما من يريد العمل بأركاني ويؤديها من باب الأداء فقط، ولا يعمل بها حقيقةً، ولا بما يندرج تحت مفاهيم كل ركن منها، فهو لا يمث-ـلني التمثيل الحقيقي، فكل تلك الأركان والواجبات التي يؤديها له، ولكن هناك أمور لابد من التنبه إليها والعمل بها، ومن أهمها التخلق بخلق حسن ومعاملة الناس بطريقة لبقة جيدة، وقد ورد في الأثر أنّ الدين المعاملة.
أما أن تقوم بالأركان وتؤديها ثم تسيء للآخرين بالاعتداء عليهم، وترويعهم، وبث الخوف والرهبة في نفوسهم، فهذا ليس مني ولست منه، بل هو من أشد وأشنع الأعمال التي أرفضها وأحرمها وأمنع أتباعي من الوقوع والانزلاق فيها، ومن يفعل ذلك فهو يعلن حرباً على ربي وعلى نبيي ، وعقوبته قاسية لا تهاون أو محاباة فيها، وهي من أشدّ العقوبات في كتاب الله، حيث يقول : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة:33) .
فقاطعه الإرهاب قائلاً: إنك تدعي السلام ونشره في كل مكان، وتريد أن تتبرأ منّي ومن الصلة بي بادعائك المحافظة على أموال وأعراض وأرواح جميع الناس، حتى غير المسلمين منهم، وأنت تحاول أن تفرض نفسك بالقوة وإراقة الدماء!.. وهذا ما يفعله أتباعك عند الدعوة إليك، وهو نفس الشيء الذي يفعله المؤمنون بي وبمبادئي، فكلانا نفرض أهدافنا ومبادئنا على الآخرين بنفس الطريقة، ونحقق نتائج متقاربة، وسمعتنا لدى العالم أصبحت واحدة، فلا تذكر إلا وأذكر معك، وعندما يتم التطرق إليّ فلابد من الإشارة إليك. ومن هذا المنطلق فنحن قريبان من بعضنا من حيث المبدأ، والطريقة، والأهداف.
فرد عليه الإسلام قائلاً: في البداية يجب أن يعلم الجميع أني لم انتشر بقوة السيف، حيث كان أتباعي يعرضونني على من لا يعرفني لإتّباعي، فإن وافقوا على ذلك وإلا فعليهم دفع الجزية، والخضوع لمن يحكم بشرعي ومنهجي، فمن أبى أجبرناه على ذلك بالقوة؛ لأنه برفضه يحاول منعي من الوصول إلى المستضعفين والمغلوبين على أمرهم من شعبه، ويريد أن يستعبدهم ويذلّهم ويحول بيني وبينهم.
ثم لو نظرت إلى بعض الشعوب التي دخلت بي، وكيف تحولت حياتها وتحسنت أوضاعها وذاقت طعم الحرية الحقيقي، بعد أن مكثت قروناً تحت سيطرة الطغاة والاستبداديين الذين عاثوا في تلك البلدان فساداً يقتلون أبناءها ويستحيون نساءها ويستعبدون رجالها، وإن شئت فخذ الشعب المصري مثالاً على ذلك، وكيف انتهى آخر عهودهم بالعبودية والذل بعد وصولي إلى ديارهم، ودخولي في قلوبهم، وتحكيمهم شرعي، وتطبيقهم مبادئي.
أما من يقومون بالقتل والتخريب وسفك دماء الأبرياء باسمي وفي سبيلي وابتغاء مرضاة ربي ، فهؤلاء ليسوا مني وأنا منهم براء، فقتل النفس التي حرم الله دون مسوغ شرعي غير مقبول أو مُقرّ في شريعتي إلا إن كان القتل خطأ كما يقول الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء:92).
أمّا أولئك الذين يقتلون الأنفس المعصومة دون وجه حق، فقد تشدّدت معهم، كما ذكرت لك سلفاً، وأحكامي مفصلة في تجريمهم وإنزال أشد العقوبات بهم، فمن يقوم بعمل تخريبي من تفجير أو تدمير ونحوه، فيروح ضحيته مسلم بريء، فالفاعل خالد مخلدٌ في نار جهنم، وعليه غضب الله ولعنته حيث يقول : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (النساء:93). هذا لمن قتل مؤمناً، أمّا من يقتل الذمي متعمداً!.. أتدري ما عقوبته؟!... ارجع لقوله : (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) فجميع الذميين الذين يعملون في بلاد الإسلام هم مستأمنون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وبما أنّ دم المسلم وعرضه وماله معصومةٌ، لا يجوز الاعتداء عليها، أو المساس بها، فإن للمعاهد نفس الحقوق، فلا يحل لأحدٍ الاعتداء على أي حق من حقوقه، فما بالك بقتله وترويعه.
فقال الإرهاب وقد بدأت حجته تضعف وقواه تخور: إن أتباعي يدينون بك ويطبقون أركانك ويدعون إليك.
فرد عليه الإسلام قائلاً: أنا كلٌ لا أتجزأ، فمن أعتنقني وأخذ بي، عليه أن يعمل بأركاني الخمسة، وجميع ما أوجبته وأمرت به، ومن أراد أن يأخذ مني ما يحب ويترك ما يكره فأمره إلى الله، وهو من يقرر إن كان مني أم لا، علماً أن هناك فئة تعمل بي ولكنها تحاول أن تحك-م عقلها في كل شيء دون الرجوع إلى شرعي، فتقتل وتفسد وتسفك الدماء دون وجه حق، فيبدو لبعض الناس أنّ منطقهم سليم ومنهجهم قويم، مع أنهم في الحقيقة ممن قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (البقرة:204ـ205ـ206).
ورغم سماحتي ووصفي بدين الرحمة، إلا أنّي متشدِّد جداً مع من يقتل من باب الترهيب والترويع، ولا أقبل في ذلك وساطة أو شفاعة ولا حتى عفو ولي. وقد حدث في عهد الرسول أن قام يهوديٌ برضِّ رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا أفلان أفلان؟ حتى سُمّـي اليهودي، فأومأت برأسها فجيء باليهودي فاعترف فأمر النبي أن يُـرضَّ رأسه بين حجرين. وحيث لم يُرَدّ الأمر إلى أولياء الدم لأخذ موافقتهم على تنفيذ حكم القتل في اليهودي، فهو دليل على معاقبة من قتل بهذه الطريقة حداً لا قصاصا، فهو حق من حقوق الله ، وليس من حقوق البشر، فلا يؤخذ لذوي المقتول رأي ولا يقبل منهم مشورة في تنفيذ الحد.
كما أن شريعتي، وعلى الرغم من وصفها بالسمحاء، لا تتسامح ولا تتهاون مطلقاً مع من قتل غيلة، حيث ثبت أنّ عمرَ بن الخطاب قتل خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً. ثم إن عمر عنه لم يُرج--ـع الأمر لأولياء المقتول، بل أقام عليهم الحد مباشرة نظراً لفداحة ما قاموا به وخطورته على المجتمع.
وبعد أن ذكرت لك بعضاً من أحكامي وتشريعاتي في محاربتك وتشدّدي في معاقبة من يدينون ويؤمنون بك، دعني أبين للعالم أجمع أنّ أهدافي ومبادئي سامية وإن اختلفت طرق تنفيذها أو أساء بعض الناس فهمها.
أما أنت أيها الإرهاب فتقوم على مبدأ باطلٍ غير مشروع، لا يُقرّه قانون أو دين سماوي، ومبتغياتك بشعة تهدف إلى ترهيب وترويع الآمنين في شت-ى بقاع الأرض، بحجج واهيةٍ، ليس لها أصل، ولا تستند على دليل، وطريقك في تحقيق مآربك تعتمد على سفك دماء الأبرياء، وإزهاق أرواحهم، وتدمير مساكنهم وتشريدهم. فأنت منبوذ من الجميع، ولا تحتاج لمن يتعمق فيك ليعرفك، فظاهرك وباطنك سواء، وكل واحدٍ أبشع من الآخر.
أما أنا، وإن حاول البعض ربطك بي، فأنا منك براء، ومن درسني وعرفني حتى دون أن يتعمق بي فسيعتنقني ويؤمن بمبادئي أو على أقل تقدير سوف يجلّـني ويحترمني ويتعاطف مع أتباعي. وشت-ان بيني وبينك، فالتقاء المشرق والمغرب والتصاقهما ببعض على الرغم من البون والمسافة الشاسعة بينهما أقرب من التقائنا أو تشابهنا.
ولكنهم أولئك الذين يحاولون صرف الناس وإبعادهم عنّي بتلك الطرق والوسائل، فيصرفون الأموال الطائلة في سبيل ذلك، ولكن الله سوف يذلهم ويخذلهم ويخزيهم، وستكون أموالهم عليهم حسرة وسيغلبون، والله غالب على أمره، ومتم نوره ولو كره الكافرون. وقد قال الله بشأن أولئك المضللين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (الأنفال:36).
الأمن والإرهاب
بعد بحث وتحرٍ داما عدة أشهر، ومتابعة وترقب استمرا عدة أيام، وملاحقة متواصلة عدة ساعات، وتبادل لإطلاق النار بضع دقائق، تمكنت القوة المكلفة بتلك المهمة من القبض على ذلك الخارج عن الشرع والعرف، واقتياده إلى مقرها الرئيسي تحت حراسة مشددة، وأعين يقظة، خشيةً من وجود أعوانٍ، ربما يسعون لتخليص رفيقهم من قبضة رجال الأمن بمداهمة تلك القوة، وإطلاق النار عليها، وقتل الجميع دون تفريق بين خصم وصديق، فهدفهم هو إسكات ذلك الرفيق المقبوض عليه بأية وسيلة كانت، حتى لو أدى بهم الأمر إلى قتله إن لم يتمكنوا من تخليصه.
ومع الحس العالي والعمل الاحترافي لتلك النخبة من رجال الأمن، والسير بطريقة حذرة ومدروسة، وصلت الفرقة لغايتها وأنزلت السجين، وأدخل غرفة التوقيف ليتسنى له التقاط أنفاسه، ومراجعة حساباته، والتمعن بما آل إليه مصيره من شخص محترم ذي وظيفة جيدة، وسمعة طيبة، إلى إنسان مختلف تحول بين عشية وضحاها إلى متهم مطارد موقوف خلف القضبان.
وفي صباح الغد تم عرض ذلك الموقوف على الضابط المكلف بالتحقيق في قضايا الإرهاب، وبعد أن استقبله بكل ودِّ، وحياه بكل احترامٍ، وأجلسه في الكرسي المخصص للمراجعين، باغته بسؤالٍ فيه من الاستفزازية الشيء الكثير، ومن التذكير والتنويه بفداحة ما قام به الليلة الماضية، وكان يتمنى أن يزيده ذلك السؤال حسرة وندامة على ما اقترفه من حماقة، طرح الضابط ذلك السؤال المباغت قبل أن يسأله حتى عن المعلومات الأولية التي تؤخذ من كل موقوف عند التحقيق معه كاسمه وعمره ومهنته.
سأله: كم شخصاً تظن أنك قتلتهم مساء أمس، عندما كنت تطلق النار بطريقة عشوائية؟... لا أسألك عمن قتلت من رجال الأمن الذين كانوا يقومون بملاحقتك. لكني أسألك عن الأشخاص الأبرياء الذين صادف مرورهم تعليق إصبعك على زناد الرشاش الآلي الذي كان بحوزتك، وكنت توجهه يمنة ويسرة، دون تفكير أو تخطيط حتى آخر طلقة منه.
وحينما لاحظ المحقق أن التأثر بدأ يأخذ نصيبه منه وبدأ يطرق رأسه للأرض دون إرادته.
قال بصوت عالٍ: كم تظن عدد ضحايك ليلة البارحة؟ وهل ستسأل الله العفو والمغفرة على ما ارتكبته يداك في حق أولئك الأبرياء؟! وهل ستقدر على مواجهة النساء اللاتي رملت، والأطفال الذين يت-مت، وتطلب منهم العفو والصفح؟
لن أحدثك عن الأعمال التي اقترفت سابقاً، أو تلك التي ساهمت في تنفيذها من تخطيط ودعم، ولكني فقط أسألك قبل كل شيء عمّا تسببت فيه خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية.
أعتقد أنكم تظنون أن التحقيق انتهى بإطراقة الرأس وعلامة الحسرة والندامة البادية على الوجه، ليس أنتم وحدكم من يعتقد ذلك، بل كان هناك اثنان من المحققين المبتدئين، يحضران الجلسة، بغرض الاستفادة، ظنّا كما ظننتم أن التحقيق انتهى، وأن المتهم سوف يُدلي بما لديه في الحال، ويعترف بارتكابه الخطأ، ويطلب الصفح، ويتعاون مع رجال التحقيق، ويرشدهم إلى بقية شركائه.
ولكن الأمر مختلفٌ تماماً، والجميع مخطئ في تخمينه وتقديراته العاطفية، عدا المحقق المحترف المتمرس، الذي كان يعرف ما ترمز إليه كل حركة يقوم بها المتهم من إطراقة الرأس، إلى حركة الأرجل غير الإرادية، مروراً بنظرات العين وتقلباتها في أنحاء الغرفة، وحتى تشبيك الأصابع وتصنّع فرقعتها.
وبعد لحظات من الصمت رفع ذلك الشخص بصره وأخذ ينظر إلى المحقق ورأسه ما زال باتجاه الأرض.
وقال بصوت هادئ جداً: أنا أعتبر نفسي قبل كل شيء داعية خير ولدي ثقة تامة أنّ الله سوف يغفر زلّـتي إن أخطأت ويأجرني على اجتهادي حتى لو لم أصب.
فرد عليه المحقق: إن كنت كما تدّعي أنك من دعاة الخير والإصلاح فلمَ تحملون علينا السلاح؟!
فأجابه قائلاً: إننا نحمل السلاح من أجل الدفاع عن أنفسنا.
فقال المحقق: تدافعون عنها ضد من؟... أخبرني ممن تخافون ومن تخشون في مثل هذه المدينة التي لم ير معظم سكانها أياً من الأسلحة التي تستخدمون، بل إنكم تملكون أسلحة ثقيلة لا تقتنى من قبل من يريد أن يدافع عن نفسه، وكأنها جلبت لأهداف أخرى غير الدعوة والإصلاح، إنكم بطريقتكم هذه وإن كنتم تدعون العمل من أجل الدين والذب عن حياضه فلستم كذلك، بل إنكم أبعد ما تكونون عن الدين وتعاليمه السمحة.
فهذا الدين، نقولها ونكررها دائماً، لا يدعو للعنف والشدة، بل يدعو للّين والرفق، وأنتم بتصرفاتكم تلك لا تمثلون الدين وهو منكم براء، وكما أن الرسول يقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فإنّنا لا نكتفي بالقول إنكم لا تمثلون سِوى أنفسكم الشقية، ولا تمتون للإسلام ومبادئه بصِلة، حين ترهبون إخوانكم الآمنين أو المستأمنين، بل أنكم بأفعالكم تلك تسيئون لنا ولديننا من حيث تعلمون أو لا تعلمون.
فقال ذلك المتهم: إننا لم نفعل ما فعلناه إلا لأننا رأينا بعض المنكرات التي كان من الواجب التصدي لها؛ لأنّ الساكت عن الحق شيطان أخرس، ونحن نقدر على الكلام، بل ونستطيع فعل ما هو أكثر من الكلام، فقد رأينا أن من واجبنا التدخل الفوري والقضاء على ما في هذا البلد من منكرات.
فسأله المحقق: وما هي تلك المنكرات التي تظن أنها تملأ البلد وتريد إزالتها؟
فقال: هي كثيرة ولا حصر لها؟
فسأله المحقق: أذكر لي واحدة فقط لأقتنع أنك على حق.
فأجابه: خذ على سبيل المثال لا الحصر إدخال الكفار لجزيرة العرب، وتركهم يسرحون ويمرحون دون حسيب أو رقيب.
فقال المحقق: لنفترض أن رأيك صحيح فهل تعتقد أنك الشخص المخول طردهم من بلادنا؟. أليس هناك ولي أمر لا يجوز الخروج عليه؟ بل تجب طاعته والالتزام بأوامره وتنفيذها. أليس الله يقول: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال:46). أليس الخروج على ولي الأمر وعصيانه وعدم الامتثال لأمره معصية لله ورسوله ؟. ألا تظن أن وجود أولئك الفئة من المستأمنين الذين قدموا لضرورة رآها ولي الأمر، ورأيت أنت أنها مفسدة ولم تكتف بالرأي بل حاولت إجبار الجميع على سماع صوتك واتّباع قولك بالقوة، وهذا ما لم يفعله أحدٌ من علماء الأمة المتقدمين أو المتأخرين؟. ألا تظن أن ما سوف يحل بالأمة من فتن وويلات ومصائب ونكبات بسبب أفعالك أعظم وأشد وطأة مما تظنه مخالفاً لشرع الله؟ هل يسرك ويرضيك تفرق المسلمين وتشرذمهم؟ إن كان كل ذلك يرضيك ويسرك فسوف تجد من يتعامل معك بالطريقة التي تناسبك وتخلص الناس من شرورك، أما إن كنت تتصرف بطريقة لا تدرك أبعادها، ولا تدري نتائجها، فهناك من يرشدك ويدلك إلى الطريق الصحيح، والصراط القويم، وكل ما نريده منك وأمثالك الصمت والاستماع لتوجيهات من هم أعلم منك.
نحن لم نجبرك أو غيرك على إتباع طريق محدد نخطه لك، ولكنا نوجهك إلى عدم سلوك طريق بعينه؛ لأنّ عواقبه مهلكة، تفتك بالمجتمع كله فلا تبقي أحداً إلا أذاقته ويلاتها.
يا أخي هل تظن نفسك أنصح لهذه الأمة وأخوف عليها من أولي الرأي والمشورة من علمائها؟ وهل تعتقد أنك سبقتهم وصرت أكثر منهم قرباً إلى الله لسلوكك طريقاً لم يسلكوه؟ بل لو أنصت وتدبرت ما يقولون لوجدتهم أشد الناس تحذيراً من مغبة الطريق الذي سلكت.
يا أخي عد إلى الله ودع عنك حب النفس واتّباع الهوى والانتصار للذات، فوالله إن عيش الإنسان وحيداً منعزلاً كافاً خيره وشره عن الناس، خيرٌ له من أن يأتي بملء الأرض أعمالاً وقربات، ولكنه كان يسب ويؤذي ويسفك دماء الأبرياء، ويكفر ويلعن ويقدح ويطعن من تلقاء نفسه، ودون مسوغ رعي، والمشكلة فوق هذا كله اعتقاده أن عمله أحسن الأعمال، والله يقول: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:103ـ104ـ105. وأسال الله أن لا نكون منهم.
فقال ذلك الشخص: إنكم تحاولون رمي من يقوم بالأمر بالمعروف والجهاد في سبيل الله بأقذع التهم وأسوئها، وتدّعون أنهم مخربون وإرهابيون وما هم كذلك، بل إنهم أناس صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
أما أنتم وقد غيرتكم مظاهر الحضارة الغربية، وما جلبته لنا من فسق وفجور من خلال القنوات الفضائية، وما نسمعه ونقرؤه من أتباعهم ممن يتسمّون بالإسلام وهو منهم براء، بل هم منافقون مردوا على النفاق يتكلمون بمنطق يعجب السامع، ويجبره على الإصغاء لهم، وكلامهم سمٌّ زعاف، ظاهره النصح والمشورة، وباطنه الكيد والخداع.
فقاطعه المحقق قائلاً: دعني أوضح لك الصورة كي لا يختلط عليك وعلى غيرك الأمر، إن كل مسلم يقرأ كتاب الله الكريم، ويتدبر آياته، يؤمن ويعلم علم اليقين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أهم الدعائم التي يرتكز عليها هذا الدين، وما تميزت هذه الأمة عن غيرها من سائر الأمم إلا بهذه الركيزة. وربنا يقول في محكم التنزيل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:110). فتفضيلنا على غيرنا يعود لتمسكنا بهذه العبادة العظيمة،.
ولكن أن تخلط بين ما تقوم به أنت وأتباعك من قتل للأبرياء، وسفك للدماء، بما يقوم به المنتسبون للأجهزة المعنية بهذا الأمر، فهو عين التضليل والتدليس، فمنهج أولئك قائم على قوله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125). وقوله : يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (لقمان:17). أي أن أمرهم بالمعروف مقرون بالحكمة والصبر، وهما رئتا الدين ورأسه، أما طريقتك أنت ومن هم على شاكلتك فهي بعيدة كل البعد عن ذلك، فلا أنتم اتبعتم طريقة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة، ولا صبرتم حتى توضحوا للناس ما تريدون، أي أنّكم صعّدتم الأمور دون أن يؤذيكم أحد، وبدأتم الهجوم، ولا تعترفون بالنهج الصحيح لهذا الدين إلا حين تنكشف سوأتكم، فتحاولون دمج أنفسكم مع الخيرين من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، ووضعهم معكم في خندق واحد، ثم تدعون أن من يتعرض لكم فهو يعادي الإسلام وأهله، ويرفض أهم ركائزه، فأنتم بهذه الطريقة لم تقنعوا حتى عامة الناس بصواب رأيكم، ولا سلِم منكم الدين حين أحدثتم به ثغرة نفذ منها أعداء الإسلام وبدأوا يطعنون به من خلالها، ويشوهون مبادئه وينادون في كل مكان أن هؤلاء هم أتباعه والممثلون له.
وفي تلك الأثناء يدخل أحد الجنود ويقترب من الضابط المحقق ويقول في أذنه كلاماً لم يسمعه أي من الموجودين.
وفجأةً يتغير وجه الضابط ثم يقول: قل ما أخبرتني به بصوت عال ودع الجميع يسمعه، خاصة من يدعي الانتماء لهذا الدين ويقتل الأبرياء باسمه.
فقال الجندي: يا سيدي أريد إبلاغك أن الملازم علياً أصيب برصاصة أثناء مطاردة الإرهابيين ليلة البارحة، وتوفي قبل قليل، بعد جهود مضنية بذلها الفريق الطبي المعالج محاولين إنقاذ حياته.
فقاطعهم المتهم وقد تغيرت ملامح وجهه وأصابه الكثير من الذهول قائلاً: من يكون الملازم علي هذا؟
فأجابه المحقق: الملازم علي هو أحد ضحاياك الذين قتلتهم البارحة.
فقال المتهم: أسألك بالله أجبني من يكون الملازم علي؟ هل هو ذلك الذي يعمل في المنطقة الخامسة؟
فأجابه المحقق: نعم هو.
فأخذ المتهم يبكي ويصيح بأعلى صوته ذاك أخي!...ذاك أخي آه ...قتلت شقيقي يا ويلي!...واستمر في ترديد تلك العبارات دون توقف.
فقال له الضابط: الآن فقط أحسست بالندم، قتلت ودمرت وخربت وسفكت دماء الأبرياء، ولم يتحرك فيك ساكن، والآن تقر بخطئك، كلمناك وناصحناك وأفهمناك رعونة تصرفاتك، ولم تبالِ بما نقول، وعندما فقدت شقيقك تحولت نظرتك وأدركتك فداحة جرمك، ناشدناك وطالبناك ورجوناك أن تكف عن أفكارك فلم تنته، وحين تذوقت طعم فقد العزيز تراجعت وندمت ولات حين مندم.
والله لا أدري هل أعزي نفسي بفقد زميل؟ أم أعزي أمك بفقد اثنين من أبنائها أحدهما قُتل بفعل الآخر؟ أم أعزي مجتمعاً بأكمله بخسارة اثنين من شبابه، الأول قتيل، والثاني منحرف؟ ولكن كل ما أقوله إنّا لله وإنا إليه راجعون.
إرهاب الضعفاء وإرهاب الأقوياء
على الرغم من الديمقراطية التي تزعمها كثير من دول العالم المتقدم اليوم، وحرية الرأي والفكر التي تدعيها، إلا أن كل ذلك يختفي ويزول تماماً حين يتعلق الأمر بغير مصالحها، أو بما لا يتفق مع أهدافها وأطماعها، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب وتعريفه وكيفية التعامل مع أهله.
و بما أنّ بعض النظرات الغربية إلى الفعل وتقييمه تعتمد في المقام الأول على من صدرت منه، لا على طبيعة الفعل ذاته، وحين أقول الفعل وأجرده من أي وصف إيجابي أو سلبي فلكوني أطرح موضوعاً من، موقع محايد، ولأن كل فعل يصحبه صدى إعلامي وردود أفعال متباينة أو متوافقة لابد أن يكون فعلاً ذا سمةٍ فاضلةٍ أو فاسدة، يحددها عادةً من عايش ذلك الفعل ودرسه من جميع جوانبه، وعرف تفاصيل وأحداثه، لأنه ليس كل فعل ظاهره السلبية تكون ردة الفعل تجاهه سلبية، والعكس صحيح أيضا، فليس كل فعل ظاهره إيجابي تكون ردة الفعل تجاههُ إيجابية، لأن ردة الفعل كما أسلفت تعتمد على دراسة الحدث وما يفضي إليه، وعلى سبيل المثال حين نقول إنّ فلاناً من الناس شق بطن فلان فهذا فعل سلبي، ولكن حين ندرس ذلك الحدث ومن قام به وأسبابه والمراد منه، تتكشف لنا أمور تغير نظرتنا السلبية إلى نظرة إيجابية، خاصةً حين نعلم أن من قام بعملية فتح البطن هو طبيب جراح، قام بفعله ذاك من أجل سلامة ذلك المريض وحمايته من أمراض أخرى قد تودي بحياته، حينها تتغير النظرة تماماً، فالعدوانية تنقلب إلى صداقة والكراهية إلى محبة، هذا التغير ناتج للمعرفة وتقصي الحقائق.
ولكي أزيد الأمر وضوحاً أورد بعض الأفعال، وأبين كيف كانت ردة الفعل تجاه كل منها كما يلي:-
حين تتم مهاجمة بلد، واحتلال أرضه، وتشريد شعبه، وقتل رجاله وإذلالهم، واغتصاب نسائه وإهانتهن، وتجويع أطفاله واستغلالهم، فإنّ المعتدي وأنصاره يعدون كل ذلك من باب الدفاع عن النفس، والعمل الحتمي أو الوقائي الذي لابد منه لبقاء الطرف الأضعف المسالم الباحث عن العيش مع الآخرين بكل مودة واحترام، وهو حين يقتل فكل ذلك من أجل السلام وإحلاله، وعندما يهدم المنازل على من فيها فإنما يفعل ذلك في سبيل مكافحة الإرهاب، وتسويغ قتل الرضيع والطفل الصغير هو تخليص البشرية منهم، لأنهم مشاريع إرهابية مستقبلية وقنابل موقوتة في طور التحضير.
وحينما تبدأ مقاومة المغتصب، لا ينظر إليها على أنها مقاومة محتل تجيزها الأنظمة والقوانين الدولية، وتقرها الشرائع السماوية، وتباركها الأعراف البشرية بمختلف أجناسها وأديانها، ولكن....ولكون تلك المقاومة صدرت من الطرف الأضعف المغضوب عليه، فإن تلك المقاومة توصف بالإرهاب وسفك الدماء؛ محاباة للمغتصب، وعلاوة على ذلك فإن حمل الحجر من قبل الطفل يعد تخويفاً للجندي المسكين في دبابته، وإقلاقاً لراحته، وتنغيصاً عليه، فيتسبب في فقدانه التركيز حين يصوب بندقيته تجاه ذلك الطفل المعتدي فيخطئه ولا يصيبه في مقتل مباشرة، مما يستدعي إعادة التصويب ثانية ولما فيه من هدر للموارد المالية لذلك الجيش المحتل، مما يتوجب معه إيقاع عقوبات إضافية على ذلك الشعب، فكل ما يقومون به مؤذٍ لضيوفهم، ومهدر لأموالهم، ومزعج لنفسياتهم، وهذا ما لا ترضى عنه الدول المتقدمة التي نصّـبت نفسها قاضياً ومحامياً وطرفاً في خندق واحد مع المعتدي.
دائماً ما تحاول الدول العظمى غض الطرف عن بعض المنظمات المصنفة فعلاً على أنها إرهابية، منها ما هو أمريكي ومنها ما هو أوروبي ومنها ما تدّعي أنها إسلامية - والإسلام منها براء - ومنظمات أخرى لا حصر لها كالجيش الأحمر الياباني، والألوية الحمراء الإيطالية، ومقاتلو التستر من أجل الحرية الأيرلندية، ومقاتلي التحرير الكولومبيين، وتنظيم 17 نوفمبر اليوناني، وحزب العمال الكردستاني، وغيرها الكثير من التنظيمات الإرهابية، فحين لا تتعارض المصالح يتم التغاضي، وحين تختلف التوجهات يبدأ التنديد، بغض النظر عن حقيقة الأفعال الصادرة عن تلك المنظمات، وما يحدث من تشهير، ومحاولة تضييق على تنظيمات كثيرة تصنّـف ويعاد تصنيفها بين الحين والآخر، فيضاف تنظيمات وتستبعد أخرى، حسبما يتوافق مع مصالح الدول العظمى، وإن كان أغلبها في الوقت الراهن تلك المنتسبة أو المنسوبة للعالم الإسلامي في بقاع شتّى من العالم، حسبما تقتضيه المرحلة الحالية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تضم أكثر من 30% من المنظمات التي تزيد عن خمسةٍ وسبعين منظمة إرهابية أجنبية حسب التصنيف الأمريكي.
وبالطبع فجميع الأحزاب المناهضة لإسرائيل ضمن تلك القائمة كحزب الله اللبناني، والجهاد الإسلامي في فلسطين، وجبهة التحرير الفلسطينية، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وكتائب شهداء الأقصى. بالإضافة لما لا يرضى عنه الأصدقاء مثل كتائب شهداء ريادوس الشيشانية، وجماعة أبو سياف في الفلبين. فكل ما يصدر عن تلك المنظمات من أفعال وإن كانت لمقاومة محتل مغتصب لأرض وعرض فهي أعمال إرهابية.
في حين لا يتم التطرق إلى أي أعمال لا تمس المصالح المتعلقة بالدول العظمى، أو تلك التي تتوافق مع مصالحها، حتى لو كانت في حقيقتها إرهابية غير مبررة، فهم كما يقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكنّ عين السخط تبدي المساويا.
بل زادوا على قول الشاعر حين جعلوا كل الأعمال الصادرة عن تلك التنظيمات مساوئ.
إرهاب الدولة الذي تمارسه الولايات المتحدة مع حليفتها في العراق لا يدعى إرهاباً أو اعتداءً أو احتلالاً، بل هو تحرير وتطوير وبناء وإنقاذ شعب ومنحه الحرية التي يحلم بها، وتعليمه مبادئ الديمقراطية، أمّا من يُقاوم فهو إرهابي يجب القضاء عليه، ومعتدٍ على جنود التحرير الأبرياء الذين حضروا من أقاصي بقاع الأرض من أجل العراقيين البؤساء، ليخرجوهم من ظلام العبودية والقهر إلى نور الحرية والديمقراطية.
ومن أجل هذا يجب على العالم أن يتفهم أهمية كل جندي أمريكي موجود على تلك الأراضي، فهو غالي الثمن، ولابد من حمايته والمحافظة عليه، وتهيئة جميع الظروف، وجعلها ملائمة له؛ كي لا ينزعج، فيصل خبر انزعاجه وتذمره لآذان الناخب الأمريكي هناك في البلد الأم، فيؤثر على شعبية فخامة الرئيس التي باتت تتأرجح يوماً بين انخفاض وارتفاع، وكل ذلك يعود لوضعية الجنود في أرض العراق وحالتهم النفسية.
ومن هذا المنطلق فلا بأس حين يجوع أبناء البلد، وتهدّم البيوت فوق رؤوس قاطنيها، من أجل إفزاع وبث الرعب في نفوس جميع من يقطن المنطقة التي خرج منها من حاول المساس بأحد الجنود، فتلك الهجمات الموجهة ضد ذلك الجندي البريء تعد أعمالاً إرهابية يجب القضاء على من يقوم بها.
الظلم والفقر الذي تعيشه معظم بلدان العالم الثالث وتقف منه البلدان الغنية موقف المتفرج، هو السبب الرئيسي للعنف والإرهاب، وحين تحاول تلك البلدان الفقيرة الخروج من الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، وتعمل ما بوسعها لاستغلال ثرواتها، تتم محاصرتها، والتضييق عليها؛ بدواعي مكافحة الإرهاب، وغسيل الأموال، ومنع تهريب المخدرات، ومن ثم يتم تعويضها عن ذلك بتقديم قروض مالية طويلة الأجل، ظاهرها مساعدتها وإنقاذها من براثن الفقر، وباطنها زيادة تجويعها وإذلالها، لتبقى مدينة منهوبة الثروات من قبل تلك البلدان المسعورة.
تقول الولايات المتحدة بلسان رئيسها جورج بوش: (من ليس معنا فهو ضدنا) وهذا نوع من أنواع إهانة وترهيب الشعوب، والإشكال أن لا ينظر إليه من هذا المنظار، بل تكون النظرة أحادية وكما رأتها أمريكا التعاون في مكافحة الإرهاب.
وحين يطرح السؤال من هو الإرهابي وما هو الإرهاب. لا تسمع أي إجابة علن ذلك السؤال، سِـوى: كن في صفوفنا الخلفية، واستمع للأوامر، ونفذها فقط، دون إثارة أي بلبلة قد تتسبب في تشتيت أذهان القائمين على تلك الحملات، وتمنعهم من انتقاء أعدائهم بعناية، ومن ثم وصمهم بالإرهاب قبل أن يتم الانتقام منهم وإبادتهم.
من المفاهيم المتعلقة بالإرهابي أنه ذلك الشخص الذي يقتل لمجرد القتل. ولكن حين يقوم أحد الأشخاص مضحياً بنفسه في سبيل قضية يرى أنها تهمّه وتتعلق بمجتمعه ودينه، وأن حياته لا معنى لها دون توفير ذلك المطلب الخاص الذي يسعى من أجله، يوصف مباشرة بالإرهاب. وعلى النقيض تماماً حين يقوم جندي مدجج بالسلاح بقتل طفل بريء، فذلك الفعل الشنيع المنافي للأخلاق والشرائع والقوانين الدولية يسمى دفاعاً عن النفس وليس إرهاباً.
من خلال ذلك يتضح لنا أن من أهم الأسباب المشجعة على تفشي ظاهرة الإرهاب في شت-ى بقاع الأرض هي تلك الاستراتيجيات التي يدار بها العالم، والازدواجية في الرؤى والمعيار التي تنتهجها الدول العظمى في مسلكها الأحادي الجانبي، وفي طريقتها الاستبدادية في فرض الآراء وتعميمها على الجميع، ومعاقبة المخالف اقتصادياً أو عسكرياً، وإثارة القلاقل التي ينتج عنها فتن وخصومات سياسية ونزاعات مذهبية وعقائدية تكون نواةً لحروب أهلية لا تنتهي.