الاختلاف وقضايا العصر

د. محرز الحمدي

 

إن الإنسانية لا تواجهها من القضايا إلا تلك التي يفرضها مسارها التطوري، وتقدمها التقني والعلمي، بحيث يكون معنى ما تواجه الإنسانية من مشكلات في تاريخها، أنّ القيم والتصورات السابقة تجد ذاتها في نشاز مع ما اتضح من سبل وعمليات في ضوء التقدم التقني. وإذا رمنا الحديث عن هذا العصر تحتم علينا أن نقف له على ثورتين علميتين وتقنيتين هما الثورة الحاصلة في مجال الاتصالات أولاً، والثورة الحاصلة في مجال علم الوراثة، وما أفرزه من تقنيات جديدة، فيما يسمى بالهندسة الوراثية، ثانياً، ولكي لانطيل على الحاضرين نقول إن مشكلتنا إذن هي:  ما مكانة الاختلاف في ضوء المعطيات الجديدة لعصرنا. هل هو قيمة يُتاق إليها أم هو واقع لاسبيل إلى جحده؟ وإن كان قيمة  فهل بوسعنا  بلوغها وما مشروعيتها، وإن كان واقعاً فما الخطر في نكرانه، وما الفائدة من العودة إليه؟.

ولا نريد أن تكون هذه المساهمة حلاً لهذه القضايا بقدرما نرجو أن تكون دعوة إلى مواجهتها وطرحها الطرح السليم، بعيداً عن كل تحمس من شأنه أن يقودنا إلى مجانبة الصّواب.

الاختلاف في ضوء العولمة

إن التقدم الحاصل في مجال الإلتكرونيات وفي مجال الإعلاميات، نتج عنه أن الاتصالات صارت يسيرة على كل الشعوب في جميع أنحاء العالم، وغير مكلّفة. وفضلاً عن ذلك، فهو تقدم مزدوج الغايات سلميّة وحربية. وبين هذه وتلك روابط لاينكرها العاقل اليوم، فحرب النجوم تجد في النظام العالمي صدى يردّدها. فلا غرابة أن تفرز حرب الخليج (التي رأينا فيها أجهزة إلكترونية منتصبة في قارة أستراليا تقود صواريخ يقع إطلاقها من سفينة حربية في مياه الخليج، إلى هدفها بأحد  بلدان الخليج ـ ما أصغر العالم في ضوء هذه الأجهزة الإلكترونية الجديدة) عن مشروع تتقدم به دولة كبرى لإعادة تنظيم العالم، وتوزيع القوى فيه بالنظر إلى ماصارت تمتلكه من وسائل للتحكم في مختلف القوى العسكرية والاقتصادية، وبالنظر إلى تغير ميزان القوى في العالم من جراء تفكك القوة العظمى الثانية. لاشك إذن أن القطاع العسكري يغنم غنماً كبيراً من تقدم العلم والتقنية، ومايجدر التذكير به هو ما تمكنه الهيمنة العسكرية فيما بعد، أو بالتلازم، من هيمنة اقتصادية وسياسية، تنال من حرية الشعوب وتقهر إرادتها وتنال من هُويتها وخصوصيتها الثقافية والحضارية. إن هذا التقدم التقني يصبح خطراً على الاختلاف، وينكر على الشعوب حقها في الاختلاف، إذا اعتبرنا هذا الحق مقوماً من مقومات حريتها، اللهم إلا إذا قلنا إن الحق في الاختلاف، ماهو إلا أحلام مفكرين مثاليين، تحل فيها الأوهام محل الواقع والتاريخ.

 وماهو مؤكد من ناحية أخرى هو أن هذه الانعكاسات العسكرية والاقتصادية والسياسيه للثورة الإلكترونية والاقتصادية تؤول بالشعوب إلى تناسي مايمثل ذلك من تقدم حقيقي للفكر الإنساني وللتقنيات الإنسانية، ينعكس إيجابياً على حياتها في كل المجالات، بحيث تتقلص المسافات التي طالما ظلت عائقاً أمام التواصل والتبادل ـ فضلاً عن ذلك، فإن الأجهزة الإلكترونية الجديدة التي تبدو معقدة في ظاهرها وأبعد ما يكون عن الإنسان، تصبح أجهزة ذكّية، "لبيبة" من الإشارة تفهم، وهي أجهزة حسّاسة، تستجيب للضوء، وللحرارة وللصّوت، حتى لكأنها كائنات حية، يجد الإنسان سهولة أكبر في استخدامها بمجرد اللمس أو الكلام أو الإشارات الضوئية (لوحة الملامس).

لنقل إذن إن مايتسم به العصر هو زوال الحاجز بين ماهو جامد وماهو حي بفضل علم السيبر نينيقا، أي بين ماهو ميكانيكي، وماهو كائنات حيّة، وكذلك بين ماهو إنساني، وماهو حيواني، إذ بينت السلوكية ما في سلوك الإنسان من ترادف مع سلوك الحيوان من حيث إمكان ردهما إلى نمط مثير ـ استجابة]، ومن حيث إمكان ردِّما هو سيكلوجي إلى ماهو فيزيولوجي. أخيراً نقول إن السّمة المتميزة لهذا العصر فيما بلغه من تقدم تقني، هو انهيار الحاجزين الممكن والواقع، بين التشخيص المركب والمصوّر والمُتخيَّل للأشياء وبين الواقع المُتَخَيَّل Vituel / Reél Archéologie ( التصوير التأليفي ) Image Synthetique إن تقنيات المرئيات اليوم بما تملك من وسائل إعلامية Informatique  قادرة على تصوير الماضي وكأنه اليوم، والغد، وحتى مالم يحصل بعد أو لن يحصل، فنحن نتعلم، أيضاً، سياقة الطائرات بفضل جهاز قادر على تصوير الواقع، ونتعلم حتى فنون الحرب، والقتال، (الألعاب المرئية) وأن تتقلص المسافات بين بلدان العالم وبالتالي بين الشعوب، وكذلك أن تتقلص الهوة الفاصلة بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، وأن تتقلص المسافة بين مايفصل الكائن الحي عن الجماد، وأن تتقلص أخيراً المسافة بين ماهو تركيب وتأليف خيالي لواقع وهميّ وبين ماهو الواقع المادي والتاريخي الحق، وأن يكون ذلك أمراً مؤكداً مدعماً إيجابياً بالواقع، فذلك مانحاوله وتمتلكنا الدّهشة لأن فيه قلباً لمفاهيمنا السابقة: ماذا يمكن أن نستبقي منها؟ وماذا ينبغي علينا تركه؟ من ذلك تصوّرنا للإنسان على أنه كائن متعالٍ وواعٍ وذو إرادةٍ حرة، ومن ذلك تصوّرنا الشعوب على أنها تختص بثقافتها التي تميزها عن غيرها من الشعوب وأن قوامها في اختلافها. ومن ذلك أن الخيال وهم والوهم لاعلاقة له بالواقع، وهو خطأ والواقع حق، فإذا بالخطأ اليوم يعلمنا الحق ، ويهيئنا لفهمه، وهو حق أكثر من الحق ذاته، كذلك الوهم هو واقع أكثر من الواقع ذاته Les Simulateurs.

أين إذن مكانة الاختلاف ؟ وما مشروعية مطالبة الشعوب اليوم بحقها في بقاء اختلافها واستمراره؟.

أفقت ذات صباح، في الخريف المنصرم، على دوي قهقهة أبنائي فاستفسرت، قالوا: تافه وسخيف رأي هذا الدكتور. فقرأت:

 رئيس التحرير:

 أثارني المقال المنشور في العدد (475) يونيو 1998 عن فيلم التيتانيك وأحبّ الإشارة إلى ثلاث أفكار للتمعّن:

أولاً: عالميّة التمجيد والإشادة بالأفكار المنحلة يسهل قبول تلك الأفكار لدى الجمهور فهذا الفيلم يقوم على قصة امرأة تعرّت أمام شخص غريب (فنان) ليرسمها، وتصبح هذه الفكرة عاديّة حيثما عرض الفيلم، لأنه لم يعترض عليها أحد بل قامت كل وسائل الإعلام سواء حكومية أوخاصة بالترويج لها، وهكذا تصبحُ الفحشاء على الشاشة الكبيرة والفيديو المنزلي أمراً عادياً ومبرراً بدوافع: إنسانية وبشكل عالمي، وبالرغم من مقص الرقيب الوطني، فالفكرة وصلت غايتها.

ثانياً:  دأب هوليود على الإشادة باليهودي النبيل منقذ العالم والبشر، فمساعد القبطان واسمه مردوك هو الذي نظم عمليته إخلاء السفينة، منقذاً أكثر ما يمكن من الرّكاب بشهامة وعنفوان الأبطال، ثم انتحر في النهاية بدوافع إنسانية بينما توارى  قبطان السفينة مسببُ المصيبة.

ثالثاً: شأن يهمنا بخاصة وهو دأب هوليود، أيضاً، على تسفيه العرب والحط من شأن المسلمين بمناسبة ودون مناسبة، فالمسلم العربي على السفينة غبي وتافه يقف محتاراً لايعرف اليمين من اليسار أمام مخرج النجاة، ويستعين بالقاموس بينما زوجته المحجبة تندب وترتل وتبتهل بشكل يثير ضحك وسخرية النظارة.

ترى هل تفيد فكرة المقاطعة؟ ترى هل يفيد التفكير أصلاً؟ (مجلة العربي ـ سبتمر 1998 ص 7، ركن عزيزي القاريء) الدكتور فواز الكاتب ـ دمشق ـ سوريا.

ولم أورد هذه المراسلة لأني أشاطر ماذهب إليه هذا القارىء الكريم، وكذلك فإني غير راضٍٍ عن رأي أبنائي فيما كتبه، لأنه لاتخلو من حقيقة ـ وفضلاًً عن ذلك، فهو عبّر في نظري عن حقيقة ملحة، وهي حق الشعوب في الحفاظ على ماتعتقد ـ عن حق أو عن خطأ ـ أنه هُويتها وذاتيتها ـ فهذا قارىء سوري، من النخبة المثقفة. يراسل من دمشق مجلة صادرة في الكويت، لكي ينكر عليها إشادتها بشريط أمريكي، لأسباب أولها أخلاقي قد لانشاطره فيه، لكن مالايمكن ردّه أن بعض المشاهد ـ كمشاهد العُري ـ تتنافى مع ماجاء به الإسلام من قيم، وأنه من حق الشعوب أن ترفض رواج ماتراه منافيا ًًلأخلاقها وعقائدها.

ونحن لاننكر هنا أنه من السهل علينا دحض هذا الموقف: أن نذكر بأن كل الأديان تقريباً تأبى تلك المشاهد، وأن خاصية البشر هي أنهم يعيشون دائماً هذا التَمزق بين مُثِلهم العليا ( مثُل ِالعِفَّةِ هنا) وميلهم الغريزي والطيبيعي إلى المجون والمتعة الجسدية، وأن شريط التيتانك ليس الشريط الوحيد الذي يحتوي على  مشاهد من هذا القبيل، ولكنها لم تثر غضبه إلخ... .

 لكن أعتقد أن موقف هذا القارىء يرمي إلى قضية أخرى، هي عالمية الإشادة بهذا الشريط، لماذا هذا الشريط بالذات، لماذا سخرت كلّ وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم لترويج هذا المنتوج؟.

لذا نرى انتقاداته فيما بعد توجّه إلى مؤسسة هوليود من حيث هي مجمع كل الدّور الكبرى للإنتاج السينمائي.

والقضية المطروحة هناهي: هل يجوز أن يمتد النظام العالمي الجديد إلى حيز الثقافة؟ فأن تزول الحواجز الجمركية وتخترق البضائع حدود البلدان في العالم بأكمله بالنسبة إلى المنتوجات الصناعية والزراعية، ذلك أمر يبقى مقبولاً طالما هو في صالح الشعوب. أما أن تزول هذه الحواجز في وجه النتاج الثقافي، والصناعة السينمائية هنا ـ فذلك من شأنه أن يشكل خطراً على بقاء الهُويّة ودوام الخصوصية ـ إذ الذّات هي مجموعة الخاصيات، وكل سعي إلى إغراق الخصوصيات في خضم العولمة ومَوْجها المتكبّر هو سعي بطيىء إلى إذابة الذَاتية، وإلى اضمحلال الهُوية لصالح القوى المهيمنة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لذا نرى أنه من حق الشعوب المقاومَة على صعيد الثقافة، حتى وإن كانت القضية غير صادقة في المطلق، فهي على الأقل ناجعة وفاعلة في الظروف الحاليّة ـ عندما تنتهي كل الحروب، وتسكن كل الأسلحة، ويتربع الغالب على عرشه، تبدأ حَرْبُ أخرى: هي حرب القيَم آنذاك تشكل الثقافة حصناً منيعاً لا يخرقه مَنْ خرق الأراضي والبحار والجوّ ـ لذا مثَّلت المرأةُ في البلدان المستعمرة قديماً حصناً منيعاً وخزينة بها حفظت هُويّتها وثقافتها. يضحكنا جهلها ويضجرنا تعصبها وجمود مواقفها، لكن يدهشنا صُمودها، ونُشِيدُ بمناعتها. فمن حق الشعوب إذن، إن أعياها الوقوف في وجه البضائع الخارجية وقوانين التسوق العالمية، أن تقف في وجه القيم التي ليست قيمها، والتي من شأنها أن تغزو قيمها، إذا كانت مصرّة على بقائها بما هي شعوبٌ متميزةٌ.

وماتجدر الإشارة إليه هنا، هو أن وعي الشعوب بذاتيتها وبثقافتها الخصوصية، إنما تَعَزَّز وتدعم بظهور ما اصطلح  على تسميته بالعلوم الإنسانية، ابتداء من أواخر القرن التاسع عشروجزء كبير من القرن العشرين. وقد رافقت هذه النشأة حركاتٌ سياسية تحريرية نزعت من ورائها الشعوب إلى نيل حرّيتها والتحرّر من كابوس الاستعمار ـ فإثبات الهويّة الثقافيّة والمطالبة بالحرية السياسية والاستقلال أمران مُتلازمان. لايكون لنا حق في إنشاء دولة والانفصال عن هيمنة المستعمر، إلا إذا كانت لنا هُويّة تميزنا وثقافة تجمع بيننا وتوحدنا، مميزة إيانا عن الآخرين هناك في البدء إرادة اختلاف، لكن هذه الإرادة لاتكون نافذة إلاّ إذا كان الاختلاف أمراً واقعاً، أيضاً. ولنقل إن العلوم الإنسانية النّاشئة ـ أخص بالذكر منها الأنثروبولوجيا الثقافية ـ كانت سنداً هاماً لحركات التحرير في العالم، بدعوتها إلى احترام الثقافات وخصوصياتها ووقوفها أمام ما أسمته بالمركزية الثقافية للمستعمر الأوروبي، وكذلك بمطالبتها بالحفاظ على هذه الثقافات حتى وإن كانت ثقافات الأقليات. وقد دعت منظمة اليونسكو سنة 1952، العالم الأنثروبولوجي الفرنسي (كلود ليفي ستروس) وجمعاً من العلماء الآخرين لإبداء الرّأي في حقيقة الأعراق (Races) ودورها في تاريخ الإنسانية، فكان أن أقر بحقيقة الاختلاف الثقافي الذي لاسبيل إلى إنكاره، وبالتنوع في الزمان والمكان ـ الذي تتسم به البشرية على صعيد الثقافة. وأن هذا التنوع لاينظر إليه على أنه عائق أو أمرٌ مزعج ـ إذ هو لايزعج إلاّ إرادة الهيمنة ـ  بل هو ثراءٌ وغنى، غنمت منهما الإنسانية غنماً كبيراً، وزاد في تواصلها وعزّز قنوات التبادل بين مختلف شعوبها.

وقد أقر كلود  ليفي ستروس، أيضاًً، في كتابه  Rece et Histoiré بأن الثقافات ساهمت كلّها بقدر كاف ومحمود في بناء الإنسان، إذ أََدْلَتْ كل واحدة، من وجهة نظرها المختلفة، بدلوها في تشييد الحضارة الإنسانية، هكذا فإن كان  إنشاء الثقافة أمراً مشتركاً بين جميع البشر للتأقلم مع محيطهم وبيئتهم، ووقفاً عليهم دون غيرهم من الكائنات، إن كانت الثقافة ظاهرة كونية فإن تجلياتها في الزمان والمكان لابدّ أن تكون مخصوصة، أي على وجه الاختلاف، وهذا الاختلاف هو الذي يذكي ويحفظ نار الإبداع الإنساني، والقدرة المهولة التي للإنسان على التكيف مهما كان المكان والزمان، كل شعب، بحكم موقعه الطبيعي في المكان، وبحكم زمانه ينشىء ثقافة تسهل عيشه، وتسخيره لمحيطه وتحكم علاقاته، وتبادله مع غيره من المجتمعات ولاسبيل إذن إلى المفاضلة بين الثقافات ـ إذ المقياس الوحيد الذي تقاس به قيمة الثقافة هو مقدار ماتمكن قومها من البقاء في محيطهم الطبيعي والاجتماعي ولاسبيل كذلك إلى الاعتقاد بأن شعوباً دون أخرى تنشىء الثقافة، في حين يرزح غيرها تحت الوحشية. إذ الحق أن كل قوم، مهما كان عددهم، لابدّ أن ينشؤوا ثقافة أياًكانت درجة تعقيدها. ومن الخطأ أن نعتقد أن شعوباً دون أخرى تكون داخله حيزّ التاريخ في حين تعيش الأخرى عيشة القطعان خارج حركة التاريخ.

وقد أقر (كلود ليفي ستروس) في مقدمة كتابه: "البُنَي الأوليّة للقرابة" أن الإنسان ينفرد دون غيره من الحيوانات بإنشاء الثقافة، وأن هذا يضعه وجهاً لوجه مع الطبيعة: الثقافة مغايرة للطبيعة، وهي مختلفة معها، وأن حقيقة الإنسان لاتدرك إلا في إطار هذا التعارض مع الطبيعة، غير أن الثقافة والطبيعة تمتزجان عند الإنسان في الواقع بحيث يصعب علينا التميز بينهما: لذا أقرّ أن هذا الفصل لن يكون إلاَّ نظرياً، وهو ضروري لكي يبقى هناك فرق بين الإنسان والحيوان، سنقول إذن إنَّ كل ماهو مشترك بين البشر، ويتسم بالتلقائية هو من قبيل الطبيعة، وإن كل ماهو مختلف خاص، ويتسم بالخضوع للقاعدة هو من قبيل الثقافة. هكذا إذن يبدو لنا أن الاختلاف هو من جوهر الثقافة.

ويبقى علينا الآن أن نتبادل ماعسى أن تكون هذه الثقافة العالمية الموحدة والمشتركة في ظلّ العولمة الاقتصادية ؟ ماعسى أن تكون هذه الثقافة غير الخاصة؟ ومن حقنا أن نسأل، أيضاً: إذا كانت الثقافة العقلية (المعارف العلمية والتقنية) ممكنة التعميم والكونية، فهل للقيم قابلية الكونيّة؟ وفي هذه الحالة هل هي قيم القوي أم قيم الضعيف؟.

الاختلاف في ضوء الهندسة الجينية ( الوراثية):

 ليس الاختلاف ظاهرة تخص الثقافات. وليس التواصل  حكراً على عالم الإنسان الواعي والمفكر، كماهو ليس حكراً على مجال اللّغة.

 إذْ أقرّ علماء الأنثروبولوجيا، وعلى رأسهم (كلود ليفي ستروس) فيما أسماه بالنظرية الإخبارية أن الحياة الاجتماعية بجميع أبعادها تمثل حقلاً شاسعاً للتواصل بين أفراد المجتمع، تتغير رموزه بتغير مستوياته التي يمكن ردّها آخر الأمر إلى ثلاثة أسُس: مستوى تبادل الخيرات، وهو الحياة الاقتصادية، ومستوى تبادل النّساء، وهو ما يسمى بعلاقات القرابة والنّسب المحدّدة لقواعد الزواج، وأخيراً مستوى تبادل الكلمات، وهو يمثل رمزية اللّغة. فالبشر إذن لايتواصلون فيما بينهم بالكلمات فقط، وإنما قياساً على رمزية اللغة في بناها، تنشأ داخل المجتمع أنظمة دلالية أخرى توظف لضمان إبلاغ وتلقي المعلومات. وليس تناقل المعلومة داخل الحقل الاجتماعي سوى دليل على حياة المجتمع وحركيته. وما تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذا النّمط الإعلامي والإخباري الذي اعتمدته العلوم الاجتماعية النّاشئة في مقاربتها للواقع الاجتماعي، هو في أصله نمط لساني، أفاده علماء الاجتماع من علم اللّسانيّات. فاللّغة تتطلّب، بوصفها إرسالاً للبلاغات والرّسائل، مرسلاً ومتلقّياً، كما تتطلّب شفرة رموز يحول إليها البلاغ من قبل المرسل، لتُفكّ فيما بعد من قِبَلِ المتلقي، ويمرّ البلاغ عبر مايسمى  بالقناة بشرط ألا تشوبه شائبة. ولم يكتف هذا النّمط اللّساني بغزو العلوم الإنسانية، بل امتد، أيضاً، حتى إلى العلوم الطبيعية بما فيها الطبيعيات وعلم الأحياء. ففي عالم الجماد عدّت الحركة معلومة، تنتقل من جسم دافع إلى جسم مدفوع، وكذا كلّ التفاعلات الميكانيكية والكيميائية في المادة الجامدة، إنما هي استجابة لخبر ورد عليها من أجسام أخرى  رد ّت عليه الفعل. والأمر على نفس القدر من الأهمية في عالم الأحياء. فقد اعتنقت علوم الحياة لغة اللّسانيات بأكملها، وصارت تفهم الوراثة وانتقال الحياة بين الكائنات وبين الأجيال على أنها تنفيذ لبرنامج وَرَدَ مكتُوباً  بأحرف كيميائية في الكروموزومات والجينات فنتكلم حينئد عن شفرة جينية وعن بلاغ جيني إلخ. كل ذلك هو لغة الوراثة ـ ولغة الوراثة لها نحوها وقواعدها، وصرفها ومعجمها الدّلالي. وهذه اللّغة قديمة، وسابقة على لغة الإنسان وعلى كتابته، وما صرنا نعلمه اليوم بتقدم علم الأحياء عموماًً وعلم الوراثة على وجه الخصوص هو أن الحياة هي إنتاج مستمر لأشكال وصور حية مختلفة ، وأن هذا الاختلاف في الصور الحية، هو شرط بقاء الحياة ودوامها كما هو شرط تطوّرها ورقيّها. وأن هذا التطوّر وهذا الرّقي اللّذين يضمنهما تنوّع الأشكال الحيّة واختلافها، إنّما مردّهما علاقة الكائنات الحيّة بمحيطها بما يطرأ عليها من عوامل هي موكولة للصّدفة أكثر منها لضرورة عقليّة يمكن حُسبانها، وكذلك سنّة الوراثة وقوانينها، وجانب الصّدفة، أيضاً فيها فعالم الأحياء له قوانينه وضرورته، لكنّه معرّض، أيضاً، لفعل الزَمن ومفاجآته وصدفه. وينتج عن هذا الثراء الشاسع في عالم الصّور الحيّة وبخاصة بداية من الثدييات في عالم الحيوان أن الصور الحية، إنّما تتعدد لابتعدد الأنواع فقط، وإنما هي تتعدد بتعدد الأفراد داخل النوع الواحد. فالاختلاف ليس اختلاف الأنواع، فحسب بل هو اختلاف الأفراد. إذ صرنا نعلم اليوم أن تشكل الأفراد،  إنما يكون تنفيذاً لمعطيات واردة في برنامج جيني صادر عن الأبوين في البويضة. وكل فرد، هو في أصله صنف جيني (génotype) أي بنية اجتمعت فيها جينات من الأم والأخرى من الأب أو من الأجداد المباشرين أو القدامى. والجينات هي التي تحمل الخصائص التي ستتجلى فيما بعد في  حياة الفرد، في مايسمى الصنـف المظـهري (Phénotype). فالخصائص واحدة، وهي متوارثة عن الأصول، لكنها تجتمع في كلّ مرة، عند كل فرد، في تركيبة خاصة فريدة من نوعها، لم يكن مثلها، ولن يكون مثلها أحد. والواحد منّا واحد أحد، من حيث بُنْيَتُه الوراثية الجينيّة، لذا فإنّ تحليل A.D.N لايُبقي مجالاً للشك في خصوصية كل فرد. وليس في ذلك إلا آستثناء وحيد: وهو حالة التوأمين الحقيقيين، وهما التوأمان المتأتيان من بيضة واحدة تنشطر شطرين: في هذه الحالة فقط يمكن أن نعثر على نفس التركيبة الجينية الوراثية. وعلى كل فإن الحياة هي تنفيذ لبرنامج مرسوم من قبل. هكذا ينحو علماء البيولوجيا. وبوساطة مفهوم البرنامج، كما يقول فرانسوا جاكوب في كتابه "منطق الحيّ" من الميكانيكية العمياء دون الوقوع في الغائية الوهمية.

وإذا ركزنا أكثر على كتاب فرانسوا جاكوب هذا، وبخاصة على صفحتي 331-330   فإنه يتجلى لنا أن ثمة عاملين أساسين ساهما في تحسن الصّور الحيّة وتنوعها وتطوّرها ورقيّها:

أولهما أن التكاثر صار جنسياً: يتطلب تزاوج الذكر والأنثى، بحيث يصبح النّسل لانسخة مطابقة للأصل من كائن واحد، أو تنفيذاً لنفس البرنامج بواسطة الاستنساخ وإنّما تزاوج بين برنامجين جينيَّيْن مختلفين، من شأنه أن يعدّد الاحتمالات الممكنة للتنوع والاختلاف. هكذا  يتشكل بنك جيني مشترك يجد فيه كلّ جيل المادة الأولية لتكوين برامج جينية أخرى مختلفة. وإن ترابط الأفراد والأجيال بواسطة الجنس هو الذي يشكل القاعدة التي تجعل التطور ممكناً. إن التكاثر الجنسي يجعل البرامج الجينية مضطرة إلى العودة إلى بنك المعطيات، لتتصفح كل الإمكانات ضماناً لمزيد التنوع، عوضاً عن استنساخ متواصل لنفس الأصل، لاتنوع ولاتطور فيه. إنَّ تدخل الجماع الجنسي بين الذّكر والأنثى في عالم التكاثر أحدث ثورة كبيرة في مجال الكائنات الحيّة، إذ فتح أمامها أفقاً لامتناهياً للتنوع والاختلاف وقابلية التطوّروالتحسن.

وثانياً: هي خاصية الموت التي يعدها جاكوب الشرط الضروي لكل تطور. ولا يتكلم هنا عن الموت العارض، الطارىء من الخارج، وإنما الموت المفروض من داخل العضوية، والمرسوم بوصفه مرحلة ضرورية داخل البرنامج الجييني منذ البدء. إذاً ما التطور؟ هو نتيجة لهذا الصراع بين ماكان وما سيكون، بين ثبات التوالد وجدة الاختلاف والتنوع. أما في التوالد الجيني، فصار من اللازم أن ينقرض الأفراد، ليبقى النوع، بحيث إن بقاء النّوع صار رهين هذا التوازن الضروري بين طقوس التكاثر الجيني، بما يتطلبه من حمل وتربية وضرورة انصراف الأجيال التي أنهت دورها في مجال التكاثر.

أما اليوم، فبتقدم الهندسة الوراثية صار بإمكان العلماء استنساخ الحيوانات بعضها من بعض دون اللجوء إلى الجماع الجنسي، وهذه الطريقة التي كانت معروفة منذ زمن في مجال النبات، لم تكن تثير الجدل، لكنها اليوم، وقد شملت حيوانات قريبة جداً منا ـ وهي الثدييَّات ـ صار من حق الانسان أن يحتار لها.

وقد اخترنا، بدل البقاء في حد الحيرة ـ أن نطرح سؤالين.

.1 ما الذي يضمن تنوع الصّور الحيّة وتجددها، وتطور أشكال الحياة في ضوء هذه التقنيات الجديدة التي تعود إلى ماقبل ظهور الجنسي في تكاثر الأحياء؟.

.2 ماذا عن شخصية الفرد (نستعمل هذا المفهوم على صعيد الإنسان والحيوان على حد السواء) اليوم إذا كان الفرد مجرّد نسخة مطابقة للأصل؟. إذا لم تكن للفرد أرضية وراثية بيولوجية تميزه منذ البدء، فإن المحيط الطبيعي والاجتماعي لايكفيان لوحدهما لتمييز شخصيات الأفراد بعضها عن بعض.

والحق أننا، بقدرما نبتهج لكل خطوة تخطوها الإنسانية على درب التقدم العلمي والمعرفي والتقني، فإننا نشعر بالحيرة والقلق من انعكاسات ذلك التقدم المادي على الحياة الأخلاقية والروحية للإنسانية. إذ لابد من إيجاد  توازن حكيم بين مايبدعه الإنسان من قوى مادية على تسخير الطبيعة والتحكم فيها ومايدين به من شعائر روحية وأخلاقية واجتماعية تمنع من انقلاب الكسب المادي إلى سلاح فتاك، بخاصة وأن الكسب المادي الجديد قد ينقلب، أيضاً، حتى على الكسب المادي السابق. هناك حدود ينبغي ألا تطالها هفواتنا: أن تضرّ بالمحيط الطبيعي الخارجي، وأن تنال من طبيعتنا العضوية الداخلية. لأن في ذلك هلاك الإنسانية، إذ الطبيعة الخارجية التي نعرفها هي طبيعة عملت فيها يد الإنسان طيلة آلاف السنين، عبر أجيال وأجيال: هي طبيعة مؤنسة. وكذلك أجسادنا، هي قمة تطور وتأقلم دام آلاف السنين وهي، أيضاً حصيلة تربية وتجميع وتهذيب، بفضل ما أوتينا من قيم  ونظم وعقائد.

أخيراً إن بقاء البشرية وعمرانها الأرض مردّه أمران اثنان، صرنا نخشى عليهما اليوم:

.1 القدرة على الابتكار والإنشاء وحرّية التصّرف قصد تسخير المحيط، بما أوتيت الشعوب من قدرات وإمكانات لإثبات ذاتها في حدود أرضها، وتحقيق أغراضها المتميّزة.

.2 تنوع الخلق، وتجدده، بتعدّد الأعراق، واختلافها وتباينها، وكذلك بتعدّد الأفراد واختلافهم وتباينهم.

فحذار أن يصبح الخلق استنساخاً، وتصبح الثقافة واحدة كونيّة. لأنه بذلك ينضب معين الإبداع وتنطفىء شعلة الحياة. ولنذكر قوله تعالى:

 {ياأيها الناس}

 {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}

  {وجعلناكم شعوباً وقبائل}

 {لتعارفوا}

{إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}

  {إنَّ اللَّه عليم خبير}.

( سورة الحجرات، الآية: 13).

فسنة الخلق التي ارتضاها الرّحمن للبشر، هي التّكاثر الجيني، بواسطة الجماع بين الذكر والأنثى.

وذلك لايمنع من أن تكون البشرية شعوباً مختلفة من حيث مجتمعاتها وثقافاتها، أو أن تكون قبائل أي تجمعات على أساس القرابة الدّموية، إن هذا التنوع والاختلاف ضروريان في البدء، إنّ لهما غاية، وهذه الغاية هي التعارف، والتواصل والتكافل لابدّ من الذاتية أولاً، والخصوصية وانطلاقاً منها يكون للتعاون والتعارف معنى.

ولامجال للتفاضل بين الشعوب والقبائل والثقافات، فالثقافات لايفضل بعضها بعضاً: والأفراد لايفضلون بعضهم بعضاً بسبب انتماءاتهم القَبَلية والعرقية والثقافية. وإنما بتقواهم، فالفوز إذن بالتقوى. والتقوى من الفعل الفردي والشخصي: مدى سعي الفرد لتجاوز الخصوصية للالتقاء بالآخر.

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=259

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك