الحوار بين الديانات: الهدف الذي تم إغفاله

الحوار بين الديانات: الهدف الذي تم إغفاله
بقلـم محمد مسعد *

الحوار هو الخطوة الأولى باتجاه الحل السلمي للنزاعات، والحوار بين الديانات هو الترجمة الدينية لهذا الحوار، وأحد أهدافه وضع حدّ للنزاعات ذات الحافز الديني. هذا التوجه الواعد ليس غريباً، فهناك العديد من اللقاءات الإقليمية والعالمية تعقد بين الديانات ويحضرها علماء دين ذوو مراتب عليا قاموا، بهدف مواجهة التبادل الملتهب للجدل الديني العقائدي بين الجماهير، بإصدار بيان تلو الآخر مؤكدين على رسالة التسامح والسلام الموجودة بشكل طبيعي في كافة ديانات العالم. إلا أن هذه البيانات لا تترجم أبداً إلى تحوّل ملموس في الواقع المحيط. فالصورة المتنافرة التي نراها اليوم هي صورة تجمّع ليبرالي بورجوازي من الحوار بين الديانات، تحيط به مساحة شاسعة من الجماهير المتنازعة إما غير المهتمة أو غير المدعوة للانضمام إلى تلك المجموعة.

لإصلاح هذه الصورة دعونا نأخذ بعين الاعتبار هدفين، كثيراً ما يتم تجاهلهما لسوء الحظ. أولاً، يتوجب على العلماء توظيف سعة معرفتهم لمجابهة خطاب النزاع بشكل جدّي. ففي صورته الإسلامية يتطور هذا الخطاب وينمو حول عدد من المفاهيم الأساسية مثل الجهاد والاستشهاد واليهود والأرض المقدسة والخلافة الإسلامية والتنبؤ بنهاية العالم. هنا يستخدم «الجهاد» ليعني حربا أبدية ضد غير المسلمين، و«الشهادة» لتشريع العمليات الانتحارية ضد المدنيين، و»اليهود» كشعب مُقدَّرة عداوته الأبدية للمسلمين، ويغدو «للأرض المقدسة» طبيعة ذات قداسة خاصة، تفرض نظما سياسية معينة. أما الخلافة الإسلامية، والتي كانت تكوينا تاريخيا خاصا، فإنها تصبح جزءا جوهريا من ممارسة الإسلام؛ يعتقد المسلمون أنها إن لم توجد فإنهم لا يستطيعون أن يكونوا مسلمين حقا. كل هذه المفاهيم، وخطابها، تقودها نبؤة، رؤية للمستقبل، أبرز معالمها حرب ضروس بين المسلمين واليهود تدمغ نهاية العالم. فخلق هذه المفاهيم الدينية-التاريخية وحياكتها معاً أمر يشكّل وصفة لعنف أبدي لا يستطيع تحييدها الوعظ الخطابي الجميل بالسلام أو أي وعود بالحوافز الاقتصادية.

وإطلاق صفة التشدد على هذا الخطاب وعزوه إلى بعض المتطرفين المنعزلين الذين «لا يمثلون الإسلام الحقيقي» أثبت دائماً أنه استراتيجية فاشلة، بل في الواقع منافقة. فالغالبية الساحقة من المسلمين تؤمن بأن الجهاد والشهادة والأراضي المقدسة والخلافة الإسلامية هي أجزاء أساسية من دينها. وهي تنصت بشكل متواصل لخطباء صلاة الجمعة يستشهدون بنصوص دينية تدين بوضوح وبشكل مباشر اليهود لحقدهم على المسلمين. ولو وضعوا هذه النصوص المقتبسة جانباً فكيف يستطيعون التهرّب من نبوءة يعتبرونها جزءاً أساسياً من عقيدتهم؟ من ناحية أخرى فإن وصفة عادية للتحول من قراءة حَرفية خاطئة إلى أخرى تفسيرية صحيحة لم تلق آذاناً صاغية. فالقراءتان معاً، الحرفية بشكل مطلق التي لا تهتم أبداً بالمضمون الاجتماعي الثقافي، والتفسيرية بشكل مطلق التي تجعل من النص غير ذي علاقة تقريباً، لم تجدا طريقهما إلى التيار الرئيسي في الإسلام. والوضع كان دائماً وسطياً: قراءة متفاوض عليها تربط بشكل تبادلي دينامي بين النص والمضمون. إضافة إلى ذلك، ومما يدعو إلى السخرية، أن القراءة التفسيرية هي التي أضفت الشرعية على العمليات الانتحارية والقراءة الحَرفية هي التي منعتها بكل صرامة.

يتوجب على العلماء، إذاً، أن يتوقفوا عن صياغة بيانات السلام، وهي مهمة يستطيع العديد من الناس القيام بها، وأن يعكفوا على القيام بالمهمة التي لا يستطيع غيرهم تأسيسها. يتوجب عليهم أن يوجدوا ويطوروا ويشجعوا طرحاً إسلامياً أصيلاً للسلام، يكون رحيماً بالتقاليد، يهتم بشكل جاد بالنص المقدس ويبني على تجربة المسلمين التاريخية وصيغهم الاجتماعية الثقافية بدل أن يتجاهلها. فلا يستطيع سوى طرح كهذا أن يشكل مخرجاً شرعياً لغالبية المسلمين المتدينين الذين يتوقون إلى السلام لكنهم لا يستطيعون تجاهل إيمانهم. وطرح كهذا ليس بالمستحيل إذا أخذنا بالاعتبار الغنى والتنوع اللذين تتمتع بهما هذه التقاليد المتعددة المستويات التي تم حفرها وإنتاجها من خلال شبكة من الأزمنة والمواقع.

والهدف الثاني الذي تم تجاهله هو مشاركة المجتمعات الدينية في نشاطات تدور في ما بين الديانات. فيجب أن ينتقل الحوار بين الديانات من الفنادق ذات النجوم الخمسة إلى مساجد الأحياء السكنية والكنائس ودور العبادة اليهودية. يجب أن يلتقي المتدينون من كافة الخلفيات الدينية بشكل متكرر، وأن يصغوا إلى بعضهم بعضاً وأن يتواصلوا بشكل إنساني ويتبادلوا تجاربهم الدينية والروحانية الشخصية التي يثمّنونها بشكل أكبر. هذا أمر يجب أن يُسمح به وأن تتم رعايته في ساحة آمنة خالية من التمثيلات السياسة ومفعمة بالعلاقات الشخصية الحميمة.

وخلاصة ما تقدم أنه يتوجب على العلماء أن يوجدوا ويطوروا خطاباً أصيلاً للسلام والتفاهم. فالمجتمعات الدينية، من ناحية أخرى، ليست بحاجة للمواعظ أو القيادة الكهنوتية، بل عليها، يحفزها طرح أصيل حقيقي، أن تشارك بشكل مباشر في الحوار وبناء السلام. فحالة العالِم الديني النشط وغير المتخصص الذي يُنظِّر دينياً والذي نحن أسرى له يجب عكسها عاجلاً وليس آجلاً.

* محمد مسعد، طبيب نفسي وأنثروبولوجي وكاتب مصري غير متفرغ، ناشط في مجال الحوار بين الأديان يعمل حالياً كمنسق للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مبادرة الأديان المتحدة.
المصدر: http://www.atida.org/forums/showthread.php?t=4499

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك