الحوار مفهومه وأهدافه وركائزه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
أما بعد : أحببت أن أشارك بهذ الموضوع المقتبس من موضوع الحوار الفلسططيني نظرا لأهميته وشموله ،
أرجو أن يستفيد منه زملائي مدرسي أقسام أولى ثانوي
الحوار
مفهومه وأهدافه وركائزه

فاضل بشناق مدير مركز المرشد للدراسات والأبحاث
29/5/2006
مقدمة
يقول الإمام الشافعي في الحوار: ما حاورت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق إلى جانبه.

إن حقيقة الأزمة التي نعاني منها في واقعنا الفلسطيني ، تتمثل في الثقافة وما تواجهه من أزمة ، وما يعتريها من انحراف وتشويه والحوار في ثقافتنا أصبح الفضيلة الغائبة في ظل سيطرة ثقافة التفرد والقوة والتسلط والإقصاء والتهميش والاستكبار وعدم الواقعية ورفض الآخر ، ولهذا وإذا كنا نسعى لإنقاذ ذاتنا من مزالق ومخاطر هذه الثقافة ، لا بد من رفع الصوت عالياً والعمل الجاد من أجل تأسيس ، منهجي لثقافة جديدة تعكس سلوكيات حميدة ، لدى الأفراد في المجتمع والتي بدورها تنعكس على يسلوكيات الأطر والفعاليات الناظمة للعمل الحزبي والحركي في فلسطين ، بشكل يؤسس لوعي مفاهيمي حركي فعال حول الحوار متوسلا بالنماذج الإسلامية التاريخية التي تخطت الإشكالات العقائدية والأخلاقية والفقهية والكلامية والفلسفية بمنهج الحوار القرآني.
إن هذه أفرزت وما زالت تفرز نمطاً من التوجه السياسي الخاطئ ، والذي بدوره يحرف بوصلة المجتمع عن الوجهة الصحيحة ، وبالتالي الإنزلاق في مستنقعات التشتت الفكري ، والذي به تنمو شجرة علقمية الطعم ، شوكية ، ليس لها ظل للباحث عنه في صحراء الفتنة ، والفوضى ، ولا يمكن للمسار السياسي وخطابه ، أن يكون مسؤولاً وناظماً للحياة المجتمعية والعمل السياسي الواعي ، والقادر على التطور ، والمواجهة ، والتحدي ، وحوارنا الوطني الفلسطيني يجب أن ينطلق من أرضية ، خصيبة ، قابلة لإحياء ثمار الوحدة ، في الشعار ، والوحدة في التوجه، والوحدة في الطموح ، والوحدة في التطلعات ، والوحدة في القرار ، وليس مثلبةً أن يكون للمفاصل والفعاليات والأطر الحزبية والمجتمعية هامش من التفكير ، ورسم السياسات ، ولكن ذلك لا يعني أن يكون هذا الهامش سبباً في تعكير صفو المنظومة الوحدوية الفلسطينية، بل يجب أن يكون هذا الهامش رافداً لهذه المنظومة الإستراتيجية، .
نحن شعب يعشق الحرية ويبذل في سبيلها الغالي والرخيص ، ويسعى بكل جهد صادق وعمل مخلص وإرادة صلبة وقوية لتفويت الفرصة على المتربصين والأعداء الذين ما انفكوا يتآمرون على وحدته في الشعار والكلمة والقرار ، وإن مؤتمر الحوار الوطني هذا دليل على هذا السعي وهذه الإرادة.
وفي البداية أقول إذا كان الخلاف بين البشر سنة كونية وواقع غير منقطع، فإن الحوار مطلب شرعي وإنساني ،والإسلام رسخ هذا المبدأ فالله تعالى أمر رسوله الكريم بالحوار في قوله تعالى:((ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)). وهذا نوع من التبليغ.
والحوار حتى يثمر ويكون له أثره في المجتمعات لابد من حوار متطور ، والخطاب فيه يناسب مختلف الطبقات والتوجهات ، كما قرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (خاطبوا الناس على قدر عقولهم).
وعندما نقول ، أو ننادي بالحوار ، يعني ذلك أن هناك اختلافا ما ، بين الناس ، والحوار هو السبيل لتقريب وجهتا النظر ، والتوصل إلى قواسم مشتركة ، تخرج الناس من مأزق الإختلاف لتخلهم في بوتقة من التوافق إذا أردنا أن لا نقول إجماعاً .
صحيح أن الخلاف والاختلاف واقع بين الناس في مختلف العصور ، وهو سنَّة الله في خلقه ، كما قرر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وهذا ظاهر في قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .
ومن معنى الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم فيه ولا اختيار ، ولا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع .
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فاللام ليست للغاية ؛ بمعنى أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، بل خلقهم من أجل عبادته وطاعته . ولهذا جاءت اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
وقدّ تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ، فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم يعضاً سخرياً .
خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية .
إنّ الحوار الناجح يجب أن يركز على مواطن الاتفاق لا مواطن الإفتراق ، لأن ذلك :
1- يعتبر طريقاً إلى كسب الثقة وإفشاء روح التفاهم .
2- يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال .
3- يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب .
4- يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
5- يجعل ميدان الحوار واسعاً وأمده طويلاً .
6- يؤلف القلوب ويصفيها ويقضي على كل مظاهر البغض .
7- يعمل على تقوية روح التنافس على تحقيق الأهداف ويقضي على ظاهرة التناحر السلبي ، بين المتحاورين.
8- يطور برنامج العمل المشترك بشكل تتقلص به بؤر التوتر والخلاف .

تعريف الحوار

إن الحوار والجدال لهما دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1) ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .

والحوار والمحاورة مصدر حاور يحاور، ومعناه لغة الجواب والمجادلة، قال ابن منظور: "وهم يتحاورون؛ أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، والمحورة من المحاورة مصدر كالمشورة من المشاورة".

والحوار كلمة تستوعب كل أنواع وأساليب التخاطب، سواء كانت منبعثة من خلاف المتحاورين أو عن غير خلاف؛ لأنها تعني المراجعة في المسألة موضوع التخاطب، وعلى هذا فالحوار يدلل على التقارب والصداقة .

الحوار لغةً واصطلاحاً

أولاً : الحوار في اللغة :-
يعني تراجع الكلام ، وفي لسان العرب: (وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام .
والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة ) .

ثانياً: الحوار في الاصطلاح:-
هو المعنى اللغوي السابق نفسه ، فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة أما الجدل: فهو: ( إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة ) .

الفرق بين الحوار والجدل

قال ابن فارس في الجدل: ( الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام ) .
ويفرق العلماء بين الحوار والجدل حيث إن الجدل مظنة التعصب والإصرار على نصرة الرأي بالحق وبالباطل والتعسف في إيراد الشبه والظنون حول الحق إذا برز من الاتجاه الآخر .
فيما نجد أن الحوار عنوان من عناوين التقارب ، وقناة من قنوات التواصل المجتمعي ، وركيزة من ركائز بناء الثقة ، وتقريب وجهات النظر .

مدلول الحوار

مما سبق يتبين أن الحوار هو تبادل المعلومات والأفكار والآراء سواء أكانت تبادلاً رسمياً أم غير رسمي ، مكتوباً أم شفوياً . وينعقد الحوار بمجرد التعرف على وجهات نظر الآخرين وتأملها وتقويمها والتعليق عليها . ومن هذا الفهم يمكن أن يطلق الحوار على تشابك الثقافات بين بعضها الآخر وما يحصل من جراء ذلك من تلاقي المتحاورين وتصويب بعضهم لبعض وتأثير بعضهم في بعض ن بشكل يعزز عرى الوحدة المصيرية، ويقوى سياج المجتمع من الداخل ، ويحصنه ، ويحميه ، من كافة المؤثرات السلبية الخارجية ، وكلما كان الحوار بين الأخوة أصحاب الهم الواحد ، والقضية الواحدة ، والمصير الواحد رغم اختلافاتهم الفكرية ومشاربهم السياسية ، نابعاً من إرادة ذاتية غير موجهة ، أو منحازة لطرف على حساب طرف آخر كلما كانت ثمار هذا الحوار أطيب ، وأصلب .

الحوار في القرآن الكريم

لقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
اثنان منها في صيغة الفعل؛ وهما :
قوله تعالى: { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا}الكهف 34.
وقوله تعالى في نفس السورة: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37].
وهنا نجد أن الحوار غايته بيان الحجة وتقديم البرهان على وجوب طاعة المخلوق للخالق .
أما الثالث في صيغة المصدر في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} المجادلة [5].

منهج الحوار في القرآن :

تنطلق رحلة المنهج الحواري في القرآن من بداياته الأولى ، حيث لابد من أن يتكافأ الطرفان من حيث الاستعدادات النفسية ، وامتلاك القدرة على الحوار ، ومن ثَمَّ تُرسم قواعده التي سيسير عليها ، ويلتزم الأطراف بالخضوع لما يكشف عنه الحوار من حقائق ، فإذا تم فإما أن يصل الأطراف إلى نتيجة واحدة فيكون قد نجح ، وإما أن لا يقتنع أحد الفريقين أو أن يعاند فإنه يمارس حقاً اعتُرف به بقبول الحوار ، وعندما ينتهي الحوار إلى هذه النتيجة فللمسلم رسالة يختم بها حواره تتمثل بتذكير الطرف الآخر بأنه مسؤول عما وصل إليه ، تلك هي عناوين لتفاصيل قرآنية حول الحوار نذكر بعضها فيما يلي :

1- امتلاك الحرية الفكرية :

لابد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافه حرية الحركة الفكرية التي يرافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا يسحق أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر ، فتتضاءل إزاء ذاك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار فيتجّمد ويتحول إلى صدى للأفكار التي يتلقاها من الآخر.

لذلك أمر الله رسوله أن يحقق ذلك ويوفره لمحاوريه :] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ "[الكهف:110] ، "قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [الأعراف:188] .

2- مناقشة منهج التفكير :

فإذا امتلك أطراف الحوار الحرية الكاملة فأول ما يُناقش فيه هو المنهج الفكري - قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيلها - في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها ؛ وهي أن القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية ، فلكل مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتد إليها : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ" [البقرة:170] ] وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قُلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءكم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ " [ [الزخرف:23-24] .

3- الابتعاد عن الأجواء الانفعالية :

من عوامل نجاح الحوار أن يتم في الأجواء الهادئة ؛ ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير ، فإنَّه قد يخضع للجو الاجتماعي ، ويستسلم لا شعورياً مما يفقده استقلاله الفكري : "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " [سبأ:46] ، فاعتبر القرآن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه ؛ لذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء .

4- التسليم بإمكانية صواب الخصم :

ولا بد لانطلاق الحوار من التسليم الجدلي بأنَّ الخصم قد يكون على حق ، فبعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله تأتي هذه الآية من سورة سبأ: "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، [سبأ : 24] ، فطرفا الحوار سواء في الهداية أو الضلال ، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير بغية حمل الطرف الآخر على القبول بالحوار: " قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ". [سبأ : 25] ، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب ، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل ، ليقرر في النهاية أن الحكم النهائي لله : "قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)" [سبأ : 26] .

5- التعهد والالتزام بإتباع الحق : هذا ولا يكفي مجرد التسليم الجدلي بإمكانية صواب الخصم ، بل لا بد من التعهد والالتزام بإتباع الحق إن ظهر على يديه ، حتى ولو كان التعهد بإتباع ما هو باطل أو خرافة إذا افتُرِض أنه ثبت وتبين أنه حق : "قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ" الزخرف:81 .

6- الانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف :

فإذا تم الالتزام بهذه الأسس فإنَّ الحوار ينطلق معتمداً على قواعد العقل والمنطق والعلم والحجة والبرهان ، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: فما أكثر ما يرد في القرآن: "هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ" [البقرة:111 ، الأنبياء:24 ، النمل:64 ، القصص:75] ، وقال تعالى مرشداً إلى اعتماد العلم والحجة في الحوار : "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج:8 ، لقمان:20] ، "هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ " ، [آل عمران:66] ، "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" [غافر:56] ، "أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ " [ [الصافات:156-157] .

وفي اتباع اللين والحكمة والموعظة الحسنة يأمر الله موسى عليه السلام:"اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فقولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ، [طه:42-44] ، ويأمر بإتباع الحكمة في الدعوة : ] وَمَنْ أَحْسَنُ قولاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، [فصلت:33-34] ؛ وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن إتباع أساليب السفهاء ، ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] .

7- ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج :

إذا سار الحوار جادَّاً وفق هذا المنهج من قبل جميع الأطراف ؛ فلا بد أن يصلوا جميعاً إلى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع إلى الحق وتأييد الصواب ، فإذا رفض المحاور الحجج العقلية كأن لم يقتنع بها ؛ فإنه بذلك يمارس حقاً أصيلاً كَفِلَه له رب العزة ، وسيكون مسئولاً عن ذلك أمام الله تعالى .

وفي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون حاجة إلى التوتر والانفعال :"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ" [هود:35] ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] .

8- التأكيد على استقلالية كل من المتحاورين ومسؤوليته عن فكره :

قبل الانفصال بين المتحاورين يتم التأكيد على استقلالية كل ومسئوليته عن نفسه ومصيره : "إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، [الأنعام:134-135] ، وعلى لسان شعيب: "وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ" [هود:93] ، "وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ، وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُون " [هود:121-122] ، "قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" [سبأ:50] ، "قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ " [الزمر:39-40] ؛ إنها مسئولية فردية لا تداخل فيها : "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ" [ يونس:41] ، ] قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ " [سبأ:25-26].

9- الإشهاد على المبدأ وعدم تتبع الأخطاء الناتجة عن الانفعال أثناء الحوار :

وفي آخر الحوار يتم إشهادهم على المبدأ والتمسك به : "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64] .
ولا حاجة في أن يُتَابَعَ الخصم على ما بدر منه من إساءات في الحوار ، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل مع الجاهلين :] خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف:199] ، "اصبر على ما يقولون" [طه : 130 ، ص:17] ، "فاصبر على ما يقولون" [ق :39] ، "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ "[السجدة:30] ، "فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [النجم:29] ، "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً " [المزمل:10].

أهداف الحوار ومقاصده

إن للحوار أهدافاً ومقاصد يسعى المحاور إليها من وراء حواره مع الآخر ، ويمكن أن نجمل هذه الأهداف فيما يلي:

أولاً : الأهداف المباشرة للحوار في نطاقها العام :
1 - إقامة الحجة : الغاية من الحوار إقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي . والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق .
2 - الدعوة : الحوار الهادئ مفتاح للقلوب وطريق إلى النفوس قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)النحل 125.
3 - تقريب وجهات النظر : من ثمرات الحوار تضييق هوة الخلاف ، وتقريب وجهات النظر ، وإيجاد حل وسط يرضي الأطراف في زمن كثر فيه التباغض والتناحر .
4 - كشف الشبهات والرد على الأباطيل ، لإظهار الحق وإزهاق الباطل ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55 ] .

ثانياً : الأهداف الإستراتيجية للحوار في نطاقه التأسيسي هي :
1ـ هدف عقائدي: وهو تصحيح الصورة التي روجت عن العقيدة والحضارة،
2- هدف سياسي: يتمثل في منع إقصاء الآخر .
3ـ هدف اقتصادي: يتمثل في إثبات ألذات وتحقيق الاستقلال .
4ـ هدف إنساني خلقي يتمثل في السير في الأرض للتعرف على الآخر، والاحتكاك به، والنظر فيما عنده، والإطلاع على ما أنجز ماضياً وحاضراً .

شرعية الحوار

والحوار في الأصل مشروع ؛ بل إن الحوار الذي يفيد الطرف الإسلامي على وجه وتترجح مصلحته على مفسدته؛ على المفكرين والساسة وعلماء الدين تبنيه والخوض فيه.
وقد جاءت نصوص الشريعة الإسلامية تؤكد على شرعية الحوار مع الآخر ـ و مع أهل الكتاب على وجه الخصوص ـ فمن تلك النصوص:
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64] سورة آل عمران .
وقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [125] سورة النحل .
فإذا كان الحوار مع الآخرين المخالفين لنا في الفكر والعقيدة مطلوباً ، فهو واجب وملح فيما بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد والعقيدة الواحدة.

3- ضوابط الحوار:
عدم التنازل على الثوابت والمرتكزات الأساسية: والتي تشمل الأمور الثوابت الدينية والقضايا الإسلامية على حد سواء.
فمن الثوابت الدينية:
1- أن الدين الإسلامي قد جاء ناسخًا للشرائع السماوية التي سبقته فلا يجوز بأي حال القول بأن كل الأديان السماوية عند الله سواء وأن 'وحدة الأديان' ـ بمعنى أن الاتفاق على مبادئ مشتركة بين الأديان السماوية ـ وربما غير السماوية وأن كل من آمن بها فهو مؤمن ـ أمر مقبول فهذا مما يفرغ الرسالة الإسلامية من مضمونها , قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [110] سورة آل عمران ,وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [48] سورة المائدة , وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [143] سورة البقرة .
2- النصوص والأحكام التي لم تترك فيها الشريعة مجالاً للاجتهاد فيها وهي المسائل التي لا تقبل التحريف أو التبديل كحرمة الزنا واللواط وشرب الخمر وفرضية الحجاب وغيرها مما يجب على المؤسسات الإسلامية كمجمع البحوث الإسلامية وغيرها توضيحيه حتى لا يحدث تميع للشريعة.

قواعد وأصول وآداب الحوار

أولاً : قواعد الحوار:
يرتكز الحوار على عدة قواعد تمثل المنطلقات المشتركة التي تجمع بين المتحاورين ، حتى يكون الحوار منتجاً ، كما لا بد أن يتصف المحاور بصفات تدعم هذه القواعد :
أ- القواعد:
1ـ الاعتماد على أسس مشتركة للحوار كالإحتكام إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة عند المؤمنين بهما، أو إلى قواعد المنطق والقياس عند غيرهم.
2ـ التسليم ببدهيات المعرفة، وبدهيات السلوك، فكيف نتحاور مع من لا يرى في الصدق فضيلة، وفي الكذب رذيلة مثلاً؟!
3ـ اللياقة، واحترام الحوار، وإن لم تحترم خصمك.
4ـ الرغبة في الوصول إلى الصواب والحق؛ لأن التفكير في الوصول إلى الغلبة يلقي بصاحبه في لجاجة الجدل العقيم.

ب- صفات المحاور :
أما المحاور فيجب أن يتحلى بصفات أهمها:
1ـ علمه بما يحاور.
2ـ قدرته على التعبير.
3ـ حلمه وسعة صدره.
4ـ سرعة البديهة، واستحضار الشواهد، والذكاء، ويجمعها: [الحكمة]: العلم والفهم والتعبير، ومثال ذلك حكمة نبي الله إبراهيم عليه السلام في حوار النمرود إذ ألزمه الحجة: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258].

ثانياً: أصول الحوار :
إن للحوار أصولاً عديدة لا بد أن تراعى حتى يثمر الحوار نتائج مرغوبة للمحاورين، وهذه الأصول هي :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :
1- تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2- صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .

الأصل الثاني :
سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذاريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .

الأصل الثالث :
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تجميل الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .

الأصل الرابع :
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ،وإثباتها شرعاً أمر مسلم به .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء ج1 .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم ) .
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .

الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .

الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .

الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) .

آداب الحوار

1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53)
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83)
إن هذه القاعدة الإلهية توجهنا نحو التزام حسن الكلام وتجنب الفاحش منه ، والقول الحسن يتأتى من خلال :
أ ـ التعبير بلغة بسيطة غير ملتبسة ولا غامضة، ومن أحسن الكلام ما يعبر عن حقيقة ما في قلبك دون ستر للحقيقة وبثوب لفظي لطيف.
ب ـ الرفق في الكلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طـه:44].
جـ ـ التأدب في الخطاب: {... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا...} [الأنعام: 152]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا} [البقرة: 83].
د ـ طرح اللغو, واللغو فضل الكلام وما لا طائل تحته، فلا يخوض المحاور فيما لا يثري المحاورة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]. وفي الحديث الشريف: [[طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه]]. والابتعاد عما لا يفيد في الحوار يحفظ هيبة المحاور، ويحفظ وقته، وأوقات الآخرين.
هـ ـ توضيح المضمون باستخدام ما يفهم من التعابير دون تقعّر أو تكلف، وفي الحديث الصحيح: [[هلك المتنطعون]] وكذلك: [[إن أبغضكم إليّ وأبعدكم عني مجلسًا الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون]].
من هنا نفهم أن المحاور العاقل طالب الحق ، ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سـبأ:24) . مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية . والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً .
ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) .
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)

ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه ، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً .

2- الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : ( وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( 9 ) .
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الإلتزام بذلك .
والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى .

ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي :
1- إعجاب المرء بنفسه .
2- حبّ الشهرة والثناء .
3- ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
4- قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم ، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ، وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .
ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .

3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
إن رأس الأدب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . ، وتقول العرب: رأس الأدب كُله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم.
وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك ) .
ويقول ابن المقفع :
( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم . والوعي لما يقول ) .
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان ) كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف ، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة .
ومثل حسن الإستماع حسن الصمت ، والصمت إجراء إيجابي، ومن فوائده:
أ ـ أنه خطوة نحو الكلمة الصائبة لاختيارها.
ب ـ يزيد العلم ويعلم المرء الحلم.
جـ ـ الصمت بريد السلامة: [[رحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم]].

4- تقدير الخصم واحترامه :
احترام شخصية المحاور، وملاطفته ، ركيزة قوية من ركائز أدب الحوار، لنتجنب عداوته أو نخفف من حدتها، وألا نستهين به ابتداءً لأن الاستهانة تضعف الحجة وتثير الخصم. كذلك يجب الانتباه له، وعدم الانصراف عنه أثناء حديثه، وأن نفسح المجال له لإبداء رأيه.
وهذا يعني أن يتم في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ، والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات والسير الذاتية .

5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذك

وهذ يساعد في إثراء موضوع الإختلاف

إدارة الإختلاف

ورقة سماحة الشيخ محمد علي المحفوظ
فيِ مؤتمر إشكالات العمل الإسلامي في البحرين - 1426هـ

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه جمعين سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

* الاختلاف سنة كونية:

الاختلاف سنة من سنن الله في المجتمعات فهناك اختلاف في اللسان واللون والرأي وما أشبه، وقد تحدث ربنا عز وجل عن ذلك في القرآن الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) سورة الروم آية 22.

إن وجود التنوع والاختلاف من المقومات الأساسية في المجتمع الإنساني، وقد جعل ربنا عز وجل هذا الاختلاف سبباً للتمحيص والاختبار لمن يريد أن يبحث عن الحقيقة ويتمسك بها وأشارت آيات القرآن الكريم إلى ذلك حيث يقول ربنا عز وجل:

(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) سورة هود آية 118-119.

* بين التعدد والتعددية:

إن التعدد كمفهوم يرادف التنوع والتفاوت والاختلاف والتعددية كمصطلح هي نظام سياسي، وإن وجود التعدد والاختلاف داخل أي مجتمع ليس حالة شاذة بل هو الحالة الطبيعية وربما الصحيحة وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى هذا الجانب حيث يقول ربنا عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات آية 13.

* بين الخلاف والاختلاف:

وقد عرفوا ذلك بأن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله وعلى هذا يمكن القول بأن الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف والخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين. وليس الخلاف جنساً واحداً كله شر كما قد يتبادر إلى ذهن البعض فبعض الخلاف ممدوح وبعض الخلاف مذموم فخلاف المشركين والكفار للحق مذموم، بينما خلافنا لهم ممدوح وهناك خلاف مسوغ حينما يكون هناك اتفاق على الأصول والثوابت ويحصل اختلاف في الوسائل والوسائط الموصلة لها.

وهناك خلاف مذموم حينما يكون من باب التعصب والحمية الجاهلية والأهواء الضالة أو التقليد الأعمى وما أشبه وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك في مواضع مختلفة ففيما يرتبط بالتعصب للرأي يشير ربنا عز وجل إلى ذلك في قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) سورة البقرة.

وفي حديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: (أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيحب عليه ويبغض عليه). وتتحدث الآيات عن التقليد الأعمى والتوقف عن ذلك فيقول ربنا عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) سورة البقرة آية 170. ويقول عز وجل: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا...) سورة الأعراف آية 28.

ويقول عز وجل: (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) سورة يونس آية 78، ويقول عز وجل: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) سورة الشعراء 74.

* الهوى عامل أساسي في نشوء الخلافات

وقد يكون منشأ الخلاف تأثيرات الهوى على النفس الإنسانية وبالتالي استكبارها على النطق بالحق يقول ربنا عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) سورة البقرة آية 87، ويقول عز وجل: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) سورة النجم آية 23.

والأهواء الضالة تترك آثاراً سلبية كبيرة على نمط تفكير الإنسان فتسوقه إلى الدخول في الخلاف والاختلافات بعيداً عن الحقيقة والقبول بالحق. وقد يتحول الهوى إلى إله يعبد من دون الله عند البعض فيتمحور حول آرائه وقناعاته ويقول ربنا عز وجل في وصف هذه الحالة: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) سورة الفرقان آية 44,43، وجاء في حديث عن رسول الله(ص) (ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع)، وفي حديث عن أئمة أهل البيت(ع): (أبغض إله عبد على وجه الأرض الهوى).

وقد يدفع الهوى المرء إلى عدم العدل والإنصاف وهذا أحد العوامل المؤثرة في نشوء الخلافات، وتوصي آيات القرآن الكريم بالابتعاد عن ذلك حيث يقول ربنا عز وجل: (...فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ...) سورة النساء 135. بل إن الهوى يعطل الاستفادة من العقل فلا يرى صاحب الأهواء الأمور من زاوية الرشد والتعقل وقد قال أمير المؤمنين علي(ع): (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)، وفي حديث آخر قال عليه السلام: (الهوى عدو العقل)، وذهب الإمام علي(ع) أبعد من ذلك حين قال(ع): (لا دين مع هوى)، وفي حدث آخر قال(ع): (لا عقل مع هوى)، إذ قد يعطل الهوى منظومة القيم الدينية عند صاحبه وقد يوصله ذلك إلى حالة الطغيان والاستبداد فلا يرى إلا ما يراه هو ويتمسك ببنات أفكاره وكأنها شيء مقدس غير قابل للنقد أو التمحيص وقد وصف ربنا عز وجل الحالة التي وصل إليها فرعون: (... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورة غافر 29

ولذلك فإن الآيات القرآنية والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) تعالج هذه الإشكالية بطرق متعددة. فيوصي ربنا عز وجل نبيه داوود(ع) بالحق وعدم إتباع الهوى حيث يقول سبحانه وتعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...) سورة ص آية 26، ووصف ربنا عز وجل نبينا محمد(ص) بالعصمة حينما قال سبحانه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) سورة النجم آية 3، وجعل ربنا عز وجل ترك إتباع الهوى مفتاحاً لدخول الجنة حيث يقول سبحانه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) سورة النازعات 41،40.

واعتبر أمير المؤمنين علي(ع) أن الابتعاد عن التعصب والأهواء الضالة شجاعة الشجعان فقال(ع): (أشجع الناس من غلب هواه)، كما أن هناك عوامل سلبية أخرى قد تسبب نشوء الخلافات والاختلافات كالغرور والعصبية والكبر والجهل وما أشبه ينبغي أن نعالجها في أوساطنا حتى لا تكون سبباً للفتن والتمزق والتشرذم.

ولكن مع كل هذا يبقى باب البحث والحوار والمناقشة مفتوحاً في الكثير من الدلائل والمسائل سواء في مسائل الاعتقاد أو الأحكام العامة والخاصة للتواصل إلى الراجح والأرجح والأصوب من الأمور بعيداً عن العصبية، وينبغي السعي لتضييق دائرة الخلاف كلما أمكن. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف ندير هذا التعدد والاختلاف وكيف نعالج المسائل الخلافية سواء كانت صغيرة أم كبيرة إذا وجدت في أوساطنا؟ مع ضرورة التمييز بين الاختلاف وهو أمر طبيعي وبين الخلاف وهي مشكلة تحتاج إلى علاج.

إذا ما سلمنا أن الاختلاف أمر طبيعي للتعدد والتفرع الموجود وحتى فيما يرتبط بالذوق الفكري لكل إنسان فإنه يمكن أن نجعل من الاختلاف سبباً للتكامل والتعاون فيما فيه مصلحة الخير والحق بدلاً من أن يتحول إلى سبب للتنافس والتباعد.

ولكي نصل إلى ذلك لابد من صياغة ثقافة المجتمع على أسس سليمة تعتمد الأخلاق والعقل والحكمة وتستند إلى الوعي والصدق والوضوح، ويمكن ذلك من خلال:

أولاً: الحوار:

يمكن للحوار أن يلعب دوراً حيوياً في خفض الكثير من مثيرات الخلاف والاختلاف. لقد خلق الله سبحانه الكون على أساس الحوار من أجل الفهم والتقارب بين الكائنات والمخلوقات وجعله وسيلة للتواصل على مر الأزمنة لكي يتواصل الفهم البشري ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. بل إن الله سبحانه جعل الحوار وسيلة للتواصل بينه عز وجل وبين سائر الكائنات سواء من خلال تعاليمه عبر أنبياءه ورسله عليهم السلام إلى الناس أو من خلال تواصل الكائنات مع رب العزة والجلالة من خلال الدعاء والتسبيح والمناجاة

والقرآن الكريم الذي نزل على نبينا محمد(ص) هو كلام الله عز وجل إلى البشر يخاطبهم ويدعوهم ويعظهم وينذرهم ويستثير عقولهم وهو درس بليغ لكي نتعلم أهمية الحوار وقيمته في التواصل وتبديد الأوهام والشكوك.

* تعريف الحوار:

وقد عرفوا الحوار بأنه من المحاورة بمعنى المجاوبة والتحاور أي التجاوب. أما التعريف الاصطلاحي للحوار: هو تفاعل لفظي أو غير لفظي بين اثنين أو أكثر من البشر بهدف التواصل الإنساني وتبادل الأفكار وتكاملها. والحوار نشاط يومي نمارسه في المنزل والشارع والعمل والدراسة ووسائل الإعلام والجامعات وما أشبه ومن خلال الحوار يتشكل السلوك وتبنى العلاقات على أكثر من صعيد. ولكي نبني الحوار بطريقة سليمة لابد من مراعاة بعض الجوانب منها:

الاستقبال الواعي:

لأننا نريد من خلال الحوار أن نصل إلى فهم الآخر وتحديد مواضع الخلاف فلابد أن نمتلك خاصية الاستماع الواعي بعيداً عن الأحكام المسبقة على شخصية الطرف المقابل وتصنيفه، ويصف ربنا عز وجل الاستماع الواعي في القرآن الكريم: (... فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) سورة الزمر آية 18،17. ذلك أن القدرة على تشخيص الكلام والرأي المطروح ومن ثم اختيار اختيار الأفضل من الصفات التي ينبغي التحلي بها لكي تستطيع التقاطع مع الآخر والوصول إلى قواسم مشتركة.

وبما أن الحوار عملية تبادلية بين طرفين أو أكثر، وهو يتم عادة من خلال عمليتين أساسيتين هما الإرسال والاستقبال، فينبغي أن لا نكتفي بالاستقبال الواعي فقط وإنما نعتمد أيضاً على كفاءة الإرسال الصادق أيضاً وذلك من خلال الصدق في الحديث والابتعاد عن الاستعلاء والنظرة الفوقية والجدل، وقد أوصى ربنا عز وجل نبيه محمد(ص) في القرآن الكريم: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) سورة النحل آية 125، وقال ربنا عز وجل: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف آية 199، وفي آية أخرى يبين ربنا عز وجل منطق الحكماء: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) سورة الفرقان آية 63

وتدعوا تعاليم الإسلام إلى الالتزام بالكلام الحسن، فيقول ربنا عز وجل: (... وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً...) سورة البقرة آية 83. والحوار الناجح هو الذي يبنى على أهداف صالحة تبحث عن الوصول إلى قواسم مشتركة وتقريب وجهات النظر الخلافية وبالتالي التلاقي بدلاً من التنافر. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك بطريقة رائعة في التعاطي مع الآخر من خلال القواسم المتفق عليها بين الطرفين، يقول ربنا عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران آية 64.

إن الحوار القائم على أسس موضوعية هو أحد العوامل المؤثرة لتضييق مساحات الاختلاف بين الفرقاء على الساحة وقد وضح ذلك دعوات الأنبياء(ع) التي كانت تعتمد الحوار واستثارة العقول من أجل الانفتاح على الحقيقة وإتباع الحق ويوضح القرآن الكريم سيرة الأنبياء(ع) في دعواتهم في مراحل متعددة، فينقل حديث موسى(ع) مع فرعون:

(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) سورة الأعراف آية 105،104

وفي قضية نبي الله صالح(ع) مع ثمود يقول ربنا عز وجل: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...) الأعراف آية 73

وفي قصة شعيب(ع) مع قومه، يقول ربنا عز وجل: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...)سورة الأعراف آية 85. وهكذا كانت سيرة الأنبياء جميعاً نوح وإبراهيم وهود وعيسى عليهم السلام وخاتم الأنبياء محمد(ص) فقد اعتمدت الدعوة النبوية على منطق الحوار واستثارة العقل مع التمسك بالحق بطبيعة الحال (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة يوسف آية 108.

ولكي ننجح في تضييق مساحات الاختلاف أو تجاوزها والوصول إلى حالة من الاتفاق وتطابق القناعات لابد من إنجاح الحوار من خلال اعتماد التواضع مع الآخر والابتعاد عن الاستعلاء والروح الفوقية، وقد تجلى ذلك واضحاً في سيرة الأنبياء وسلوكهم وأخلاقياتهم مع أقوامهم، وبدى ذلك واضحاً في لغة القرآن الكريم السامية التي تتعامل بكل موضوعية وإنصاف مع الآخر حتى لو كان كافراً أو مشركاً يقول ربنا عز وجل: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة سبأ آية 24

كما أنه ينبغي لإنجاح الحوار أن نحمل في قلوبنا الحب للآخر فهو إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق كما يقول أمير المؤمنين علي(ع) فإما أن تعمل على هدايته وإرشاده إن كان كافراً، وإما أن تعمل على التواصل والعمل معه ضمن وحدة واحدة، ويشير ربنا عز وجل إلى حالة الحب عند المؤمنين ونظرتهم لبعضهم البعض من خلال دائرة المحبة والمودة بعيداً عن الأحقاد والحساسيات فيقول ربنا عز وجل: (... يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) سورة الحشر آية 10

وقد تؤثر الوساوس الشيطانية والنزعات الضيقة في توسيع دائرة الخلافات وربما تعصب كل طرف إلى ما يراه، فتتحول القضية إلى حالة من المكابرة والعناد وربما إلى أغلال نفسية مذمومة ويشير بنا إلى حالة الأخوة المطلوبة التي ينبغي على العاملين أن يتحلوا بها وتصل إلى أعلى مستوياتها في الجنة، فيقول ربنا عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) سورة الحجر آية 47. ومن آداب الاختلاف من أن لا يؤدي إلى جفوة وخصومة بين العاملين في الساحة وكما قيل فالاختلاف لا يفسد للود قضية والخلاف شر ينبغي على العاملين في الساحة الإسلامية العمل على رفضه طلباً للحق وحفاظاً على وحدة الأمة لأن النزاع والشقاق من شأنه أن يعمل على الضعف والوهن في جسد الأمة ولذلك قال ربنا عز وجل: (...وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...) سورة الأنفال آية 46، وفي آية أخرى يقول عز وجل: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ...) سورة آل عمران 105.

وينبغي أن يتم الاحتكام إلى الثوابت التي حددها لنا القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة في سبيل التوصل إلى حالة من التوافق وتجاوز الخلاف والاختلاف. وفي ذلك يقول ربنا عز وجل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) سورة النساء آية 59، وجاء في حديث عن رسول الله(ص): (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتبا الله فيه الهدى حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وأن اللطيف الخبير قد أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما).

ومن جانب آخر فإنه ينبغي مراعاة حسن الظن ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً ذلك لأن الشكوك والظنون لواقح الفتن، وعدم التسرع في الحكم على أفعال الآخرين إلا بعد البحث والتمحيص وقد جاء في الروايات (أحمل أخيك المؤمن على سبعين محمل)، وفي رواية أخرى (أطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد عذراً فالتمس له عذراً).

إن المشكلة لا تكمن في الاختلاف في العمل الإسلامي فالاختلاف سنة من سنن الاجتماع ولكن المشكلة تكمن في أن تفضي الخلافات إلى القطيعة والشقاق والعداوة وتفكيك روابط الأخوة التي تدعوا إليها قيم الدين الحنيف حيث يقول ربنا عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الحجرات آية 10،

كما أن اعتماد لغة الحوار والتقارب وتضييق مساحات الاختلاف لا تعني إلغاء الآخر أو تذويبه أو محاولة القفز عليه بقدر ما تعني الحفاظ على مقومات الوحدة الإسلامية بين الفرقاء خاصة إذا عرفنا أن الخلافات ليست في ركن من أركان الإسلام وليست في الأصول العامة وإنما ينحصر معظم الاختلافات في القضايا الفكرية والعملية.

ولكن مع كل ذلك يبقى أن الوحدة الفكرية هي مقدمة للوحدة الاجتماعية والسياسية التي تحتاج إليها الأمة، حيث أن التعصب قد أوجد شروخاً كبيرة أثرت على وحدة الأمة وبالتالي في مقومات النهضة الحضارية لها. إن المبدأ الأساسي في الإسلام يتبنى سلوكاً حضارياً راقياً ينطلق من عدم الإكراه للآخرين على الدخول في الدين وقد ذكر ذلك في القرآن الكريم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...) سورة البقرة آية 256. ويستوعب التنوع في العقائد دون أن يكون لهذا التنوع أي مساس بالحقوق السياسية والاقتصادية والإنسانية وقد وضح ذلك في كلام أمير المؤمنين علي(ع): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)

وتستند الرؤية الإسلامية في إدارة الاختلاف إلى اعتماد ترشيد الاختلاف وتوجيهه إلى أهداف شريفة من قبيل الإعمار والإصلاح (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...) سورة البقرة آية 56، واستغلال موارد الرزق التي خلقها الله سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)سورة الملك آية 15، والنافس والتسابق على الخيرات والعمل الصالح يقول ربنا عز وجل: (...وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) سورة المطففين آية 26. وفي آية أخرى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) سورة آل عمران آية 133.

ثانياً: العمل الجمعي:

يتميز الإسلام بأنه منظومة متكاملة كفيلة بصلاح الإنسان على هذه الأرض وفي نفس الوقت الذي تتبنى قيم الإسلام بناء الإنسان كفرد صالح فإنها تحثه على الانسجام الاجتماعي في وسط بنيته مع الحفاظ على ثوابته واستقلاليته. وامتلاك الإسلام لأخلاقية العمل الجماعي لها دور كبير في بناء الفرد على أساس الروح الجمعية والعقل الجمعي والعمل الجمعي على الرغم من الاختلافات الطبيعية بين الناس في نمط التفكير. والعمل الجماعي طريق بنّاء للوصول إلى التقارب الفكري والعملي وتضييق شقة الخلاف إن وجدت بين الأطراف المختلفة على الساحة الإسلامية وقد نوه القرآن الكريم إلى ضرورة التماسك والعمل الجماعي من خلال قول ربنا عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) سورة الصف آية 4، ودفعت كثير من آيات القرآن الكريم بالتوجيه إلى مجموع المؤمنين للتدليل على ضرورة العمل الجماعي:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ...) سورة الأنفال آية 24

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ...) سورة التحريم آية 6

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم...) سورة الحجرات آية 13

بل إن رؤى الإسلام تحث على التفكير الجمعي حيث يقول ربنا عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) سورة سبأ آية 46، وجاء في الروايات عن رسول الله(ص) أنه قال: (يد الله مع الجماعة). ولكي لا تأخذ الاختلافات بأصحابها إلى الفرقة والتخاصم وبالتالي إضعاف الأمة فأن الآيات دعت للاعتصام والتوحد حول القيم الإلهية وحذرت من النزاعات يقول ربنا عز وجل: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ...) سورة آل عمران 103. يقول جل شأنه: (...وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...) سورة الأنفال آية 46. وتدعو قيم الدين إلى اعتماد الإصلاح لترسيخ مبدأ الأخوة في المجتمع الإسلامي يقول ربنا عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الحجرات آية 10

وفي عالم اليوم نرى كيف أن المجتمعات المتقدمة استطاعت أن تحول المجتمع إلى مؤسسات تعتمد على الروح الجماعية والعقل الجمعي والعمل الجمعي، وقد قال أمير المؤمنين علي(ع): (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله)، ويساهم العمل الجمعي على النظر إلى الأمور من زوايا متعددة بدلاً من المنظور الفردي الذي قد لا يستوعب بطبيعة الحال كل الجوانب في نظرته. إن الكثير من الخلافات تحصل عادة لاقتصار النظرة إلى الأمور من جانب واحد، وتهميش آراء الآخرين، والعمل الجمعي يوفر المناخ المناسب لكي يتفهم العاملون مواقف بعضهم البعض وقد يوفر الانسجام في الرؤية على المدى البعيد. وقد حثت آيات القرآن الكريم على التعاون الإيجابي لما له من آثار مفيدة على صعيد المجتمع فقال ربنا عز وجل: (...وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى...) سورة المائدة آية 2

ثالثاً: الاعتراف بالآخر:

كما ينبغي لإدارة الاختلاف أن نعترف بالآخر بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه إما من باب (لكم دينكم ولي دين)، أو كما يقول الإمام علي(ع): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق). ذلك أن عملية الإلغاء أو التهميش سوف تترك آثاراً سلبية وتزيد من هامش الاختلافات والشقاق بدلاً من علاجها وفهم الآخر بما لديه من مكونات فكرية وثقافية.

والإسلام يدعوا للحوار مع المختلف كلياً في العقيدة (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة النحل آية 125، كما يدعوا إلى عدم إكراه الآخر على ما تعتقده (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...) سورة البقرة آية 256، فكيف بمكن يتفق معك في الأركان ولكنه قد يختلف على التفاصيل.

لقد كانت سيرة الأنبياء جميعاً وخاصة نبينا محمد(ص) قائمة على الدعوة إلى الدين من خلال الانفتاح على الآخر وكذلك سيرة أئمة أهل البيت(ع) الذين سجل التاريخ الكثير من المناظرات التي خاضوها مع الآخرين حتى الملحدين.

رابعاً: القبول بالحق:

التواضع للحق من أصعب الأمور على أي إنسان خاصة فيما يرتبط بمعتقداته وتصوراته ولكنها قضية لازمة لإدارة الاختلافات حتى لا تسير الأمور بطريقة التعصب والجدل والعناد والمكابرة. إن بنات أفكار الإنسان تمثل أحد أخطر الأعداء بالنسبة إليه ولذلك فمن الصعب أن يتنازل عما كونه من قناعات ينطلق فيها في نهجه ومسيرته، ولكن المطلوب أن يخضع الإنسان نفسه للحق بعيداً عن الأهواء (الحق أحق أن يتبع). ويبين القرآن صعوبة الانصياع للحق من خلال قول ربنا عز وجل: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) سورة الزخرف آية 78. ويقول أمير المؤمنين علي(ع) في توصيف رائع لمحورية الحق بدلاً من الأشخاص: (اعرف الحق تعرف أهله)، ويقول أيضاً: (لا يقاس الحق بالرجال وإنما يقاس الرجال بالحق).

وينبغي على الإنسان أن لا يضع معاييراً نفسية وأهوائية في قبوله للحق من خلال الزوايا التي ينظر منها وإنما يقبل الحق ممن جاء به بعيداً حتى عن الحب والبغض والمنزلة والرتبة يقول رسول الله(ص) في حديث رائع: (اقبل الحق ممن أتاك به من كبيراً أو صغير ولو كان بغيضاً واردد الباطل على من أتاك به من صغير أو كبير وإن كان حبيباً)، وجاء في حديث عن أمير المؤمنين علي(ع): (الحكم ضالة المؤمن).

* مظاهر الاختلاف في العمل الإسلامي في البحرين:

لا تختلف البحرين عن غيرها من المجتمعات فالاختلاف ظاهرة واقعية موجودة لا يمكن أن نتجاهلها ونتغافل عنها ولا شك أن التنوع والاختلاف حالة ايجابية تؤدي إلى إثراء العمل الإسلامي وتولد حالة التنافس والإبداع وتقديم الأفضل، وهذا ما يلاحظ على ساحة العمل الإسلامي من وجود تنوع في الطرح والأساليب والتوجهات المختلفة كما أن هذا التنوع يساهم في توزيع الجهد واستثمار الزمن في التواصل مع الناس من قبل المتصدين للشأن العام ولكن من جانب آخر هناك تأثيرات سلبية لمظاهر الاختلاف في العمل الإسلامي نوجزها في:

1- المشكلة الطائفية على الصعيد الوطني، حيث أثر التعاطي السياسي السيئ من خلال التمييز على عدم التواصل الجاد بين الإسلاميين على المستوى العام إلا ضمن نطاقات ضيقة ومحدودة، وليست ذات أثر يذكر.

2- قلة الحوارات الجادة المستمرة أسهم في عدم فهم الآخر وأثر في انعدام الأعمال المشتركة والتعاون في إقامة المشاريع.

3- قلة التوجه الجاد للتواصل بين الأطراف، ومع أن الرغبة قد تكون موجودة من قبل الجميع إلا أن ذلك لا ينعكس على الصعيد العملي.

4- وجود حالة فئوية أو حزبية تغذيها بعض الأحيان انفعالات عاطفية تؤثر سلباً في تضييق مساحات الاختلاف بين العاملين.

5- وجود الحالة الفردية في كثير من مفردات العمل روحاً وتفكيراً وعملاً أثر في عدم تحول الأطر الموجودة إلى مؤسسات تستند إلى منهج واضح يعتمد على الدراسة والتخطيط واعتماد مبدأ الكفاءة، ويمكن للمؤسسات أن تلعب دوراً كبيراً في صياغة ثقافة المجتمع لكي ينسجم أفراده مع بعضهم فينخرطون في أعمال مشتركة على الرغم من الاختلافات الموجودة.

وأخيراً تبقى الإدارة الجادة والحكمة والأخلاقيات الحسنة عناصر لا يمكن الاستغناء عنها في التعاطي مع ظاهرة الاختلاف من أجل ترشيد الظاهرة وتحقيق النجاح في مواجهتها.

والله ولي التوفيق وهو نعم المولى ونعم النصير. والحمد لله رب العالمين والصلاة على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
المصدر: جمعية التوعية الإسلامية- البحرين

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=223

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك