الحوار المطلوب

إذا كان الإسلام قد سمح بالاجتهاد واعتمد العقل والبرهان سبيلاً منطقياً للإقناع، فمن الطبيعي أن يجوّز الحوار ويدعو إليه على كل الأصعدة، وهي من قبيل:

أ) الحوار بين المسلمين المختلفين في الشؤون الشخصية.

ب) الحوار بين المختلفين في القضايا الاجتماعية.

ج) الحوار بين الفقهاء.

 د) الحوار العقائدي.

هـ ) الحوار بين الأديان.

 و) الحوار بين الحضارات.

وفي كل هذه الأنماط نجد النصوص الإسلامية تركز على بعض الشروط الضرورية، وقد تحدث علماؤنا القدامى عن آداب الحوار والجدال، ولكننا ندخل ماذكروه جميعاً في مِنْطَقةِ الشروط الضرورية، لأنها جميعاً إن لم تتوفر عرَّضت النتائج لخطر التمويه.

 وما نريد التحدث عنه من الشروط الهامة هو ما يلي:

 

أولاً: تحرير محل الحوار:

وهو أول شرط وأهمه، فإن الحوار قد يكون مضيعة للوقت، إذا تبين للمتحاورين بعد فترة طويلة أنهما كانا يركزان حديثهما على محورين مختلفين، أو وجهتين متفاوتتين، ولذا كان ديدن علمائنا البدء بتحرير محل النزاع، وتشخيص أبعاده ليكون، الاستدلال منتجاً، وهذا شرط منطقي لانحتاج للاستدلال عليه(1).

 

ثانياً : الموضوعية:

ويُعنى بها الدخول إلى مرحلة الحوار بعد التخلي موقتاً عن كل القناعات السابقة والسعي لطلب الحق أينما كان.

وهذا هو القرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم، وهو القمة في الإيمان واليقين، بأن يدخل في الحوار بروح موضوعية هادفة ليقول: {وإنَّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال ٍمبين} (سورة سبأ، من الآية: 24).

ويقول تعالى: {قُلْ فأتوا بكتابٍ مّن عند اللهِ هو أهدى منهما أتّبعْه إن كنتم صادقين} (سورة القصص، من الآية: 49). وهو أمر أكده السابقون من علماء الأخلاق وغيرهم.

يقول صاحب (المحجة البيضاء في إحياء الإحياء) عند التحدث عن شروط المناظرة: الأول: أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق، لاظهور صوابه وغزارة علمه وصحة نظره، فإن ذلك مراء منهي عنه بالنهي الأكيد، ويضيف: >أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكراً متى وجدها، ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره، فيرى رفيقه معيناً لاخصماً ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق<(1).

 

ثالثاً : الانسجام بين مؤهلات أطراف الحوار والموضوع نفسه.

فلا معنى للحوار حول موضوع لا تعلمه الأطراف أو لا يعلمه أحدهم أولا يتخصص فيه إن كان مما يحتاج للتخصص.

يقول تعالى : {ها أنتم هؤلاء حاجَجْتُم فيما لكم به علم فلمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به علم واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون} (سورة آل عمران، الآية: 66). 

ويقول سبحانه: {إن الذينَ يجادلون في آياتِِ اللهِ بغير سلطان أتاهم إن ْفي صدورهم إلاّكِبرٌ ماهم ببالغيهِ فاستعذْ باللهِ إنه هو السميعُ البصير} (سورة غافر، الآية:56).

وهنا يقول أحد العلماء : >... الثامن أن يناظر مع من هو مستقل بالعلم، ليستفيد منه إن كان يطلب الحق<(2).

ومن هنا فنحن نعتقد أن طرح الاستدلالات العلمية الدقيقة في المجامع العامة، مع  اختلاف مستويات الحاضرين أمرٌ يجانب شروط الحوار.

 

رابعاً: الانطلاق من المبادىء المتفق عليها.

إن الحوار لن يُنتج مطلقاً، إذا لم تكن هناك مبادىء متفق عليها مسبقاً، وفرضيات مسلمة يرجع إليها المتحاوران. ومن هنا رد الجميع عنصر المصادرة على المطلوب، واعتبروه أسلوباً مخاتلاً ... ولاسبيل هنا إلا التنبيه على بعض القضايا الوجدانية، ومن هنا نجد القرآن الكريم يرد على أولئك المنكرين للبَدَهِيَّات بتنبيههم لخطأ ما يعتقدون، وإيقافهم أمام تساؤلات فطرية، إذ يقول تعالى لأولئك المقلدين لآبائهم (دونما منطق):

 {وإذا قيلَ لهم اتبعوا ما أنزلَ اللَّه قالوا بل نتبعُ ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون} (سورة البقرة، الآية: 170). ويقول تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مُتْرفوها إنا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنَّا على آثارهم مقتدون * قال أو لوجئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أُرسِلْتُم به كافرون} (سورة الزخرف، الآيتان: 24-23).

فإن هؤلاء قوم لايؤمنون بشيء مشترك مع المحاور المسلم، وما عليه إلا أن ينبههم على بعض المشتركات الفكرية من قبيل:

(إن المجانين لايتُبعون، فإذا افترضنا أن آباءهم مجانين فهم لايتبعون إذن عليكم التحقيق).  أو (أن الأفضل والأهدى هو المتبع فيجب التأكد من الأهدى).

 

خامساً : المنطقية بحيث يسير البحث بشكل منطقي، وتؤدي المقدمات إلى النتائج بشكل طبيعي، وذلك دونما تحايل أو مماطلة أو جدال عقيم، والنصوص التي تنهى عن الجدال والمراء كثيرة.

منها قوله تعالى: {ماضربوهُ لكَ إلا جدلاً بل هم قومٌ خَصِمونَ} (سورة الزخرف، من الآية: 58). وقوله تعالى: {وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلاً} (سورة الكهف، الآية: 54).

وقد رأينا العلماء يردون التحايل على الطرف الآخر، ويذكرون لذلك أمثلة من قبيل:

أ) إبهام العبارة حتى لا يفهمها الطرف لآخر.

ب) الاحتيال عليه حتى يخرجه عن محل تساؤله.

 ج) توجيه كلام السائل إلى وجوه محتملة (1) .

بل تحدثوا عن الصفات التي قد يُبتلى بها المتحاوران نتيجة القدرة على امتلاك الموقف، من قبيل الحقد والحسد وتزكية النفس والفرح بمساءة الآخرين، والاستكبار عن الحق، والرياء، وكل ذلك لكي تعود إلى المحاور شخصيته الطبيعية التي تحقق منطقيته في الحوار.

 

سادساً : الابتعاد عن جو التهويل أو ما يسمى بتأثير العقل الجمعي، ففي مثل هذا الجو يفقد الحوار جوه المطلوب، ولا معنى فيه للاستدلال المنطقي الهادىء الحكيم.

 ومن خير الأمثلة على ذلك ماذكره القرآن الكريم من جو انفعالي واجه المشركون به النبي#واتهموه بالجنون، ولذلك طلب من الرسول#أن يدعوهم إلى نبذ هذا التهويل، والعودة إلى الهدوء المطلوب، ثم التفكير بما يتهمونه به، يقول تعالى:

{قل إنما أعظكم بواحدةٍ أنْ تقوموا للّهِ مَثْنى وفُرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جِنَّةٍ إن ْ هو إلا نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد} (سورة سبإ، الآية: 46).

 

سابعاً : أن يكون الحوار مما يترك أثراً عملياً أو فكرياً، فلا معنى للحوار حول افتراضات تجانب الواقع، يقول الإمام الغزالي: >...الرابع أن يناظر في واقعة مهمة أو في مسألة قريبة من الوقوع، وأن يهتم بمثل ذلك< (2).

 

ثامناً: أن تلحظ في الحوار كل الجوانب المرتبطة بالموضوع، فقد تترك الجوانب غير الملحوظة أثرها على النتيجة، أما إذا لم يتسع صدر البحث، فيجب الاتفاق على قدر متيقن فيها.

والله تعالى نسأل أن يوفقنا لمراضيه.

المصدر: http://1bac.medharweb.net/modules.php?name=News&file=article&sid=257

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك