فروق جوهرية بين الجهاد والمقاومة وبين الإرهاب

هل ازدهر الاستيطان اليهودي في الجولان خلال الحقبة البيزنطية؟!

 

تيسير خلف

 

يتراوح الوعي التاريخي والآثاري للحقبة المتعلقة بتاريخ الجولان قبل الفتح الإسلامي بين نصوص المؤرخ اليهودي جوزيفوس فلافيوس، وبين الاستنتاجات غير المتعقلة التي توصل إليها علماء آثار إسرائيليون من خلال دراساتهم لمواقع الحقبة الكلاسيكية في هذا الإقليم السوري المحتل.
غير أن المعطيات الحديثة، ونتائج البحث والتحليل الآثاري أوضحت الكثير من هذا اللبس والغموض، الذي أسبغه الاعتماد على روايات فلافيوس أو على علماء الآثار المتحيزون الذين بنوا استنتاجاتهم بناء على دوافع إيديولوجية بعيدة كل البعد عن الروح العلمية.
وإذا أخذنا نصوص جوزيفوس فلافيوس التي تتعلق بالجولان، فسنجد أنها تتعلق بحقبة الملك العربي الأدومي (الجذامي) هيرود وابنه فيليب. ولكنها روايات لا تصمد أمام المحاكمة العقلية البسيطة، وهو ما يدل على أن جوزيفوس وضع نصه دون أن يزور هذه المناطق ولغايات تتعلق بتضخيم دوره في التمرد اليهودي في بداية الاحتلال الروماني لمنطقة فلسطين.
فهو يذكر بأنه شهد واقعة وضع عصافة من القش في مياه بحيرة فيالا (مسعدة) شمال الجولان، فخرج القش من نبع بانياس. وهذا الزعم مناف للحقيقة الطبيعية والجغرافية، وقد تنبه لذلك عدد من الرحالة الغربيين مبكراً ونفوا هذه الأسطورة مثل ربنسون وطومسون على الرغم من صهيونيتهما غير المشكوك فيها.
 كما يذكر فلافيوس أن الإمبراطور فيسباسيان وابنه تيتوس أجبرا الأسرى اليهود على مصارعة الوحوش الضارية حتى الموت في مدرج بانياس! بهدف المتعة. وحتى هذه اللحظة لم يعثر أي من المنقبين على أثر لمدرج في بانياس. ولم يشر أي باحث أو مؤرخ لوجود مثل هذا المدرج في أي حقبة كانت.
ويتحدث جوزيفوس أيضاً عن حادثة انتحار جماعي لخمسة آلاف يهودي في جملا (موقع السنام شمالي شرقي بحيرة طبرية). وهي قصة تشابه قصة انتحار المسادا. ولكن التنقيب الأثري نفى مثل هذه القصة المزعومة وجزم بأن الموقع حل به الخراب في العصر السلوقي أي قبل حادثة الانتحار الجماعي المزعومة بمائتي عام على الأقل. على الرغم من محاولات الحديث عن العثور على عملات عليها أسماء وكلمات يهودية تعاصر الحادثة المزعومة.  
أما آثار الجولان فتتفاوت في أهميتها المادية والمعنوية، وقد يسلط الإسرائيليون الضوء على أثر عادي يمكن العثور عليه في أي مكان، لغاية في نفس يعقوب، وقد يتجاهلون موقعاً عظيماً شامخاً للسبب نفسه.
وعلى سبيل المثال، ضخَّم علماء الآثار الإسرائيليين من بعض المواقع مثل خربة كنف أو خربة عين النشوط أو قلعة السنام أو خرائب دبورة، بسبب زعمهم أنها تضم كنساً يهودية بنيت في الفترة البيزنطية، وعلى الرغم من أن هذا الكلام لايصمد أمام أي محاكمة عقلية، إلا أنهم يصرون على القول إن الحقبة البيزنطية شهدت ازدهاراً في الاستيطان اليهودي في الجولان، غير مثبت إلا في كتب الهالاخا والتلمود. أما المواقع الشامخة العظيمة مثل آثار بانياس وقلعة الصبيبة وفيق وكفر حارب ذات الهوية العربية الإسلامية، فلم يولوها أدنى اهتمام، وهذا أمر طبيعي ومتوقع منهم لأن التاريخ والآثار لهما وظيفة محددة وهي إثبات النصوص الدينية.
تنبع أهمية آثار الجولان من كونها تشكل أحد المصادر المهمة لكتابة تاريخ هذا الإقليم الحيوي من سورية. وبما أن علم الآثار لم يقدم أي قرينة تدعم ادعاءات الإسرائيليين، فإن البحث ما يزال جارياً على قدم وساق عن أي قطعة فخار، أو حجر عليه رمز ما، أو عملة نقش عليها اسم ملك يهودي مزعوم.
فكل الدلائل التي ساقها علماء الآثار الإسرائيليين حتى اليوم على يهودية بعض المواقع في الجولان، هي أدلة استنتاجية تعتمد على تفسير رموز تستخدم لدى البشرية جمعاء على أنها يهودية خاصة، مثل رمز الأسد أو الحمامة أو الأفعى أو قرط العنب.
أما الأدلة الفاقعة الدامغة التي لا تقبل مجالاً للشك فهي تلك العائدة إلى الحقبتين المسيحية والإسلامية، حيث تشير الكتابات والرموز إلى تجذر هاتين الديانتين في الجولان، وخصوصاً الديانة المسيحية التي لا يخلو بيت من القرى المعروفة بأن فيها آثاراً بيزنطية، من رمز الصليب أو كتابة يونانية مسيحية.
تتحدث البعثات الأثرية الإسرائيلية عن عثورها على أكثر من عشرين كنيساً يهودياً في منطقة صغيرة شمالي شرقي بحيرة طبريا، وهو ما يعدونه دليلاً على أن سكان هذا الموقع من الجولان، كانوا يهوداً في العصر البيزنطي.
إن المعضلة الجوهرية في هذه الادعاءات أنها ظنّية، تعتمد على الحدس والرموز أكثر من اعتمادها على أدلة دامغة.

فالكنس العشرين المزعومة هي عبارة عن أبنية عادية لا يوحدها اتجاه، علماً بأن أحد المباني المندثرة في قرية نعران صنف كنيساً فقط لأن واجهته تتجه نحو القدس!!. وعثر بالقرب من بعض هذه الكنس المزعومة على زخارف لرموز نباتية وحيوانية كانت شائعة في ذلك الزمن مثل عقدة هيراكليس، أو إكليل الغار، أو حمامة وأفعى وقرط عنب. وهي رموز يمكن أن نجدها في أي منازل أو كنائس في المنطقة، كما عثر على قطع فخارية قيل إن عليها أسماء متبرعين لبناء تلك الكنس!!، أما الشمعدانات فلها شعب مختلفة العدد، ثلاثية وخماسية وتساعية، وهي تعد على أصابع اليد الواحدة. وبالإضافة إلى ذلك فهي موجودة في كنائس مسيحية إلى جانب الصلبان، وهو ما يثير شكوكاً حول وظيفتها ورمزيتها، حتى أن الباحثين باتوا على قناعة بأن الشمعدان كان رمزاً مسيحياً في الحقبة البيزنطية. وهناك زخارف قيل إنها شمعدانات تبين أنها عبارة عن شجرة زيتون مقدسة إلى جانب الصليب. وهذا ما بدا واضحاً في الأسكفة التي تحدث عنها شوماخر عام 1885م في قرية بريقة، وادعى أنها شمعدان يهودي فوق صليب مسيحي، بينما هي في الواقع رمز شجرة الزيتون المقدسة عند المسيحيين. وهذا الكلام ينطبق على الكنيسة المسيحية في قصرين والتي جرى تحويلها إلى كنيس أثري دون أي دليل دامغ على ذلك، وقد جرى ترميمها بطريقة توحي بأنها كنيس حقاً، عبر إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران من الداخل.
والأمر نفسه ينطبق على المبنى العام في قلعة السنام، أو جملة كما يسمونها، فقد تم ترميم القاعة الكبيرة بالطريقة نفسها، أي إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران، والدليل الذي تم اعتماده على يهودية هذه القلعة، عملة معدنية لايوجد لها أي مثيل في العالم كتب عليها "من أجل عزة أورشليم"!!؟، وهو ما يعني أنها عملة مزورة ومدسوسة في المكان.
أما كنيس الحمة فقد اعتمد في تحديده على لوحة فسيفسائية لأسدين، قيل إنهما يشبهان أسدي كنيس بيت ألفا في فلسطين، دون وجود أي دليل آخر سوى كتابة باللغة الآرامية تتحدث عن أسماء المتبرعين ببنائه، وجميعهم ليسوا من سكان الحمة، بعضهم من كفر عاقب في منطقة البطيحة، وآخر من سوسيا وكفر ناحوم وعمواس وأربل. وما يلفت النظر أيضاً حسب تأكيدات البعثة الأثرية الإسرائيلية عدم وجود رموز أو شعارات أو عبارات لها علاقة باليهودية، بل إن ما يزيد الأمر استغراباً وجود لقب لأحد المتبرعين هو القمص، وهو لقب مسيحي قبطي معروف.
وقد أدى اعتماد المصادر الهلاخية (الشرعية) في تحديد هوية بعض القرى الجولانية باعتبارها يهودية، إلى الوقوع في خيبة أمل لدى الباحثين الإسرائيليين، الذين أقروا بأن القرى التي يرد ذكرها في كتب الهلاخا وهي عينوش (التي قيل إنها العوانيش)، وعينحارة (؟)، ودمبر (؟) وعيون، ويعروت (؟)، وكفار يحريب (التي قيل إنها كفر حارب)، ونوب (التي قيل إنها ناب)، وخسفيه (التي قيل إنها خسفين)، وسمخ،  لم يعثر في أي منها على أي أثر يهودي، بل عثر على آثار مسيحية، بينما قالوا إنهم عثروا على رموز يهودية في قرى لم تصنف في الهلاخا بأنها يهودية!.
وكأمثلة يستخدمها بعض الباحثين الإسرائيليين للتدليل على هوية منطقة ما في الجولان بأنها يهودية، نذكر المثل التالي الوارد في كتاب "الجولان في الحقبتين الرومانية والبيزنطية" لدان أورمان، الذي دلل على أحد افتراضاته بما ورد في مدراش تناعيم في سفر التثنية: "قالوا: عندما انطلق هدريان على الطريق الصاعدة إلى الحمة، وجد شابة من إسرائيل.. قال لها: ما أنت؟ فقالت له أنا من بنات إسرائيل، فنزل عن جواده في الحال وركع أمامها". ومع أن الباحث يقر بأسطورية هذا المدراش إلا أنه يعتبره مؤشراً يدعم فكرته.
كما يستشهد الباحث نفسه بنص حاخامي؛ يحاول أن يثبت من خلاله أن بيت صيدا كانت يهودية، والمثال يرد في اليروشاليمي شيكاليم ونصه: "تقول تعاليم الحاخام شمعون بن غمائيل قال: ذهبت مرة إلى صيدان (بيت صيدا) فجلب أمامي ثلاثمائة نوع من الأسماك على صينية واحدة". ورغم إقرار الباحث بأن الأبحاث دلت على عدم وجود أكثر من 18 نوعاً من الأسماك في بحيرة طبريا، إلا أنه يعد ذلك دليلاً غير مباشر على افتراضه.
إن عبثية محاولات الباحثين الإسرائيليين، تتجلى بالبحث عن فترة ازدهار افتراضية للاستيطان اليهودي في الجولان، في المرحلة البيزنطية التي تعد ذهبية بكل المقاييس بالنسبة للديانة المسيحية، ليس في الجولان وفلسطين وعموم منطقة شرق المتوسط فحسب، بل في العالم القديم أجمع.
- هضبة الجدولان، عنبر وشيلر، ص 192. ترجمة مؤسسة الأرض.
- هضبة الجولان، عنبر وشيلر، ص71.
- الجولان في الحقبتين الرومانية والبيزنطية، دان أورمان، ص 168. ترجمة مؤسسة الأرض.
- المصدر السابق، ص 200.

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك