التطرف الديني وإشكالية التعايش الإنساني
ما أكثر التحديات الفكرية و الحقوقية التي تواجهنا نحن المسلمين في إطار النظام العولمي القائم الذي يغزو مجتمعاتنا، إنها حتما تضطرنا لأن ننزع عنا ذلك الغطاء الذي نتخفى وراءه خوفا من "الآخر"، وذلك بغية تحقيق الاندماج الإيجابي و طرد سلوك الممانعة السلبي. إنها تحديات قد نكون في غنى عن الخوض فيها و إضاعة الأوقات في تناولها لولا انتشار الفكر المتطرف المتكوّر على نفسه كقنفذ يجعل من الإسلام دينا خشنا أحرشا يصعب لمسه فضلا عن التماس جماليته و محاسنه.
إن التطرف عموما ظاهرة نفسية عويصة معقدة، لا تخلو من مؤثرات خارجية ساهمت في تبلور هذا الشعور "اللاإنساني" في العمق الوجداني للإنسان الذي يعيش هستيريا التطرف، و هو بعد ذلك سلوك سلبي لا يمس إلا بالأقربين من المتطرف، أقصد أن التطرف لا يعيش إلا في الهوامش و الجوانب فهو في مسيرته لـ"لتقدم" و في زحفه العنيف لا يتصادم إلا مع تلك الجماعات التي يقال عنها عادة بأنها "معتدلة"، و لا يختص بدين دون آخر، أو أيديولوجيا دون سواها، بل إنها حالة نفسية قد يعيشها أيّما إنسان بغض النظر عن عقائده و اختياراته الفكرية، من هنا فليس غريبا أن يخلو التاريخ من إنجازات حققها المتطرفون، ببساطة لأنهم يعيشون صراعا داخليا مستمرا يحول دون انفتاحهم على الحياة بآفاقها المتجددة و تجلياتها المستحدثة في سياق تطورها، فضلا عن أن تكون لهم يدا في تسطير صفحات مشرقة في السجل التاريخي.
إن تقديم قراءة تاريخية و تحليل موضوعي لأنساق الفكر الخوارجي المتطرف سيقدم لنا أنموذجا نموذجيا قد يختزل تلك المتاهة التي يتخبط فيها، و ذلك النطاق الضيق الذي يتخندق فيه الفكر المتطرف ككل و عدائه للاعتدال و الوسطية واصطدامه به و "مسالمته" الغير المقصودة لمتطرفي فكر "الآخر"، فالفكر الخوارجي المتطرف مثلا لم تكن له أية إسهامة إيجابية على مدى تاريخنا، فلا هو فتح بلادا و لا عمل على توسيع رقعة بلاد الإسلام ولا ساهم في تشييد صرح الحضارة الإسلامية ككل، بل إنه أسال شلالات من الدماء و خط بمداد أحمر صفحات من التاريخ ستظل شاهدة على تطرفه و جناياته في حق الإسلام و أهله و البشرية جمعاء.
و ما يحول دون التقاء المتطرفين من أيديولوجيتين يقعان على طرفي نقيض كونهما يظلان دائما في نزاع وهمي مع الأقربين منهما فكريا، ما يجعل التطرف ظاهرة محصورة في نطاق ضيق للغاية لا يبرحها قيد أنملة، منشغل دائما بمن يختلف معه في فروع جزئية دون القدرة على الوصول إلى ذلك "الآخر" الذي يوجد في الطرف المقابل له، و هذا بالفعل ما تختزله عبارة النبي محمد (ص) في حق الخوارج بأنهم "يقتلون أهل الإيمان و يتركون أهل الأوثان"، فهذه العبارة من النبي قد نسئ فهمها لو رأينا فيها بسطحية تحريضا على قتل أهل الأوثان المسالمين، كلا ! إن العبارة تعكس سلبية الفكر المتطرف، فمادامت السيكولوجيا المتطرفة تعشق إراقة الدماء و إثارة الزوابع و الفتن و لا تتقن غير صناعة الموت، فإن غياب التبصّر و الحكمة يجعلهم يتيهون في مستنقع من العبث السلوكي و يتمرغون في وحل من التصرفات اللامسؤولة و يقعون في انزلاقات خطيرة غير محمودة المآل.
إن تحليل الخطاب الديني السائد في بعض الأوساط المتطرفة، و محاولة فهم آلياته المتحكمة فيه بالغوص في عمقه و التنقيب في جذوره دون الوقوف عند ظاهره، قد يغير من نظرتنا إلى التطرف كظاهرة تهدد الاستقرار و تزرع الرعب في المجتمعات، إن تجاوز تلك الرؤية القاصرة المخلّة التي ترى في الدين العامل الأساسي في تعميق هذه الظاهرة هي الخطوة التمهيدية الأولى نحو فهم عميق لسيكولوجيا التطرف، طبعا فعندما نقول بأن الدين برئ من ذلك فإننا لا ننطلق من فراغ، بل إن استقراء المعطيات التاريخية تثبت بما لا يترك مجالا للشك أن المتطرفين كانوا و لا يزالون مندفعين "متحمّسين" من غير تريّث أو تبصّر بالنظر في العواقب الوخيمة لأفعالهم اللامسؤولة على المستوى الشرعي، أي بالوقوف عند حقيقة ما هم "متحمسون" له استنادا على سلطة النص سواء النص القرآني أو الأحاديث و اعتمادا عليها، فـ "ذو الخويصرة" مثلا، تلك الشخصية المشهورة في كتب "الفرق" وهو الخارجي الأول في بلاد الإسلام لم يتطاول على إنسان عادي، بل إن نزوعه للتطرف كان بمثابة الضوء الأخضر الذي خوّل له اتهام النبي في عدله مع أنه صاحب الدين و "أمين من في السماء" كما قال عليه الصلاة و السلام عن نفسه بحق، و ما يُهِمّنا هنا هو سبب هذا الاعتراض البذيء و الوقح الذي ينم عن جفاوة النفس و قساوة الطبع و بداوة السلوك، فلقد كان النبي بصدد تقسيم الغنائم، فاتهمه ذو الخويصرة بالحيف فخاطبه في رعونة منتفية النظير "اعدل يا محمد، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، و الشاهد في هذا الحديث، هو في النظر إلى ملهمات هذا القول الجافي و محركاته، إنه حتما لم يكن "خطأ" دينيا هو الذي نبّه النزعة المتطرفة في "ذي الخويصرة" و هيجها فيه ليصدر مثل هذا الكلام في حق المعصوم عليه السلام، بل إن الأمر يتعلق بتوزيع الغنائم، أي بالاقتصاد، لذا يمكن القول بالكثير من الارتياح و الاطمئنان أن الشعور و لو توهّما بالحيف الاقتصادي و الاستبداد السياسي هو العامل الحامل للإنسان على التطرف، إن ذلك الشعور بممارسة عنف و إن كانا معنويا على الإنسان هو الذي يجعله يتمرد على المجتمع ككل، فعندما تغيب قيم العدل و المساواة في المجتمع تكثر الأمراض النفسية و الآفات الاجتماعية فتتكسر أواصر المواطنة و تحل عقدة الأخوة القائمة على الإيمان، ألم يقل عمر بن الخطاب "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، فعمر و هو "ملهم" و ذو عبقرية سياسية كان واعيا بخطورة الفقر كآفة اجتماعية يرزح تحتها شريحة واسعة من المجتمع، فهو يعمق الهوة بين الطبقات الاجتماعية، فيترجم هذا التفاوت إلى شعور بحقد دفين اتجاه أصحاب المال و النفوذ، و هو ما ينعكس في عمليات العنف و الإرهاب التي يسبقها "إرهاب" آخر، و من نوع آخر، سياسي، اقتصادي، مورس على هذا المتطرف. إن العدول عن قيمة العدل على جميع المستويات الحياتية، بما فيها العدالة الاجتماعية، و ما يتفرع عنها من تكافؤ الفرص و توزيع للثروات التي تزخر بها البلاد بالعدل و مساواة جميع الأفراد كأسنان المشط، و حضور اقتصاد الريع و سيادة السياسات العشوائية ينذر بانتشار الأزمات الاجتماعية و الاختلالات النفسية في المجتمع كانتشار النار في الهشيم، و هو ما يؤثرا سلبا على أمن المجتمع.
و في نفس السياق فتمرّد الخوارج على الإمام علي إنما اتخذ من الدين ذريعة و مطية فقط، و هو في جوهره يتصل بشكل وثيق بأنساق أخرى، سياسية في حدثنا هذا، إن الدين كان المتنفس الوحيد للتعبير عن سخطهم على الوضع السياسي، و رفض التحكيم بين علي و معاوية، و لا تأويل مستساغ غير هذا، إذ لا شك أن سلطة علي الدينية أعلى من تلك التي يتمتع بها الخوارج، لذا فسيكون من العبث أن نجعل من التشكيك في "دين" علي سببا لثورة الخوارج عليه و إن تمسحوا بالقولة ذات الحمولة الدينية "لاحكم إلا لله". إنه مجرد حلم سياسي تستر برداء ديني، فالتخبط السياسي الذي ساد في بلاد الإسلام عندئذ، و ظهور أصحاب المصالح الخاصة الضيقة أذكت نار الفتن، و هو الوضع الذي استهجنته فرقة الخوارج – و قد حق لهم ذلك- ، غير أن النزعة المتطرفة لهؤلاء حادت بهم عن سلوك منهج الوسط بالنزوع إلى الإصلاح بدل العنف و الثورة.
و إذا أضفنا إلى هذا تلك المبررات التي أعتبرها زائفة غير واقعية للخروج على عثمان، أدركنا إلى أي حد يمكن للعامل الاقتصادي-السياسي أن يشكل دعامة متينة لممارسة فعل التطرف، لقد تمت تعبئة الهمج و الرعاع الذين خرجوا على عثمان بتلفيق أكاذيب نسبت له، و هي في مجملها مرتبطة بالاقتصاد و السياسة، فعثمان اتهم بالإخلال بمبدأ العدل في تقسيم المغانم، و بعض الروايات ذات المياه الإيديولوجية الواضحة تطالعنا بأنه خص أقاربه بالولاية، لذا استنفرت جهات معينة قاعدة جماهيرية كبيرة تضم ثلة من الأوباش و الهمج قاموا بممارسة عنف منظم ضد الخليفة الراشد، و دشن الحدث المأساوي لعهد جديد تميز بانفجار الأزمات على كل المستويات.
هذا على المستوى الداخلي، أقصد تلك المحركات التي قد تحمل الإنسان على ممارسة التطرف ضد من يشترك معه في الفكر و العقيدة، أما على المستوى الخارجي، فأرى أن مسألة التعايش إشكالية معقدة، و هي كذلك و ليست مجرد مشكل عادي، لكونها تحوي أكثر من مشكل، فليس التطرف الديني و من الجهة الواحدة هو الذي يعيق تحقيق التعايش الإنساني، إن الفلسفة الغربية في حد ذاتها تعتبر "الآخر" جحيما، كما يقول جون بول سارتر، هذا فضلا عن الصراعات بين الأديان و منافستها حول أحقيتها بالانتساب إلى الإله الحق الذي أرسل رسولها القومي، فدين النصارى الغربي مثلا لا يعترف بنبوة محمد (ص)، و لا يحترم شخصيته كما أثبتت الكثير من الوقائع، كالرسوم المسيئة لنبينا (ص) و الأسئلة الأيديولوجية المطروحة في أبحاث المستشرقين بخصوص شخصية النبي، و طبيعة الأجوبة المقدمة تزيد من تعميق الهوة بين الحضارات و الابتعاد أكثر عن تحقيق قيم التسامح و العفو و التعايش، في حين نجد أن الإسلام رغم الدعاوى العريضة التي يلوكها بعض المشككين في قدرته على الاستجابة لتطلعات البشرية لبناء عالم يسوده السلام و التعايش، -نجده- يقر بدين الآخر، و يدعو إلى المجادلة بالتي هي أحسن، و التعامل بالحكمة ، و يؤكد أن الفصل بين الأديان هو لله، و ليس مهمة من مهام المسلمين، و هو بعد ذلك يدعو إلى التجمّل و التحلّي بجملة من الأخلاق السامية في تعامله مع "الآخر"، كالصفح الجميل و الهجر الجميل و العفو و الإحسان إليه، يقول تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد" و يقول جل و علا :" و لا تجادلوا أَهل الْكتاب إِلا بِالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم" ثم يؤكد في صورة رائعة على ضرورة الاعترف المتبادل بين أصحاب الأديان و البحث عن القواسم المشتركة و التآخي الإنساني مادام إلهنا واحد : " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" ، بل إن الإحسان إلى "الآخر" من غير المسلمين هو من القسط الذي يحبه إلله، كيف لا و فلسفة الإسلام في النظر إلى الإنسان تختلف عن شوفينية الأديان الأخرى و الرؤية الاستعلائية لبعض التيارات الأيديولوجية، و تختزلها قولة الإمام علي "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" ، لذا فلا غرابة أن يحث الله على مد جسور التواصل للآخر و الإحسان إليه مادام يبادلنا المودة و لا يرانا "جحيما" ، يقول سبحانه و تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" ، أما العدل فقيمة لابد من استحضارها حتى مع من نكن له الشنآن و البغض، يقول عز وجل " لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا".
أما بعض "الأصول" الرائجة في بعض الأدبيات السلفية، المقتبسة من بعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي تنسب له الطريقة الوهابية، من قبيل ما يسمى بـ "الولاء و البراء"، فأرى أن الخطأ في قراءة النصوص القرآنية التي تدعو لحمل السلاح و معاداة "الآخر" قراءة مطلقة و النظر إلى الآيات نظرة جامدة، دون الأخذ بالسياق التاريخي الذي نزلت فيه، أو ما يسمى في علوم التراث بـ "أسباب النزول"، إن رسالة "الأصول الثلاثة" مثلا التي تلقن للأطفال تشكل خطرا عظيما على تنشئتهم الفكرية و قد تؤثر على حدود علاقاتهم الإنسانية، فـ "الولاء و البراء" الذي يعتبر أصلا من أصول الإسلام كما يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، من الأخطاء التي ينبغي أن نتداركها، بحيث نتجاوز التفسير الحرفي الظاهري للقرآن، فهذا الأخير قد يوقعنا في متاهة لن يتسنى لنا الانعتاق منها إلا بتوسيع أفق فهم النص القرآني و المقارنة