مفهوم التطرف الديني في الشرع
خالد بن سعود البليهد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد. فإن مصطلح (التطرف الديني) منتشر جدا في خطاب كثير من الناس اليوم على اختلاف طبقاتهم وميولهم الفكري واستعمالاتهم ويكثر وقوع هذه العبارة في الصحف ولإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى.
والذي دعاني لكتابة هذا الموضوع اختلاف الناس في فهم مدلول هذا المصطلح مابين غالي متشدد ومتوسط ومفرط متساهل فكل يفسر هذا المصطلح على حسب مدرسته الفكرية وميوله وهواه ومبادئه وأهدافه وما يرمي إليه من إطلاق هذه العبارة حتى أنك بعد التأمل تجد تفاوتا كبيرا بين المثقفين والمتخصصين في معنى ومدلول هذا المصطلح. ويضاف إلى ذلك جسارة وجرأة بعض الكتاب والمثقفين بله والمنتسبين إلى الوسط الفني في إطلاق هذا المصطلح والمشاركة في تطبيقه والخوض في تحديد مدلوله.
وتفسير التطرف الديني أمر نسبي يختلف من بيئة لأخرى وثقافة لأخرى وطبيعة لأخرى فما تعده أنت من التطرف يعده غيرك من التوسط والاعتدال وقد يعده آخر من التساهل والتفريط وهذا أمر مشاهد. بل لو ذهبنا إلى أمر أبعد ربما الشخص نفسه يزاول سلوكا أو فكرا مقتنعا به ثم يتغير موقفه ويرى أن ما قام به يعد من التطرف ويتبرأ من فعله وهذا كثير في مراجعات الناس. وبهذا يتبين لنا أنه من الصعب جدا بل من الممتنع أن نحدد مدلول التطرف ونفسره بمفهوم معين ونتفق على ذلك لأننا لا ننطلق من منطلقات ثابتة متفق عليها ونتحاكم إليها بل ننطلق ونرتكز على دليل الإلف والعادة والبيئة والثقافة والتكوين الشخصي. فما دام كذلك فسنختلف اختلافا ظاهرا في ذلك حتى من أبناء البلد الواحد والثقافة المعينة.
وهناك إشكالية أكبر تواجهنا في تفسير التطرف مفهوم ثقافة الغرب في تعيين التطرف والإرهاب فبيننا وبينهم تباين كبير في المرجعية الدينية والثقافة والعادات والتقاليد مما يجعلنا من الصعب أن نتفق معهم في هذا الأمر. مع كوننا نتفق في الجملة مع سائر الأمم على تحريم أفعال خطيرة اتفقت الشرائع على تحريمها كقتل الأبرياء والتعدي على ممتلكات الغير ونحوها لكنها يسيرة في العدد لا تمثل الجمهور الأعظم في المسائل والجزئيات التي تدخل تحت مدلول التطرف الديني. فلأجل هذا وغيره وجب الرجوع إلى أصل محكم في تفسير التطرف وتعيين مدلوله ألا وهو الشرع المحكم الذي لا يأتيه الباطل المنزل من عند الله الموحى إلى نبيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
بداية نتفق أن الشرع جاء بتحريم ومنع الغلو والتطرف في الأقوال والأفعال والاعتقادات واستخدم أنواعا من الأساليب والدلالات في بيان ذلك تارة بالنهي عن ذلك وتارة بالتحذير من مشابهة الكفار في الغلو وتارة ببيان أن الغلو سبب للهلاك واتفق فقهاء الشريعة على تحريم الغلو بجميع صوره وأنواعه. قال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ). وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). رواه النسائي. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، إنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله). متفق عليه. ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (هلك المتنطعون) قالها ثلاثا. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلوك القصد والاعتدال في الأمور كلها.
لكن متى يصح لنا نسبة الفعل إلى التطرف الديني هل هو مدلول واسع يبيح لكل شخص استعماله فيما لا يروق له ولا يوافق هواه أو يخالف مذهبه أم هو خاص له معالم ورؤية واضحة:
(1) فمن الناس اليوم من يطلق على من يمتنع عن شرب الدخان والخمر أنه متطرف.
(2) ومنهم من يطلق على من يعفي لحيته ويرفع إزاره بأنه متطرف.
(3) ومنهم من يطلق على من يحرم سماع الموسيقى متطرف.
(4) ومنهم من يطلق على من يحظر التعامل بالربا والقمار أنه متطرف.
(5) ومنهم من يطلق التطرف على الامتناع عن مصافحة الأجنبية والخلوة بها.
(6) ومنهم من يطلق التطرف على ترك محبة الكفار و ترك موالاتهم و عدم مشاركتهم في أعيادهم.
(7) ومنهم من يطلق التطرف على الفتاة التي تلتزم الحجاب ولباس الحشمة.
(8) ومنهم من يعد التمسك بعقيدة السلف الصالح والحرص على اتباع السنة من التطرف.
وبالعكس من ذلك هناك من يستبيح فعل الأفعال المشينة التي ضررها ظاهر على المجتمعات والأفراد ويتأول في إباحتها ويرى أنها ليست من التطرف ويلبسها اللباس الشرعي فيقتل ويسفك وينتهك ويتعدى باسم الجهاد المشروع والمقاومة الشريفة. وهو في ذلك يسيء للإسلام وأهله. وهناك من ينتقص العلماء الكبار ويطعن فيهم ويحذر الخلق منهم باسم الغيرة على الإسلام والأمة ويرى أن هذا مشروعا ليس من التطرف.
إن مصطلح التطرف الديني لم يرد لفظه في الشرع وقد استعمله بعض العلماء كالنووي وابن تيمية ومعناه لغة الوقوف في طرف الشيء والخروج عن الوسط والاعتدال فيه وهو يشمل الذهاب إلى طرف التشديد و إلى طرف التسهيل فالغالي في الدين متطرف والجافي عنه متطرف. قال الجصاص : (طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه أو نهايته ، ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا) . لكن المشهور استعماله في التشدد والتعمق وهو المقصود في خطاب المتكلمين فيكون مرادفا للغلو ومفهومه في الشرع مجاوزة المسلم الحد الشرعي في كل شيء كما قال الإمام أحمد لابنه: (لا تغلو في كل شيء حتى الحب والبغض). وقال ابن تيمية: (وقوله : « إياكم والغلو في الدين » عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال . والغلو : مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ، ونحو ذلك ، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف). وقال ابن حجر: (وأما الغلو فهو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد وفيه معنى التعمق يقال غلا في الشيء يغلو غلوا وغلا السعر يغلو غلاء إذا جاوز العادة والسهم يغلو غلوا بفتح ثم سكون إذا بلغ غاية ما يرمى). وهو عام له صور كثيرة فإذا بالغ الإنسان وتعدى حدود الشرع في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك أو الأخلاق و المشاعر أو غير ذلك فقد وقع في مسلك التطرف المشين. وبالمثال يتضح المقال:
(1) ففي الاعتقاد: من يغلو في تعظيم الصالحين ويتبرك بهم ويتخذهم أندادا وشركاء لله يدعوهم ويستغيث بهم وينذر لهم ويفزع إليهم ويطلب منهم مالا يقدر عليه إلا الله. وكذلك من يغلو في التكفير والتبديع والتفسيق فيتجنى على المسلمين لأدنى شبهة ويستبيح دمائهم وأموالهم وأعراضهم بغير حق.
(2) وفي العبادة: من يبالغ في العبادة المشروعة فيحدث فيها عملا لم يشرعه الله فيجعل الاستنجاء من فرائض الوضوء. ويزيد في عدد الركعات والطواف والطهارة من باب الاحتياط. وكذلك من يحدث ويبتدع عبادة لم يأذن بها الله كالأذكار والصلوات والمناسبات التي ليس لها أصل في الشرع. والغلو والإفراط في تتبع الآثار التي لم يشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) وفي السلوك: من يبالغ في النسك والزهد فيحرم ما أباحه الله من الطيبات والنعم فيترك أكل اللحم أو الزواج أو لبس الحسن من الثياب وغير ذلك. وكذلك من يبالغ في التورع عن جميع المكاسب ويشدد على الناس في ذلك حتى يوقعهم في الحرج. وكذلك من يحرم استخدام الوسائل الحديثة التي ثبت نفعها وفائدتها في الدعوة والمصالح العامة. وكذلك من يغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيحمله ذلك على حمل السلاح وقتال المسلمين.
(4) في الأخلاق والمشاعر: من يغلو في حب بعض الأشخاص فينزله منزلة الرسول وربما بالغ فنزله منزلة الرب وخلع عليه أوصاف الرب كما فعلت النصارى مع عيسى بن مريم والرافضة مع علي بن أبي طالب. ومن يغلو في البغض والكره فيحمله ذلك على ظلم الكافر وانتهاك من كانت له حرمة والغدر به وخيانته ، ومن يبالغ في بغض الفاسق المسلم حتى يعامله معاملة الكفار والعياذ بالله. وكذلك الغلو في إظهار الفرح حتى يحمله ذلك على الإسراف والبذخ وفعل المحرمات. والمبالغة في الحزن عند المصيبة حتى يحمله ذلك على التسخط والجزع والاعتراض على القدر باللطم والعويل وغيرها من مظاهر الجاهلية.
والأمثلة كثيرة على صور التطرف وأنواعه والمقصود التنبيه على أن ضابط التطرف هو المبالغة والزيادة على الحد المأذون فيه شرعا والتنبيه على أن الشرع هو المصدر الوحيد في تعيين مدلول التطرف وفي إطلاقه على أي فعل أو قول أو سلوك. والمتأمل في مناهي الشرع يجد أنها ترجع إلى أحد أصلين:
1- إما لكونها من باب التفريط والتساهل كترك الفرائض والعقوق والقطيعة وشرب الخمر والزنا.
2- وإما لكونها من باب الإفراط والتشدد كالظلم واستباحة الدماء والأموال المعصومة والخروج على الحاكم المسلم.
فمن زاد على الحكم الشرعي كان غاليا متطرفا ومن نقص عن الحكم الشرعي كان مفرطا متساهلا وكلا المسلكين مذموم شرعا مستحق فاعله للعقوبة والوعيد وإن كان في الغالب الإفراط أشد خطرا وأعظم وبالا على الأمة من التفريط. فالخوارج غلوا في الاعتقاد فكفروا أهل الكبائر من المسلمين وقابلهم المرجئة ففرطوا في الاعتقاد فأثبتوا الإيمان بمجرد القول دون العمل. والمتصوفة غلوا في الزهد فحرموا أكل بعض الطيبات والاستمتاع بالملذات المباحة وقابلهم المتحررة فأباحوا جميع المآكل والمشارب و الملذات. والحق وسط بين الغلو والجفاء وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
و بناء على ذلك إذا اشتبهنا في سلوك شخص وترددنا فيه رجعنا إلى دلالة الشرع ونظرنا فإذا كان هذا العمل خارجا عن حد الشرع وزائدا عليه منهيا عنه حكمنا عليه بالغلو والتطرف والشذوذ وإذا كان هذا التصرف موافقا للشرع في امتثال أمره وترك نهيه لم نحكم عليه بالتطرف ولو خالف المعتاد عند الناس وما تعارفوا عليه فإن الناس أعداء ما جهلوا و مالم يألفوه.
وبهذا يتبين لنا أن من امتنع عن فعل شيء لنهي الشرع عنه لم يكن هذا من التطرف ولا يجوز لأحد أن يصفه بالتطرف والغلو اعتمادا على العرف و العادة أو اعتمادا على ما نشأ عليه وألفه وتربى عليه أو اعتمادا على الفكر العصري التحرري الوافد من الغرب. فلا يجوز ولا يسوغ أن نصف من امتنع عن فعل المحرمات كالخمر والدخان والموسيقى والاختلاط وغيرها بالتطرف لأنه فعل ذلك طاعة الله متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل من أطلق عليه التطرف هو الأليق بوصف التطرف لغلوه في الحكم والوصف.
وكذلك ليس من التطرف في شيء من دان الله برأي فقيه شديد في مسألة معينة وكان لهذا القول مأخذ في الأدلة ومذهب معتبر عند الفقهاء فلا يجوز لأحد أن يصف من أخذ بهذا المذهب وشدد على نفسه من باب الاحتياط والورع واطمأنت نفسه بذلك أن نصفه بأنه متطرف لأنه فعل ذلك متبعا ومقتديا بعالم له جلالته في العلم والتقوى والفتوى وفعله مأذون فيه شرعا ليس فيه مغالاة أو تشدد وقد فعل ما أمره الشرع حين التنازع وبذل وسعه في معرفة الحق فلا يؤاخذ على ذلك.
فيجب على المسلم أن يكون ورعا في أحكامه دقيقا في ألفاظه يحذر أشد الحذر من إطلاق وصف التطرف على المتمسك بالشرع المتبع للسنة في زيه وأفعاله لأن ذلك من الظلم والبغي الذي حرمه الله ويخشى على من فعل ذلك أن يكون منتقصا لسنة الرسول وهديه ومن انتقص السنة والهدي رجع انتقاصه ذلك إلى فاعله والآمر به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا أمر خطير قد يفسد دين المرء ويوبقه في النار ومعاذ الله أن يكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطرفا. فإياك والطعن في أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى السلف الصالح عن ذلك قال أحمد بن سنان القطان: (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، فإذا ابتدع الرجل نُزعت حلاوة الحديث من قلبه). وقال أبو حاتم الرازي: (علامة أهل البدع: الوقيعة في أهل الأثر) .وليحذر المسلم من الوقوع في التطرف بكلا نوعيه التشديد والغلو في الدين وكذلك التساهل والتفريط في فرائض الدين وارتكاب الشهوات المحرمة.
إن من أعظم البلاء والفتنة في هذا الزمان أن يأتي شخص أمضى حياته في اللهو والمجون والبطالة من ممثل أو مغن أو مهرج أو فنان فيستفتى في هذه المسائل الكبار وهو لا يعرف بالتخصص فيتكلم في معنى التطرف الديني ويفتي ويصنف الأعمال على حسب هواه ويجعل من نفسه حكما ويرخص بالفساد والرذيلة ويزينه للناس ويتهم من يخالف ذلك ويعارضه بالتطرف. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أشراط الساعة بقوله: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الروبيضة قيل : وما الروبيضة قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). رواه أحمد.
ومن الجناية العظيمة في هذا الباب أن يقصر مفهوم التطرف الديني في وسائل الإعلام وأطروحات المثقفين على الأعمال الإرهابية وسفك والدماء وقتل الأبرياء وإتلاف الأموال دون صوره الخطيرة الأخرى ولا شك في حرمة الإرهاب وشدة خطره على المجتمع المسلم وأهمية الحديث والتوعية عنه لكن هناك صور وسلوكيات أخرى خطيرة تفسد الأديان حرمها الشرع وحذر منها من أعظمها الغلو في تعظيم الأولياء والتبرك بهم مما يكون ذريعة وسببا في الوقوع في الشرك وقد ابتليت كثير من بلاد المسلمين بأنواع من الشركيات والبدع ووجد لها دعم ثقافي واجتماعي مع قلة من يتكلم عنها ويبين خطرها بل أعظم من ذلك حرص الإعلام على إظهارها من التراث والفلكلور الشعبي وأشاد بها والله المستعان. والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من جميع أنواع التطرف حذر من تحريم الطيبات وترك النكاح وحذر من فتنة القتال والظلم وانتهاك حرمة المسلم والمعاهد وحذر من فتنة الدنيا وحذر من فتنة الخروج عن جماعة المسلمين وإمامهم وكان كثيرا ما يحذر من فتنة الشرك ووسائله واشتد نكيره في هذا الباب حتى في آخر لحظات عمره مما يدل على خطورة هذا الأمر وأهمية الاعتناء به.