حوار مع المستشرق برنارد لويس
د. مازن مطبقاني
لهذا الحوار قصة طريفة، فقد سبقه مراسلات بين الباحث والمستشرق، وقد اتسم رد لويس بالتردد والممانعة. كما إنه كال التهم جزافاً للباحثين والمؤرخين في دول العالم (غير الحر) من حيث عدم تمتعهم بما يتمتع به الباحثون في (العالم الحر) من حرية الرأي، وأن بحوثهم لا تخضع للرقابة أو التوجيه من أي جهة دينية أو غيرها.
وكان من أسباب تردده في قبول لقاء الباحث أولاً اعتقاده بأن منهجه لا يكفي أن يكتب فيه بحث دكتوراه؛ فمنهجه لا يختلف عن منهج الباحثين في "العالم الحر"، وقد أوضحه في أحد كتبه. وثانياً خوفه من أن يكون الباحث متعصباً ضد المستشرقين، وأنه ينطلق في بحثه من وجهة نظر مسبقة ويبحث عن أية أدلة تؤيده. وطلب لذلك أن يطلع على فصل من الرسالة. ولما أبلغته بأنني لم أشرع في الكتابة بعد، أصرّ على أنه لا يستطيع أن يرتب معي موعداً حتى يطمئن إلى توجهي بالرغم من أنني بعثت إليه بصورة معدّلة من خطة البحث وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.
ولمّا أدركت صعوبة إقناعه بإعطائي موعداً وكنت في حاجة للمادة العلمية لبحثي، فقد قررت السفر. وحالما وصلت برنستون كان لويس قد غادرها في رحلة إلى جنوب شرق آسيا مدة أسبوعين. فكانت فرصة مناسبة أن أنشغل بجمع المادة العلمية، وإجراء المقابلات مع المستشرقين الآخرين في الجامعة وحضور النشاطات الاستشراقية. وما إن رجع حتى أدرك أنني مصرٌ على اللقاء فكانت هذه الأسئلة وإجابات لويس عليها، وبالرغم من أنني ناقشت هذه الإجابات في ثنايا رسالتي للدكتوراه لكنني أقدّم تعليقاً موجزاً عليها هنا.
تقسيم العالم إلى(عالم حر) و(عالم غير حر)
إن هذا التقسيم قصد به أصلاًَ التمييز بين الغرب الرأسمالي والعالم الشيوعي، ولم يقصد به التفريق بين المؤرخين في العالم الإسلامي والعالم الغربي. ولويس هنا أو في كتاباته الأخرى لم يقدم أي دليل على صحة هذا التقسيم. والحقيقة أنه كم من مؤرخ من ما يسمى (العالم الحر) كان أبعد عن الموضوعية والإنصاف من المؤرخين من البلاد الأخرى. وهذا الرأي يدل على تعصب لويس للغرب.
إنكار لويس وجود الأرشيفات والوثائق
لاشك أن مسألة الوثائق والأرشيفات من المسائل المهمة للمؤرخ، ولئن كانت معظم الوثائق الإسلامية قد ضاعت بسبب الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية، لكن المؤرخين الذين دونّوا لنا هذا التاريخ الضخم لم يغب عن أذهانهم أهمية الوثائق. فقد اطلع بعضهم على هذه الوثائق ودونها في مؤلفاته فهي موجودة بمضمونها وإن ضاعت. وقد أطنب لويس في الحديث عن أهمية الوثائق ليوهم المستمع إليه بأن التاريخ الإسلامي ليس موثوقاً كما هو الحال مع التاريخ الأوروبي أو تاريخ الدولة العثمانية. وقد نسي لويس أهمية وثائق البردي، أو وثائق الجنيزة التي أخذها الأوروبيون واحتفظوا فيها في متاحفهم ومكتباتهم. ومما يثبت وجود الوثائق في التاريخ الإسلامي كتاب الدكتور محمد حميد الله مجموعة الوثائق السياسية للعهد الأموي والخلافة الراشدة، وينبغي الإشارة كذلك لجهود محمد ماهر حمادة في مجلداته المتعددة حول الوثائق الإسلامية، حيث بنى هذه المجلدات على احتفاظ المصادر الإسلامية بنصوص الوثائق.
ثانيا: موقفه من الحديث
كرر لويس هنا تشكيكه في الحديث الشريف،وهو ليس بدعاً في هذا الأمر فقد سبقه كثير من المستشرقين في هذا. ولكن لويس وغيره لا يكلفون أنفسهم عناء معرفة الجهود العظيمة التي بذلها العلماء المسلمون لحفظ الحديث والحكم عليه. كما إنهم نسوا أن المحافظة على الحديث تعد ديناً عند المسلمين. وزيادة على كل ذلك فقد عرف العرب بالقدرة العجيبة على الحفظ فقد كانوا يحفظون القصائد الطوال، ويحفظون الأنساب، ويحفظون وقائع العرب. ولذلك فحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولى.
أمّا تفضيله كتب الطبقات على الحديث وعدها اكثر موثوقية، فهذا مما يعجب له الإنسان. فالطبقات كتبها أناس قد تخضع أو لا تخضع لمعايير علم الحديث في التثبت من السند والرواية. وإن كنّا نعتقد أن صفة الصدق هي ألزم صفات المسلم.
التغيرات في منهج لويس
أكد لويس أن منهجه تعرض للتغير بزيادة نضجه بتقدمه في السن وبازدياد معرفته. وأشار إلى بعض أساتذته ونصحهم له بقراءة كتب عن الثورة الرومانية لفهم الثورة العباسية. وهذا من منهج الإسقاط فكيف يمكن للتغير في الحكم في الدولة الإسلامية أن يشبه التغير في الدولة الرومانية؟ وكذلك أشار لويس إلى أن الأسوة الحسنة تكون في الدين فقط أما في كتابة التاريخ أو أمور الدنيا فهناك اكتشافات جديدة ...الخ. وهذا عكس المفهوم الإسلامي المبني على قوله تعالى {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.} فالأسوة الحسنة في جميع أمور الحياة.
التناقض بين إجابة لويس وواقع كتابته للتاريخ الإسلامي
أسهب لويس في انتقاد بعض المستشرقين في تعصبهم وعدم نزاهتهم، ومن الأمثلة التي أوردها المستشرق هنري لامانس، وكذلك موقف المستشرقين الشيوعيين من الإسلام. ولكن لويس نفسه من أكثر المستشرقين تعصباً ضد التاريخ الإسلامي، وبخاصة عند تناوله لقضايا الصراع العربي الإسرائيلي وفي تناوله لموضوع الصحوة الإسلامية. وهو مثل لامانس في إثقال حواشي صفحاته بالمراجع والتوثيق بينما يهمل التوثيق في القضايا الحساسة المهمة. وقد أشار طيباوي الى هذه المسألة.
والموضوعية التي يزعمها لويس لنفسه قد ناقضها في معظم ما كتب، ومن أول شروط الموضوعية احترام المسلمات التي يؤمن بها القوم الذي تكتب تاريخهم. فلم يكن مطلوباً من لويس أن يؤمن بالنبوة -مثلاً- كما يؤمن بها المسلمون، ولكن كان عليه أن يحترم عقيدة المسلمين في هذه المسألة. ومن مجافاة لويس للموضوعية أنه أهمل كل الجهود التي بذلها العلماء المسلمون في الحفاظ على نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا ليزعم أن النقد الحديث أثبت عدم موثوقية الحديث. وكأن النقد الحديث أفضل من جهود العلماء المسلمين.
المصدر: http://www.madinacenter.com/post.php?DataID=148&RPID=139&LID=8