من أجل التفكير

 

"نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر،  ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر،  وعبيد إذا لم نجرئ أن نفكر" .. أفلاطون

يحكى أنه ذات يوم استفاق الغراب باكرا، فأطل من نافذته ليستمتع بمنظر الشروق الجميل،  ويستمتع بنسيم الصباح العليل، فإذا به تستهويه طريقة مشية حمامة مارة من أمام بيته معتبرا إياها الطريقة المثالية والأروع في المشي،  فإذا به يقف منبهرا بمشيتها، وناكرا لطريقة مشيه التي صار يعتبرها بشعة وقبيحة، هنا خالجته فكرة وغازلت مشاعره، تساءل وهو في حيرة من أمره: "لما لا أقلد مشية الحمامة؟"... كان شعوره بالإعجاب حاسما في اتخاذ قرار تخليه عن مشيته وتقليد نموذج الحمامة باعتباره مقياس الرقي بالذات، ظل الغراب يتمرن طيلة اليوم ولم يفلح في مسعاه، وعند حلول الغروب مل رغم تفننه وإبداعه في التقليد وعجز عن تحقيق ما كان يصبو إليه، فقرر العودة إلى طريقة مشيه .. لكنه لم يفلح أيضا " فلاهو بمشية الحمامة ولاهو بمشية الغراب"، فأمسى مشيه هجينا: خطو وقفز..

هذه الحكاية الميثولوجية للمخيال الشعبي المغربي، والتي تصور وضعية كاريكاتورية" للتقليد"، هي تعبير عن الوضعية التراجيدية للفرد المغربي داخل مجاله اليومي: التربوي، السياسي، الديني .. فما الأسباب الكامنة وراء وضعيتنا المؤرقة هاته؟ يعتبر الفرد سوسيولوجيا بمثابة منتوج اجتماعي للتنشئة التي تتشخص بداية في التربية كفعل إنساني يشكل القاعدة الأولى لهاته الصناعة، هذا الفعل يعتمد على آليات وميكانزمات نظرية وعملية يشكو من خلل واضح داخل منظومتنا السوسيوثقافية لارتكازه على أسس غير علمية، وأولى تمظهراته هو أن نموذجنا التربوي، سواء داخل الأسرة أو المدرسة عاجز عن إنتاج فرد راشد.ليس معنى الرشد هنا البلوغ المتعلق عادة بأبعاد السن والتغيرات الجسدية، بل ما أقصده هو ما عبر عنه أحد أعلام الفكر الفلسفي المغربي المعاصر الأستاذ طه عبد الرحمان في كتابه "روح الحداثة"، إذ يعتبر الأستاذ طه عبد الرحمان أن مبدأ الرشد مبدأ أساسي لكل حداثة ويعطيه معنى خاصا مقتضاه أنه رشد فكري، أي الانتقال من حالة القصور إلى قدرة المرء على التحرر من ربق الوصاية واستخدام فكره لتسيير شؤونه الخاصة والعامة، هذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كانط في جوابه عن سؤال "ما الأنوار؟" بالصيغة التالية: "لتكن لك الجرأة على استخدام فهمك الخاص، ذاك شعار الأنوار". نحن داخل يومنا المعقد والمركب،  عاجزون تماما عن تدبير أمورنا وفق ما تمليه علينا إرادتنا وتفكيرنا الخاص ولو تعلق الأمر بأمور بسيطة... إن واقعنا الأسري بآليات اشتغاله المتآكلة، باعتباره واقعا نوويا للواقع الاجتماعي، يكرس الوصاية والتقليد والاتكالية والتبعية...فالأب أو الأم يتدخل بل ويقرر في كل اختيارات الأبناء...ناهيك عن حجرات المدرسة الشبيهة بمكتب السيد القائد المحترم الذي لايهوى ولا يحب من المتعلمين إلا من يسارع إليه بالطاعة ، إذ غالبا ما توأد جرأة النقد والاختلاف داخل وسط يدعي إنتاجها.نحن اليوم داخل مدارسنا وجامعاتنا ننتج مريدين، إذ رغم كل الإصلاحات التعليمية بتر سانتها المفاهيمية الرنانة لازلنا نعتمد طريقة تعليمية عمودية تقليدية تعتمد الإلقاء والتلقين .. إنها استنساخ لخطاطة علاقة الشيخ بمريديه داخل الزاوية والتي حللها الأستاذ والسوسيولوجي المغربي عبد الله حمودي في كتابه "الشيخ والمريد". الكل في مجتمعنا يرفع شعار:"لا تفكر"... دع الأمور كما هي،  فللتفكير أهله وكأن هؤلاء هم وحدهم من يمتلكون عقلا .. كلما حاولنا إثارة نقاش حول بعض قضايانا الشائكة يقال لنا"خلي الجمل راقد"،  مقولة عامية تعبر عن ذات منهزمة مستسلمة لازالت تتعوذ من لفظة" أنا"وتعتبرها ترنيمة شيطانية...كيف لهاته الذات أن تتجرأ على التفكير والاختيار حتى فيما يتعلق بأمورها الخاصة البسيطة والتي تحدد ما ستكون عليه غدا؟ .. الفرد منا اليوم يعيش داخل وضعية ما سماه الأستاذ طه عبد الرحمان "بالتبعية الاتباعية"، حيث سلم كقاصر قيادته عن طواعية لغيره ليفكر مكانه ويحدد كل اختياراته المتعلقة بحياته الخاصة.نحن اليوم نجسد وضعية الغراب المضحكة والمؤلمة في نفس الوقت، ذات تائهة، غارقة في مستنقع التقليد والوصاية .. غير قادرة على قيادة نفسها بنفسها، فكيف لها أن تكون ذات قيادية ومبدعة في مجالات التربيةوالسياسةوالاقتصاد والدين ...؟  

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/72382.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك