التطرف كمرض نفسي
-
الكل مجانين، لكن من يستطيع تحليل أوهامه يسمى فيلسوفا) .. أمبروس بيرس
إن كنا نقدر على أن نُعرِّف المرض النفسي بأبسط تفسير، فهو ليس أكثر من فكرة أو معتقد وهمي يتمسك به الإنسان باعتباره حقيقة، رغم عدم مطابقته لشروط الواقع. ودور المعالج أوالمحلل هو تفكيك هذا المعتقد، ليُبيّن للمريض أن أفكاره أفكار خيالية يجب أن تُستبدل وأن تُصحّح حتى تتلاءم مع معطيات الواقع الحقيقي المعاش. أما التطرف فهو محاولة تشكيل الواقع حسب رؤى وأفكار يعتبرها أصحابها بأنها الحقيقة وماعداها وهم، حتى لو كانت هذه الأفكار غريبة أو غير مفهومة. يُلزَم على الجميع الأخد بها.
فنرى أن الاختلاف البسيط بين المريض والمتطرف، أن الأول له معتقد شخصي إنما الثاني يشترك في هذا المعتقد مع أفراد آخرين، وهذا مايخلق له شجاعة للإفصاح والإشهار بل و فرض عالمه الفكري، لماذا؟ لأن المريض النفسي إجمالا لا يستطيع العيش بعيدا عن وهمه، فهو يمنحه الأمان، وكل محاولة لهدم المعتقد تسبب له إرباكا وخوفا. وهذا ما يعرف بالمقاومة في التحليل، أي أن المريض يمتنع عن وضع أفكاره على طاولة التشريح وأرضية المقارنة حتى لا يظهر أن أفكاره لاقيمة لها، فذلك كاف للتسبب بانهيار عصبي، فأي معتقد آخر مغاير عن اعتقاده للعالم سيجعل هذا العالم بالنسبة له محيطا غامضا ومخيفا. يمكن أن نوضح هذه النقطة بشخص يستند على جدار، يحسب أنه الجدار الوحيد الموجود. إن أي محاولة لهدم هذا الجدار ستعني له أنه لن يوجد بعد ذلك جدار يمكن الاستناد عليه، فيراها كعملية تخريب رغم أنها قد تكون عملية هدم لأجل بناء جدار آخر أمتن وأفضل. لهذا لا يتسرع المعالج بصدم عميله، بل يقوم بالأمر بتدرج (هذا لا يعني أن يستمر الأمر 6 سنوات كأنه سيستخرج اليورانيوم من رأسه !!!!).
هذه هي النقطة التي يشترك فيها كل من المريض والمتطرف، وهي أن أي مناقشة لأفكاره ومعتقداته تعني تخريب واعتداء على عوالمهم، التي تمثل العالم الحقيقي (بالنسبة لهم). وهذا ما يبرر لهم رفض بل وتدمير كل آخر(شرير) يحاول تخريب العالم. فكلاهما يتحصنان بفكرة أنهما يمتلكان الحقيقة الوحيدة إنما الآخر هو الموهوم، لدى قد تجد المريض يدّعي أن المعالجين هم أول المختلين إن نصحه أحد ما بزيارة أحدهم. والمتطرف بدوره يرى الآخرين المختلفين مساكين وأغبياء يجب تنويرهم، وذلك بفرض هذه الحقائق رغما عنهم لأنهم بلهاء لا يعرفون مصلحتهم وربما يخربون العالم بتهورهم وأفكارهم الغريبة.
الأمر العجيب الذي نود توضيحه هنا، هو أن مرض التطرف يظهر بسبب التلقين التقليدي والتعليم التافه الذي يصف للإنسان أن الحقيقة شيء تابث نبحث عنه فنجده ونحتفظ به حتى نعيش سعداء. هذا إن لم تُقدّم له مسبقا دون عناء البحث، لأن أشخاصا في الماضي وجدوها، لدى يلزمه فقط أن يحافظ عليها. فيتحقق بذلك "امتلاك حقيقة أخيرة، كاملة، مطلقة كأن ذلك اصطفاء إلهي"، وبالتالي فإن أي حقيقة أخرى تظهر تعتبر أكذوبة ومزيفة. ومنه ف"إذا كنت واثقا من حيازة الحقيقة المطلقة، فإن من يرفضها يكون إما مريضا ينبغي وضعه في مصحة نفسية، وإما مرتدا واعيا يستحق السجن أو الموت نظرا لرفضه الإرادي للحقيقة"(1). لكن هذه الأخيرة ليست شيئا تابثا نجده كما وجد علي بابا الكنز داخل مغارة سمسم، فالحقيقة بهذا المفهوم ليست سوى أسطورة كأسطورة سمسم. إنما هي شيء نخلقه باستمرار للتداول والاستهلاك، نحن من نخلقه، فما نعنيه بالحقيقة انما هي مجرد تفاسير لتوضيح معنى الحياة والأشياء والإنسان ودوره في هذا العالم. فكل الحقائق المُقدّمة إنما هي أفكار خلقها أفراد أو جماعات حتى يمنحوا للحياة معنى لإيجاد دور وهدف للإنسان، بدل العيش كالخروف. لكن الحياة لا تنتظر من يمنحها معنى لأنها سيرورة دائمة من الحركة والخلق. وبخلقها المتجدد والمستمر للواقع تفرض على الإنسان أن يتكيف ويتغير حسب كل واقع، حتى يتقبله ويتعايش معه ويساهم في تحسينه باعتباره وظيفة مساهمة في حركة التجدد والخلق ضمن دورتها. وجميع المفاهيم السياسية والدينية ليست أكثر من أفكار فلسفية، والفلسفة لا تقدم إجابات بقدر ما تقدم أسئلة لزيادة البحث والتعمق حتى تبدو لنا الأمور بشكل أقرب للواقع المعاش. ولنا مثال تاريخي في ذلك والذي امتد من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس إلى السباحة في محيط شاسع من الأراضي والشموس. وهذا هو ما يشكل امتياز العلم، أي حقيقته النسبية التي تنتظر بكل صدر رحب مفاهيم جديدة (واقعية) تساهم في تغيير وتحسين حقيقته، حتى لاتتحجر وتتحول لدوغما (غير قابلة للنقاش). ف"مسألة أن نصل إلى الحقيقة على نحو يقيني مطابق، هذا أصبح وهما من الأوهام"(2). فحقائقنا(تفاسيرنا) تتغير مع تغير الحياة ونضوج الخبرة الإنسانية.
إن المتطرف مثله مثل المستند على الحائط (في المثال السابق)، فإن لم يُفاجئ بسقوط الحائط من طرف شخص ما كما فاجأ غليليو الكنيسة وأسقط حائط مركزية الأرض، فإن عوامل الزمن كافية لهدمه كما تهدم الأديان التي لا تسعى للقيام بإصلاحات جذرية تُعيد ترتيب مفاهيمها مع متطلبات الواقع. والسبب (دائما في المثال) هو أن المستند لم يدرك أن الحائط لم يكون موجودا إنما أحدٌ ما هو من قام ببناءه، مايعني أنه يمكن بناء حائط أفضل في حالة تم هدمه أو انهياره. بدل الانقضاض على كل من يحاول الاقتراب، أو ترميمه في كل مرة زيادة عن الخوف من وقوعه. فهذا نتاج الفكرة المسبقة التي منحت له وتلقاهى دون مساءلة أو تشكيك حول سبب وجود الحائط.
فالحقائق التي تُمنح للإنسان دون تعليمه كيفية التمحيص والتساؤل حول مامُنح له، تتشكل في ذهنه فتدفعه ليرى العالم من خلالها، فيألفها بذلك ويأمن للعالم من هذا المنظور، فيرفض أي رؤية أخرى تشوش له الصورة. لذلك فالتطرف يتغدى على الأدمغة الخصبة القابلة لزراعة أي نوع من الأفكار، الأدمغة الاستسلامية التي تقبل كل ما تلقفه لأنها لم تتربى على النقد، فالنقد يجعل صاحبه كملاكم يسدد ضربات فكرية لكل فكرة تُقدَّم له، حتى يختبر بذلك صلابتها وواقعيتها. وتعليم النقد يبدأ عندما نمنح للشخص مفاهيم متعددة لنفس الموضوع وليس رؤية واحدة يلتهمها ويرتاح. لإن إقصاء الباقي بادعاء أنها يمكن أن تشوش أو تؤثر على تفكيره، إقرار بأن ذهنه ضعيف لايتحمّل، وسيظل كذلك طالما نقوم بالإقصاء.
يمكن أن نجعل أي شخص مريض نفسي إن استعطنا أن نزرع في ذهنه معتقدا وهميا على أنه حقيقة يجب العمل بها، وحتى نخلصه من هذا المعتقد يجب أن نخضعه لظروف تتبث أنه أفكاره مزيفة وغير مفيدة. فإن كان هذا يسهل مع فرد، فإنه يصعب مع جماعة لأنها لن تنصاع، بل سيعمل كل فرد منها على زيادة تعذية ذلك المعتقد، فيلتحمون حوله ويشكلون فرقة تدافع عنه.
ما يمكن أن نضيفه هو توضيح أن الحقيقة ليست مُعطى إنما نِتاج، نِتاج قام به أناس في الماضي ولازال يقوم به آخرون وكل شخص له حق المساهمة في القيام بذلك، فالحقيقة إنتاج من الجميع وليست ملكا لأحد.
وأن "أكبر عدو للمعرفة ليس الجهل إنما وهم المعرفة"(3)، لدى يلزم أن يعاد تنقيحها باستمرار حتى لا تتلبسها الأوهام.
حمودة إسماعيلي
.................
هوامش:
1 : روجيه غارودي - الأصوليات المعاصرة، ترجمة خليل أحمد، دار عام ألفين باريس، ط 2000م ـ ص36
2 : علي حرب - برنامج إضاءات (قناة العربية) ـ بتاريخ 22/12/2011
3 : Stephen Hawking - Wikiquote
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/73561.html