الإنسان ليس حراً مالم يتحرر من الآخر

"قد اكتشفت انني كلما رميت بوثن عن صدري ازداد ابحاري حرية وطلاقة .."

غادة السمان

 

قد نتفق على أن مفهوم الحرية هو فعل الإنسان لما يريد وقتما يريد وكيفما يريد، لكن بحكم أن الإنسان يعيش في مجتمع وبين أفراد آخرين فإن تصرفه الحر قد يحد من تصرفات الآخر فيتصادم معه أو يؤذيه. كما بتعبير مونتيسكيو "تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الاخرين"، ممكن . لكن هذا إن كنت تتمتع بالحرية التي قد تجعلك تحد من حرية الآخر وهذا إن كان ذلك الآخر يتمتع أيضا بالحرية (الخاصة به) التي قد تتضرر . فهل حقا يتمتع الإنسان بحرية فعل مايريد وقتما يريد وكيفما يريد؟ وهل فعلا يتمتع الآخر بحرية بالقدر الذي قد تتضرر إذا حدث واصطدمت بتصرفات (أو حرية) الآخرين؟ . أو إن الإنسان بحسب المثل الأمريكي "حتى لو مد يده ليلمس أنف الآخر فإن يده لاتصل" لأن يده مقيدة دون أن يدري، أو لأنها ليست طويلة كفاية للمس أنف الآخر؟

أغلب الكتابات التي تناولت مفهوم الحرية خلطت بينه وبين التعاون الاجتماعي، كيف؟ . الحرية لاتتعلق إلا بالفرد، أي الأمور التي يقوم بها الشخص بمفرده، مثلا: "يمكن أن أستيقظ في الصباح وأقرر أن أظل مستلقيا أي لا أقوم. يمكنني أيضا أن آكل لدقيقة ثم أذهب وأعود بعد دقيقتين وأكمل الأكل، وأعيد هذا الأمر لثلاث مرات متتالية. ويمكن أن أصب لي كأس شاي، ولا أشربه بل أقوم بسكبه على شعري، أو أشاهد التلفاز وأنا أقف على رأسي، وغير ذلك من الأمثلة التي تعبر عن تصرفات شخصية، أي أقوم بها بمفردي ولغرض خاص بي وحدي". لكن حينما ندرج الآخر فإن الحرية تختفي، لأن ما سيظهر هنا هو التعاون. فكما قلنا فإن الحرية متعلقة فقط بالفرد، أما التشارك مع الآخر في الممارسة الحياتية، سواء على مستوى مؤقت أو دائم فإن الشخص يلزمه تنازل عن حريته(الفردية) لضمان أو تحقيق تناغم مع هذا الآخر، فالحرية تنمحي مع ظهور الآخر ليبرز التعاون. نوضح بمثال بسيط : " قد أقرر اليوم أنني سأخرج في نزهة عند الرابعة بعد الزوال، لكنني قد أخرج قبل الموعد بساعة، أو بعده بساعة أو ساعتين أو لا أذهب، أو أخرج للنزهة حالا فهذه حرية، أي تصرف يتعلق بي وحدي وأنا من يقرر. لكن إذا اتفقت أنا وشخص على الخروج للنزهة في الرابعة، فإن ذهبت في الموعد المحدد فأنا متعاون وإياه لتحقيق هدف، لكن إن لم أذهب في الموعد المحدد فهذا يعني أنني غير متعاون ". فنرى هنا أن الأمر لا يتعلق بالحرية فأنا لست حرا، بل بالتعاون أي تقديم تنازلات عن حريتي. فالفرد الذي يؤذي الآخرين بتصرفاته، فهذه ليست ممارسة زائدة للحرية بل يعني أنه شخص غير متعاون، بتعبير أوضح أنه انخرط في المجتمع دون تنازل عن حريته، وبالتالي يرفض التعاون. ربما لايزال الأمر يبدو غامضا

لنفترض أن شخصا أراد الانخراط في لعبة معينة (مع جماعة طبعا)، فاللعبة تحتم شروطا وقوانين أثناء مزاولتها، ولنتخيل هذا الشخص قام بفعل مايريده داخل اللعبة، فهو هنا لايمارس حرية بقدر ما يخرق القوانين المتفق عليها في اللعبة، مايعني أنه غير متعاون لإتمامها، فإما أن يتخلى عن حريته وينضم للتعاون بشروط اللعبة أو سيتم طرده. نفس الأمر يحدث في المجتمع، فالفرد لايمكن أن يمارس حرية، لماذا ؟ لأن المجتمع كاللعبة تضم قوانين وشروط حتى يتحقق التناغم وتستمر عمليات الممارسة في جو منظم، لدى فحينما يحاون الشخص ممارسة حريته (الفردية) يخرق بند التعاون الذي يحتم التنازل عن تلك الحرية والانصياع أو بتعبير أصح قبول شروط اللعبة. لدى فإن غير المتعاونين في المجتمع لهم اختيار قبول الشروط والعودة للعبة أو يتم طردهم بزجهم في السجون أو المصحات العقلية، أو حتى المقبرة (كحالات الإعدام مثلا).

وكذلك نفس الأمر في أي عملية انخراط اجتماعية، فلكي تنظمّ لدين أو لجماعة ما، يلزمك بداية أن تتخلى عن حريتك حتى تتمكن من الانضمام والموافقة على الشروط. بل حتى في علاقات الصداقة والعاطفة والزواج، فإنها تحتم كذلك تنازلا عن حريتك والقبول بشروط التعاون لممارسة العلاقة مع الطرف الآخر. لهذا نقدر أن نقول أنه لا حرية بتواجد الآخر، لأنه بتواجده توضع حدود وتتحدد مساحة الممارسة بحقل مسيج، فلممارسة الحرية يجب الانتقال لخارج الحقل لأن الآخر يحد حريتك كشرط لنشدان المصلحة المشتركة، والتعاون لضمان عدم حدوث اصطدام، ولهذا توضع شروط يلزم قبولها لاستمرار نجاح العملية. فالحرية كمفهوم لا يُحد، وكل عملية حد لشكل من أشكالها تلغيها، لينتقل بذلك الحديث عن مفهوم آخر وليس عن الحرية لأنها لم تعد كذلك .

بهذا وبالعودة للمثال، فإن التصرفات المذكورة فيه تعتبر عادية ومن حق الشخص، بل قد نقول أن أي تصرف يحق للشخص فعله، لكن ما إن يظهر الآخر حتى يبنى السياج ويتم تحديد تصرفات معينة هي فقط المسموح بها، والباقي هو مايمكن أن نعتبره بحسب المفاهيم الاجتماعية مايدرج ضمن الغير مقبول اجتماعيا، الجنون وكذلك الانحراف والجنوح. طالما أنه ضد شروط اللعبة المتفق عليها، فيتم الغاءه.

الإشكال الذي نود الحديث عليه هنا، هو أن الإنسان بحكم أنه يولد ضمن نظام اجتماعي محدد، فإنه يولد ككائن غير حر لأنه تلقائيا سيبدأ في الانخراط في اللعبة الاجتماعية ويتلقن مبادئها وشروطها، لينمو كلاعب يتحدد دوره فيما بعد بحسب خبرته ومعارفه. لدى فالفخ الذي وقع فيه الكثير من المفكرين والفلاسفة هو ضمان حرية للإنسان داخل اللعبة، مايعني أن كل مايقومون به هو فقط تعديل لبعض قوانين اللعبة وبالتالي فهم لايضمنون حرية للإنسان بل فقط يقومون بتغيير شروط اللعبة، ليدخل الجنس البشري في حلقة من التغيير واعادة الشروط وهو مايُعرف بالثورات على مدار التاريخ. والحرية توجد خارج اللعبة .

ولانود أن نشير هنا إلى تفكك المجتمع حتى يتحرر الإنسان، بل إلى علاقة الأنا والآخر وارتباط النظم الاجتماعية بهما، فهذه الأخيرة هي مايرسم ويحدد التعامل والتصرفات الموجهة والمتبادلة بين الطرفين أو الأطراف. فالإنسان لا يتحرر طالما أنه يمارس أنشطة اجتماعية داخل النظام، بل يلعب أدوار، فالأدوار الاجتماعية هي ما يوجد اختلاف الممارسات بين الأفراد، وهي ما يبدو على أنه اختلاف نسب الحرية الممنوحة بين الأفراد أو حتى بين المجتمعات.

وللتوضيح يمكن أن نبين هذا الاختلاف في نسبة الحرية والذي يعود في الأصل لاختلاف الدور الاجتماعي. فقد نجد رئيس العمل مثلا يقرر ألا يذهب للعمل هذا الصباح، لكن العامل البسيط لايستطيع حتى لو أراد فيصبح مثله مثل النحلة التي لا تستطيع أن تتوقف عن انتاج العسل وكلاهما (الرئيس والعامل) ليس حرا (حتى يقوم بما يريد وقت..)، بل فقط الدور الاجتماعي هو الذي يمنح بعض الامتيازات لبعضهم، وهذا طبعا يعود للمعرفة التي يمتلكها كل منهما. فاختلاف المهندس المعماري عن الصباغ هو في اختلاف المعرفة التي يمتلكها كل منهما، فلو قمنا بتبديل عقليهما لتغير دورهما الإجتماعي وقيمة الدخل الاقتصادي، لتتغير الممارسات الحياتية كذلك، فالوقت الذي يقضيه المصمم في العمل ليس هو الوقت الذي يقضيه الصباغ وما يقتنيه ذاك لايقدر على اقتناءه هذا.

لدى فضمن النظام الاجتماعي، كلما زادت معرفتك (في الأمور الضرورية والمهمة بالنسبة للمجتمع) كلما تحسن دورك داخله (امتيازات على مستوى الممارسة الحياتية). رغم ذلك يظل مثل هؤلاء الأفراد متعاونين وغير أحرار، فالأغلبية محكومة بممارسات اجتماعية كأوقات تناول الوجبات، أوقات النوم والاستيقاظ، الاعتبارات الاخلاقية (مايجوز ومالا يجوز)، فالإنسان محكوم بهذه الأمور طالما أن تفكيره لازال ضمن السياج.

نصل الآن للنقطة المهمة، وهي بحكم أن الطفل ينمو داخل السياج، فحينما يكبر ويسعى للحرية يجد هذه الأخيرة تصطدم بالنظام الاجتماعي، فكأنه يحاول أن يمارس اللعبة بشروطه الخاصة والغير متقبّلة. وهذا ما يُنشأ صراعا مستمرا بين الشخص والعالم، لأن الحرية والنظام المجتمعي لا يجتمعان في وسط واحد. فيرى أن العالم تافه وليس له أي معنى مثلما ما ذهب في ذلك بعض من المفكرين، واعتبروا أن الحياة شيء تافه، لكن التافه هنا هو وعيهم المسيج. فالعالم مكان "محايد"، تحزن تراه سيئا، تفرح تراه رائعا، تغضب تجده ضِدّك، مُحبَط تراه غير عادل، مخيفا عندما تخاف، كما يشير إلى ذلك ديفيد فيسكوت بتعبير مغاير. فالإسقاطات النفسية هي مايرسم صورة للعالم من منظور انساني، فالتفكير التافه سيبدي لك العالم بشكل تافه

تَحَرَّرَ الإنسان من سيطرة الغابة لدى معرفته(اكتشافه) لنظام الزراعة، وتحرر (نسبيا) من الجاذبية بمعرفة (دراسة) قوانيها، فالإنسان في تحرر مستمر باستمرار زيادة معرفته. لدى فإن الطفل يولد قابلا للتعاون وليس حرا، لكنه يتحرر من مؤسسات المجتمع بزيادة معارفه، كما يتحرر السجين من مؤسسة السجن إن توصل لمعرفة بنظام السجن وكيفية ادراته للجهاز الأمني، وهذا أمر واقعي. فالمعرفة كما أنها تحسن دور الإنسان في المجتمع فهي تحرره كذلك من أوهامه ومخاوفه، لكن حتى يتحرر من المجتمع يلزمه معرفة كافية وقدرة كذلك لتحقيق مصالحه دون حاجة للتعاون أو التشارك. وهذا يصعب بحكم ارتباط الأنا بالآخر، بل إن الآخر هو مايحدد الأنا كأنا. ودور المعرفة هنا أنها تساعد على تحسين جودة هذا الارتباط، كممارسة حياتية بمستوى أفضل داخل المنظومة الاجتماعية، أي ممارسة اللعبة في جو احترافي بتعبير آخر.

بحسب القالب الفكري الذي تشكله الثقافة الاجتماعية وعوامل التربية والدين في عقل الإنسان، فإن الأخير لايستطيع الخروج من اللعبة إلا بتوسيع معارفه لينكسر القالب المشكل مسبقا، فالعقل يحتله الأسبق إليه بتعبير ابراهيم البليهي أي تحتله الأمور الأولى التي يتلقنها، وهي القالب هنا. فالمعرفة تكسر هذا القالب لتعمل على توسيع مداركه، فعندما يتمدد العقل لاستيعاب فكرة جديدة لا يعود أبدا إلى حجمه الطبيعي كما يقول أوليفر هولمز.

لكن بحكم (ضرورة) تواجد الآخر وباعتبار جدلية الحرية والمجتمع، فإننا نقول أن الإنسان يكون حرا عندما يكون لوحده لكنه يصبح متعاونا مع الآخر، فالحرية مرتبطة بالفردية، أما بظهور الآخر فهنا نتكلم عن تعاون أو عن عدم تعاون.

نرى في اقتباس لشوبنهاور أنه "يمكن للانسان أن يكون على طبيعته فقط عندما يكون لوحده" لكن الأصح من جهتنا هو أنه "يمكن للانسان أن يكون على حريته فقط عندما يكون لوحده"، فعَين الآخر تحد من تصرفك وبالأخص لو كنت تنشد قبولا لدى هذا الآخر، لتنصاع للشروط الذي يضعها لقبولك. وهو ما نقوم به في لباسنا وطريقة تصرفنا وعاداتنا الاجتماعية، ليتم قبولنا كفرد أو كأفراد. لذلك لا نستطيع فعل مانريد وقت مانريد كيفما نريد لأن الوصول لتحقيق هذا الأمر يلزمنا غياب الآخر الذي "يحد"، وكذلك معرفة كافية تمكننا من القيام بذلك بأنفسنا. وقد عبر عن هذه النقطة أرسطو لدى قوله بأن من لا يستطيع الحياة في مجتمع أو لا يحتاج إلى ذلك فهو إما حيوان أو إله

حقاً إن حريتك في العالم تزيد بزيادة معرفتك، لكن ومهما توسعت هذه الحرية فإن الآخر يلغيها. هذا ما سبب تخبُّطا لأغلب المفكرين والكتاب والشعراء، وهو عدم فهم أن الحرية والآخر لا تلتقيان، وهم حاولوا أن يدمجوا مالا يندمج . فالقول أن الحرية تحتاج لمسؤولية، أو ان الإنسان كائن حر، فمثل هذه التعابير السخيفة تقزم الحرية لتجعلها مفهوما يتمحور حول توسيع تصرفات الشخص في المجتمع فقط، أي دوره كما بينا. وهذا قد كشفه أفلاطون بقوله: الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لا مبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يحكمهم الأشرار، فمعرفة البعض الزائدة عن البعض هي مايمكنهم من السيطرة. فالمعرفة هي التي مكنت الإنسان من السيطرة على العالم الطبيعي والحيواني والواقع، وسيطرة الجنس البشري على بعضهم البعض كذلك. وهي من يخلصك من حكم الأشرار بتعبير أفلاط.. (المعرفة الواقعية وليس دراسة العفاريت)

الحرية ليست مهمة، مايهم هو أن تعرف لتُحسّن حياتك. ارفع يدك واخفضها أنت حر فالحرية تبدأ من اغماض عينك وفتحها ولاتنتهي حتى لو استطعت السفر عبر الزمن، لأن حريتك تزيد دائما بزيادة معرفتك، وكلما عرفت كلما تحررت. أما عن المطالبين بالحرية (حسب مفهومهم عنها) فهم فقط يطالبون بمنحهم امتيازات اجتماعية أو سياسية لا أن يكونوا أحرار. لأن الحرية تتطلب تحررا من الآخر، كما تغني أم كلثوم "أعطني حريتي أطلق يدي.."، لكن الحرية لا تُمنح بل تمارس كرحلة استكشافية رحلة بمفردك.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/75383.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك