الديموكتاتورية - والثيمو/ قراطية – صيغتان جديدتان لشعوب قديمة .. بوتين – المالكي (انموذجاً)

إن الدولة المقدسة والشعوب المدّنسة: يهلل البعض لمواقف روسيا  الداعمة لنظام الأسد باعتباره حليفاً استراتيجياً يقف الى جانب القضايا العربية، من الأخذ بنظر الإعتبار  إن ذلك الحليف، طالما كان الداعم الأكبر ولا يزال، لكل من تنطع دكتاتوراً،شرط أن يبدي رغبة في مناهضة أمريكا أو عدم التعامل معها، عندها لا يهم كم سيقتل من شعبه،وكم سيدّمر من المدن ويحرق من البيوت ويهدم من المدارس والمستشفيات، فروسيا زعيمة "الطبقة الكادحة وحقوق العمال" لكنها لم تكن في الغالب سوى سند قوي للدكتاتوريات ضد الشعوب الضعيفة، وكانت تنظر دائماً إلى المطالبين بالحرية بأنهم "ثورة مضادة" للتوجهات الاشتراكية التي تقودها الأنظمة الوطنية (عبد الناصر، بومدين، صدام، الأسد، القذافي - وسواهم) لكن أحداً لم يشغل نفسه في التساؤل عن حقيقة هؤلاء ؟ وكم قُتل وعذّب وانتهك تحت أيديهم،مادام "المركز" الأمّ يمارس القمع ذاته وراء جدار حديدي من الخوف .

تغيّرت الأزمنة وانهار الجدار، لكن الثورة الديمقراطية في بلد الدكتاتورية الأول "روسيا" تمخضت عن نوع جديد من الحكم يذكّر بطالب الدكتوراه في "السوربون" الذي ينحدر في أصوله من قبيلة بدائية من آكلي لحوم البشر، فقد أجاب حين سئل عن كيف إلتهم زميلته وهو الإنسان المثقف والمتعلم في أرقى الجامعات، فقال: أنا لم التهمها نهشاً وتمزيقاً باليد كما يفعل أبناء قبيلتي المتخلفون، بل تناولتها بالشوكة والسكين .

مسار الدولة عبر التاريخ، يشير إلى أنها شهدت  خمسة أطوار رئيسة تتكون حسب " ثيمتها " الأساس من:

- دولة الجماعات (ملكيات المدن، الملكيات الكبرى، الإمبراطوريات).

- دولة الأديان والمعتقدات (إمبراطوريات، خلافة، سلاطين، ممالك).

 - دولة الطبقات (جمهوريات ثورية، آيديلوجيات قومية) .

- دولة المجتمعات (ملكيات دستور ية، جمهوريات ديمقراطية)

ولما كان الشكل الأخير هو الديمقراطي الوحيد من بينها، وبعد أن أدّتْ التطورات اللاحقة إلى تحوّل الشعوب من مجتمعات إلى مجتمعيات (1) فيما يشبه العودة إلى المنطلقات الأولى للتشكّل المجتمعي ماقبل الدولة، لذا تواجه الديمقراطيات بدورها واقع تحولاتها البنيوية المتعلقة بواقع الدولة ذاته، لكن فيما يحاول المفكرون وعلماء الإجتماع إعادة تعريف لمعنى الدولة الجديدة  ومن ثم مهماتها تبعاً لذلك،ينبري القادة السياسيون لإعادة انتاج الدولة بتعديلات إجرائية تعيد (إلتهام) الشعوب على مقاس طالب السوربون.

هكذا فعل بوتين الذي لا يُنكر عليه إنه إستطاع إنهاض روسيا وإعادتها من ثم إلى هيبتها بعد أن كادت تتهاوى، لكن إنجازاته اتخذت ذريعة لنمو نوع جديد من الدكتاتورية يمكن تسميته بـ "الديموكتاتورية" وهو نظام يزاوج بين أب دكتاتوري وأمّ ديمقراطية،ليستولد مخلوقاً هجيناً يحقن بمغذيات تستلهم الشعارات الثورية الكبرى،ويُقدّم من ثم باعتباره إرادة شعب ونزولاً عند حكمه،فإذا كانت الدولة الشيوعية بصيغتها القديمة قد طرحت دكتاتورية الطبقة " البروليتاريا" شعاراً، ودكتاتورية الحزب ممارسة، فإلتعديل الجديد يقتضي طرح دكتاتورية الشعب شعاراً، ودكتاتورية الشخص ممارسة، وهكذا يستطيع  ذلك المولود " الديموكتاتوري"  أن يفصل  مجدداً بين الشعب - برغبته - والجماهير بالتفافها، فالشعب (2) هم عموم المواطنين الذي قد يخرج من بينهم مطالبون بالحرية، أما الجماهير، فهي تلك الجموع المنتمية إلى أو المؤيدة أو المحبذة لمجيء ذلك المولود والمقتنعة بضرورته أو المنتفعة بوجوده، لذا تصبح هي صاحبة الدولة وحاضنة الدكتاتورية .

صحيح إن ذلك "الهجين " بذاته ليس جديداً، فقد عرفته الأنظمة العربية المتساقطة أو التي مازالت صامدة ومارسته على نطاق واسع، لكن الحرص على إظهار الأمّ لم يكن يعنيها كثيراً حيث تأتي النتائج 99% لصالح الأب "الدكتاتور" وحده، أما التجربة البوتينية، فلم تتجاهل الأمّ (الديمقراطية)  بل حرصت على إبقاء صورتها في المشهد العام، شرط أن تكون صامتة عاجزة، تفعل طبقاً لمايقال لها أو ما تؤمر به .

لقد أصبحت تلك التجربة، مدرسة جمعت بين خمس دول مختلفة أنظمتها عقائدياً (شيوعيان وإسلاميان وقومي)  لكنها اتفقت على شعار مشترك (دولة مقدّسة – شعوب مدنّسة) فجميعها تؤمن أن شعوبها لا تعرف الديمقراطية ولا تستحقها كذلك، إذ إن صيغة كهذه، من شأنها أن تفعّل المؤامرات وتمزّق وحدة البلاد، وهاهي التجارب ماثلة في مقدار الخلافات العميقة والأزمات المستعصية في البلدان التي انهارت دولتها المركزية (العراق، مصر، ليبيا، تونس) ألم يقل أديب روسيا الأكبر دستويفسكي على لسان بطل  إحدى رواياته: (الحرية عبء ثقيل، أعطها لإنسان غير مهيأ لها، يردّها إليك شاكياً من ثقلها) وعلى ذلك يريد المالكي – ومثله مرسي والغنوشي - استرداد الحرية التي نالتها شعوبهم، لكن ذلك لن يكون متيسراً إذا لم يجر تعديل يضمن للمالكي البقاء في الحكم بصيغة (أمّ ديمقراطية وأب دكتاتور) لذا عليه أن يكون جزءاً من معسكر دولي يحيطه بسياج حام،فإن سقط الأسد، إزدادت أهمية المالكي باعتباره حارس البوابة الغربية خارجياً، والضمانة لبقاء الشيعة في الحكم داخلياً، وإن صمد الأسد، شكلّ المالكي قطب التواصل والمرتكز الأهم خارجياً، وسيظهر داخلياً بأنه كان محّقاً وبعيد النظر في موقفه مما يجري هناك، تلك هي المعادلة التي أقتنع أو أقُنع بها المالكي، وعلى هذا يعلن اقترابه من:

الصين: قيادة حزبية بتوجهات فردية.

روسيا: قيادة فردية ب" ديموكتاتورية"  حزبية .

إيران: قيادة دينية بهيمنة فردية 

العراق: قيادة محاصصاتية بثيمة/ قراطية (ثيمة من (تايما) وتعني في اللاتينية الشيء الذي نضعه أي الموضوعة) والثيمة هنا قد تكون المالكي بشخصه الذي يتحول إلى الموضوع المحوري للديمقراطية .

سوريا: دكتاتورية فردية بغلالة حزبية .

الملاحظ في هذا الخليط، أن الأخير فيها (النظام السوري) قد لا يمانع في نوع من الديموكتاتورية على غرار زميله الروسي، أما الصين فمطمئة إلى متانة وضعها ولا ترى حاجة إلى إجراء تغييرات جذرية على بنيتها، فيما يمسك بوتين بعصا الأستاذ على تلميذيه العربيين (المالكي والأسد) أما إيران، فتعتبر نفسها ذات مدرسة جديرة بالتقليد.

هل ينجح تسويق نموذج "الديموكتاتورية" في العراق؟ .

  المؤشرات الأولية تجيب "نعم" بشكل أوّلي، فخصوم المالكي أما مبعثرون أو عاجزون، ومادام معسكر "الديموكتاتورية" الإقليمي والدولي يبدي صلابة، فإن الإنتخابات القادمة ربما تعيد المالكي إلى الواجهة ليصبح " ثيمة" دائمة حتى لو حدثت تغييرات دراماتيكية في المنطقة، إذ من شأن ذلك أن يزيد من قلق الشيعة وبالتالي جعلهم يتجهون نحو المالكي باعتباره أهون الشرور، لكن للموضوع وجهاً آخر قد يقلب الحسابات، أهمها ظهور معادلة من نوع: بقاء المالكي - ذهاب العراق .

 

...............

(1) راجع: (المجتمع والمجتمعيات – أبجدية التكامل والصراع) - العراق والمصباح النووي – ص 212 – للمؤلف .

(2): قد يكون مصطلح "الشعب" مشتقّ من التشعّب – الطرق المتشعبة من مكان واحدة والمؤدية إليه - وهي حالة يبلغها المجتمع في ظلّ الدولة وبعد مرحلة من الديمومة والإستقرار،حيث تتشعب المهام وطبيعة العلاقات بين إفراده، مما يكسبه سمات خاصة - ثقافية /سياسية /اقتصادية /اجتماعية /حقوقية، ولايشترط بالشعب، التجانس إثنياً أو دينياً أو قومياً – أو حتى بيولوجياً – ليكون شعباً .

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/75844.html

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك