أجهزة الفكر الاسلامي وظاهرة الحرف والعدول

من المعلوم، أن قراءتنا للنصوص، ومنها النصوص الدينية، هي قراءة (تأويلية) او هرمنوطيقية. فنحن قبل ممارسة القراءة نحمل لغة نتوجه بها الى فهم النص، وهذه اللغة او معانيها وليدة ثقافتنا الحاضرة،

 

وهي بالتالي من القبليات، اذ تختزن اللغة تصوراً منظومياً للعالم، مثلما تختزن الكلمة المعنى المعرفي للفظ، وهي بهذا الشكل تجعل رؤية العالم رؤية تأويلية تختلف من مجتمع لآخر، بل ومن فرد لآخر أيضاً، وكل ذلك ينعكس على فهم النص. لكن مع ذلك، فرغم أن اللغة تساعدنا على هذا الفهم، الا أنها عند القراءة والمتابعة قد تتحول الى معان أُخرى مخالفة بفعل ما يظهره النص من دلالات جديدة ضمن مقاطعه المختلفة، وتصير مثل هذه المعاني هي الموجهة لفهمنا للنص بدل المعاني السابقة التي كنّا نحتفظ بها قبل القراءة ونعمل على تطبيقها وإسقاطها. وبذلك يتم الشذب والتهذيب، او تصبح لغة النص ومعانيه حاكمة على اللغة القبلية التي بدأنا من خلالها فعل القراءة بعد أن كانت محكومة بهذه الأخيرة.

وقد تتضخم هذه الممارسة التأويلية عندما تتجسد بظاهرة الحرف والعدول، أي الحرف والعدول عن المعطيات الظاهرة أو البادية لنا. ومن الناحية المبدئية، أن غرض كل جهاز معرفي هو تقديم اطروحته كمنظومة ذات إنساق متسقة تعبّر عن صور موافقة أو مطابقة لروح الخطاب. ولما كان تطابق النسق مع «نص الخطاب» لا يتحقق كلياً دائماً، لذا فوظيفة الجهاز المعرفي هي إلحاق «العدول والإنحراف» في النص عن روح الخطاب وحقيقته، بإضفاء الإعتبارات اللازمة التي تبرر حالة «الإلتواء» المضفاة على النص بالقياس إلى النسق الصوري المسلّم به، أو تبعاً لتأسيس النظر القبلي. بالضبط كما يحصل مع الفهم المعاصر للهندسة الكونية. فطبقاً للمذهب الإصطلاحي الذي أذاعه (بوانكاريه) أنه لا فرق من حيث الصحة والإتساق بين فرضين متعارضين ومتكافئين يصفان شكل الطبيعة الذي يتمظهر بمظهر الهندسة اللااقليدية. فمع هذا التمظهر كما يمكن القول بأن هندسة الطبيعة لا اقليدية، فيما لو لاحظنا مثلاً إنحراف الأشعة الضوئية عن استقامتها، كذلك يمكن القول بفرض معارض ومنافس لهذا النسق الصوري، وهو أن هندسة الطبيعة اقليدية، إلا أن هناك قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية عن استقامتها وتجعلها تبدو وكأنها لا اقليدية .

كذلك هو الحال مع الإنساق الصورية التي تجتهد للوصول إلى مطابقة حقيقة الخطاب، إذ يمكن أن تكون متعارضة ومتنافسة، الأمر الذي يعني أن أي نسق صوري قد يجد لنفسه مكاناً للدخول والتعبير أو التمثيل عن واقع الخطاب وحقيقته، حتى لو أدى ذلك إلى إضفاء صفة الحرف والعدول في نص الخطاب لأسباب هي بمثابة القوى الكونية المؤثرة على أدوات القياس أو الأشعة الضوئية، كما في مثالنا الآنف الذكر.

فعلى سبيل المثال أن طريقة الإنساق العقلية ترى النص يعتريه العدول عن حقيقة روح الخطاب لتعارض النص مع النسق العقلي الذي تؤمن به سلفاً، وهو ما يجعلها تفترض حكمة تقف خلف هذا العدول، من قبيل إعتبار النص إقناعياً خطابياً جاء لعامة الناس دون الخاصة كما يقول الفلاسفة التقليديون من أمثال إبن سينا وأتباعه ، أو إعتبار علّة الإنحراف هي لحث المكلفين على التفكير والنظر في النص كالحال مع طريقة أهل الكلام ومن على شاكلتهم ، أو لإعتبارات وأغراض أخرى.

إن إضفاء صفة العدول على النص أو ما يلابسه من ظروف يفضي إلى تعارض الإنساق الصورية حتى داخل الدائرة المعرفية الواحدة. فإختلاف قضايا التأسيس القبلي للنظر وإختلاف أساسيات الفهم ذاته، كل ذلك يجعل من الإنساق بعضها يعارض البعض الآخر، مما يعرضها إلى خلع ظاهرة الحرف والعدول على النص أو ما يلابسه لأجل الحفاظ على الإتساق مع قضايا التأسيس وأساسيات الفهم. وإذا كان هذا الأمر يصدق مع الممارسات التي يقوم بها «الجهاز العقلي» بأصوله المتعددة التي يفرضها على فهم الخطاب، الأمر الذي ينتج عنه تضارب إنساق الفهم لتضارب حالات الحرف والعدول المنزوعة على النص، مما تبرره ظاهرة التضاد في تلك الأصول العائدة إلى التأسيس القبلي للنظر، كما هو الحال مع الخلاف العقلي لمسائل الحسن والقبح والقضاء والقدر والعدل والجور وغيرها من مسائل التأسيس القبلي.. فإذا كان هذا الأمر يصدق مع الممارسات العقلية للفهم، فإن ذات الأمر يصدق مع الممارسات البيانية النقلية أيضاً، كالحال مع الخلاف بين الشيعة والسنة حول الإمامة أو الخلافة. فالنسق الشيعي يعبّر عن فكرة حضور الوصية على ولاية الأمر لعلي بن أبي طالب عبر استشهاده بالنص الثانوي (الحديث)، خلافاً لما عليه النسق السني الذي ينفي مثل هذا الحضور من خلال أخذ إعتبار الظروف الملابسة للنص المذكور، فضلاً عن غياب الفكرة لدى النص الأساسي (القرآن). وطبقاً لهذا التعارض فإن الإتجاهين يمارسان نوعاً من خلع العدول على النص أو ملابساته الظرفية. فلو توقفنا عند حدود ما اتفق عليه الطرفان في الغالب لوجدنا ظاهرة الحرف والعدول لدى الإتجاه السني تلوح النص الثانوي ذاته، سيما حديث الغدير المتفق عليه غالباً ، إذ النظر السني لا يراه نصاً دالاً على ولاية الأمر لعلي كما يوحي إليه الظاهر، كما لا يرى هذه الدلالة في سائر النصوص التي تدعمه من هنا وهناك، كحديث المنزلة وحديث السفينة الناجية وحديث الثقلين وحديث مدينة العلم ، وغيرها من الأحاديث المعتبرة لدى الإتجاه السني . أما لدى الإتجاه الشيعي فنجد أن ظاهرة العدول لا تلوح النص المشار إليه، بل تلوح النص الأساسي (القرآن)، من حيث عدم وضوح الفكرة فيه رغم خطورتها وأهميتها، إذ تأتي هذه الأهمية بعد النبوة والرسالة لنبينا (محمد بن عبد الله) المشار إليها صراحة في مواقف كثيرة من النص الأساسي (القرآن) خلافاً للحال مع الولاية المذكورة. كذلك نجد أن ظاهرة العدول تلوح الملابسات الظرفية المناطة بالنص الثانوي، والتي أهمها أمارة إرادة النبي (ص) لأن يكتب أمراً يضمن السلامة في الدين للمسلمين وهو مسجّى على فراش الإحتضار، لكنه لم يفعل ذلك لبعض الظروف ، مما يوحي بأنه أراد تعيين ولاية الأمر دون أن يفعل، ودون أن يكون لإرادة هذا التعيين سابقة، الأمر الذي يعارض الفهم السابق المتعلق بحديث الغدير.. كذلك عدم إحتجاج الإمام علي بالنص، مع أنه قد احتج بحقه، وأيضاً غياب ذكر النص في السقيفة وعدم إحتجاج الأنصار به مع حاجتهم الماسّة إليه حين يأسوا من تحقيق النصر على خصمهم المتمثل بالمهاجرين، وغير ذلك من الأمارات كالتي عرضناها في كتاب (مشكلة الحديث).

وعلى الصعيد الإبستمولوجي فإن المنظومات والإنساق الصورية التي يقدمها الجهاز أو الأجهزة المعرفية كصور معبرة عن الخطاب هي منظومات وإنساق إجتهادية ليس من المنطقي قبولها قبولاً مطلقاً، كما ليس من المنطقي - أيضاً - رفضها رفضاً مطلقاً. بالضبط كما هو حال النظر إلى النظريات العلمية ذات التعميم العالي، حيث التصور المعاصر يميل إلى عدم وجود نظرية تحظى بالقطع والقبول المطلق، وكذا هو الحال مع الرفض، مع الاخذ بعين الإعتبار حالة الترجيح للنظرية العلمية الأكثر تعميماً وتأييداً على غيرها، مثل ترجيح نظرية اينشتاين على نظرية نيوتن في الفيزياء الكونية . مما يعني أن هناك أكثر من نظرية تجد لنفسها الطريق في التعبير عن الإتفاق مع الوقائع كما في العلوم الطبيعية، أو التعبير عن الإتفاق مع الخطاب كما في العلوم الدينية، مهما كانت حالة الحرف والعدول التي تنطوي عليها، سواء في هذه العلوم أو تلك.

ويصدق الأمر ذاته على آلية تطبيق النسق على الواقع. فمثلاً أن فشل نظام الحكم الإسلامي ـ أو غيره من الأنظمة الأخرى ـ على أرض الواقع، لا يدل بالضرورة على خطأ فكرة نسق النظام، وإن كان يضعه موضع الإتهام على الصعيد الإبستمولوجي، حيث يُنظر فيما إذا كان فشله عائداً إلى خطأ أساسي في قضايا النسق، أو خطأ في القضايا الثانوية التي لا تعبّر عن صميمية النسق وجوهره. ومع وجود الإحتمال الأخير تصبح ممارسة ظاهرة الحرف والعدول من قبل المؤمنين بالنظام ضرورة إجرائية للحفاظ على نسق النظام وتبرير فشله طبقاً لإعتبار الخطأ في القضايا الثانوية دون الأساسية.

على أن إعتبار الإنساق الصورية إجتهادية لا تحظى بدرجة الرفض والقبول المطلقين إنما هو تعبير آخر عن قوتها الإحتمالية، الأمر الذي يعني أن التنافس بين هذه الإنساق يجري طبقاً لقوتها الإحتمالية، وهذا ما يفرض علينا أن لا نعاملها معاملة متماثلة، بالرغم من اننا نواجه مشكلة هامة على صعيد الحساب الإحتمالي، ذلك أن القوة الإحتمالية المتجمعة من القرائن المختلفة لا يمكن حسابها حساباً متساوياً، وبالتالي فإنه قد يصعب أحياناً ترجيح نسق على نسق آخر لإختلاف نوع القرائن المتجمعة لصالح قيمة إحتمال كلٍ منهما، مثلما يصعب ترجيح رواية ذات متن قوي وسند ضعيف على رواية أخرى ذات متن ضعيف وسند قوي، أو العكس. لكن بالرغم من كل ذلك فإن من الممكن وضع معايير يعتمد عليها في حالة القبول والرفض النسبيين. فعلى الأقل أن من المفترض كشرط أولي أن نعتبر الجهاز السليم من الناحية الذاتية وقبل كل شيء، ذلك الذي يحافظ على نسق الإتساق في ذاته لكل من عمليات التأسيس والفهم والإنتاج المعرفي، بعيداً عن التناقضات الذاتية والمفارقات الضمنية. كما أن من المفترض أن لا يصادم الجهاز كلاً من بديهيات العقل والمنطق والواقع، وأن لا يعرّض النص أو الخطاب في صدام مع هذه المعايير.

يبقى أن هذه الإفتراضات تعد خطوات احترازية هامة على الصعيد المنهجي، إلا أنها غير كافية، بل لا بد من التعويل على معايير أخرى تسدد حاجة تقييم الأجهزة والإنساق تبعاً لما يفرضه «الوجدان العلمي»، كالذي فصلنا الحديث عنه في (منطق فهم النص).

 

.............................

هوامش

1- انظر حول ذلك: هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1979م، ص123ـ129. كما انظر:

Hempel, C. G. Geometry and Empirical science, in: Madden, The structure of scientific thought, printed in Great Britian in 1968, p. 78.

3  انظر مثلاً ما يقوله إبن سينا في: رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الاولى، 1368هـ ـ 1949م، ص50ـ51.

4  لاحظ مثلاً: شرح الأصول الخمسة، ص599. وبدر الدين الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، طبعة ثانية، ج2، ص75ـ76.

5  وردت روايات حديث الغدير بعدة ألفاظ مختلفة لكن دلالاتها المجملة متقاربة بعض الشيء. وأقل ما يتفق عليه المسلمون هو قول النبي (ص): «من كنت مولاه فعلي مولاه». ولا شك أن الإختلاف في الزيادات اللفظية يبعث على إختلاف المعنى، كذلك فإن لملابسات الحادثة دوراً كبيراً على تحديد الأخير. ومن الروايات التي يستشهد بها الشيعة على الحادثة ما روي عن زيد بن الأرقم أنه قال: «خطب رسول الله (ص) بغدير خم تحت شجرات فقال: أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون. قالوا نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت فجزاك الله خيراً. فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن ناره حق وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. قالوا بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال: يا أيها الناس أن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه، يعني علياً، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».

 عن حديث المنزلة جاء في بعض الأحاديث أن النبي (ص) خرج في غزوة تبوك وخرج الناس معه، وقال له علي: أأخرج معك؟ فقال (ص): لا. فبكى علي، فقال له رسول الله (ص): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي..

وعن حديث السفينة الناجية جاء في بعض النصوص أن النبي قال: «ألا أن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

وعن حديث الثقلين جاء عن النبي (ص) أنه قال: «أني تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

وعن حديث مدينة العلم قال الرسول (ص): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب».

  انظر بهذا الصدد الكتاب الهام (المراجعات) إذ فيه مناظرة علمية راقية ومطولة بين علمين كبيرين في الطائفتين الشيعية والسنية، هما السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي والشيخ سليم البشري.

6  سميت هذه الواقعة برزية يوم الخميس، حيث جاء في بعض الأخبار عن إبن عباس أنه اشتد برسول الله وجعه يوم الخميس، فقال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. لكن القوم الجالسين عنده تنازعوا، حيث قال بعضهم: هجر رسول الله! فقال الرسول (ص): دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.. وقد أورد البخاري ومسلم هذا الحديث في صحيحيهما (انظر: صحيح البخاري، ضبطه، ورقمه، وذكر تكرار مواضعه، وشرح ألفاظه وجمله وخرج أحاديثه في صحيح مسلم، ووضع فهارسه مصطفى ديب البغا، شبكة المشكاة الإلكترونية، حديث 4168 و4169. وصحيح مسلم، شبكة المشكاة الإلكترونية، حديث 1637).

ويشكل على الحادثة أنها لم تُروَ عن أحد من الصحابة سوى إبن عباس رغم خطورتها البالغة، سيما وقد كان إبن عباس في ذلك الوقت حديث السن لم يتجاوز من العمر ثلاث عشرة سنة.

7  انظر:

Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall and Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13-14.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/derasat/19999.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك