مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي

 

وطئة: تعد الحقيقة من أهم المفاهيم الفلسفية الشائكة التي انشغل بها الفكر الإسلامي قديما وحديثا؛ ومازالت الحقيقة  تفرض ذاتها على الباحثين والمفكرين والفلاسفة سواء أكان ذلك في الغرب أم في الشرق،

 

 نظرا لقيمتها الأخلاقية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي من أجل تحقيق الفضيلة، وتحصيل السعادة الكبرى عاجلا وآجلا ، أو لقيمتها الوجودية التي بها تتم معرفة الخالق والمخلوقات، أو لقيمتها المعرفية الضرورية لتقدم العلم والفنون والآداب والتكنولوجيا، بغية تحقيق الرقي والازدهار والتقدم ، والرفع من مستوى الإنسانية ماديا ومعنويا .

وقد رأينا في أوراق الفكر الإسلامي ، وذلك مع المفكر المغربي الدكتور عابد الجابري (1935-2010م) في كتابه" بنية العقل العربي"، أن الفلاسفة كانوا يحصرون الحقيقة في البرهان العقلاني، بينما المتصوفة كانوا يحصرونها في العرفان الوجداني والمعرفة الذوقية واللدنية0 في حين، نجد أهل الظاهر يحصرونها في البيان وظاهر النص، بينما علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وشيعة وخوارج ومرجئة يعتمدون على آلية الجدل والحجاج والبيان للوصول إلى الحقيقة  .

هذا، وتعتمد الحقيقة على آليات متنوعة وأنساق فلسفية مختلفة ومتباينة المنظور والتصور. والغرض من هذه الدراسة هو إدراك التحولات التي طالت مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة.  إذاً، ماهي الحقيقة في اللغة والاصطلاح؟  وماهو مفهوم الحقيقة عند علماء الكلام؟ ومامفهومها عند الفلاسفة والمتصوفة؟ وهل يمكن الحديث عن حقيقة واحدة أم عدة حقائق؟ وماهي السبل أو الطرائق الموصلة إلى إدراك الحقيقة سواء أكانت مطلقة أم نسبية ؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة المتواضعة.

 

? مفهـــوم الحقيقـــة:

من المعروف أن الحقيقة في اللغة هي الثبات والاستقرار والقطع واليقين ومخالفة المجاز. ومن ثم، فالحقيقة في " لسان العرب" بمعنى الحق، والصدق، والصحة، واليقين، والوجوب، والرصانة، ومقابلة التجاوز. وفي هذا الإطار يقول ابن منظور في لسانه:" بلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه. وفي الحديث: لايبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لايعيب مسلما بعيب هو فيه؛ يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه. وحقيقة الرجل: مايلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته؛ والعرب تقول: فلان يسوق الوسيقة وينسل الوديقة ويحمي الحقيقة... والحقيقة ما يحق عليه أن يحميه، وجمعها الحقائق. والحقيقة في اللغة:ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ماكان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة،...وحق الشيء يحق، بالكسر، حقا أي وجب... وأحققت الشيء أي أوجبته. وتحقق عنده الخبر أي صح. وحقق قوله وظنه تحقيقا أي صدق. وكلام محقق أي رصين... والحق: صدق الحديث.والحق: اليقين بعد الشك. "

 أما الحقيقة في كتاب" التعريفات" لأبي الحسن الجرجاني، فهي :" اسم لما أريد به ما وضع له. وهي فعيلة من حق الشيء إذا ثبت ، بمعنى فاعلة، أي حقيق، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية، كما في العلامة، لا للتأنيث. وفي الاصطلاح، هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب، والشيء الثابت قطعا ويقينا. يقال حق الشيء إذا ثبت. وهي اسم للشيء المستقر في محله، وما به الشيء هوهو كالحيوان الناطق للإنسان".

وترتبط الحقيقة في معجم لالاند (Lalande) بالمعنى الحقيقي. وضمن هذا السياق، تتعارض الحقيقة مع الخطإ. كما أن الحقيقة تحيل على الواقع بالمفهوم المنطقي، فكل ماهو موجود فهو حقيقي، وما ليس موجودا فهو خطأ .

والحقيقة في الاصطلاح هي كل ماهو صادق وواقعي وثابت ويقيني، أوهي مطابقة الفكر للفكر، أو مطابقة الفكر للواقع ، أو كما يقول العرب:"الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان". وتتناقض الحقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمين والرأي والاعتقاد والباطل.

ويلاحظ جليا أن الحقيقة تتخذ مفهوما معرفيا وقيميا. فعلى المستوى المعرفي، الحقيقة هي التي يتطابق فيها الحكم مع الموضوع المرصود، أو يتوافق فيها الحكم النظري مع الممارسة العملية. كما يقصد بالحقيقة على المستوى القيمي كل ما هو صادق وحسن ويقيني وثابت، وذلك في مقابل الكذب والسيء والزائل . لذا، يقول هيجل Hegel (1770-1831م) في موسوعته التي خصصها للعلوم الفلسفية :" عادة مانطلق لفظ الحقيقة على مطابقة موضوع ما لتمثلنا، وفي هذه الحالة فإننا نفترض وجود موضوع ينبغي أن يتطابق مع تمثلنا له. وعلى العكس من ذلك، فالمعنى الفلسفي للحقيقة يقتضي- بتعبير عام ومجرد- مطابقة محتوى ما لذاته. وهذه دلالة أخرى للفظ الحقيقة، مغايرة للدلالة المذكورة آنفا. أما الدلالة الفلسفية الأكثر عمقا للحقيقة، فهي توجد- في جزء منها- أيضا في استخدام اللسان. هكذا، نتحدث مثلا عن صديق حقيقي، ونعني به صديقا يسلك بطريقة مطابقة لمفهوم الصداقة.كما نتحدث أيضا عن منتوج حقيقي.أما اللاحقيقي فيتخذ نفس المعنى الذي يتخذه ماهو سيء أو قبيح، أي ما ليس ملائما في حد ذاته. وبهذا، المعنى فالدولة السيئة هي دولة غير حقيقية، وماهو سيئ هو غير حقيقي.وبشكل عام، فاللاحقيقي يكمن في التناقض الموجود بين التحديد أو التصور من جهة، ووجود الموجود من جهة أخرى."

ويعني هذا أن مفهوم الحقيقة مفهوم ملتبس وغامض وشائك، ومتعدد الدلالات من حقل إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، وذلك حسب تصوره النظري ونسقه الفلسفي. وعلى الرغم من تعدد التعاريف والدلالات، فالحقيقة مرتبطة في جوهرها بالصدق، واليقين، والفضيلة، والسعادة، والكمال، والمعرفة العلمية الحقة.

 

? الحقيقـــــة في الفكــــر الإسلامـــي:

يتضمن الفكر الإسلامي أربع مراحل كبرى: مرحلة علم الكلام، ومرحلة الفلسفة الإسلامية، ومرحلة التصوف، ومرحلة فكر عصر النهضة. وكل مرحلة لها خصوصيات نظرية ومنهجية و سياقية. وبالتالي، فالباحث مطالب باستحضار كل هذه الخصوصيات الفكرية والواقعية حين التعامل مع محطات الفكر الإسلامي الكبرى.

 

1- مفهوم الحقيقة عند علماء الكلام:

تناول علماء الكلام ، وذلك بعد نشوب الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وظهور مجموعة من الفرق الكلامية كالمرجئة، والشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والماتريدية، والأشاعرة، مجموعة من القضايا المتعلقة بحقائق أصول الدين والعقيدة، كالتوحيد (رؤية الله- كلام الله- صفات الله)، والعدل(نظرية الصلاح والأصلح- نظرية الحسن والقبيح...)، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد اختار علماء الكلام منهج الجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن هذه الحقائق الدينية، وإبداء وجهة النظر في المسائل الدينية والسياسية العويصة التي فرضها الواقع السياسي ، وذلك في علاقة بفقه النص وفقه الواقع. ومن المعروف أن الجدل والمناظرة يخضعان نظريا لمجموعة من الثوابت المنهجية، مثل: وجود المدعي والمدعى عليه، ووجود دعوى الاعتراض، والارتكان إلى الدليل (البينة، والشاهد، والبرهان، والوثيقة، والحجة...)، واستعمال العقل والمنطق في التناظر، والابتعاد عن التعصب والعنف والتجريح والقذف ، واستعمال الحوار البناء القائم على الموعظة والحكمة الحسنة، واستقصاد الحقيقة الهادفة، وعدم الوقوع في التناقض، والانطلاق من المسلمات والبدهيات بغية الحجاج والتأثير والإقناع....

ويلاحظ أن أهم الفرق الكلامية التي كان لها باع كبير في عملية الحجاج، نذكر منها: المعتزلة والأشاعرة، فالفرقة الأولى كانت عقلانية تعطي الأولوية للعقل قبل ورود النص، فترى العقل هو المعيار الوحيد لمعرفة الصواب من الخطإ، والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين الحسن والقبيح. وقد دافعت عن حرية الإنسان في خلق أفعاله ، وذلك على غرار القدرية (معبد بن خالد الجهني ، وغيلان الدمشقي)،  ضد الجبرية (جهم بن صفوان ت.128هـ)، التي كانت تقول بأن الإنسان مجبر على  أداء أفعاله خيرا وشرا، وقد قالت المعتزلة كذلك بنظرية الصلاح والأصلح. في حين، كان الأشاعرة (نسبة إلى أبي الحسن الاشعري ت.324هـ)نصيين، يعطون الأولوية للنص على حساب العقل، وقد قالوا بنظرية الكسب على مستوى أفعال الإنسان. ويعني هذا أن الإنسان ليس حرا حرية مطلقة، وليس مجبرا جبرية مطلقة . بمعنى أن الإنسان يكسب ما يشاء من أفعال الخير والشر التي خلقها الله، فيستعملها بإرادته ومشيئته كما يريد ثوابا وعقابا. بمعنى أن الله الذي خلق الإنسان، يخلق فيه نوعا من القدرة والاستطاعة  يحسه الإنسان أثناء الفعل ومعه. هذا النوع من القدرة والاستطاعة يسميه أبو الحسن الاشعري كسبا. أي: إن الإنسان يكسب القدرة على الفعل حين القيام به، ولكن لايستطيع الكسب إلا بقدرة من الله.

وإذا كان علماء الكلام يستعملون العقل والمنطق والبرهان في الدفاع عن الحقائق الدينية والسياسية، ويستعملون التأويل في قلب الظاهر، واستكشاف الباطن، و تحويل الحقيقة إلى المجاز، وذلك، درءا لكل تشبيه وتجسيد وتشخيص، وإبعاد لقياس الغائب على الشاهد، فإن ثمة انتقادات توجه إلى علم الكلام فيما يخص المنهج والتأويل، فابن رشد – مثلا- يرى أن منهج علماء الكلام منهج افتراضي قائم على الجدل والاحتمال، ينطلق من مقدمات افتراضية، ويصل إلى نتائج افتراضية. ويشبه هذا المنهج منهج الشكاك من السفسطائيين الذين كانوا ينطلقون من نتائج خاطئة، فيصلون إلى نتائج خاطئة. في حين، أن منهج الفلاسفة منهج برهاني ينطلق من نتائج يقينية ليصل إلى نتائج يقينية، أما منهج الفقهاء والجمهور من عامة الناس، فمنهجهم ظاهري وخطابي. وفي هذا النطاق، يقول ابن رشد:" وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل تفاضل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق، أعني إذا كان دليل التأويل أتم إقناعا من دليل الظاهر، وأمثال هذه التأويلات هي جمهورية، ويمكن أن تكون فرض من بلغت قواهم النظرية إلى القوة الجدلية، وفي هذا الجنس يدخل بعض تأويلات الأشعرية، والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة ، في الأكثر، أوثق أقوالا.

وأما الجمهور ، الذين لايقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم إمرارها على ظاهرها، ولايجوز أن يعلموا ذلك التأويل أصلا.

فإذاً، الناس في الشريعة على ثلاث أصناف:

صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون، الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.

وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون، بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة.

وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون، بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة."

هذا، وقد عاب ابن رشد على الفرق الكلامية تصريحها بتأويلاتها الجدلية ، فكانت وراء اندلاع فتن كثيرة، وماكان عليها أن تصرح بذلك إلا لأصحاب التأويل وأهل العلم والنظر والعارفين بالله، وماكان عليها أن تخرج بذلك على أهل الظاهر وعامة الناس، كما فعل الحلاج المتصوف الذي خرج على الناس قائلا: أنا الله. فماكان من الفقهاء و عامة الناس إلا أن صلبوه عقابا له على كفره وزندقته. وفي هذا السياق، يقول ابن رشد: " ومن قبل التأويلات، والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسدة منها.

فأولت المعتزلة آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانت أقل تأويلا. فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق.

وزائدا إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، وأما مع الخواص فلكونها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان.وذلك يقف عليه، بأدنى تأمل، من عرف شرائط البرهان.

بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيرا من الضروريات، مثل: ثبوت الأعراض، وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات، والصور الجوهرية، والوسائط، ولقد بلغ تعدي نظارهم، في هذا المعنى، على المسلمين، أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود الباري سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون والضالون بالحقيقة.

ومن هنا، اختلفوا، فقال قوم: أول الواجبات النظر. وقال قوم: الإيمان، أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع، التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد، فأخطأوا مقصد الشارع، وضلوا وأضلوا."

 وعليه، فقد تسلح علماء الكلام بالجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن الحقيقة الربانية، وتنزيه الذات الإلهية من كل نقص أو عجز أو تجسيد بشري. و لو أخذ المسلمون بالمنهج الاعتزالي في إدراك الحقائق، بدلا من اتباع المنهج الأشعري، فاستخدموا العقل والبرهان ، ثم دافعوا عن حرية الإنسان في الخلق والتصرف والاستكشاف والابتكار، لكانوا في مكانة أحسن من مكانتهم الاتكالية التي أصبحوا عليها الآن!

 

2- مفهوم الحقيقة عند فلاسفة الإسلام:

يذهب الفلاسفة المسلمون بما فيهم: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد... إلى أن الحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان الفيلسوف، وهي أس الكمال والسعادة والفضيلة. وبالتالي، لا تتحقق هذه الحقيقة إلا عن طريق استخدام العقل والبرهان والنظر المنطقي. لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يعترفون بأن ثمة حقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشرعية. ومن ثم، تحيل هاتان الحقيقتان على مستوى التفسير الانعكاسي على الصراع الجدلي الذي احتدم في الواقع العربي الإسلامي بين الفقهاء والفلاسفة، وخاصة في العصر العباسي. إذ يحاول الفلاسفة الدفاع عن الفلسفة بصفة عامة، والفلسفة اليونانية بصفة خاصة، باحثين عن الشرعية النصية والقانونية والفقهية والواقعية التي تسمح لهم بممارسة فعل التفلسف، والاشتغال بفعل التمنطق. لكن هؤلاء الفلاسفة وجدوا معارضة كبيرة من قبل الفقهاء الذين كانوا ينطلقون من الظاهر النصي، فيحاربون الفلسفة جملة وتفصيلا ، ثم يربطونها بالكفر والزندقة، قائلين: من تمنطق تزندق. والدليل على ذلك ما فعلوه مع ابن رشد في الأندلس، حينما أحرقوا كتبه الفلسفية والمنطقية إبان الدولة الموحدية. لذلك، اضطر الفلاسفة الملسمون إلى عملية التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وذلك من أجل إثبات حقيقة أساسية، ألا وهي: أن الحق لايضاد الحق. وهذا ما نجده واضحا جليا عند الفيلسوف المسلم الأول الكندي(803-873م).

أما إذا انتقلنا إلى أبي نصر الفارابي (259-339هـ)، فقد اعتمد على نظرية الفيض للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه سقط في عملية التلفيق، وذلك حينما جمع بين أفلوطين وأفلاطون المثاليين، معتقدا أنه كان يوفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. ومن ثم، يرى الفارابي أن الحقيقة لايتم إدراكها إلا عن طريق العقل والحكمة، وأن الحقيقة الأولية والأزلية  هي حقيقة الله أو حقيقة الوحدة التي صدرت عنها كثرة الموجودات والخلائق. وفي هذا الصدد يقول الفارابي:" العلم بالحقيقة ماكان صادقا ويقينا في الزمان كله لا في بعض دون بعض وماكان موجودا في وقت وأمكن أن يصير غير موجود فيما بعد. فإنا إذا عرفنا موجودا الآن فإنه إذا مضى عليه زمان ما، أمكن أن يكون قد بطل، فلاندري هل هو موجود أم لا، فيعود يقيننا شكا وكذبا، وما أمكن أن يكذب فليس بعلم ويقين. فلذلك، لم يجعل القدماء إدراك ما يمكن أن يتغير من حال إلى حال علما، مثلما علمنا بجلوس هذا الإنسان الآن، فإنه يمكن أن يتغير فيصير قائما بعد أن كان جالسا، بل جعلوا العلم هو اليقين بوجود الشيء الذي لايمكن أن يتغير، مثل: أن الثلاثة عدد فرد؛ فإن فردية الثلاثة لا تتغير ، وذلك أن الثلاثة لا تصير زوجا في حال من الأحوال ولا الأربعة فردا...

الحكمة علم الأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب، وذلك أن نتيقن بوجودها ونعلم ما هي وكيف هي وأنها- وإن كانت كثيرة – فإنها ترتقي على ترتيب إلى موجود واحد هو السبب في وجود تلك الأسباب البعيدة ومادونها من الأشياء القريبة، وأن ذلك الواحد هو الأول بالحقيقة...، وأنه لايمكن أن يكون إلا واحدا فقط، وأنه هو الواحد في الحقيقة، وهو الذي أفاد سائر الموجودات الوحدة التي بها صرنا نقول: لكل موجود إنه واحد، وأنه الموجود الواحد هو الحق الأول الذي يفيد غيره الحقيقة، ويكتفي بحقيقته عن أن يستفيد الحقيقة عن غيره...ولا وجود أتم من وجوده، ولا حقيقة أكبر من حقيقته، ولا وحدة أتم من وحدته، ونعلم مع ذلك كيف استفاد منه سائر الموجودات الوجود والحقيقة والوحدة، وما قسط كل واحد منها من الوجود والحقيقة والوحدة."

وتحيلنا هذه القولة على نظرية الفيض التي تبحث في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة الإلهية ، وذلك في شكل انبثاق هرمي للموجودات عن الواحد الكل. ومن ثم، فالحقيقة الجوهرية هي حقيقة الذات الربانية التي خلقت العالم من العدم. وبالتالي، فالحقيقة هي التي تقترن بالثبات واليقين والوحدة.

هذا، ويتسم التوجه الفلسفي عند الفارابي في بحثه عن الحقيقة بالطابع التوفيقي والتمجيدي للبرهان الفلسفي ، كما يتضح ذلك بجلاء في كتابه:"الحروف"  الذي يعتبر فيه الفارابي كل من حاد عن المنهج البرهاني ، فقد اعتمد على مجرد انطباعات حسية وآراء شائعة مشتركة بين عوام الناس. أما من تمثل سبيل البرهان،  فهو من فئة الخواص. وبالتالي، فقد عرف الطريق الصحيح الموصل إلى الحقيقة الصادقة . وبالتالي، فقد سلك مسلك تحصيل اليقين الحقيقي:"ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثق إلى أن يتفقوا على الطرق الجدلية بعد زمان، وتتميز لهم الطرق الجدلية عن الطرق السوفسطائية...فلا تستعمل إلى أن تكمل المخاطبات الجدلية، فتبين بالطرق الجدلية أنها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين... فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطابية أو بالشعرية".

ويظهر لنا أن الفارابي والكندي ومن سار مسارهما مجرد تابعين من توابع الفلسفة الأرسطية المشائية، تلك الفلسفة التي تجعل من الفلسفة والبرهان آليتين من آليات المعرفة الحقيقية الصادقة. ويعني هذا أن العقل والمنطق- كما يتشخصان في الفلسفة اليونانية- من أهم الوسائل الناجعة للوصول إلى الحقيقة اليقينية سواء أكانت حقيقة أنطولوجية تتعلق بالوجود، أم كانت حقيقة إبستمولوجية تتعلق بالمعرفة، أم كانت حقيقة أكسيولوجية تتعلق بالقيم والأخلاق.

وإذا كان الفارابي فيلسوف العقل، فإن ابن سينا (370-428هـ) فيلسوف النفس، ويعني هذا أنه قد اشتغل كثيرا بحقائق النفس الإنسانية روحا وتصوفا، ولاسيما في كتابه" الإشارات والتنبيهات" . وقد حاول ابن سينا، وذلك اعتمادا على نظرية الفيض الأفلوطينية، التوفيق بين الدين القائل بحدوث العالم والفلسفة القائلة بقدم العالم ، مستوحيا في ذلك أفكار وتصورات أستاذه الفارابي. وهكذا، فقد أثبت وحدة الحقيقة الربانية التي تصدر عنها الموجودات المتعددة فيضا وانبثاقا هرميا، كما أثبت أن السعادة الحقيقية تنتج عن طريق تنقية الروح ، وتطهير النفس ، ولم يعط الجسد أو البدن أي اهتمام في ذلك؛ لأن الإنسان يبعث روحا، ولايبعث جسدا .

وإذا كان المؤلفون القدامى والباحثون المعاصرون يتفقون في القول:" إن الشيخ الرئيس أبا علي ابن سينا لايختلف، في آرائه الفلسفية، عن الفارابي إلا في بعض التفاصيل والجزئيات.بل إن منهم من يذهب إلى القول بأن ابن سينا لم يعمل في الحقيقة إلا على توضيح وتبسيط الأقاويل التي قررها الفارابي من قبل: فما أعطاه الفارابي موجزا مجملا، قدمه ابن سينا مبسطا مفصلا." ، فإن الدكتور محمد عابد الجابري يرى أنه مهما كان هناك من اتفاق على المستوى النظري، فهناك اختلاف كذلك على المستوى المرجعي والإيديولوجي :" إن ابن سينا حينما تبنى المنظومة الميتافيزيقية الفارابية، تبناها كمنظومة معرفية وليس كحلم إيديولوجي. ولم يكن هذا راجعا إلى قراره واختياره، بل كان ذلك هو قرار التاريخ."

ويدل هذا على أن الفارابي كان يحلم بدولة قوية موحدة السلطة، مركزها العقل والإخاء الفلسفي، في حين أن ابن سينا كان يعبر عن دولة بدأت تتفكك إلى إمارات متعددة، تنعدم فيها وحدة السلطة واستمرارية الدولة . ويعني هذا أن هناك انتقالا من حلم المدينة الفاضلة القائمة على وحدة السلطة والعقل كما هو الحال عند الفارابي،  إلى حلم ضائع مبني على مدينة مفككة في عهد ابن سينا. إذاً، هذا هو الاختلاف الإيديولوجي الذي كان يميز بين الفيلسوفين ، وذلك على الرغم من وحدة التصور الفلسفي والتأمل النظري .

وإذا انتقلنا إلى فيلسوف آخر ألا وهو الغزالي (1057-1111م)، فإنه يرى الشك هو السبيل الوحيد إلى الوصول إلى الحقيقة اليقينية، وقد سبق في ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م )الذي اعتمد معيار الشك للتأكد من حقيقة وجوده ، ووجود الله والعالم الخارجي على حد سواء(نظرية الكوجيطو). وقد ارتأى الغزالي أن الحس بمفرده غير كاف للوصول إلى الحقيقة، حتى العقل بمفرده غير قادر على استكشاف الحقيقة، فلابد من ممارسة الشك من أجل تحقيق الهدف الأسمى الذي يتمثل في الوصول إلى الحقيقة. وبتحصيل الحقيقة، تتحقق السعادة والفضيلة والكمال. وهكذا، يرى الغزالي أن الحقيقة  تنبني على الشك اليقيني سواء أكان ذلك الشك قائما على الحس أم العقل أم القلب الصوفي:"ثم فتشت علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لامطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات. فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من لغط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لاغدر فيه ولاغائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؛ فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذت تتسع للشك فيها...فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه... ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لابحكم النطق والمقال، حتى شفي الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة."

هذا، ويرى أبو حامد الغزالي في كتابه:" إحياء العلوم" أن الحقيقة المطلقة يتم تحصيلها عن طريق القلب والإلهام عند الصوفية والأولياء والأصفياء، ويتم تحصيلها عن طريق الوحي عند الأنبياء، وتكتسب عن طريق الاستدلال والاعتبار والاستبصار عند العلماء:" اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية- وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريقة الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى مالايدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى مايطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني: يسمى وحيا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله- وهو المكتسب بطريقة الاستدلال- يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة- التي سبق ذكرها- فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها."

وقد انتقد الغزالي الفلاسفة المسلمين في كتابه:" تهافت الفلاسفة" ، وذلك في عشرين مسألة، معتمدا في ذلك على الدين والمنطق، حيث بدعهم في سبع عشرة مسألة، وكفرهم في ثلاث مسائل أو حقائق فلسفية، ويمكن حصرهذه الحقائق الثلاث في  القضايا التالية:

1- مسألة قدم العالم وأزليته، حيث قال الفلاسفة باستحالة صدور حادث عن قديم أصلا.

2- قضية العلم الإلهي، حيث يذهب الفلاسفة إلى أن الله يعلم الكليات دون الجزئيات.

3- حشر النفوس دون الأجساد، حيث يرى الفلاسفة المسلمون أن الله سيبعث النفوس دون الأجساد.

وهكذا، فالغزالي يخالفهم في ذلك ، إذ يثبت أن الله يعلم الكليات والجزئيات على حد سواء، وأن الله أيضا  سيبعث النفوس والأجساد معا، ويؤكد كذلك  بإمكان صدور الحادث عن القديم أصلا. ومن ثم، فقد وضع الغزالي حدا نهائيا للميتافيزيقا الإسلامية،  واختار منهجا آخر في المعرفة ، ألا وهو المنهج الصوفي ؛ حيث اعتبر الخلوة مصدرا للمعرفة ، وطريقا مؤديا إلى الحقيقة الربانية السرمدية.

أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة بالغرب الإسلامي، فقد كانت الحقيقة الربانية حاضرة ، إلى جانب حقائق أخرى كحقيقة الوجود، وحقيقة المعرفة، وحقيقة القيم بما فيها: الخير، والسعادة ، والعدل ، والجمال... بيد أن أهم ماتميزت به الفلسفة المغربية هي الانشغال بترجمة كتب أرسطو، والاهتمام بالميتافيزيقا والمنطق، والتوفيق بين الدين والفلسفة على أن الشرع منفصل عن الحكمة، لكن هدفهما واحد ألا وهو استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة ، حقيقة الصانع وحقيقة المصنوعات والموجودات التي خلقها هذا الصانع الماهر. ومن أهم الفلاسفة الذين انشغلوا بعملية التوفيق بين الدين والفلسفة، نستحضر: ابن باجة، وابن طفيل، وابن حزم، وابن رشد، وموسى بن ميمون...

فإذا بدأنا بالفيلسوف الأندلسي ابن باجة (ت.532هـ) في كتابه:" تدبير المتوحد"، فقد رفض هذا الفيلسوف العقلاني المنهج الصوفي في إدراك الحقيقة كما عند ابن سينا، واعتبر العقل أو البرهان هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى امتلاك الحقيقة اليقينية (حقيقة معرفة الله)، وقد تأثر في ذلك بالفارابي كل تأثير. ويقول الدكتور محمد علي أبو ريان عن ابن باجة:" ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان ابن مسرة يمثل في المغرب اتجاها يميل إلى التصوف وإلى الإدراك الذوقي لحقائق الوحي والألوهية وتحقيق السعادة واللذة عن طريق المشاهدة الصوفية ( وقد سار ابن عربي فيما بعد على هذا الدرب) ، نجد أن ابن باجة يرفض هذا الاتجاه ، وينتقد موقف الغزالي في المشرق الذي قال بأن العالم العقلي لاينكشف للانسان إلا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية ، ويلتذ بها لذة كبيرة، ويقول ابن باجة: إن الغزالي حسب الأمر هينا حينا ظن أن السعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب. بل الحق أن النظر العقلي الخالص الذي لاتشوبه لذة حسية هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفية بما تنطوي عليه من صور حسية فإنها تكون عائقا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة.

فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، وقد تأثر ابن رشد بموقفه هذا.

وكتاب" تدبير المتوحد" لابن باجة يبين معالم الطريق الموصول إلى العقل الفعال.

وتقال لفظة التدبير على ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وليست هذه الغاية سوى الاتحاد بالعقل الفعال، ولهذا فإن الطريق الذي يرسمه الكتاب هو المنهج الذي يسير عليه الإنسان حتى يبلغ هذه الغاية المنشودة.

ولكن هذا المنهج ليس منهجا صوفيا يستخدم فيه المريد أسلوب المجاهدة والتطهير، بل هو تدبير الأعمال بالعقل، واستخدام الرؤية، ولايقدر على هذا غير الإنسان."

وقد سبق لابن طفيل أن حاول التوفيق بين الدين والفلسفة ، وذلك في كتابه " حي بن يقظان"، حيث يمثل آبسال الحقيقة الدينية التي توصل إليها عن طريق النص والشرع والوحي. في حين، يمثل حي الحقيقة العقلية التي توصل إليها عن طريق البرهان والاستبصار والتأمل المنطقي. وحينما التقيا على أرض الجزيرة، وجدا أن حقيقة الدين النصية والحقيقة الفلسفية العقلية لاتتعارضان إطلاقا  مع حقيقة الفلسفة العقلانية والبرهانية.

وإذا كانت الفلسفة المشرقية - كما هي عند الفارابي وابن سينا- قائمة على فلسفة الاتصال بين النص والعقل، والخلط بين  أفلاطون المثالي وأرسطو المادي ، وذلك من خلال استحضار أفلوطين المثالي الهرمسي أثناء عملية التوفيق، والوقوع في التلفيق أثناء المؤالفة بين الحكمة والشريعة، فإن فلاسفة المغرب قد انطلقوا منذ البداية بأن الفلسفة ليست هي الشريعة، ولكن هدفهما واحد، مادام الشرع يدعو إلى استخدام العقل والنظر البرهاني، فكذلك الحكمة أو الفلسفة فهي تنادي إلى استخدام العقل في معرفة المصنوعات ومعرفة الصانع. ومن هنا، فالدين ليس هو الفلسفة، ولكن يتفقان من حيث الهدف ألا وهو استخدام العقل. وبما أن هدفهما واحد، فلابأس من الاستعانة بعلوم الأوائل، ودراسة الفلسفة والمنطق كما لدى اليونان، وهذا ما يذهب إليه ابن رشد كذلك.

وبناء على ماسبق، يقول محمد عابد الجابري معقبا على فلسفة ابن طفيل:" ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية.لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة."

ويعني هذا أن فلاسفة الغرب الإسلامي – حسب محمد عابد الجابري- بعمليتهم التوفيقية هاته ، والقائمة على الفصل بين الشرع والفلسفة، قد أسسوا بشكل من الأشكال مدرسة فلسفية مغربية مستقلة،  تتميز كثيرا عن المدرسة الفلسفية المشرقية التي سقطت في التلفيق والخلط المنهجي ، وتوظيف المؤثرات الدينية الهرمسية والغنوصية والأفلوطينية... وقد اتضحت هذه المدرسة الفلسفية المغربية مع ابن رشد على سبيل الخصوص. وفي هذا النطاق، يقول الجابري:" ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة- أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك.لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعارا لها:" ترك التقليد والعودة إلى الأصول". ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.

إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى مااصطلح على تسميته بـ" الفلسفة الإسلامية " أو " الفلسفة في الإسلام"، لاينبغي أن يخفي عنا " انفصالا" أعمق بينهما.لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، نفس الموصوعات، وتناولوا نفس المشاكل، ولكن ما يميز فكرا فلسفيا معينا- كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، " إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها والنظام الفكري الذي ينتمي إليه". ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية."

ويعني هذا أن هناك قطيعة إبستمولوجية بين المدرستين المغربية والمشرقية في مجال الفلسفة ، وذلك على مستوى الطرح النظري، وعلى مستوى المنهج والمعالجة، وعلى مستوى البعد المرجعي والإيديولوجي.

وبناء على ماسبق، نستحضر ابن رشد (520-595هــ)، وذلك باعتباره من أهم فلاسفة المدرسة المغربية ، فقد تميز بالعقلانية التي كانت أساس النهضة الأوربية، وقد تجلت هذه العقلانية الرشدية في ترجمة كتب أرسطو وشرحها، ولاسيما كتبه المنطقية والميتافيزيقية، كما توفق في التوفيق بين الدين والفلسفة داخل أرضية شرعية . 

هذا، ويذهب ابن رشد في كتابه " فصل المقال"  إلى أن هناك حقائق عدة توصل الإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الربانية القائمة على التوحيد، ونبذ التعددية والشرك الوثني. وهكذا، نجد أن هناك من يعتمد على الخطابة للوصول إلى الحقيقة كالفقهاء، وهناك من يختار الجدل كعلماء الكلام (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية...)، وهناك من يعتمد على العرفان كالمتصوفة، وهناك من يفضل البرهان كالفلاسفة للوصول إلى الحقيقة الصادقة. لكن ابن رشد يرى أن الحقيقة اليقينية لايمكن الوصول إليها إلا عن طريق البرهان العقلي، ذلك البرهان الذي لايتعارض مع الشرع الرباني مادام الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويلائمه هدفا ووظيفة ومقصدا. ويتمثل ذلك في معرفة الحق، والتأكد من وجود الله عز وجل صانع هذا الكون الأرحب والمعجز. وبهذا، يعمد ابن رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة على غرار الفلسفة المغربية كما عند ابن طفيل وابن باجة مثلا، مع الاستفادة بشكل من الاشكال من الفلسفة المشرقية كما هي عند الكندي، والفارابي، وابن سينا، و الغزالي...

ويقول ابن رشد في كتابه" فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ":"وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة. ودعت إليها التي هي المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.

وإذا كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له."

وهكذا، يتبين لنا بأن المشروع الرشدي ينطلق من مبدإ عام هو:" إن الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع"، وفي ضوء هذا الفهم للحقيقة، وأهلية الناس على إدراكها، يناقش ابن رشد إشكالية العقل والانغلاق المذهبي، ويحاول أن يعيد رسم حدود العلاقة بين الدين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما حضوره ووظيفته ونشاطه على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي."

ويعني هذا أن ابن رشد قد تناول وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد(وحدة الحقيقة الربانية). وتحدث، في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة (المنهج البياني ، والمنهج البرهاني، والمنهج العرفاني). وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على انفتاح ابن رشد على الخطابات الفكرية والفلسفية الأخرى، وتجنب الانغلاق والتعصب في مجال الفكر والتأمل، مع الأخذ بفلسفة التسامح والتفاهم والتعايش في التعامل مع أطروحات الآخرين ، بما فيهم الفلاسفة اليونانيون.

ومن هنا، فقد رد ابن رشد على الغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه:" تهافت الفلاسفة" ، فصنف كتابا تحت عنوان:" تهافت التهافت" ، وذلك للرد على الغزالي في ثلاث مسائل أو حقائق كبرى كفر فيها فلاسفة الإسلام، معتمدا في ذلك على المنطق أولا، والدين ثانيا. وهذه الحقائق الفلسفية هي: قدم العالم، وعلم الله الكليات دون الجزئيات، وحشر النفوس دون الأبدان أو الأجساد.

 

3- مفهوم الحقيقة عند المتصوفة:

وإذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص في الوصول إلى الحقيقة الربانية، وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي، والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي، فإن المتصوفة يعتمدون على الذوق والحدس والوجدان والقلب في إدراك هذه الحقيقة السرمدية. أي: إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة، وترفض الحسية، وتتجاوز نطاق الحس والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي . ومن ثم، فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية اللدنية الجوانية. لذلك، يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة، وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها، استقيت من مجالات عدة . ومن هنا، يمكن الحديث عن اللفظ المشترك داخل الحقل الصوفي . ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية، نذكر: : علوم الشريعة،وعلوم العقيدة، والآداب، وعلوم اللغة، والفلسفة، وعلوم الآلة، فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...

ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ، والتعدد في المعاني، والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما، وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من تجربة إلى أخرى. 

وعليه، فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها عند المتصوفة، وهي: قضية العرفان ، وثنائية الظاهر والباطن، وإشكالية التأويل؛ لأنها هي التي ستميز الخطاب الصوفي عن الخطاب الفلسفي، والخطاب الفقهي، والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي  ، وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام، يعتبر المتصوفة من علماء الباطن. وبالتالي، فالتصوف هو علم الباطن، بينما الفقه هو علم الظاهر. وفي هذا يقول في كتابه" اللمع":"إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب، وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء، وقد قال تعالى:" وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"( لقمان20). فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات، والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"( النساء83)، فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول ( صلعم) ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن".

ومن هنا، فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب ، واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية، وتأصيل حضرة ربانية قوامها: العشق، والمحبة، والزهادة، وتأويلها عرفانيا ولدنيا، بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص، والالتزام بسياقاتها السطحية، وذلك  مخافة من التأويل، وإثارة الفتنة في المجتمع.

هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: أولا، المصادر الداخلية التي تتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية،  والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية.

 ثانيا، المصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي، والهرمسية، والأفلاطونية المحدثة، والتشيع، والفكر الباطني، ناهيك عن التيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية.

وإذا كان الزهد والتصوف الإسلامي السني لهما جذور داخلية بدون شك ، فإن التصوف الفلسفي كما عند الحلاج، وأبي يزيد البسطامي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والسهروردي، على الرغم من طابعه السني والشرعي في الكثير من النصوص و المواقف، فإن له جذورا خارجية؛ نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي، كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه:"بنية العقل العربي":"وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.".

ويذهب ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف. ويقول ابن خلدون في هذا الصدد:" إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة، وملأوا الصحف منه ، مثل: الهروي في كتابه "المقامات" وله غيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم".

وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية ، بينما تحيل فكرة الفناء على النر?انا البوذية، وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين، وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.

وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية، مثل: شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال:" رفعني- الله- مرة فأقامني بين يديه، وقال لي يا أبا يزيد:إن خلقي  يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، والبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك ، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك". ومن ذلك أيضا قوله:" أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة أحدية، ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة".

فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين، أمثال: جلال الدين الرومي، والسهروردي، وابن عربي، وأبي يزيد البسطامي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين...

وهكذا، فقد ارتبطت الحقيقة عند المتصوفة في التاريخ الإسلامي بالقلب العرفاني تحلية وتخلية ووصالا، واقترنت بالروح الوجدانية حضرة وسلوكا ومقاما، واختلطت بالهذيان اللاشعوري تأويلا وإفصاحا وتعبيرا، وارتكزت على السحر الأسطوري فهما وتفسيرا، واستندت إلى الكرامات الخرافية الغيبية سردا وتخييلا وتخطيبا، واعتمدت على التصورات العجائبية الخارقة . كما ارتبطت الحقيقة الصوفية عند الفرق الطرقية بالتدجين، والاستلاب، واستغلال الناس، وخدمة السلطة الحاكمة الجائرة، وذلك على حساب الحقيقة الصادقة واليقينية.

هذا، وقد نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي، فهناك من يدافع عنه، ويعتبره فعلا إيجابيا . وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية. ومن هؤلاء: الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا، وسلوكا تواكليا، فالحقيقة عند الصوفية" ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة".

ولكن هناك من يشيد بالفكر الصوفي، ويعتبره مسلكا للنجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة، لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية، وأزمات روحية. كما أن الكثير من الطرق الصوفية قامت بدور هام في ميدان الجهاد، وطرد المستعمر، وحماية ثغور الوطن، وساهمت في خدمة المجتمع ، وذلك عن طريق الكرم والإنفاق والإحسان. زد على ذلك، أن التصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجيا؛ لأنه يحرر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية، ويخرجه من عزلته الاجتماعية، ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.

وما أشد حاجتنا اليوم إلى تصوف معاصر يساير الحداثة، ويواكب التقدم العلمي والتقني والفني! تصوف ينخرط في المجتمع انخراطا حقيقيا، وذلك عن طريق تقديم مقاربات أخلاقية ونفسية وروحية ، تعالج كل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ولاسيما أن أزمتنا المعاصرة هي أزمة ضمير وأخلاق، وتردي القيم الأصيلة ، وانحطاط الإنسان كينونة ووجودا وقيمة.

وهكذا، فقد ناقش الفكر الإسلامي مجموعة من الحقائق الكبرى ، لكن تبقى الحقيقة الربانية (التوحيد) أهم هذه الحقائق وأسماها، فقد وجدناها مطروحة عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة. بيد أن ثمة حقائق أخرى قد تم مناقضتها في  حقل الفكر الإسلامي كمسألة العقل والنقل، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة التأويل بين الحرفي والمجازي، ومسأالة التوفيق بين الشرع والحكمة، ناهيك عن مناقشة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والميتافيزيقية التي طرحتها الفلسفة اليونانية من جهة، والواقع العربي الإسلامي من جهة أخرى.

ونخلص من كل هذا أن الفلاسفة والعلماء المسلمين قد انشغلوا بحقيقتين مترابطتين أو متلازمتين: الحقيقة الميتافيزيقية التوقيفية التي نوقشت في ضوء الدين والمنطق الافتراضي الصوري، والحقيقة العلمية التوفيقية التي نوقشت في ضوء مناهج الاستقراء والاستنباط والتجريب. وهناك حقيقة ثالثة وسيطية اهتم بها الفقهاء وعلماء اللغة والأدب، ونسميها الحقيقة البيانية التي نوقشت في ضوء الرواية والتقعيد والاستنباط والاجتهاد.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/derasat/53599.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك