العَامِلُ وَالعَمَلُ فِي المَنْظُوْرِ الإِسْلاَمِيّ
نحنُ نعيشُ ذكرى عيد العمّال العالمي، لابدَّ أنْ نعرفَ موقفَ الإسلامِ مِن العَملِ والعامِل. فالإسلامُ الحنيف، سبّقَ جميع التّشريعاتِ المدنيّةِ الحديثةِ، في إحترامهِ للعَمَلِ والعَامِلِ. ويُمكنُ ملاحظَةُ ذلكَ، مِن خلالِ النُصوصِ التّشريعيّةِ الكثيرةِ، التي ضَبطَتْ مساحَةَ العمل، ونظّمَتْ العلاقةَ بيّن العاملِ وربِّ العَمَل. فالتّشريعُ الإسلاميّ، سَجّلَ سابِقَةً حضاريّةً في تاريخ ِالبشريّة، عِبْرَ تشريعاتِهِ الصّريحَة، الّتي تؤكدُ على حُرمَةِ التَعدّي، على حُقوقِ الإنسان، ومنها حقُّ العَمَل. فوضَعَ الإسلامُ الأُسُسَ الصَحيحَةِ في التّعامُلاتِ المُختلفة. لذا أُفْرِدَتْ الأحكامُ الفقهيّةِ المتعلقةِ بالعَامِلِ والعَمَلِ، في بَابٍ خاصٍّ في الكُتبِ الفقهيّةِ، أَطلَقَ عليه الفُقَهاءُ عنوانَ (باب المعاملات).
كمَا أنَّ الإسلامَ أضافَ للعملِ بعداً فلسفيّاً، مِنْ خلالِ نتيجَةِ العَمَلِ وانعكاسِ فائِدَتِهِ على المجتمع، فقال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). وكذلكَ أضَافَ الإسلامُ للعملِ بعداً تعبُدِيّاً، فقد ورد في الحديث الشريف: (الكَادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله).
ومثلمَا الإسلامُ قدّسَ العَملَ، فإنّهُ احترمَ اليَدَ العاملةِ وضَمِنَ حقّها. وبذلك يكونُ الإسلامُ قد دافعَ عن الطبقةِ العاملةِ، قبلَ أنْ يُدافعَ عنها (كارل ماركس)، بحدودِ ألفٍ ومائتين سنة. فنظرةُ الإسلام تنطلقُ، من كوّنِ العامل هو المصدر الرئيس، في تحويلِ مواردِ الطبيعةِ الأوليّةِ مثل المواد الخامّ، لتَصبحَ هذه الموادُّ البسيطةُ منتجات نافعة، تُلبي حاجةَ الافرادِ والمجتمعات. وبما أنّ الإنسانَ يمثلُ خطَّ استخلافِ الخالقِ تعالى في الأرض، (... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...). فَلا بُدَّ أنْ يكونَ عملُ الإنسانِ وجهدِهِ مُحتَرَماً ومُقدّراً، بشرطِ مُسايرَتِهِ لخطِّ شريعةِ الإسلامِ المجيد. فهذا الخليفَةُ يجبُ عدمُ ابتزازَهُ عن طريقِ استغلالِ حاجَتِهِ الحيَاتيّةِ، وعوَزِهِ في جانبٍ معيّنٍ. فعنِ الإمامِ الصّادق(ع)، في مَعْرِضِ ضَمان حقّ العاملِ الأجير قال: (لا يَجفُ عرَقُهُ حتّى تُعطيهِ أجرتَهُ).
كمَا حرّمَ الإسلامُ استغلالَ العاملِ (فلا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلام). وهذه القاعِدَةُ الفقهيّةُ الّتي وَضعَها الإسلامُ، لَمْ تَصلْ إليّها نظريّةُ الإقتصادِ الحرّ، التي تَعتَبِرُ العامِلَ سِلعةً خاضعةً لقانونِ التنافُسِ، بيّنَ المعروضِ والفائضِ مِنْها، في العمليّةِ الانتاجيّة.
(وقد بلغ من هدر الكرامة الإنسانية، نتيجة لهذه الحرية الرأسمالية أن بات الإنسان نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهن هذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور.... إذ قامت دول عديدة كبريطانيا وفرنسا وهولندة وغيرها باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الإفريقية، ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية، التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وبقيت هذه الفظائع ترتكب إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت بريطانيا خلاله بحملة واسعة النطاق ضدها حتى استطاعت ابرام معاهدات دولية تستنكر الاتجار في الرقيق، ولكن هذه المحاولة نفسها كانت تحمل الطابع الرأسمالي، ولم تصدر عن إيمان روحي بالقيم الخلقية والمعنوية، بدليل أن بريطانيا التي أقامت الدنيا في سبيل وضع حد لأعمال القرصنة ، استبدلتها باسلوب آخر من الاستعباد المبطن، إذ أرسلت أسطولها الضخم إلى سواحل أفريقية، لمراقبة التجارة المحرمة من أجل القضاء عليها. أي والله هكذا زعمت، من أجل القضاء عليها. ولكنها مهدت بذلك إلى احتلال مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية، وبدأت عملية الاستعباد تجري في القارة نفسها، تحت شعار الاستعمار، بدلاً عن أسواق أوروبا التجارية ! !)(اقتصادنا/ السيد محمد باقر الصدر/ ص 264).
الإنسانُ، ذلكَ الكائِنُ العاقِلُ، الذي غَيّرَ بجُهدِهِ العقليّ وجُهدِهِ البَدنِيّ، مَعالِمَ الكَوّنِ وصُورَة العالمِ. ومِن المعروفِ أنَّ عوامِلَ بنَاءِ الحَضَارةِ الإنسانيّة، تعتمدُ على منظومةٍ، تتكوَنُ مِن ثلاثةِ عناصر، (الإنسان والعقيدة والطبيعة). فاذا كانَ الإنسانُ بمستوىً فكريٍّ ناضجٍ، فإنّهُ بذلك يؤكدُ انسانيتَهُ. وإذا كانَ الإنسانُ يؤمِنُ بفكرٍ صالحٍ مُنتِجٍ، يريدُ تحقيقَ السعادةِ لنفسهِ وللآخرين. ويتحرّكُ في إطارِ نظريّةٍ عقائديّةٍ، تُؤمِنُ بأنَّ وجودَهُ هَدَفِيّاً، يرتبطُ بغايَةٍ معيّنةٍ، ومحكوم بمنهجٍ لا يؤمنُ بالعبثيّةِ والفَوضَويّة. إضَافةً إلى تَوفّرِ العوامِلِ الماديّةِ الموجودةِ في الطّبيعةِ، والّتي يَتمَكّنُ مِن استثمارِها، بطريقةٍ صَحيحَةٍ. فإنَّ هذا النموذجَ الإنسانيّ، بالتّأكيدِ سيتمكّنُ مِن صُنعِ حضَارةٍ مُتطوّرةٍ. كمَا أنَّ وجودَ أيِّ خللٍ، في أيّ جزءٍ، مِن عناصرِ منظومَةِ البِناءِ الحضاريّ الثلاثة، سيحصلُ خللٌ مّا في بنائِهِ الحضَاريّ.
فإذا كانَ الإنسانُ، لا يعي دورهُ في الحياةِ، فإنّهُ يفشلُ في صناعةِ مستقبلٍ مزدهرٍ لهُ في هذا العَالم. وكلّمَا كانَ الإنسانُ متوازناً، في عناصرِ إنسانيّتهِ الماديّةِ والمعنويّةِ، فإنّهُ يكونُ أكثرَ دقّةٍ في اختيارِ أهدافهِ الصّحيحَةِ، في صِنَاعةِ الحيَاة. وكلّمَا كانَ الإنسانُ يُؤمنُ بعقيدَةٍ صالحةٍ، تُؤسِسُ لهُ مصدراً فكرياً يقودُ توجهاتِهِ في الحَياةِ، يكونُ أكثرَ رقيّاً ونفعاً.
مِنْ وجهةِ نظَري، يجبُ الوقوفُ والتأمّلُ عندَ الجانبِ العقائدي، أكثرَ من العنصريّنِ الآخريّنِ المُنتِجَيّنِ للحضَارةِ الإنسانيّةِ (الإنسان والطبيعة). لأنَّ ذلكيّنَ العنصرين، إذا مَا حَصَلَ فيهِما خلَلٌ، يكونُ ضرَرهُ على الإنسانِ والمُجتمعِ، أقلَّ مِن ضَرَرِ العنصرِ المُعتقديّ (إذا كان فاسداً)، على حياةِ الإنسانِ والمجموع. فمثلاً عندَ عدمِ تنشيط الإنسان لإمكانيّاته الذاتيّة، فإنّهُ سيبقى أسيراً داخلَ أسوارِ البدائيّةِ. وكذلكَ لو أنَّ الإنسانَ، أهملَ استثمارَ الطبيعةِ، فإنّهُ سيعيشُ حالةَ الفَقرِ والعَوَزِ المَادّيّ.
لَكنْ المعضلةَ الكُبرى، تكمنُ في العاملِ العقائِديّ. الّذي يشكّلُ المسارات الفكريّة، التي تسيطرُ على الجانبِ السلوكيّ للإنسان. وبموجبِ العاملِ السِلوكيّ، تَتَحدَّدُ علاقةُ الإنسان بالآخر. وهذا الآخر، قد يكونُ إنساناً أو غير إنسان، (كتعاملِ إنسانٍ مّا، مع البيئةِ أو الطبيعةِ بصورة جيّدةٍ أو سيئةٍ). وخيرُ مصداقٍ على ذلك، الحروبُ الطاحنةُ التي خاضَتها البشريّة على مرّ تاريخها، والتي كانَتْ أكثرُها مَرارةً وألمَاً، الحرب العالميّة الأولى، التي قُتِلَ فيها ثمانِيَةُ ملايينَ ونصفَ، إنسان. وقيامُ تُركيَا بإبادَةِ مليونٍ ونصفِ مليونِ، أرمني. أمّا الحربُ العالميّةُ الثانيةُ، فذهبَ ضحيتُها ستّينَ مليونَ إنسان، واختتمت جرائمَها الإنسانيّة، يقيام أمريكا بقصّف مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، بقنبلتينِ ذريّتين.
وما يشهدهُ العالمُ الإسلاميّ الآنْ، مِن أعمالِ إبادةٍ جماعيّةٍ همجيّةٍ، يقومُ بها الارهابيّون، أصحابَ العقيدةِ التكفيريّةِ الفاسدةِ. ما هو إلاّ انعكاس للفكرِ المُنحرف، الذي يؤمنُ به الارهابيون. ومِن هنا أصبَحتْ العقيدةُ والفكرُ، هما الموجّهين والمسيطرين، على عملِ الإنسان. فأصبحَ عنّصرُ العمل هو الجانب التنفيذي للعقيدة، الّتي يَتبناها ويُؤمنُ بها إنسانٌ معيّن. ومِن هنا يَصِحُ أنْ يكونَ العملُ، هو الترجمةَ الواقعيةَ، لأفكارِ الإنسانِ وما يؤمنُ به، مِن قيمٍ صالحةٍ أو فاسدةٍ.
فأصبحَ العَملُ هويّةً، تفصحُ عن ذاتِ الإنسانِ ومكنوناتهِ السلوكيّةِ والنفسيّةِ. وكذلك، أصبحَ العملُ يصنِّفُ الإنسانَ، ويميّزَهُ عن غَيره. فنقولُ هذا إنسانٌ صَالحُ لانّه يعملُ الاعمالَ الصّالحةِ، والعكس صحيح أيضاً.
كما أنّ العملَ أصبحَ هويّةً ثقافيةً للإنسانِ، فمِنْ خلالِ نشاطهِ العمليّ، داخل المُجتمع. نستطيعُ أنْ نحكمَ على المستوى الثقافيّ، لذلكَ الإنسان نضجاً أو تخلّفاً، لأنّ العملَ يعدُّ أحدَ الأجزاءِ المكوّنةِ للثقافةِ، في أيّ مجتمعٍ كانْ.