بين ثقافة السلام وثقافة الحرب
طارق حجي
منذُ ثلاثة عقود سنة إختارت مصرُ أن تهجر طريق الحرب وإختارت طريق السلام ورغم أن معظم الدول المنغمسة في الصراع العربي الإسرائيلي قد عارضت هذا الإختيار وقتئذٍ الإ أنه اليوم الإختيار الوحيد لجل المنغمسين بشكلٍ مباشرٍ في هذا الصراع (يإستثاء قلة تعيش فى أوهام القرون الوسطيوالنصر الإلهي) . ورغم أن هذا كان إختيارُ مصرَ الإ أن البعض ظل محتفظاً بروح ثقافة الحرب وفي أفضل الأحوال بروح ثقافة الهدنة دون أن تتدخل أجهزة الإعلام والثقافة الرسمية (والمفروض أنها تنتمي لثقافة السلام لا لثقافة الحرب أو لثقافة الهدنة ؛ إذ أن البديهة تقول بأن المثقفين لا يمكن إلا وأن يكونوا فى طليعة دعاة ثقافة السلام) وهو ما يسمح بإرتفاعِ نبراتٍ في وسائل إعلامنا الرسمية تتحدثُ عن الصراع العربي الإسرائيلي بلغةِ ولهجةِ ونبرةِ " ثقافةِ الحرب " وتعملُ على إشعال المشاعر العامة في هذا الإتجاه . ومن أفضلِ ما طالعتُ منذ سنوات في وصفِ هذه الظاهرة التي يمكن أن تجلب لنا مستقبلاً مترعاً بالخرابِ والدمار مقال الدكتور صلاح عيد (هل هناك أمل ؟) المنشور بجريدة الأخبار في 25/10/99 حيث وصف بمنتهى الوضوح والحكمة هذا التيار الإعلامي والثقافي المتنامي والذي – حسب نص كلماته – (يدعونا بكل صراحةٍ ووضوحٍ إلى مواصلة الحرب والإنتقام والصراع وبوسائلٍ تصويرية وموسيقية هدفها إلهاب مشاعر المصريين ودفعهم إلى توجيه جهودهم إلى الإنتقام والصراع من جديد) . وأنا لا أهتمُ كثيراً بوجودِ مثل هذا التيار في بعض صحف المعارضة ، لأنه من الطبيعي في مجتمعٍ واسعٍ مثل مجتمعنا أن تُوجد آراء مختلفة بما في ذلك الآراء المتسمة بالشطط ومجافاة حقائق الزمن والهجرة للماضي سواءً كان عمرُ الهجرة أربعين سنة أو 14 قرناً . ولكن الذي يعنيني (وأشارك في ذلك الدكتور صلاح عيد) أن يُوجد هذا التيار المخالف للتوجه الأساسي للدولة منذ ثلاثين سنة في وسائل الإعلام المنبثقة عن الدولة والتي كان من المنتظر أن تكون واعيةً بأن هناك مفردات لثقافة السلام ومفردات غيرها لثقافة الحرب ومفردات ثالثة لثقافة الهدنة وأن واجبها كان ولا يزال أن تعمل على نشر وتدعيم وتعميق وتأصيل ثقافة السلام إنطلاقاً من الاقتناع بأن ثقافة الحرب (وبدرجةٍ أقل : ثقافة الهدنة) سوف توجه جهودنا إلى غاياتٍ غير الغايات الأساسية لنا وهي الازدهار والبناء وخلق مجتمعٍ قوي في الداخل بما يسمح له بالتعامل مع أي صراعٍ خارجي تعاملاً مجدياً وفعّالاً وبأدواتِ الحضارةِ التي يستعملها الناجحون لا بأدواتِ البداوة الفكرية التي يستعملها الذين أدمنوا الفشل ويريدون لنا أن نبقى لقرونٍ أسرى لثنائية الحرب والهزيمة (حسب تعبير الأستاذ أمين المهدي في كتابه العميق عن الصراع العربي الإسرائيلي) .
ولا شك عندي أن ثقافةَ السلامِ وما تخلقه من عقلٍ يتعامل مع الصراعاتِ الخارجيةِ تعاملاً فعّالاً هي مهمةٌ أكثر تعقيداً وصعوبة من التمادي في تيارِ ثقافةِ الحرب ، فالأول يقتضي تخطيط وجهدٍ منظم علمي وثقافي وتراكمات للبناء بينما لا يقتضي تيارُ ثقافةِ الحربِ الإ إطلاق العنان للحناجرِ وثقافة الكلام الكبير وكأننا هنا نقارن نموذج يشبه قصةِ نجاح أحمد زويل (وغيره من المصريين أصحاب النجاح العالمي) بقصصِ أصحاب الحناجر المدوية في إذاعتنا في الماضي القريب – فلا شك أن الأسهلَ والأبسطَ هو التمادي في ثقافةِ الصراخِ والعويلِ وكيِل التهمِ للآخرين والإيمان المطلق بأننا ضحايا مؤامرةٍ كبرى وأن الأصعب هو أن نخوض اللعبة بأدواتِ العصرِ والعلمِ والتعليمِ والثقافةِ والصراعِ الحضاري .
إن الدولةَ الحكيمةَ والعاقلةَ والمتزنةَ التي إختارت طريق السلام وواصلت التمسك به حتى الآن كخيارٍ إستراتيجيٍ مصيري أكثر حكمة ونفعاً لمجتمعنا مطالبةً (بمنطقِ الحكمةِ والإتزانِ الذي إختارته) ألإَّ تسمحَ لثعالبِ الهدم بأن تواصل إنتشارها ونشرها لضجيجها الهدّام ومن خلالِ وسائل إعلامِ الدولةِ التي إختارت طريقَ السلام بثقافته وطرحت جانباً ثقافتي الحرب والهدنة . ويجب علينا في هذا المجال أن نؤمن أن الشعوبَ مثل البشر قد يكون بعض أبناءها (في مرحلةٍ معينةٍ) مثل الشباب في سن ما بين العشرة والعشرين يميلون بطبيعتهم وطبيعة مرحلةِ العمرِ وقدر الفكر والثقافة والتجربة لإمتطاء جواد الشطط والجموح والجنوح وإستعمالِ كلماتٍ كبيرةٍ لا هي من جهة ترجمة صحيحة للواقع ولا هي من جهة أخرى قادرة على تحقيق أي خير مرتجى ، بل أنها قادرةٌ على جلبِ الخرابِ والدمارِ وإهدارِ الطاقاتِ على كافةِ المستوياتِ . وإذا كان ذلك كذلك ، فالمنطقُ يحّتم علينا أن نواصل توعية المجتمع بما جره علينا عهدُ الشعارات العاطفية الكبيرة وما جلبه لنا من وهنٍ اقتصادي وحضاري وما تلى ذلك من فتحِ النوافذِ أمام تياراتٍ فكريةٍ مهترئة لكي تدخل وتعرض نفسها علينا بصفتها " الحل " الكامل الشامل لمعضلاتِ الواقع ... وعلينا أن نبذل قصارى الجهد لتوضيح الفارق المهول بين إنجازاتِ الستيناتِ " الكلامية " وإنجازات الواقع " الحقيقية" – وإن كل ما أُنجز على مستوى البنية التحتية وإصلاحاتٍ عديدةٍ في البناءِ الاقتصادي المهترىء هو من نتاج نبذِ ثقافةِ الحربِ والتي كانت تقتضي توجيه كل الطاقاتِ لمجالاتٍ لا تعود على المجتمع بأية فائدةٍ بل كانت دوماً تعود عليه بحياة سياسية خالية من أية حريات أو ديموقراطية وبحياة اقتصادية مهترئة ومخربة وبحياةٍ اجتماعيةٍ ينفذ منها شياطينُ الظلام داعين لفكر لن يزيدنا الإَّ بعداً عن الإستقرار والإزدهار .
ومن المهم للغاية أن أبرز هنا أن الثمن سيكونُ فادحاً لإستمرار هذه الإزدواجية : فإختيار الدولة الرسمي والحقيقي والمُعلن هو للسلام بما يعنيه ذلك من روحٍ مختلفة عن الروح المنبثقة من ثقافة الحرب وجهودٍ لكي نكون مثل فرنسا وألمانيا بعد 1945 وبين وجود تيار يمثل ويجسد ثقافة الحرب ضمن وسائل الإعلام الرسمية المملوكة للدولة إذ نصبح هنا مثل عربة يجرها حصانان في إتجاهين مختلفين . ولا شك أنه من حق البعض أن يؤمن بمفردات وروح ثقافة الحرب وأن من حق البعض الآخر أن يؤمن بروح ومفردات ثقافة السلام الإّ أنه ليس من حق أحد أن يوافق على تلك الخلطة المدمرة بين توجه رسمي للدولة صوب السلام كإختيارٍ إستراتيجي ونهرٍ من الإعلام يهدر بمفردات ثقافة الحرب من خلال مؤسسات تتبع الدولة التي ترفع بحقٍ وإيمان وحكمة وإتزان راية إختيار السلام كمسارٍ إستراتيجي . *** كتبت هذا المقال منذ سنوات ؛ ولكنه يبقي صالحا للنشر ولإعادة النشر فى مصر وفى سائر الدول الناطقة بالعربية والتى لا تزال الطموحات السياسية لجل أبناء وبنات مجتمعاتها مشوبة بخلطة من التخلف والقبلية القرون أوسطية والتكوين الثقافي المترع بالرجعية والخضوع لطبقة رجال دين هم مرآة للجهالة معرفيا والتخلف حضاريا والعزلة المطلقة عن ركب العلم والتمدن والثقافة الإنسانية المعاصرة - طارق حجي.