هل هي مداولة الأيّام بين النّاس والشّعوب والأمم، أم غياب الإرادة؟

في سنة 1959 حين إصدار تونس لدستورها بعد الاستقلال؛ الذي كان مدنيّا حضاريّا قياسا بزمانه، لم تكن أغلب دول الخليج موجودة أو أنّها غارقة في التخلّف موغلة في البداوة مستسلمة لما تعتبره قدرا محتوما محرّم تغييره، حالهم في ذلك حال التّونسيين وفي مقدّمتهم بعض رجال الدّين الذين كفّروا المرحوم الشّابي عندما أعلن صيحته التي ينشدها العالم اليوم "إذا الشّعب يوما أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر".

ما ذكره التّاريخ وما هو مشهود الآن أنّ تقلبّات الزّمن لها أحكامها، فأمم كانت ذليلة مشرّدة مقهورة أصبحت عزيزة موحّدة قاهرة، وأمم كانت موحدة عزيزة غالبة باتت ممزّقة ذليلة مغلوبة، وأمم كانت متقدّمة متحضّرة باتت جاهلة متخلفة، حصل هذا بإرادة الأمم والشّعوب وقياداتها ونخبها، إذ "لا يغيّر [الله] ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.

لم تكن سنة 59 دولة البحرين موجودة لأنّها استقلت عن المملكة المتّحدة سنة 1971، وهي الآن تعدّ 600000 نسمة، لم أكن أتصوّر كتونسي أسبح في غروري أننا أسبق الشّعوب العربيّة والإسلاميّة إلى التحضر والتقدّم والتمدّن وفي ذلك كثير من الحقيقة، إلى أن صدمني الواقع الذي تابعته على "قناة البحرين TV" في برنامج "كلمة أخيرة"، وهي تبث حوارا بعنوان: البحرين عنوان أمثل للتّعايش الإنساني بين الطّوائف والأديان، جمع ممثلين عن الدّيانات الثلاث : اليهوديّة - والنصرانيّة – والبهائيّة، تدير الحوار سيّدة بلباس عصري مكشوفة الرأس على مستوى عال من اللطافة والسّماحة والتحرّر الفكري.

كان الحوار حضاريّا روحانيّا ساميا هادئا وهم على الأرائك ينظرون وقد نزعوا ما في صدورهم من غلّ، يتجلى من خلال كلام الودّ والمحبّة والاحترام، أجمعت شهاداتهم على أنّ التعايش في البحرين بين جميع مكوّنات المجتمع تقوم على القبول الطبيعي للاختلاف وعلى الاحترام الكامل لبعضهم والمشاركة الفعليّة المتبادلة في الأعياد الدينيّة والمآتم إلى درجة حضور المسلمين للصّلاة على أموات النّصارى داخل كنائسهم، في البحرين منحت الدّولة أرضا للبهائيين تم تخصيصها كمقبرة لدفن موتاهم وفق طقوسهم، وهي تسمح للنّصارى بإقامة كنائسهم.

وما زاد من إعجابي هو ما جاء في الفصلين 18 و22 من دستور هذا البلد، من أنّ النّاس سواسية في الكرامة الإنسانيّة دون تمييز للدّين أو العرق أو اللّون، وحريّة الضمير المطلقة انتهى البرنامج في حدود السّاعة التّاسعة من مساء الأمس 08/05/2013.

عدت مباشرة إلى قناتنا الوطنيّة الأولى لأجد برنامج "للناس حكاية" يبث حوارا حول الميز العنصري المسلط على السّود من التونسيين، وتابعته حتّى النّهاية، وكم حزنت وشكرت في ذات الوقت الإعلاميين الصادقين النّزهاء وهم يجتهدون لتعرية سوءاتنا أمام أنظارنا علنا نستحي، ففي الوقت الذي يمنع قانون الحالة المدنيّة على التونسي إسناد اسم غير عربي لمولوده وهو الميز العنصري الفاضح العرقي المقنّن، تسمح البلديّة بترسيم مولود أسود بعنوان "عتيق فولان" وتمّ ذلك في سنة 2001 كما جاء في الحوار.

لم أستوعب ما كنت أتابعه: وكأني بالبرنامج أولا كان برنامجا عن تونس يبث في البحرين والثاني عن البحرين يبث في تونس،

هل حقا تلك كانت البحرين؟

وهل حقا هذه هي تونس؟

عدت مسرعا إلى كلام الله وهو يقول الحق:

"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" وقوله تعالى :

"وتلك الأيام نداولها بين الناس"،

ازداد غمّي وحيرتي وبقي سؤالي:

لماذا يحصل هذا لتونس بعد أن انتشر التعليم وأصبحت المرأة تلعب دورها الفاعل في الحياة العامّة ؟

يحدث هذا في البحرين ولاشك عندي أنه حقيقة، وفي تونس وبعد نصف قرن على دستور 59 تأتينا مسوّدة دستور استبعدت الصفة المدنية وأقرت دينية الدولة، وأقصت غير المسلمين من حقّ الترشح للرئاسة وتصّنفهم بذلك كـ"رعايا" مبدئيا في انتظار الدّستور النّهائي ليكونوا من "أهل الذمّة" عليهم واجبات وليست لهم حقوق، وقد بدأ التّخطيط لإقصائهم من الوظيف بأسلمة المناظرات، في تونس اليوم يمتنع المجلس التأسيسي من دسترة الحقوق الكونيّة للإنسان ومن دسترة حريّة الضمير والمساواة بين الجنسين، وفي تونس اليوم يجري إعداد قانون إقصاء جماعي لجريمة منعدمة في الغالب وغير مثبتة قضائيّا، وكلّ هذا يتمّ بسابقيّة إضمار.

بل في تونس اليوم وعلى مسمع من الكلّ حكومة وشعبا يقوم السيّد محمد علي كيوه وبالصورة التي يقدّم بها نفسه كدكتور وباحث في الأديان وكقاض، يقوم بالتّحريض في قناة الحوار التلفزيّة التي وقعت بحسن نيّة في هذا المحظور، ولم تنتبه إلى خطورة ما يقوله السيد كيوه وهو يحرّض المواطنين ضدّ البهائيين، ويلحق الأذى بتونس.

وما هو أغرب أنه لا وزارة الشؤون الدينيّة ولا وزارة العدل والنيابة العموميّة تحرّكت لتتبّع السيد كيوه جزائيّا بما هو ثابت لا يحتاج إلى شكاية أو شهود، وكم يكون مفيدا للحقيقة أن تكشف وزارة العدل من خلال ملف السيد محمد علي كيوه كيف ومتى أصبح قاضيا ودكتورا وباحثا وشيخ علم، مع أنّ كلّ ذلك ممكن، لأنّ كشف الملف مهم جدا للحقيقة، كما لم يقع منع أو تتبّع بعض السادة الأئمّة وهم يوجّهون الدّعاء بالشرّ في خطب الجمعة على غير المسلمين وجميعهم عالم بأن تونس أهلها ليسوا جميعا مسلمين،

فهل تونس اليوم تحتاج لمزيد من التّدمير لوحدتها ونسيجها الاجتماعي؟

تلك صورة البحرين وهذه صورة تونس، فما هي هذه المداولة العجيبة للأيام بين الناس، خوفي على بلدي وأهلي وأسفي كبير على ما خسرته الأجيال من أرواح وأموال وعرق في بناء تونس العصريّة، لتجد نفسها اليوم أمام هذا الواقع المفزع، وأرجو أن لا يكون ما خفي أعظم وأسأل الله حسن العاقبة وأن يجعل هذا البلد آمناً.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك