سرّ التعايش العربي اليهودي في حيفا ١٩٢٠-١٩٤٨
حسيب شحادة
The Secret of Coexistence: Jews and Arabs in Haifa during the British Mandate in Palestine 1920-1948, Dafna Sharfman (editor), Eli Nachmias, Johhny Mansour. BookSurge 2007, 228 pp. ISBN: 1-4196-7140-5.
يتكون متن الكتاب من ثلاثة فصول متساوية الطول تقريبا: اليهود والعرب في سوق العمل الدينامي بقلم إيلي نحمياس (ص. ١-٦٩)؛ شخصيات، أماكن وأحداث في تاريخ حيفا بقلم المحررة دفنه شارفمان (ص. ٧١-١٢١)؛ عرب حيفا خلال الانتداب البريطاني، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، بقلم جوني منصور (ص. ١٢٣-١٧٩). بقية صفحات الكتاب موزّعة على النحو التالي: مقدمة بقلم رئيس بلدية حيفا، يونه ياهڤ، حيفاوي الأصل، تصدير بقلم البروفيسور يعقوڤ چولدشتاين من جامعة حيفا وتمهيد بقلم المحررة (١٦ ص. غير مرقمة) وخاتمة: التعايش، التاريخ، الميثولوجيا وأمل المستقبل، ٥٢١ ملحوظة ختامية وعشر صور إيضاحية (٤٨ص. ).
يعتقد السيد ياهڤ أن السلام في المنطقة سيحلّ يوما ما وسيكون على طراز السلام الحيفاوي بين اليهود والعرب، إلا أنه لا يوضح بشكل كاف ما يرمي إليه بالضبط. يشكّل العرب في حيفا حوالي ١٢٪ من السكان، ٦٥٪ منهم مسيحيون (روم أرثوذكس، روم كاثوليك، إنجيليون، موارنة، لاتين وأرمن) والباقي مسلمون. هناك ثلاثة أعضاء بلدية عرب من ضمن الواحد والثلاثين عضوا ويشغل أحدهم منصب نائب رئيس. خُمس طلاب جامعة حيفا من العرب و١٦٪ من الأطباء والممرضات في مستشفيات حيفا هم من العرب أيضا، والصورة ذاتها تنسحب بالنسبة لمعلمي المدارس والتجّار وأصحاب الدكاكين. ويصف ياهڤ مدينته ، ثالث أكبر مدينة في البلاد، قائلا “إنها جزيرة من التعقّل في محيط عاصف”، أما بنيامين زئيڤ هرتصل (١٨٦٠-١٩٠٤) فدعاها “مدينة العجائب” والكاتب يورام ملتسر أطلق عليها اسم “مدينة الجواسيس” ويوسيف كلاوزنر سماها “مدينة مسيحية ألمانية”. أقام حيفا سكان البلاد العرب واليهود لا سيما في غضون الانتداب البريطاني ١٩٢٠-١٩٤٨. وفي المدينة جبل الكرمل وهو مكان مقدس لليهود والمسيحيين والمسلمين والبهائيين.
السيد نحمياس في مقالته الشاملة يناقش لحد ما مفهوم التعايش المذكور أكان حقيقة واقعة أم مجرد أسطورة، ويخلص إلى القول إن تعاونا محدودا، وفي بعض المجالات فقط، كان قائما بين عرب حيفا ويهودها. يأتي الكاتب الذي يعرّج على محطات تاريخية مختلفة على ضوء أبحاث كثيرة ومائتي سجلّ بلدي، بعينة ضافية من ذكريات وتجارب وآراء لدى عرب ويهود حيفاويين. منها مثلا أن بعض اليهوديات اللواتي كن يحصلن على الأرز من الباعة المتجولين العرب مقايضة بالسكر كن يتكلمن لغة عربية بسيطة في حين أن أولائك الباعة كانوا على دراية جيدة بالإيدش (خليط من العبرية والألمانية في القرون الوسطى). وهناك من ادّعى أن الصلات التي ربطت أبناء الشعبين كانت في جلّها إن وجدت اقتصادية، إذ أن حيفا في عام ١٩٢٨ اعتبرت المركز الاقتصادي الأساسي في البلاد. وانخرط آلاف من العرب في أعمال مختلفة مثل داخل معسكرات الجيش، سكة حديد الانتداب البريطاني، الميناء، البلدية، شركات النفط ومعامل تكريره (الريفينري). ويذكر أن حيفا كانت آنذاك حديثة العهد وصغيرة ولم تكن تحت نفوذ أية عائلات قديمة. ويبدو أن المصطلح “التعايش” قد اشتق في عشرينيات القرن العشرين. ويذكر الكاتب أسماء بعض الأسر العربية الحيفاوية المعروفة مثل: خليل وشكري (حسن بك شكري كان رئيس البلدية، ١٩٢٧-١٩٤٠، واعتبرته حركة التحرير العربية الوطنية خائنا لأنه أصبح رئيسا بأصوات اليهود وقيل عنه أيضا: حسن بك يا ديّوس.. بعت الوطن بالفلوس) وطه والحاج (عبد الرحمن الحاج كان رئيس البلدية، ١٩٢٠-١٩٢٧) والماضي وصهيون وخياط وتوما وخوري والبستاني ونصار، وفي الطرف اليهودي يمكن ذكر: رئوڤين أهروني، يكوتيئيل بهاراڤ، داڤيد بار راڤ هاي، تيريزا ماتر، يعقوڤ كاسپي.
ويورد الكاتب أيضا هذه الإحصاءات على ضوء معطيات عام ١٩٢٢ بالنسبة لنسبة الموظفين في البلاد: ٤٥٪ مسيحيون، حوالي ٢٠٪ يهود وقرابة ٢٥٪ مسلمون. وفي مجال العمل العادي غير المحترف نلاحظ أن نسبة المسلمين قد وصلت ٧٠٪ تقريبا والباقي من المسيحيين واليهود. ويذكر أن العلاقات المتبادلة بين العرب واليهود في حيفا كانت مختلفة عما كان عليه الوضع في مدن مختلطة أخرى. وقد نعتت مصادر البحث التي أجريت بعد عام ١٩٤٨ تلك العلاقات المتبادلة أنها “تعايش” ويذهب نحمياس إلى أن هذا النعت “خداع” إذ أنه متعدد المعاني وكان بالأساس تكتيكيا. يبدو أن التعايش المذكور منصب على ما حصل من تعاون اقتصادي بين النخبة في كلا الطرفين، لا سيما على المستوى الرفيع في بلدية حيفا، وأضف إلى ذلك طبيعة حيفا من حيث تعدد الأجناس والملل: أتراك وأرمن وألمان وطليان وفرس بهائيون وفرنسيون ومالطيون ويونانيون. ومثل هذه العلاقات المتبادلة تجسدت في مجالات عدة : في البلدية وإدارتها والمستشفيات والمحاكم والمكاتب الحكومية الانتدابية. ولعبت البلدية دور بلورة المصالح الاقتصادية بين صفوة الشعبين العربي واليهودي، والفجوة بين تلك الصفوة والسواد الأعظم تعمقت واتسعت (أنظر أطروحة الدكتوراة لتمير چورن: بلدية مشتركة في مدينة مختلطة، بالعبرية، حيفا ٢٠٠٠) . بعبارة موجزة يمكن القول إن لب التعايش المذكور معناه العيش معا أو الواحد بجانب الآخر كما هي الحال لحدّ ما في المدن المختلطة راهنا. والجدير بالذكر أن المصادر العربية الفلسطينية لا تذكر مفهوم “التعايش” مطلقا وتعتبر ما كان قائما من صلات بين العرب واليهود انبثق كضرورة حتمية وتكافل لتسيير مجرى الحياة بشكل عام.
الدكتورة شارفمان في مقالتها المثيرة للاهتمام تصف بإسهاب ما مجالاتٍ عدة كالسياحة والهجرة والمواصلات والشوارع والفنادق والمطاعم والحياة الثقافية والترفيهية ومكانة المرأة في المجتمع العربي. كما وتتطرق المحررة إلى تفاصيلَ كثيرة حول شخصيات عربية ويهودية حيفاوية والحياة اليومية لكافة سكان المدينة وبعض الذكريات والأحداث. مستشفيات المدينة كانت جميعها أجنبية، ألمانية وإنجليزية ويهودية. وتزعم الكاتبة أن العلاقات بين اليهود والعرب في بداية الانتداب كانت متوترة ولكنها لم تصل إلى درجة التوتر التي كانت قائمة بين المسيحيين والمسلمين. وروح العداء تجسدت بشتى أنماط العنف والاغتيالات، وحصل المسلمون، وفق ما تدعي الكاتبة، على تعاطف السلطات إذ كان العقاب في معظم الحالات بسيطا هذا إذا كان هناك قصاص بالمرة (عكس ما جاء لاحقا في مقالة الدكتور ج. منصور). ربطت المسلمين واليهود الشرقيين عامة علاقاتٌ طيبة إذ أن ديانتيهما تحرّمان تناول لحم الخنزير؛ وقد سكن معظم اليهود في منطقة ما سمي بـ“أرض اليهود” وعلى هدار الكرمل والعرب في البلدة القديمة بصورة عامة.
أنشئت محطة القطار الحيفاوية قي نهاية عام ١٩١٨ لربطها بمصر وسوريا وكانت الرحلة إلى دمشق تستغرق ١٢ ساعة. ويذكر أن الاتصال الهاتفي دخل حيفا في ثلاثينيات القرن العشرين وتوفّر آنذاك هاتف عمومي يتيم بجانب مركز البريد في شارع هِحلوتس (الطليعيّ). آذان الشرطة الساهرة كانت تسمع ما يحمله الأثير وينقله من جانب إلى آخر. وإثر افتتاح مرفأ حيفا في أواخر عام ١٩٣٣ نشطت حركة السياحة والهجرة. وفي العام ١٩٣٥ بلغ عدد السواح الذين زاروا فلسطين تسعين ألفا تقريبا.
ومن الفنادق التي عملت في عشرينيات القرن العشرين فصاعدا يمكن التنويه بهرتصيليا وساڤوي وصهيون وعلِيا وستراند وويندسور وقصر الكرمل وبودنهايمر وميجدو، ويلاحظ عدم وجود فنادق عربية. كما وكانت في المدينة دور سينما كثيرة، أهمها وأوسعها سينما أرمون (القصر) التي شهدت أحداثا ثقافية ذات أهمية تاريخية مثل إجراء الأوركسترا الفلهارمونية “الأرضإسرائيلية” لحفلاتها الموسيقية الأولى بقيادة توسكانيني في أواخر العام ١٩٣٦.
تطورت وسائط النقل من العربات أي الحناطير التي سيرها العربنجي إلى الحافلات إلى سيارات الأجرة وفي ساحة الخمرة (اسم أسرة حيفاوية وللدكتور ماجد الخمرة كتاب ومضات من حيفا) أي ساحة العربات (ساحة باريس اليوم) تواجدت محطة حيفا المركزية. وكانت تلك العربات التي كان يجرّها حصانان أو حصان واحد تتسع لخمسة ركّاب. ويُشار إلى أن أول خطّ باصات ربط هدار الكرمل بالمدينة دُشّن عام ١٩٢٥ بعد تعبيد شارع البرج. وفي تلك السنين انبثقت أكثر من خمس شركات للحافلات مثل عائلة الخياط. وكانت لعائلة وايزمن صلات مع علية العرب في حيفا أمثال حسن شكري، رئيس البلدية، وعائلة تلحمي الكاثوليكية من عسفيا. وكان للمطرانية في حيفا منذ عشرينيات القرن العشرين دور هام في تأسيس العديد من الجمعيات التطوعية الرياضية والكشفية ومنظمة النساء الخيرية. وفي عام ١٩٣٧ أسس ناد ثقافي مشترك للمسيحيين والمسلمين وبعد ذلك ببضع سنوات أضحت النوادي العربية الأرتوذكسية تشكل مركز الثقافة في المدينة وجذبت إليها مسيحيين من كل الطوائف.
وضع المرأة العربية في حيفا كان مركّبا وحسّاسا، لا اختلاط بين الجنسين في المجتمع الإسلامي حتى في نطاق العائلة. تضيف الكاتبة قائلة إن قلة فقط من الأزواج المسلمة كانت تزور سرّا المندوب السامي أو تتناول الطعام مع أصدقاء بريطانيين ولكن ليس مع أقارب أو أصدقاء أو معارف من المسلمين. وادّعت قيادة المسلمين في القدس أن الحجاب كان مطلوبا كدفاع ثقافي وتوضيح على أن القادة العرب لا يخشون الضغط الصهيوني. وتضيف الكاتبة دون الإشارة إلى مصدر أن بعض النساء المسلمات غير المحجبات ظهرن مرتين عام ١٩٢٩ وعام ١٩٣٤ لدى المندوب السامي بغية الاحتجاج على سياسة حكومة بريطانيا المؤازرة للصهيونية. في عام ١٩٢٨ ألّفت “جمعية الشبان المسلمين” مجموعةَ قوانين لضبط سلوك المرأة المسلمة، منها عدم التجمّل والتزيّن والظهور على الملأ وهذا يشمل عدم الظهور بالشعر القصير والكعب العالي والرأس والوجه والعنق غير المغطاة. كما وكان على المرأة عدم مغادرة المنزل دون حاجة حتى من أجل التسوّق. وفي عام ١٩٤٤ كانت بعض المجموعات المحافظة تبعث أولادها إلى الشوارع لإلقاء الأوساخ على ملابس فاخرة وعلى الطراز الحديث كانت بعض النسوة المسلمات يرتدين.
ويذكر أن المسؤولين الرسميين البريطانيين مُنعوا من مصادقة المحليين إلا أن الكثيرين منهم تلقوا دعوات من العرب ومن اليهود لأمسيات موسيقية وثقافية. والبريطانيون كانوا مولعين بإقامة روابط الصداقة مع الأثرياء العرب ليحظوا بالضيافة الفخمة والاستقبال الملوكي، وبالمقابل دأب البريطانيون على دعوة العرب إلى نواديهم المغلقة (كأنه وحده بوحده، وشتان ما بينهما). حالة التفاعل، الاقتصادي في الغالب الأعمّ، بين أطياف سكان حيفا شابها أحيانا التوتر، مثلا أثناء الاضطرابات في سنتي ١٩٢١ و١٩٢٩ ولكن وحتى في تلك الأحوال التي تخللتها صراعات مسلحة بين العرب واليهود والبريطانيين كانت هناك أيضا صداقات بينهم. ويذكر أن العرب المسيحيين واليهود في المدينة امتنعوا عن التدخين في شهر رمضان احتراما للمسلمين. وكما قال ريتشارد چروسمان الحصول على الثروة والمال جمع الجميع، يهودا وعربا. وتختتم الكاتبة مساهمتها بالإشارة إلى بداية الصراع القومي بين العرب واليهود عند اقتراب انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين.
في المقالة الثالثة والأخيرة يتحدث الدكتور جوني منصور عن تركيبة الجمهور العربي الحيفاوي ونموه ونشاطاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتحوّله إلى مجتمع عصري ذاكرا الكثير من أسماء الشخصيات والمؤسسات. قطن السكان العرب الحيفاويون، الأكثرية في المدينة، في المستطيل الممتد شرقا من محطة القطار إلى حدود المستعمرة الألمانية غربا، المسلمون في الشرق والمسيحيون في الغرب. وفي حيي النسناس (سكان وادي النسناس كانوا مسيحيين حتى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي) وعباس سكن الأثرياء العرب. ومن جهة أخرى سكن اليهود في مناطق جبل الكرمل وبعض سفوحه وفي أرض اليهود وأرض الرمل. شكل العرب عام ١٩٢٢ ٧٥٪ من أهالي حيفا، ١٨٢٤٠ نسمة، وأخذت تلك النسبة بالهبوط تدريجيا إلى عام ١٩٣٥ حيث وصلت النسبة إلى ٦٦٪، ٣٧٣٠٦ نسمة، والهبوط الحاد جرى سنة ١٩٤٤ إذ وصلت نسبة العرب إلى ٤٦٪، ٦٢٨٠٠ عربي وفي عام ١٩٤٧ كان عدد العرب ٧٠ ألفا وفي تشرين الثاني من العام ١٩٤٨ أصبح العدد أقل من ثلاثة آلاف. شهدت حيفا في سنوات الانتداب موجات من الهجرة متتالية من كلا الطرفين، لدى العرب من قرى الجليل والسامرة في معظمها وعند اليهود قدم المهاجرون من وراء البحر. دوافع النزوح العربي كانت اقتصادية، السعي وراء لقمة العيش في حين أن الهجرة اليهودية جاءت لاعتبارات سياسية صهيونية ونتيجة لأوضاع اليهود الصعبة في الغرب. لا مجال للمقارنة بين هذين النوعين من النزوح السكاني لا كما ولا كيفا.
بعد هذه الفذلكة يستعرض الكاتب باقتضاب المؤسسات الدينية الحيفاوية، الإسلامية والمسيحية. وهذه عينة من أسماء الجوامع: الجامع الصغير أو جامع النصر وهو الأقدم إذ يعود تاريخ بنائه إلى العام ١٧٦١ من قبل ظاهر العمر، الجامع الكبير، جامع الاستقلال وحوله مقبرة، جامع الجرينة، جامع حاج عبدالله، مغارة الخضر وهي مقدسة للديانات الثلاث، (أنظر الآن: أطروحة الماجستير: أوقاف قضاء حيفا خلال فترة الانتداب البريطاني ١٩٢٢- ١٩٤٨، دراسة وثائقية، إعداد راضي أحمد ذيب فشافشه، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، نابلس ٢٠١٠، ٢١٢ ص.، متوفرة على الشبكة العنكبوتية). ثم يعدّد الكاتب مؤسسات دينية مسيحية وفق الطوائف وجلّها ما زال حيا يُرزق حتى اليوم، منها كاثدرائية سيدتنا، كنيسة مار إلياس، كنيسة الملاك جبرائيل، كنيسة القديس لويس، كنيسة العذراء مريم، الكنيسة الأرمنية، كنيسة القديس يوحنا. والجدير بالذكر أن أديرة ومدارس كانت ملحقة لتلك الكنائس.
انقسم نظام التعليم إلى قسمين، حكومي وخاص. ويُذكر أن عدد المدارس في حيفا في نهاية الحكم العثماني كان ثلاث مدارس حكومية ابتدائية مهلهلة تعلّم فيها ٤٢ طالبا، أما عدد المدارس الخاصة من فرنسية وألمانية وإنجليزية وروسية فوصل إلى ثمان درس فيها قرابة ٥٥٠ طالبا، وصلت فيها نسبة البنات إلى أقل من ٦٪. وفي هذا السياق نشير إلى أن أول مدرسة حكومية حيفاوية كانت قد أقيمت عام ١٨٨٩. ومن المدارس حسنة الصيت يمكن تسمية الوحدة والبرج والوداد ومدرسة أقامها نبيه ثابت (لا ذكر لاسمها!ص. ١٣٦-١٣٧) والمدرسة الأسقفية الكاثوليكية ومدرسة الفرير التي أسست عام ١٨٨٤.
وفي المجال الصحفي لعبت حيفا دورا محوريا في البلاد لمقاومة الهجرات اليهودية ونشاطات الحركة الصهيونية الاستطيانية، ومن تلك الصحف والمجلات نذكر: النفائس، مجلة أدبية ومحررها خليل بيدس؛ الكرمل لنجيب نصار، شيخ الصحافة الفلسطينية؛ المحبة الأرثوذكسية لمحررها فضل الله فارس أبو حلقة وقد كانت تدافع عن حق الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ حيفا ومحررها إيليا زكّا؛ الزهرة ومحررها جميل البحري فأخوه حنا؛ الزبور لمؤسسها ومحررها جميل البحري؛ آخر ساعة ومحرراها يوسف عازر سلوم وأنس خمرة؛ الرابطة؛ الاتحاد ومحررها إيميل توما. ومن المعروف أن الثورة الكبرى التي اندلعت عام ١٩٣٦ وحتى ١٩٣٩ كانت على خلفية سياسية اقتصادية والسماح بهجرة اليهود إلى البلاد. ويذكر أن هذا الموضوع المفصلي في تاريخ البلاد الحديث لم يحظ بما يليق به ويستحقه من عرض وتحليل.
في المجال الرياضي نرى أن النشاطات كانت تتم تحت كنف المؤسسات الدينية وتمحورت في لعبة كرة القدم الشعبية والملاكمة وكرة السلة. وفي الكشافة تبين أن كشافة الكاثوليك كانت الأولى إذ تأسست عام ١٩٢٣ ولحقها الأرثوذكس فالأرمن فالموارنة فالمسلمون. وقد ساهمت الحركات الكشفية مثل “النجّادة” في ترسيخ قيم حب الوطن والهوية الوطنية ومساعدة المحتاجين للجميع دون تفرقة. كما وخاضت أقسى المعارك ضد قوات الهاچناه اليهودية في أواخر نيسان ١٩٤٨ في حيفا.
عاش المجتمع العربي الفلسطيني عامة والحيفاوي خاصة حياة فقر ومشاكل كثيرة في أواخر الحكم العثماني وفترة الحرب العالمية الأولى. وعليه كان لا بد من إنشاء حركات أو جمعيات ترعى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتربوية. ومما يجدر ذكره أن المجتمع المذكور خلال الانتداب البريطاني كان مستقلا وحاول بناء نفسه بنفسه رغم التحديات التي واجهته. وبنمو هذا المجتمع ازداد الطلب على الخدمات الحيوية المختلفة. وشهدت المدينة في الحقبة المذكورة وفرة من المحامين الذين لعبوا دورا فعالا في الحركة الفلسطينية الوطنية منهم وديع البستاني ومحمود الماضي ويوسف صهيون وأنس خمرة وأمين جرجورة وحنا عصفور وعبد الكريم الكرمي وحنا نقارة والشيخ محمود خطيب. ومن المثقفين والكتاب والشعراء نذكر الأسماء التالية: جميل البحري (١٨٩٥-١٩٣٠) وحسن البحيري (١٩٢١-١٩٩٨) وراجي حبيب صهيون (١٩٢٠-٢٠٠٤) وعبد الله مخلص (١٨٧٨-١٩٤٩) ونوح إبراهيم (١٩١٣-١٩٣٨) ووديع البستاني (١٨٨٨-١٩٥٤).
وفي المجال الطبي نرى أن الخدمات كانت تقدم على المستوى الخاص لانعدام منظمات طبية عربية كما كانت عليه الحال في الوسط اليهودي. وكانت القوابل عادة تولد الحوامل في البيوت وهن تعلمن هذه المهنة بالوراثة. وفي المجال السياسي النضالي ننوه بالأسماء التالية: رشيد الحاج إبراهيم (١٨٨٨-١٨٥٥) وسامي طه (١٩١١-١٩٤٧) وعبد الرحمن الحج (١٨٧٠-١٩٤٦) والشيخ عز الدين عبد القادر القسام (١٨٧١-١٩٣٥) والمطران جريجوريوس حجّار (١٨٧٥-١٩٤٠).
ويذكر منصور أن حكومة الانتداب لم تتدخل أبدا بحياة العرب في البلاد، إنها أنشأت بعض المدارس الحكومية وتركت رسالة التربية والتعليم على عاتق الكنيسة والمؤسسات والاتحادات الخاصة. ومن تلك المنظمات والمؤسسات نشير إلى الجمعية الإسلامية والجمعية المسيحية وجمعية الشبيبة المسحية وجمعية السيدات المسيحية وجمعية تهذيب الفتاة الإسلامية ونادي موظفي سكة الحديد في حيفا وجمعية تعاون القرى ونادي الشباب العربي وجمعية الشبان المسلمين وجمعية الاتحاد النسائي والجمعية الأدبية العلمية وجمعية الطلاب العرب ونادي شباب العرب والرابطة الأدبية العربية.
وعلى الصعيد المسرحي لا مندوحة من ذكر دور الحكواتي الذي ضل نشطا حتى عشرينيات القرن الماضي عند إنشاء مسرح عين دور ومسرح العرب. واعتاد الحكواتي الذي حفظ عن ظهر قلب عشرات الحكايات والقصص الشعبية القديمة التجول بين مقاهي البلدة. كما وكان هناك ما يعرف بصندوق العجب. وموسيقيا شهدت حيفا احتفالات أحياها مغنون كبار أمثال فريد الأطرش وأخته أسمهان وأم كلثوم.
ويخلص الكاتب إلى القول إن المجتمع العربي الحيفاوي كان دينياميكيا وسريع التحرك لاكتساب أنماط المجتمع الغربي الحديث. ورأى مسؤؤلية ملقاة عليه لجسر الهوة الاجتماعية التي فغرت فاها مقارنة بالمجتمع اليهودي المكوّن بمعظمه من المهاجرين. ويبدو سليما القول بأن غياب القيادة أو السلطة العربية أدى إلى نشوء المصالح الخاصة وغياب الصالح العام.
وفي الخاتمة تحاول محررة الكتاب إجمال أهم ما ورد من أفكار ونتائج مثل وجود الانقسام اجتماعيا بين العرب واليهود وقيام بعض الصداقات الشخصية بين أفراد الجانبين. في مجال الاقتصاد وإدارة البلدية ونشاطاتها والوظائف الحكومية كان هناك اختلاط ثنائي بين الطرفين المذكورين وكذلك في عضوية الجمعيات العالمية كالروتاري والبنائين الأحرار. امتازت حيفا بموقعها ومينائها وتركيبتها السكانية عن باقي المدن في البلاد فيهودها مثلا علمانيون وكانت هناك مصالح اقتصادية مشتركة ربطت سكانها الذين قدموا إليها من أماكن متعددة. آنذاك كان المركز السياسي العربي في القدس. وهناك جملة لفتت انتباهي فحواها “ملك العرب الأرض واليهود رأس المال والمعرفة” (ص. ١٨٤) وتضيف الدكتورة شارفمان أن “كثيرا من عرب حيفا تركوها عام ١٩٤٨ (ص. ١٨٥) وقبل ذلك استخدمت مصطلح “هجرة العرب عام ٤٨ (ص. ١٢٦).
وفي الختام أود تسجيل بعض الملاحظات. اجتهد كاتبو المقالات الثلاثة في طرح ما أرادوا على ضوء ما تيسر لهم من مصادر مكتوبة في الغالب الأعم. وقسم كبير من المصادر كان بالعبرية وآخر بالإنجليزية أما نصيب اللغة العربية في هذا المجال فمتواضع جدا. أضف إلى ذلك الرواية الشفوية فيما طرح في ثنايا الكتاب شحيحة جدا. وقد يلاحظ القارىء أن الكاتبين اليهوديين يستخدمان الرواية اليهودية في طرح التاريخ المذكور فيكتبان مثلا إيرتس إزرايل بالإنجليزية ولا تظهر لفظة فلسطين عندهما بالمرة على ما أذكر، إذ لا وجود لفهرس. ومن اللافت للنظر أن الكاتب الثالث، الدكتور جوني منصور، يستعمل هو أيضا هاتين اللفظتين (أنظر ص. ١٦٩، ١٧٣). كما ويستهجن القارىء العربي استخدام لفظة “أكّو” عندما يكتب بالإنجليزية ولا يستعمل إيكر أي عكّا (ص. ١٤٩) والأمر ذاته ينسحب بصدد استعمال اللفظة كْفار بدلا من الدارج بالعربية كُفُر الخ. (ص. ١٦٣).
وقعت في الكتاب أخطاء مختلفة كثيرة، لغوية وطباعية وترجمية ونقحرية مثلا القول إن لفظة مار الآرامية معناها “مقدس” والصحيح أن المعنى “سيّد” والقول غير الدقيق القائل “إن كل كنائس الشرق تستعمل ”مار” قبل أسمائها” (ص. ٢١٤، ملحوظة ٤٣٤، وينظر في الصفحات التالية حيث وقعت مثل تلك الأغلاط وهذه عينة فقط: ١، ٣، ٨، ١٩، ٣٤، ٥٨، ٦١-٦٢، ٦٩، ٧٣، ٧٧، ٧٨، ٨٥، ٨٩، ٩٨-٩٩، ١٠٨-١١٢، ١١٤-١١٦، ١٢٠، ١٣٤، ١٣٧-١٣٨، ١٤٢-١٤٦، ١٥٠، ١٥٦-١٥٧، ١٥٩-١٦٦، ١٧٠-١٧١، ١٧٤، ٢١٦-٢١٧، ٢١٣-٢١٦ الخ. الخ.). لا شك أن فائدة القارىء من المصادر الواردة في الكتاب لو أثبتت كالعادة في ذيل الكتاب لكانت أكبر وأسهل تناولا من إقحامها في ملحوظات هامشية تعد بالمئات.
وأخيرا هل بين دفتي الكتاب قيد البحث إجابة مقنعة وشاملة على عنوانه: سرّ التعايش….؟ يبدو لي واضحا أن الإجابة بالسلب ستكون لدى أغلبية القراء. ولا بدّ أولا من تعريف جامع مانع لمفهوم “التعايش”. كانت هناك فترات هدوء وسلام بين عرب عروس الكرمل ويهودها، ولكن لا علم لنا بأية تفاعلات اجتماعية نبتت بينهم ناهيك عن التحدث عن بوتقة استيعاب مشتركة أو انسجام.